المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مُشكِلَة الحَضَارة   تقر الاعتبارات السابقة أسبقية مشكلة الحضارة في البلاد الأفرسيوية، - فكرة الإفريقية الآسيوية

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌مُشكِلَة الحَضَارة   تقر الاعتبارات السابقة أسبقية مشكلة الحضارة في البلاد الأفرسيوية،

‌مُشكِلَة الحَضَارة

تقر الاعتبارات السابقة أسبقية مشكلة الحضارة في البلاد الأفرسيوية، حيث تزدوج إلى مشكلتين.

أولاً: المشكلة العضوية الخاصة بتشييد بناء قائم على الحقائق النفسية الاجتماعية في هذه البلاد.

ثانياً: مشكلة التوجيه القائم على حقائق الوضع العالمي.

هذه الاعتبارات تصادف فيما يتصل بالنقطة الأولى على الأقل ملاحظة بعض المراقبين الموضوعية، ونحن ندين لأحد هؤلاء المراقبين بملاحظة ذات دلالة ومغزى، حدد بها مجال بحثه واستقصائه بمنطقة جنوبي شرقي آسيا، أي في منطقة معينة من محور طنجة - جاكرتا، حيث تدل الحالة الراهنة في نظر هذا المراقب على أنها ليست من اختصاص (مهندس اجتماعي) بقدر ما هي في حاجة إلى (عالم حياة اجتماعي)(1) وما كان يمكنه أن يعبر عن المشكلة في جلاء بلغة الحضارة دون أن يستخدم هذه الكلمة نفسها.

على أن الاعتبار النظري الذي نقدمه، والملاحظة الموضوعية التي نجدها عند هذا الكاتب يتفقان في ضرورة وضع المشكلة بهذه الصورة، لا في إمكان حلها فيها، فيبقى علينا إذن أن نكشف عن هذا الإمكان.

أما ضرورة وضع المشكلة بهذه الصورة فتتجلى في أن ألوان النشاط الاجتماعي والسياسي، إنما تخضع لمقياس عام يقاس به من أول وهلة مدى تأثيرها فيما يتصل بحظ الإنسان. والحضارة هي هذا القياس الذي تقاس بالنسبة

(1) يقتبس المؤلف هذه الصورة من المؤلف القيم للكاتب تيبور ماند Tibor Mende بعنوان: ((جنوبي شرقي آسيا بين عالمين)) طبعة باريس.

ص: 129

إليه أهمية المشكلات، وترتيب أسبقيتها. فضرورة وضع المشكلة هكذا تبرز في صورة حيوية في الوقت الحالي الذي يمر به الرجل الأفرسيوي، وفي صورة منطقية في المشكلات التي تطوق مصيره اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً. فيجب إذن أن نواجه المشكلة، ولكن هل يمكن حلها في الظروف النفسية والزمنية التي تسيطر من طنجة إلى جاكرتا؟

ولقد أدى مؤتمر باندونج أجلّ أعماله حين جمع العناصر الموزعة الصالحة لأن تنسجم في كل. أي في تجربة قد تقلب حياة الشعوب الأفرسيوية. ولكن مواجهة المشكلات لا تعني حلها، كما أن جمع (كومة) من المواد دون تأليفها في هيكل عضوي لا يكوِّن منها آلياً هذا الحل، فإن كومة من الأشياء لا تنشئ بالضرورة (كلا) متجانسا. والعناصر المجتمعة في باندونج لا يمكن أن تنتج تأليفاً لو لم توجد الظروف المؤثرة، أي العامل الذي يخلق ظاهرة التاريخ، فبين الضرورة المنطقية والإمكان التاريخي يوجد مجال لسؤال سابق يجب أن نجيب عنه أولاً.

إن إمكان الحل سيكون في الواقع بعيد الحصول إذا ما تقيدنا بحقائق الجنس، أو اللغة، من طنجة إلى جاكرتا. ففي هذه الحالة تصبح الفكرة الأفرسيوية ضرباً من محاولة المحال، ولن تكون سوى نوع من الترف العقلي فيما لو وجب أن تقوم على أساس عنصري لغوي.

إن اللغة والجنس ليست عناصر عديمة الأهمية في الواقع الإنساني. ولكنها بعيدة عن أن تمثل الشروط الحتمية لجعل هذا الواقع في مستوى حضارة.

