المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد هناك فلسفة، منذ عهد (كلوزفتز) ( Clausevitz) (1) ترى - فكرة الإفريقية الآسيوية

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌تمهيد هناك فلسفة، منذ عهد (كلوزفتز) ( Clausevitz) (1) ترى

‌تمهيد

هناك فلسفة، منذ عهد (كلوزفتز)( Clausevitz)(1) ترى أن الحرب ((استمرار للسياسة بوسائل أخرى))، وذلك يعني في منطق الفعالمية- الذي يعدّ إحدى خصائص العقل الغربي- ضرورة حسم المشكلات الإنسانية بوسائل السياسة أو بوسائل الحرب، أي حسمها على أي حال.

ولكن نار هذه الحقيقة قد خمدت، فإن جيلنا يواجه مشكلات استعصى حلها على سياسة نصف قرن، وعلى حربين عالميتين، وكان الإخفاق في كلا الطريقين مدوياً.

وكان طابع هذه الفترة، هو أن سياسة غير مثمرة- لأنها مجافية للأخلاق- تقود حتماً إلى حرب مجافية للأخلاق، وبالتالي غير مثمرة، وهذه تؤول مرة أخرى إلى سياسة ترى أن (الخطأ) أقبح من (الجريمة) على ما ذهب إليه مفسرها الأعظم- تاليران ( Talleyrand)(2) .

والأزمة التي ما زال العالم يتخبط فيها، تتصل بواقع يبدو أنه لا يخرج فلكي يحاول أن نرى من أي مهرب يخرج العالم من هذه الحلقة المفرغة، يجب أن نقول أولاً: من أي الطرق دخل إليها.

فمما لا نزاع فيه، أن العالم قد خضع لسيطرة أوروبا الأخلاقية والسياسية منذ قرنين من الزمان، والمشكلات التي لم تستطع السياسة والحروب خلال

(1) كارل فون كلورفتز Karle von Clausevitz، قائد ألماني (1785 - 1831م)، وهو صاحب كتاب مشهور في فلسفة الحرب، عنوانه ((في الحرب De la Guerre)) .

(2)

تاليران Talleyrand سياسى فرنسى (1754 - 1838م) دخل ميدان السياسة إبان الثورة الفرنسية، ولعب دورًا هاماً في تخطيط السياسة الخارجية التي اتبعها نابليون الأول.

ص: 21

نصف قرن أن تضع لها حلاً مؤثراً، إنما تنتج عن هذه السيطرة الأوروبية العليا على الشؤون الإنسانية. فموطن الأزمة موجود في الضمير الأوروبي نفسه، في علاقته بالمأساة الإنسانية.

وهذا يعود إلى القول بأن الأزمة تتصل بتفسير المشكلات أكثر من اتصالها بطبيعة هذه المشكلات. فهي ليست أزمة في الوسائل، وإنما في الأفكار.

وينبغي على أي سياسة- لكي تكون فعالة- أن تكيف وسائلها تبعاً لبعض المفاهيم الإنسانية.

ولكن أوروبا التي استطاعت خلال قرنين من الزمان أن تتحكم في موارد العالم كله، قد وضعت هذه الموارد تحت تصرف النظام الأوروبي فحسب، محتكرة بذلك- من أجل فائدتها وحدها- الحرية والسلام والعمل، فلقد أحدثت في العالم المتحضر تفرقة بين الأخلاق والسياسة، ثم كانت هذه التفرقة بين الرجل الأبيض والرجل الملون.

وهكذا خصص الغرب نظرته بالنسبة إلى المبادئ كما خصصها بالنسبة إلى الرجال، فإذا بنظرته إلى ما هو أوروبي تختلف عما ليس كذلك، فهو يرى بصورة طبيعية مشكلات أوروبا ورجالها، أما حين ينظر إلى مشكلات الشعوب الأخرى، أو حين ينظر إلى هذه الشعوب نفسها فإنه يضع نظارة على عينيه، وإذا بهذه النظرة غير المباشرة لا تتصل بقيم الأخلاق أو بقيم السياسة، وإنما ببعض ما يشبه من قريب جمعية جرامونت ( Société Gramont) التي أنشئت في فرنسا من أجل الرفق بالحيوان.

ولقد تمثلت هذه التفرقة في بعض الأحداث المعاصرة في الحياة الدولية، حيث اعتمدت سياسة أمريكا في نهاية الحرب الأخيرة مشروع إرسال مارشال- للشعوب الغربية، كيما تعين هذه الشعوب على النهوض بعد التحرر. واعتمدت لهم أخلاقها المن والسلوى في مشروع ( U.N.R.W.A) لإسعافهم مؤقتاً، فكأنها بهذا قد اعتمدت لهم الحرية والعمل والخبز، أو الوسائل الضرورية لكسبها. وفي

ص: 22

مقابل لك نجدها قد ابتدعت للشعوب المتخلفة مشروعاً آخر أطلقت عليه اسم (النقطة الرابعة)، أي إنها لم تعتمد لهم الخبز ولا العمل ولا الحرية.

