الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العَالم الإسلامي وَفكرة الأفرسيَوِيّة
إن مشكلة (الأفرسيوية) تواجهنا في اللحظة التي يبدو أن التاريخ ينقل فيها قيم الحضارة من منازلها التقليدية إلى منازل جديدة، فلقد كان من أثر تلك الحركة التي عجلت بها الحربان العالميتان أن حدث توزيع جديد للقيم في عالم لم يعد مركزه البحر الأبيض المتوسط، بل إنه قد استقطب في الشرق والغرب، وفي هذا التوزيع الجديد أصبح الإسلام نفسه واقعاً آسيوياً. ولا يكف مركز ثقله السكاني عن التحول إلى الشرق، ولكنه يحتفظ بإطاره الخاص، وبخاصته النوعية في العالم. فهو عالم بذاته، له مشكلاته العضوية الداخلية، وله مشكلات صلاته بالآخرين. فأستاذ الجمال الياباني الذي حكم عليه من تلك الوجهة الاتصالية إبان الحرب الروسية اليابانية نظر إليه في الواقع بعيني سامورى (1)، فرأى فيه سمات ((فارس على جواده، وسيفه في يده
…
)) وفي ضوء السمات حاول أوكاكورا ( Okakura) - في كتابه الذي اشتهر في الغرب آنذاك- أن يشرح (رسالة اليابان أمام مثاليات الشرق) فرأى أثناء شرحه أن هذا (الفارس) حين تدفق من ممر خيبر في شمال الهند على شواطئ نهر الهندوس ( Indus) قد أقام بين الهند والصين (سداً أعلى من جبال الهملايا) فالإسلام في نظره قد قطع تيار التبادل الثقافي بين شمالي القارة الآسيوية وجنوبيها.
ولو أننا أعطينا لوجهة النظر هذه قيمتها النسبية، فإن لنا أن نتساءل- ولو أدى بنا التساؤل إلى أن ننزلق في ميتافيزيقيا التاريخ- أين كان يمكن أن ينتهي التيار الذي انقطع هكذا؟
إن من المؤكد أنه بعد تلاثين عاماً من شهادة هذا الياباني جاء محمد إقبال، ذلك الذي ربما كان ينظر إلى الأشياء من وجهة نظر أقل سطحية فأعطانا شهادة أخرى حين أكد أن ((آسيا لا تقوم بغير المسلمين)).
(1) البطل الأسطوري اليابانى Samourai.
وبعد عشرين عاماً يثبت التاريخ بطريقة رائعة وجهة النظر هذه، إذ كان من بين الدول التسع والعشرين التي حضرت مؤتمر باندونج أربع عشرة دولة إسلامية. وعلاوة على ما في هذا الرقم من دلالة، فإن نظرتنا إلى الخريطة ترينا أهمية الواقع الإسلامي في فكرة الأفرسيوية.
وربما لا يكون لمصطلح ( Afro-Asiatisme) نفسه أي معنى لو لم تترجم علامة الوحدة ((-)) التي تربط لفظيه عن رابطة فعلية، وعن واقع يشرحها، هذا الواقع هو الإسلام.
وهذا هو السبب الذي من أجله رأينا أحد المسؤولين الفرنسيين وهو يفسر الأحداث في توقعه الخاص، يعلن صبيحة باندونج أن ((الإسلام يفيض آسيا في أفريقية)).
لا شك في أن هذا هو الشغل الشاغل لمفهوم استعماري جديد يصادف صورته في نظرية (أوربا- إفريقية) التي رأت النور في اللحظة التي كانت تمر فيها ريح هتلر على أوروبا، ولكن هذا الاهتمام يتضح، في مفهومه الاستراتيجي والاقتصادي في العالم، بالوضع الجغرافي الخاص بالعالم الإسلامي الذي أثبت حدوده على ثلاث قارات: آسيا، وإفريقية، وأوروبا. فحدوده ترسم على الخريطة في الواقع قارة حقيقية هي (القارة الوسيطة) كما سماها من قبل نابليون: رجل الفكر الاستراتيجي.