وفضلاً عن ذلك فإن التاريخ لا يتحدد ضرورة باللغة أو بالجنس، فإن الحضارة الغربية التي اتخذناها مقياسا في هذا الميدان، ليست ثمرة لغة أو جنس، بل إننا نجد حتى في حدود المستوى القومي شذوذاً عن القاعدة حين نلاحظ الوضع في سويسرا مثلاً، حيث لا يربط بين العناصر التي تكونها، لا الجنس ولا اللغة، وإذن فإن إمكان الحل موجود مع اختلاف اللغات أو الأجناس وهو

ص: 130

يقوى مع المستوى الذي ندرس فيه القضية. فإذا كانت وحدة اللغة أو الجنس ضرورية لتكوين أمة، فإن هذا الشرط ليس محتوماً لتكوين حضارة تولد وتنمو وتكتمل في ظل تنوع اللغات والأجنالس.

فكلمة (الغرب) التي تعدّ في هذا الصدد أساساً للمقارنة، لا تعني وحدة عنصرية أو لغوية، وإنما تعتي مركباً ثقافياً معيناً، فمن واشنطن إلى موسكو، وحتى إلى طوكيو؛ أي خلال هذا التنوع الهائل في اللغات والأجناس، نجد أنفسنا أمام مركب ثقافي يضع طابعه الخاص على مصير الإنسان، وعلى النظر الذي يحوطه. فإذا ألقينا نظرة على هذا المنظر ونظرة أخرى على الخريطة، فسنرى اطراداً مكانياً وثقافياً معيناً يمثل مركباً هو (الحضارة)، فإمكان الحضارة يتحدد إذن بجغرافية المكان، وبنوع الثقافة، فلكي نرفع الكتلة العربية الآسيوية من مستوى التلفيق والاصطناع السياسي إلى مستوى مفهوم الحضارة، يجب أن نأخذ في اعتبارنا عاملين هما: الرجل والنظر الذي يشمله، أي حامل الثقافة وإطاره الذي يحيط به.

والفكرة الأفرسيوية هي المركب النفسي الزمني الذي ينتج عن هذا التحول من إطار لفظة سياسية بسيطة إلى فكرة أساسية قادرة على تحريك الواقع التاريخي، حين تشكل الإنسان، والإطار المحيط به.

وبهذا يمكننا أن نواجه المشكلة في شكلها المزدوج: نواجهها من الداخل حين ننظر إلى الفكرة الأفرسيوية بالنسبة إلى عناصرها الداخلية، فهي ضرورة لكي تتاح للرجل الأفرسيوي فرص غنية للنمو، وهي أيضاً ممكنة بقدر ما يكون هذا الرجل قادراً على خلق ثقافته كيما يحل مشكلاته العضوية.

ويمكننا أن نواجهها من الخارج بالنسبة إلى حقائق الوضع العالمي، فبالنسبة إلى الأهداف الإنسانية في مجموعها تعدّ الفكرة الأفرسيوية ضرورة القرن لكي تتيح للسلام بعض الفرص، حين تلقي في الميزان بمواردها الروحية. وإن فكرة (عدم العنف) لضرورية لحل مأساة القرن العشرين، وهذه الضرورة المنطقية تخلق

ص: 131

إمكاناً طبيعياً حين توجه نشاط الشعوب في طريق السلم، وحين تؤثر في توجيه الأمم المتحدة.

ولقد اتجه أعضاء مؤتمر كولومبو أولاً إلى أن يبحثوا عن بديل أكثر مناسبة ليجعلوه في مكان الكتلة العربية الآسيوية التي لم تعد تتفق مع الأحوال الجديدة، فكان الهدف علاج نواحي الضعف التي بدت في صفوف الجبهة المعادية للاستعمار، التي كانت تدعي الكتلة تمثيلها. ولقد خضع الذين دعوا إلى المؤتمر التحضيري في كولومبو، بلا شك لتلك الضرورة الملحة، ولكن ربما يبدو في ضوء المحصول النهائي لمؤتمر باندونج أن نتيجة قراراتهم متعارضة مع الفكرة الأساسية. فقد كان الهم المسيطر على باندونج هو مواجهة مشكلة توجيه الشعوب الأفرسيوية، لكي تواجه حالة عالمية تنذر بالانفجار، وتهدد بجر العالم في أتون حرب ذرية. فإذا نظرنا إلى هذا الخطر بعين الاعتبار كنتيجة لتوترات في الحالة العالمية ناشئة عن الانقسامات أي ناتجة عن التكوينات الخاصة مثل القوميات، والعنصريات، والاستعمار، والرأسمالية والشيوعية. فمن الواضح أن كل ما يكون صورة انشقاق جديد لا يمكن أن يكون سوى زيادة في عناصر الخطر، مع أنهم يعملون على تلافيه، كما يزعمون. والفكرة الأفرسيوية من هذا القبيل، فهي في الظاهر متعارضة لا مع مبدئها الخاص فحسب، من حيث كونها محاولة لتقليل فرص الحرب، تقلل منها بوضع سياسي جغرافي جديد في العالم، بل هي متعارضة أيضاً مع اتجاهات العصر نفسها.