هذه التفرقة المتجلية في مثال من أمثلة كثيرة، هي السبب الذي يفسر الأزمة الأساسية للقرن العشرين. إنه يفسرها ويغذيها في الوقت نفسه حيث إن نظرة الغرب لا تدرك من هذه الأزمة سوى وجهها الغربي، أي عندما تصل في أوروبا إلى درجة الانفجار، بأن تصبح على شفا حرب عالمية، وحينئذ يتهمون الأسباب الطارئة، فيسوقون إلى المقصلة أفكار النازية أو الفاشية.

وعلى الرغم من هذا، فإن نظرة الغرب قد بدأت تلحظ قوى غير أوروبية تقف في ساحة التاريخ، فقد برزت المشكلات الحقيقية، أو قلْ الموضوعات الجوهرية مع العاصفة الأخيرة في الضمير الإنساني، وفي حلبة السياسة الدولية، أبرزتها الحرب العالمية الثانية حين هب ثلاثة أرباع الإنسانية يطالبون للمرة الأولى منذ قرنين بحقهم في الحرية وفي العمل، وفي الخبز.

لقد جند الغرب في الحرب العالمية الأخيرة كل قواه المادية، ولكن الشعوب الأخرى كانت قد علقت على تلك الحرب آمالها، تلك التي ما كان لها أن تختلط بأهداف الحرب بين المتخاصمين. فلم يعد السلام على هذا مجرد (سلام أوروبي)( Pax Europa) كالذي قرره مؤتمر، فرساي، إثر الحرب العالمية الأولى، فقد تغيرت النفسية العالمية، والعبقرية الغربية قد ساهمت بنفسها في هذا التغيير حين وضعت الإنسانية أمام استحالة جديدة لبلوغ أهدافها، فلم يعد من الممكن أن يحكم العالم بمنطق علم حديت يوجه الإنسانية في العصر الذري، وبعقلية العصور الوسطى- التي ترى أن تبقيه في أوضاع خاصة- هي التي خلقت الاستعمار والقابلية للاستعمار. لقد جعلت هذه الاستحالة من الضروري إحداث تغير عميق، إحداث طفرة من الحالة التي نطلق عليها (بادرة الحضارة) إلى الحضارة أو (من yin إلى yan ) حسب تعبير توينبي ( Toynbee) الذي استخدم من جديد هذين الرمزين الصينيين، ليعبر عن الانتقال من الحالة السابقة على

ص: 23

الحضارة إلى حالة الحضارة الكاملة، وربما كان هذا الانتقال المرتبط بالحقائق العلمية والأخلاقية للقرن العشرين هو مشكلة الساعة، ولكن مصاعب هذا التطور ليست واحدة في كل مكان، لأن قشور التقاليد التي تغلف الضمير، ليست دائماً بالثخانة أو الكثافة نفسها.

ولعل من الغريب أن نقول: إن الرجل المتحضر تزيد لديه هذه الأغلفة أو القشور. والإنجيل لم يدع شيئاً غريباً حين وجه إلى الفرنسيين الذين طبعتهم على الحرمان ثقافتهم وخرافتهم، هذه الآية الشهورة التي قال فيها:((طوبى لبسطاء العقول فإن لهم ملكوت السموات)) (1).

إن الوسط المثقف أقل الأوساط انطباعاً بالتغيرات الكبرى، المفاجئة، ولذلك فإن الانتقال من حالة (الـ yin الى yan) من أشق الأمور عليه، لأن الخط الذي ترسمه عبقرية ما في التاريخ، قد ينقلب إلى حفرة من الرمال تغوص فيها. أما الرجل الفطري، (البسيط العقل) فهو أحياناً أقدر على اجتياز منعطفات التاريخ، وربما كان للرجل الفطري في إفريقية وآسيا رسالته الخاصة في القرن العشرين، وهي أن يعين الإنسانية على اجتياز هذا المنعطف، فيما لو نجح هو في هذا الاجتياز، وربما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقرر فيها الإنسانية مصيرها فيما بين النيل إلى نهر الجانج ( Le Gange) بالهند، فإن آثارها الأولى في التاريخ قد ظهرت هنالك، حيث عبرت المرحلة من العصر الفردوسي إلى العصر الاقتصادي، إبان الثورة الزراعية في العصر الحجري الجديد، تلك الثورة التي أتاحت للإنسانية أن تحل الاستحالة الأولى في طريق السعي إلى مصيرها منذ سبعة آلاف عام.