وينبغي أن نضيف أن هذه (القارة الوسيطة) هي بطبيعتها مفترق طرق لجميع الأجناس، وبوتقة تنصهر فيها الصفات الجنسية، وتمتزج الحقائق الاجتماعية، وتذوب الاختلافات، التي قد تكون مع ذلك صريحة في وحدة إنسانية ليست من النوع البيولوجي أو الاجتماعي أو السياسي، ولكنها ذات طابع روحي، ولو أننا تحدثنا عن أهمية عامل توحيد كهذا من وجهة النظر الإنسانية فسندرك جيداً الدور الذي يقوم به في تركيب فكرة (الأفرسيوية) خاصة حين نذكر- مع ذلك- أن محور العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا يتفق بالتحديد مع
محور العالم الأفرسيوي. وبسبب هذا الوضع الخاص يتمتع الإسلام بوضع القاسم المشترك مع جميع الثقافات التي تؤلف الخريطة الروحية في العالم. فهو في مركزه في البحر الأبيض يقع في قلب عالم الكتاب المقدس، الذي يتقاسم معه رسالة إبراهيم، وهو في مراكزه الآسيوية يقع في قلب عالم البهاجافادجيتا وفكرة بوذا وحكمة كونفوشيوس، وهو في إفريقية الوسطى على صلات مع النفس الإنسانية العذراء المنزهة عن أي طابع تعليمي في كامل براءتها البدائية.
ومن ناحية أخرى، فإن الإسلام في مركز العالم الحديث حيث محت الحضارة التكوينات والأوضاع الأخلاقية التقليدية، حين فرضت تكويناتها وأوضاعها الصناعية، فخلقت بذلك فراغاً روحياً هائلاً، بدأ الناس يستشعرونه في العالم المتحضر. فالإسلام إذن بسبب روابطه العديدة بالنسيج الإنساني الراهن، حيث يعد جزءا جوهرياً في السلسلة وبفضل طبيعته واتصالاته التي لا يمكن أن تكون (السد) الذي رآه فيه أوكاكورا ( Okakura)، هذا الإسلام هو- على العكس- الجسر الذي يصل ما بين الأجناس والثاقافات، فهو عامل بلورة، وعنصر جوهري إذا ما أردنا اليوم تكوين (مركب) حضارة أفرسيوية، وغداً تكوين حضارة عالمية.
ولكن في أي الظروف يستطيع هذا العالم الإسلامي أن يحقق تقديراته، وأن يترجمها إلى حلول مادية لمشكلاته الداخلية والاتصالية؛ وبعلامة الاستفهام هذه تواجهنا مشكلة المقدرة التأثيرية، فليس الأمر من بدايته أمر مبادئ أو فروض، وإنما هو أمر ترجمتها إلى وقائع وأحداث، ومن هنا يصبح من الضروري إحداث فصل جوهري بين الإسلام والعالم الإسلامي. وهذا التمييز يستدعي تمييزاً آخراً، إذ يجب أن نميز في المسلم الإنسان عن المؤمن. أي أن نفصل بين شاهد الرواية الإنسانية وبين ممثليها. ففي التاريخ يجب أن يتحول العنصر الروحي إلى عنصر اجتماعي، وفي الإطار التاريخي- أعني خارج نطاق الخلود- يعد الإسلام
(واقع المسلمين). فأي حكم على هذا الإسلام التاريخي هو بصفة جوهرية حكم على نشاط إنساني متطور خلال القرون.
والمسلم هو بكل تأكيد الإنسان الذي حمل بأقصى ما يستطيع من جهد وإلى أقصى ما يبلغ في الدنيا، من مقتضيات الايمان الديني، فهو يمثل الرجل المتدين ( Homo-religious) بمعنى الكلمة، كأنما تلك وجهته ورسالته الخاصة، ووظيفته الجوهرية في هذه الدنيا. لقد تخلى مطلقاً عن كل ما يتصل بالحياة الدنيا، ومن هنا تبدأ المأساة الزمنية الإسلامية في كل عظمتها ومظاهر بؤسها، ونحن نفهم من هذا أنهم يحكمون عليها طبقاً لمقاييس عملية- كما يحكمون في الغرب عموماً- فإنهم يوشكون أن يلصقوا عليها طابعين هما: القدرية، والتعصب.