ولكن الواقع هو أننا من ناحية في طور من أطوار الانقسام المحزن، ومن أخرى في طور من أطوار التأليف والتركيب الذي يجري على نطاق واسع، والقوى التي تعمل في هذين الاتجاهين واحدة أحياناً. فتفكيك العالم إلى عناصره الراهنة يهدف إلى تجميعه بعناصر جديدة صالحة لتمريره من مرحلة التجزئة والتميز إلى مرحلة التجمع والعالمية.

ص: 132

وهاتان الظاهرتان مرتبطتان في نسق واطراد واحد، منطقياً وحيوياً. فالتعارض هنا ظاهري أولاً، وتحت هذا المظهر تكمن ضرورته. إذ إن الفكرة الأفرسيوية مرحلة معينة من مراحل (العالمية) ثم إن هذه الفكرة لا تضيف في الواقع أي عنصر جديد في توزيع القوة ولا في الوضع الجغرافي السياسي الذي حددته البناءات التقليدية الموروثة عن القرن التاسع عشر. فالعالم يدين بثالوثه الجغرافي السياسي الحالي إلى القوى نفسها التي كان يدين لها بقلبه المزدوج قبل الحرب العالمية الأولى. بل نرى نشاطه يهدف إلى التقليل من هذا الانقسام بتغيير أحد عناصره الحالية، أي بتحرير أبناء المستعمرات الأفرسيوية من النير المزدوج للاستعمار والقابلية للاستعمار. وفي هذا الضوء لا يكون التعارض سوى مظهري شكلي وهو بهذا الشكل محتم، لأنه مرتبط بالضرورة العضوية التي تفرض إنشاء النظام الجديد من العناصر المنتزعة من النظام القديم. ولا شك في أن هذا التعارض الظاهر والضروري هو الذي عبر عنه الإنجيل في زمن آخر، حين شرع أسس العقيدة المسيحية وأودعها في الضمائر، وحين أعلن المسيح في مواجهة المجتمع اليهودي قوله:((لا تظنوا أني جئت لآلقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان من أهل بيته)) (1).

فكل إنشاء في الوضع الإنساني إنما ينبثق عن مبدأ معين للانقسام، يكوّن تعارضه الأولي، ثم يتجاوز الوضع نطاق التعارض: فإذا ما كان منقسماً يصبح من جديد متوحداً، ولكنه يتوحد هذه المرة بوشائج ذات طبيعة لائقة بالمرحلة الجديدة. ولقد كان لينين يعرف أنه لكي ينشئ المجتمع الاشتراكي، فإن عليه أن يستخدم (مواد) قد يقدمها إليه (المجتمع البورجوازي) وطبقة (البروليتاريا) هي إحدى تلك المواد. وهي تدرك أكثر من ذلك أن التمزيق الذي أوجدها كطبقة هو بداية خلاص للمجتمع الذي تصدر عنه، وهي تدرك أنها حاملة مسؤولية

(1) إنجيل متى الاصحاح العاشر.

ص: 133

هذا الخلاص. فالنتائج المتوقعة للفكرة الأفرسيوية هي هذه النتائج نفسها بغض النظر عن جميع الاعتبارات الدينية أو السياسية، ويجب أن تتحمل هذه الفترة تعارضاً ظاهرياً أولياً، كيما تحمل إلى العالم خلاصه، والشعوب الأفرسيوية تؤلف في العالم نوعاً من (البروليتاريا) بالمعنى الذي خلعه جون توينبي ( A.J Toynebee) على هذه الكلمة، ولكن دون أن نذهب في هذا المعنى إلى نهايته. وإذن، فإن على هذه الشعوب أن تعرف قدر نفسها أولاً، لتحمل بعد ذلك الخلاص إلى العالم.