ومؤتمر باندونج هو بكل تأكيد دليل على الانتقال التاريخي الذي سيتم هذه المرة من النظام الصناعي إلى النظام الأخلاقي. فلقد اتفق وقوع هذا الحدث الدولي مع لحظة حاسمة، تفصل بين أزمة رهيبة وبين حلها الضروري. والتفسير

(1) إنحيل لوقا إصحاح الخطاب على الجبل،

ص: 24

المنطقي لهذا الحدث يصدر أساساً عن وقوعه بين هذين القطبين: بادرة الحضارة والحضارة في القرن العشرين.

ولقد كشف مؤتمر باندونج عن أهمية تتجاوز أهدافه العاجلة، وذلك دون أن يلتزم باستخلاص مضمون مذهبي، حيث قد نحى جانباً المشكلات النظرية، لكي يصفي المشكلات الواقعية الملحة. ولقد قال لي أحد الدبلوماسيين الهنود قبيل الذهاب إلى المؤتر:((ليس لدينا من الخشوع ما يكفينا ونحن ذاهبون إلى باندونج)).

في هذا التقديس والإجلال يكمن التفسير الحق للمؤتمر، أكثر من أن يكون في تلك الواقعية التي لا ترى فيه سوى حادث عارض في الحياة الدولية، حيث أصبح من المستطاب منذ عام (1945م) أن نتكهن بتوزيع الأصوات بين الكتلتين، ونعكف على لعبة عد الأصوات لكي نكتشف هكذا .. سر أبي الهول.

إن خلاص الإنسانية والمشكلات التي أثارها المؤتمر من أجل هذا الخلاص، قد خلعا عليه طبيعة وصفة تدفع إلى التقديس أكثر مما تدفع إلى لعبة عد الأصوات .. إلى لعبة ..

ويدَع أحد المراقبين الغربيين لمؤرخ سنة (2000م) مهمة القول، بأن:((مؤتمر باندونج لم يحقق أي نتيجة عاجلة، ولكنه كان مجمَعاً للقوى التي خطّت الطريق لتطور التاريخ، وشكلت العالم الذي نعيش فيه اليوم)).

هذه الشهادة التي تهمنا باعتبارها حكماً على المستقبل البعيد لهذا الحادث الدولي، تهمنا أيضاً باعتبارها دليلاً على تأثيره السريع في الضمير الغربي، الذي رأى تحت الغلالة الرقيقة ((الأفرسيوية)) مضمونها الإنساني ومغزاها العالمي.

وفضلاً عن ذلك .. فقد كان لهذا المؤتمر تأثيره العاجل، إذ دفع -على الأقل- ذلك الضمير الغربي إلى امتحان جديد.

ص: 25

دفع في الواقع بعض المسؤولين مثل مستر- دلاس- إلى مراجعة ضميره، فلم يكن تبريره الذي صرح به عن إخفاق هيئة الأمم المتحدة، إلا لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان بالأمس قد وجه في خطبته الأولى من منبر باندونج بعض الانتقادات إلى المنظمة الدولية. فلم يكن هذا التبرير إلا دليلاً على هذه المراجعة.

وجملة القول، إن المؤتمر (الأفرسيوي) قد افتتح أعماله بالنسبة إلى العالم (الكبار) بـ (لحظة الحقيقة) وبالساعة التي وجب أن يدافع فيها عن نفسه. وكان عالم الكبار قد وجهت إليه دعوة ليبدي رأيه بصراحة في موضوعات المؤتمر الأساسية في إطارها الإنساني، وليس فقط في الإطار الغربي.

وهكذا سجل أسبوع باندونج تفوق الجانب الإنساني في السياسة العالمية، إنه سجل في التاريخ حدثاً، واطراداً، فأما الحدث فقد أنطبع في الواقع الراهن في الأحداث المضطرمة لأسبوع حافل بالتاريخ. وأما الاطراد، فإنه يخص النتائج المتوقعة القريبة أو البعيدة.

وأهمية المؤتمر تتجلى في هذه الأرقام: فقد جمع تسعاً وعشرين دولة تمثل قارتين بما تقلان من جموع بشرية، وما تضمان من تراث فكري متفاوت، بحيث تقف روحانية الإسلام على طرف، وماركسية الصين الشعبية على الطرف الآخر. وإن هذا الاطراد ليتجاوز في الواقع رقعة إفريقية وآسيا، إذ هو يمتد اجتماعياً من طنجة إلى جاكرتا. وأخلاقياً من واشنطن إلى موسكو. وينحو نحو تكامل مزدوج يرفع الرجل ((الأفرسيوي)) إلى المستوى الاجتماعي للحضارة، ويرفع الرجل المتحضر إلى المستوى الأخلاقي للإنسانية. وبهذا التكامل المزدوج يكون الاطراد قد أسهم في خلق نموذج عالمي يحقق وحدة النوع التي وضعت لها العبقرية الغربية شروطها المادية.