وهكذا، فإذا كان للعالم الإسلامي عظمته الأخلاقية، فإننا ندرك من هنا مظاهر ضعفه الاجتماعية كلها. والحق أن القاعدة العامة تقول بأنه عندما ننتقل من الاعتبارات الميتافيزيقية إلى الاعتبارات الاجتماعية، فإننا نعبر حدود عالمين مختلفين. ومع ذلك فقد يحدث أن يغيب عن نظرنا هذا الانتقال الذي يفسر أشياء كثيرة، فنجد أنفسنا هكذا أمام لغز غير مفهوم، ولقد يحدث هذا حتى لفكر يقظ كفكر إقبال حين وجد نفسه أحياناً محيراً تائهاً عندما كان ينتقل من (تاريخ المسلمين) إلى جوهر (الفكر الإسلامي) فقد عبر عن دهشته في رسالة وجهها عام (1927م) إلى المستشرق نيكلسون ( Nicholson) حين قال:((إني مقتنع تماماً بأن فتح البلاد لم يكن من البرنامج الأساسي للإسلام، والحق أنني أعتبر من الخسارة الكبرى أن يوقف تقدم الإسلام كإيمان فاتحٍ نموَّ (أجنة) التنظيم الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي التي أجدها متوزعة في صفحات القرآن، وفي سنة النبي
…
)).
فإقبال يرى إذن مسافة بين النظرية والتاريخ، وبين الفكرة والسلوك ولكن مما يبعث على الغرابة أنه لم يكن يظن أن هذه المسافة قد تجلت في فكرته الخاصة إذ نراه يعبر- عن غير شعور- حدود مفهوم (الأمة المسلمة) إلى مفهوم
(القومية الإسلامية) تلك الفكرة التي استخدمت كأساس نظري في تأسيس باكستان. فإن إنشاء هذه الدولة لم يكن ليكون فهو- في كلمة- نوع من فتح البلدان، لا تتحقق معه فائدة (للأجنة) التي يتحدث عنها، وأنا أعتقد أن نهرو كان أقرب إلى (الفكرة الإسلامية) حين كتب قي مذكراته في السجن عام (1942م) فيما يتصل بالمسألة القومية في الهند قال:((أعتقد أن هذا الشعور كان مصطنعاً، وأنه لم تكن له جذور في العقلية المسلمة)). ومن السهولة بمكان أن نحكم في هذا المحيط بأن الفكرة القومية، أياً كان مستقبلها في باكستان، كانت في الواقع مصطنعة، وأن أحد منشئيها كان آغا خان الذي رأس في عهد الإصلاح عام (1908 - 1909م) وفداً لدى نائب الملك لورد مينتو ( Minto)، خليفة اللورد كيرزن ( Curzon) ليطالب بفصل المجموع الانتخابي المسلم عن الجموع الانتخابية في الهند. فإقبال على هذا قد اقتبس موضوعاً غريباً، ولكنه خلع عليه ثوباً دينياً. فلقد كان يريد ((قومية مسلمة)). وربما نجد هنا عنده النزعة المسيطرة التي تتجلى في (الفكر المسلم)، وهي التي أطلق عليها جاسبيرز ( Jaspers): الدين المحوري ( Religion Axiale) فإن المسلم يتخذ من الدين (محور الحركة) لحياته كلها: فهو مفتاح نفسيته والمقياس الذي تقاس به جميع أشكال سلوكه، والذي يفسر أن الأوامر السماوية لها عنده تأثير وسيطرة أكثر من أوامر الحياة العادية.