وربما تؤدي باندونج- وهو المكان الذي حدث فيه هذا الإدراك- إلى فهم العكس، أي إلى الشعور بأن هذه الشعوب تتجه إلى نوع من الانطواء على نفسها، لتكوين (كتلة) جديدة ثالثة، ولكن هذا يكون- برغم كل شيء- فهماً خاطئاً إذ إننا في الخطوة الأولى من العملية يجب أن نتيح (للبروليتاريا) الأفرسيوية تحقيق وحدتها الخاصة كشرط سابق لوحدة العالم وخلاصه.

إن التعارض الأولي في الفكرة الأفرسيوية ناتج عن أننا نحكم عليها في حركتها الأولى. أي ما بين أزمة العالم وحلها الضروري حيث نجد أنفسنا أميل إلى الحكم عليها طبقاً لأحداث الأزمة أكثر من أن نحكم عليها وهي في طريق الحل، لأننا تعودنا النظر إلى الأشياء طبقاً لمقاييس القوة. ووضعنا المشكلات في مصطلحات القوة.

فإذا عبرنا عن الفكرة الأفرسيوية في هذه المصطلحات التي تعني نوعاً من الانشقاق والتجزئة، فربما يؤدي إلى الرجل المستعمَر- الذي أحاله العصر الاستعماري إلى (شيء) من الأشياء، وقصره على أن يؤدي دور التحف البشرية - ربما يؤدي دوراً تفسر فيه هذه الفكرة على أنها نوع من السيطرة في حيز القوة، تماماً كما يحدث لأي انشقاق عنصري أو قومي.

ولكن بناء الفكرة لا يدع مجالاً لهذا التفسير، وما كان لها أن تتحول إلى فلسفة فكرة متحجرة صماء، مرتكزة على (إرادة القوة) متجسدة في (فوهرر)

ص: 134

معين، وهي التي وجدت أصولها في ملتقى التيارات الروحية المختلفة، وخاصة تيار الإسلام، وتيار الهندوسية.

فالفكرة الأفرسيوية تدين لطبيعتها كفكرة يمليها الإسلام والهندوسية بتركيب ثنائي، وهذه الخاصية تحول بينها وبين أن تتبلور، في (كتلة) صالحة لأن تستخدم في عمل من أعمال السيطرة، بل ستظل على العكس من ذلك تسمح بتدخل جميع تيارات الفكر، وتحمل رسالة الخلاص الغني بجميع العناصر الخلاّقة، تلك العناصر التي يمكن أن تضعها فيها جميع التيارات المثرية في التجربة الإنسانية كلها.

وعليه فليس لنا أن نحكم عليها في فترة معينة من تاريخها، وفي زمن خاص من حركتها، حيث قد تظهر متعارضة مع مبدئها أو مع اتجاهات العصر نفسها. بل يجب أن نصدر حكمنا الصادق على مجموع تاريخها لا رجماً بالغيب حول أشياء خيالية، ولكن باستكناهنا للحقائق الواقعية التي يرتبط بها تطورها في الإطار المحلي وفي الإطار العالمي، وسيبين لنا هذا التطور عن أن التعارض الأولي لم يكن إلا ظاهراً، لأن الفكرة الأفرسيوية بفضل حقائقها الذاتية الداخلية، واتجاهات التاريخ العامة، ليست إلا مرحلة ضرورية. المرحلة الأولى لعالم يريد أن يحقق وحدة أرضية.

وعلى محور واشنطن - موسكو تهيء القوة الصناعية جميع الظروف المادية لوحدة العالم، ولكنها في الوقت نفسه تخلق عوامل تحليله وتجزئته، وتضغط على الضمير الإنساني في كل لحظة بخطر رئيسي يهدد الأشياء والتاريخ بالفناء. وسيظل هذا الخطر ماثلاً طالما لم نضع حَداً أخلاقياً لسياسة الجبروت، وطالما كان بحث نزع السلاح في ظل علاقات القوة. لقد جعلت القوة الصناعية العالم ضيقاً (صغيراً)، فالواجب يفرض الآن أن يصبح قابلاً للمساكنة والمعايشة، والفكرة الأفرسيوية تعطينا دفعة واحدة هذا الإمكان من الوجهة الأخلاقية، وبقي أن تعطينا إياه من الوجهة الاجتماعية، وينحصر الأمر في تعجيل عملية

ص: 135

تجميع الشعوب الأفرسيوية وتوحيدها، كي تقوم بدورها في العالم، على الرغم من عمليات التعطيل التي يمارسها على التاريخ تلاميذ الدكتور مالان (1) ونحن نجد من الوجهة الأخلاقية أن هذه الفكرة قد عدلت فعلاً في الماضي، ويمكنها الآن أن تلغي خطر التحلل الذي يمثله هوس الحرب.