لقد كدنا ونحن أمام التوقعات التي نراها خلال هذا الحادث، أن نتحدث عن معجزة المؤتمر، تلك التي ستتيح للإنسانية أن ترد على التحدي الجديد الذي تجده في طريقها، وعلى الاستحالة الجديدة التي وضعها التطور أمامها، وخاصة إذا ما

ص: 26

أخذنا في اعتبارنا أن مؤتمر باندونج قد انعقد بدعوة دول كولومبو الخمسة. التي نعرف عن اختلافاتها ما نعرف.

والواقع أن المعجزة قد تحققت بمجهود الرجل الذي جمع في يديه مصائر الهند.

لقد حمل ((نهرو)) مع أمانة الحكم، رسالة (عدم العنف) التي حمّله إياها غاندي عند موته.

وقد استطاع بفضل إخلاصه لهذه الرسالة- التي لم يضح بأقل جزء منها أمام ضرورات الحكم- أو ما يسمونه (الواقعية السياسية)، أن يسمو بسياسة بلاده الخارجية إلى درجة دستور أخلاقي دولي، دستور لا يسمح ببيِع مبدأ بكمية من القمح، أو شحنة من المعدات الحربية. وكانت باندونج أولاً الثمرة (الأفرسيوية) لهذا الدستور الذي تبهرنا دون شك (مثاليته) السامية، بينما يلزمنا أن نعترف في خاتمة الحساب بأنه يضع السياسة (الواقعية) الخالصة، السياسة التي تدرك غاياتها ووسائلها.

ونحن ندين له أولاً بمنطق جديد للسلام، فرض نفسه تماماً في مناقشات المؤتمر (الأفرسيوي) وفي ضوئه الخاص لم تعد مشكلة السلام محصورة في نطاق ما يسمى (مراكز القوة)( Positions de force)، وإنما في نطاق مبادئ معينة مستوحاة من أحدث التجارب الإنسانية وأمضاها في الميدان السياسي. فالقوة التي حررت الهند ليست قوة السلاح، ولكنها قوة المبدأ الذي كسب مكانة قيمة إنسانية، ومقياساً عالمياً هو: عدم العنف، على حين أن (القوة) التي انطلقت خلال حربين عالميتين لم تحرر إلا الموتى.

ويعرف الناس منذ ذلك الحين من خلال التجارب التي عاشوها، أن فرص السلام لا تتكاثر مع الميزانيات الحربية، بل فرص الحرب. وأن الأزمة لا تخف مع تزايد هذه الميزانيات، بل على العكس من ذلك تحتد؛ إذ إن كل اختلال ينشأ

ص: 27

على حساب الوضع الاجتماعي لصالح الوضع الحربي، يقوي عواملها الاقتصادية والسياسية.

هذه الحالة التي توجه أخصب موارد البلاد نحو استثمار غير منتج لها- ولا شك- حسابها الذي يشمل ميزانيات الحرب؛ ولها تخطيطها الجغرافي: فهي تتفق على الخريطة مع تخطيط (منطقة الحرب) التي ترسمها المواثيق العسكرية. وعلى هذا يمكننا أولاً أن نقيس أهمية المؤتمر (الأفرسيوي) بالنسبة إلى هذه الحالة، فقد كان أحد أهدافه الأساسية إيجاد (منطقة سلام) على الخريطة، لتكون للإنسانية في حالة أي طوفان ذري سفينة نوح الجديدة؛ وملجأها الأخير.

وكان من نتائجه أن أنشأ في مواجهة محور (القوة) الممتد من واشنطن إلى موسكو محوراً ذا أساس أخلاقي هو محور (عدم العنف) الممتد من طنجة إلى جاكرتا.

وبدهي أن كسب أسبوع بملابساته المؤسفة أحياناً، لا يعد الميزانية النهائية لمؤتمر لا يمكنه أن يختم ميزانيته مع مناقشاته، فإن أهم نتائجه ما زالت في ضمير الغيب، إنها في ذلك التركيب التكويني التاريخي الذي جمع المؤتمر- بلا جدال- عناصره النفسية والزمنية.

وربما تحقق الهدف من هذه الدراسة لو أن القارئ رأى فيها بعض الحقائق عن هذا التركيب الذي قد يغير وجه العالم.

***

ص: 28