الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدِمَة الطبعَة الثانية
لو كنت أنا مقدم الطبعة العربية الأولى لهذا الكتاب في أواخر 1957م، لكنت لا شك مهتماً بإظهار كل التوقعات المتشائمة التي كانت تعبر عنها الصحافة والتصريحات الرسمية في بعض العواصم الغربية تجاه الفكرة الأفرسيوية التي كانت تمثل كماً وكيفاً تكتلاً هائلاً من الطاقات البشرية والمادية.
وكيف لا يهتم بظاهرة مثل هذه من يعيش من واشنطن إلى موسكو على محور القوة، ويخضع كل مقاييسه السياسية والثقافية أولاً إلى مبدأ ترجيح كفته، ما يمكن، بفائض من الطاقة على الآخرين.
ولكنني أكتب هذه المقدمة اليوم، أي بعدما يقرب من خمس عشرة سنة من ظهور الطبعة العربية الأولى؟
فماذا سأقول؟
إنني لا أريد أن أتورط في دراسة تحليلية لكل العوامل التي تدخلت، منذ مؤتمر باندونغ سنة 1955م، لإفشال الفكرة الأفرسيوية. بينما نرى، في نظرة شاملة، أن هذه العوامل تتوزع على الخريطة العالمية بطريقة متساوية. إذ عملت في الحقيقة كل يد، على إفشال الفكرة الخطيرة.
ولو كنت، رغم تحفظي، متورطاً في مثل هذه الدراسة، لما زدت سوى أن أذكر قصة هذا الكتاب ذاته بكل تفاصيلها، ولكنها قصة نتركها لشاهد القرن إن شاء أن يتورط فيها.
وحسبي هنا أن أذكر فحسب، وبإيجاز وتلميح فقط، الجانب الذي قد يفيد من الناحية النظرية، كمزيد من التجربة والخبرة، بعض شبابنا الملتزم.
إن مؤتمر باندونج كان قطعاً في نظر المختصين بالسياسة العالمية، أخطر ظاهرة برزت (في العالم الثالث) بعد الحرب العالمية الثانية. الظاهرة التي كانت تحمل في طياتها الصواعق والبراكين التي كان يخشى المستر جون فوستر دلاس، حتى قبره، عواقبها بالنسبة إلى كل المخططات التي رحمت من أجل تسيير العالم، كما سار خصوصاً في البلاد العربية.
ولكن، ما كان للطاقات البشرية والمادية التي تجمعت في باندونج، أن تطلق تلقائياً الصواعق وتفجر البراكين، في صورة ثورة للعالم الثالث على النظم الاقتصادية والسياسية والثفافية التي وضعت في القرن التاسع عشر لتسييره، طبقاً لمصالح عليا معينة.
يقول المفكر الفرنسي، دي بونالد، المعاصر للثورة الفرنسية، والمقاوم لها:((إن ما صنع الثورات هو دوماً الكتاب من الإنجيل إلى الميثاق الاجتماعي)).
إذا صحت هذه النظرة في الأشياء البشرية، وإنني أعتقدها صحيحة، نقول:
إن مؤتمر باندونج سنة 1955م، وبعده مؤتمر القاهرة سنة 1957م، قد جمعا فعلاً كل شروط ثورة العالم الثالث، إلا شرطاً واحداً، وهو شرط إطلاق الشرارة الفكرية الضرورية لإضرامها.
بل نقول، ونحن بصدد تقديم الطبعة الثانية لهذا الكتاب: إن كل الاحتياطات قد اتخذت، داخل العالم الثالث وخارجه، حتى لا تنطلق هذه الشرارة.
ويكفينا دليلاً على صحة هذا التقرير أن نقول للقارئ الكريم: إن مؤتمر القاهرة، كان من بين تقاريره إنشاء ((جائزة أفرسيوية)) على غرار جائزة نوبل أو جائزة لينين.
ولكن الواقع يضطرنا أن نقول: إن جائزة نوبل وُزعت، منذ مؤتمر القاهرة، سبع عشرة مرة، دون أن توزع الجائزة الآفرسيوية مرة واحدة.
ولعل شر ما قدم خدمة للفكرة الأفرسيوية، هو هذا الكتاب ذاته، لأنه صدر من
…
عربي!!
وليس بأيدينا، ولا في رغبتنا اليوم، أن نقدم خدمة لفكرة ماتت، بل قتلت في المهد، وقتلتُها جاهلون.
وإنما الغرض الوحيد من هذه الطبعة هو أن نعطي للشاب المسلم العربي صورة صحيحة، بقدر الإمكان، عن الخطوط العريضة للتطور في العالم تحت تأثير العامل التكنولوجي، نحو العالمية.
وأن نقدم له، على وجه الخصوص، الملاحظات التي ضمناها فصل الاقتصاد الأفرسيوي، وفصل ((العالم الإسلامي والفكرة الأفرسيوية)).
بيروت 14 يونيو 1971
م. ب. ن.