وإذن فبفضل ما حركت من قوى روحية واجتماعية تستطيع الفكرة الأفرسيوية أن تلعب دوراً يطلق عليه دور (التعجيل والتعديل) وهناك نموذج مقدم سلفاً عن تأثيرها المعدل في النطاق الدولي، وذلك في محاولة الهند التوسط منذ ثمانية أعوام في قضية كوريا وغيرها.

ولو أننا تعمقنا في دراسة الحرب الباردة، فسنجد أنه مما لا نزاع فيه أن تطورها نحو مرحلة التعايش- بصرف النظر عن العوامل الدبلوماسية والاستراتيجية- كان مطبوعاً ببعض الأقدار التي فرضت رقابة أخلاقية خفية، ولكنها صارمة على القرارات السياسية، وفي هذه الرقابة تتجلى مواقف التحفظ التي وقفتها هذه الشعوب في الميدان الدولي بصورة تتفاوت في صراحتها، وتصادف تفسيرها السياسي في مصطلح (الحياد).

ولا شك في أن هذه التحفظات التي قلبت كل الحقائق الاستراتيجية في الحرب الباردة. وجميع خطط هئيات أركان الحرب، كانت لدى أغلبية الشعوب الأفرسيوية مواقف أخلاقية أكثر منها سياسية، فهي إذن في أصولها دفعات روحية.

ولعل التاريخ يقول للأجيال فيما بعد: إن (الفكرة الأفرسيوية) قد وهبت للعالم الخلاص، قبل أن يطلق عليها اسمها، فهي بإنشائها (المنطقة الحرام) بين الكتلتين في صورة سياسية حيادية، كونت في الحقيقة فراغاً لم تعد الحرب الباردة تجد فيه قوتاً يحولها إلى حرب ساخنة، وهي بعملها هذا قد أتاحت لفكرة

(1) زعيم التفرقة العنصرية بجنوبى إفريقية.

ص: 136

التعايش أن تأتي في وقتها، وإذن فمؤتمر باندونج، لم يكن من مهمته خلق انقسام جديد جغرافي سياسي في العالم، أو أن يزيد لوناً آخر على خرائط الجغرافية السياسية.

وليس في مبدأ التجميع والتوحيد الذي جاء به في حياة الشعوب القاطنة على محور طنجة - جاكرتا ما يطلق عليه اسم (الإمبراطورية الأفرسيوية) هذا لا يدخل في نطاق التفكير في الموضوع.

هذه الاعتبارات التي تنفي احتمال (كتلة سياسية) تنفي أيضاً احتمال (كتلة فكرية) أي إنها تنفي صورتي السيطرة القيصيرية: سيطرة السيف وسيطرة الفكرة. وهي تسجل في الوقت نفسه وضع المشكلة بالنسبة إلى المسيحية، فالواقع أن للمسيحية مراكز روحية وزمنية معينة في العالم، ومن المحتمل أن تخشى من جهة أو أخرى فيضان الفكرة الأفرسيوية على ميدانها، وقد عبر صراحة بعض الكتاب في الغرب عن هذه المخاوف منذ مؤتمر باندونج على الأقل فيما يتصل بالناحية الزمنية، ولعلها حين تنطلق من أفواه المسؤولين لا تكون سوى عرض من أعراض (ذهان) السيطرة، أي الحالة المرضية، الناتجة في أوروبا عن ثقافة الامبراطورية التي خلقت الاستعمار. ولكنها حين تعبر بكل بساطة عن قلق مفاجئ لضمير إنساني وضع أمام المجهول

فمن الواجب أن تهدأ هذه المخاوف، بيد الرجال الذين خلقوا بأعمالهم ومواقفهم هذا المجهول حين بعثوا (الفكرة الأفرسيوية) فمن المؤكد أن الذين اجتمعوا في باندونج لم تخطر بأذهانهم في لحظة ما فكرة إرساء أسس فكرية وسياسية لتأسيس إمبراطورية، ولا أن يصوغوا مبادئ ثقافة إمبراطورية تبعث في الشعوب الأفرسيوية- طال المدى أو قصر- رغبة في السيطرة والسلطان.

والواقع أن المشكلات التي عرضت على المؤتمر الأفرسيوي لا تستدعي بطبيعتها حلول (قوة) بل حلول (بقاء) وبالتالي لا تفرض ثقافة إمبراطورية. بل

ص: 137

ثقافة حضارة. فالفكرة الأفرسيرية إذن لا يجوز أن تخيف أحداً، لأنها لا تهدد أي مركز سياسي في هذا العالم.

أما فيما يتعلق بالمراكز الروحية، فإن صفتها الثنائية المستمدة من روحية الإسلام وتقاليد الهندوسية تنفي عنها ذلك الشيء الذي يسمى (سيف العقيدة) اللازم عندما يقتضي الأمر شن (حرب صليبية) أو (حرب مقدسة) والفكرة الأفرسيوية بهذه الصفة لا تحمل مطلقاً أي خطر لحرب دينية.

وإخواننا المسيحيون الذين قد يتوجسون خطأ أو صواباً من وجود (كتلة) دينية ككتلة (إسلامستان) مثلاً، لا يجدر بهم أن يعانوا القلق نفسه من الفكرة الأفرسيوية.

إنهم ولا شك سيرون في مضمونها المعادي للاستعمار عنصراً قد يحلق نوعاً من الاضطراب في أذهانهم، وهو اضطراب له وقعه في ضمير المسيحي الذي يحسب حساب بعض الشبهات المسيحية في الواقع الاستعماري، ولكن هذا عنصر عابر مثل الاستعمار، وهو سطحي وضروري في الوقت نفسه.

فمعاداة الاستعمار هي في الواقع رد الفعل الذي سيختفي طبيعياً مع الاستعمار الذي ولده، وأكثر من ذلك فإن هذين العنصرين يلعبان خلال قرن من الزمان فيما بينها الدور نفسه في تكوين (إرادة جماعية) وتهيئة نزعة تاريخية معينة في بعض الرقاع الجغرافية. فمعاداة الاستعمار قد تكمل مؤقتاً تعريف الفكرة الأفرسيوية باعتبارها حضارة، كما كان الاستعمار في القرن التاسع عشر عنصراً هاماً في تعريف الحضارة الغربية حيث كان يعد صفة مميزة لتوسع تلك الحضارة، وأساساً لحركتها ونموها، حتى كاد على المؤرخ الاجتماعي أن يعده المركب النفسي الخاص برقعتها الجغرافية. وكذلك اليوم، تعد معاداة الاستعمار بصفة عابرة عنصراً ضرورياً في نمو الفكرة الأفرسيوية، وفي تكوين ضميرها الجماعي، حتى يختفي سببها، وهكذا يتاح تحديد رقعة جغرافية بمركب نفسي معين، عام في جميع الشعوب المستعمرة، أو التي كانت مستعمرة، أي بمركب

ص: 138

شامل ممتد إلى حدود (الإمبراطورية الاستعمارية) في القرن التاسع عشر، وهي حدود الفكرة الأفرسيوية.

وهكذا جمعت باندونج جميع العناصر النفسية والزمنية لحضارة يشمل امتدادها ما بين خطي الطول في طنجة وفي جاكرتا، والمساحات الواقعة جنوبي خط عرض الجزائر.

لقد أردنا في هذا الفصل أن نبين ضرورة وإمكان إيجاد حل لمشكلة الرجل الأفرسيوي، ولكننا لم نقل بأنه لا يوجد لها سوى حل واحد، وعلى الأخص إذا ما بدا الحل المطابق لخط العرض- والذي يمكننا تحديد رقعته ومراكزه على طول محور طنجة - جاكرتا- بدا أقرب الحلول إلى طبيعة عناصر المشكلة، فيجب ألا نتجاهل الجهود المبذولة الآن لإيجاد حل آخر مطابق لخط الطول.

فلا غرابة إذن في أن نجد جهوداً مبذولة لتكوين مركز استقطاب ثقافي أوروبي- أفريقي، لاستمالة الأفكار والطاقات التي من شأنها أن تنساب في تيار أفرسيوي.

وفي هذا الاتجاه يجب على الأقل أن تفسر بعض المحاولات ذات الطابع الثقافي، أو السياسي، المتعلقة بتطور الشعوب الإفريقية، وبالحلول التي تقترح لمشكلاتها (1).

ولقد بدأت محاولات كهذه في إفريقية الشمالية، خاصة في الميدان النقابي.

(1) ومن هذه الجهود الدعوة التي وجهت أخيراً إلى الدول الإفريقية من طرف (غانة) لعقد مؤتمر ((إفريقي)) تشارك فيه الدول العربية الإفريقية مثل مصر وليبيا ودول شمال إفريقية.

ص: 139