فلم يكن من الشذوذ أن كان باعث النهضة في العالم الإسلامي وهو الشيخ محمد عبده مصلح عقيدة لا مصلحاً اجتماعياً، والنمو التاريخي الذي حدث في العالم الإسلامي هو ثمرة مدارس العقيدة، وثمرة تطبيق تعالميها في الحياة العملية، مع أن الجانب الاجتماعي في النظرية القرآنية، وجميع (الأجنة) الاجتماعية التي تحتويها قد أغفلت في هذه التعاليم التي تساعد على نموها وتطويرها، كما لاحظ ذلك بمرارة إقبال في رسالته إلى نيكلسون.
والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها مثلاً قوله تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 17/ 37]، هذا القول الذي يملي علينا وضعاً اجتماعياً. ومع ذلك فالتفسير القديم لا يفسر هذه الآية ولا يوجهها إلا في شكل خلق أخروي مع أن في هذه الآية أمراً- في صيغته القاعدية نفسها- ولكن التفسير لا ينظر إليها هكذا إلا بالنسبة إلى اهتمامات الآخرة.
فنحن نرى إذن (أجنة) أخلاق اجتماعية وقواعد للسلوك المؤثر الإيجابي تسقط في غمار الاهمال والنسيان؛ لأن العالم الإسلامي- لا الإسلام- هو الذي أهملها وأغفلها.
وكل هذا الجانب الذي يمكن أن نسميه (المنطق العملي) في الإسلام، وهو الذي يكون فصلاً كاملاً من فصول الثقافة الإسلامية، لم يتطور في حياة المسلمين. وإذن فلو أننا تحدثنا اليوم عن قدر لا بأس به في السلبية في المجتمع الإسلامي فلا محل إطلاقاً لأن نرجع سببها إلى الإسلام- كما اعتاد ذلك بعض المستشرقين- ولكن إلى تطبيقه التاريخي. وفضلاً عن هذا، فليس من موضوع هذا الفصل أن نحلل الأسباب التي تتغير مع الزمن، والتي تفسر ذلك التطبيق المختل الذي ولد- من بين ما ولد- المرحلة التي اتفق مؤلفو القرن التاسع عشر على أن يطلقوا عليها اسم (انحطاط العالم الإسلامي).
وعليه، فإذا أردنا أن نأخذ في اعتبارنا مكانة الإسلام في تركيب فكرة الأفرسيوية، زيادة على أهميته الجغرافية السياسية. فيجب أن نفرق فيما يأتي به بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي. وهذه التفرقة ليست ضرورية فقط لإيضاح جوانب هذا العرض، ولفاعلية المنهج، أعني لكي يتبين لنا أين يكون (الإصلاح) ضرورياً لنقائص الجانب الاجتماعي، ولكنها ضرورية أيضاً وخاصة للحديث عن هذه النقائص مع التحرر من تلك الرعدة الرهيبة التي تعتري المسلم وتستحوذ عليه، عندما يواجه مشكلات العالم الإسلامي من زاويتها المرضيّة. فإن عقله يتهاوى غالباً أمام تلك الرعدة، فإذا به يجد نفسه مدفوعاً إلى أن
يصوغ قصائد المديح بعيداً عن هذه المشكالات، وعن مضمونها الواقعي. وهو يعتقد أنه مضطر- شأنه في ذلك شأن جميع المؤمنين بالأديان كلها- إلى أن يسمو بهذا المضمون إلى مرتبة المثل الأعلى، وإلى أن يخلع عليه عناصر جمالية ذاتية، وإلى أن يرسم- عموماً- في عقله صورة ملق لدينه، كأنما الإسلام في حاجة إلى أن يهبوا له جمالاً، وكأنما القبائح الإنسانية التي فينا يمكنها أن تشوه جمال وجهه، فتجعل من الضروري عمل (ماكياج).
هذا الاتجاه إلى المديح يدل في جوهره النفسي على جبن في الإيمان، الإيمان الذي لا يستطيع- تبعا لكلمة عمانويل مونيه الموحية- أن يقاوم (الصراع الباطني) الذي تعرضه له أحداث الحياة والتاريخ. وبصفة عامة هذه هي أعراض المرض الاجتماعي لوسط لم يعد لديه الوسيلة، والهم الذي يدفعه للتغلب على نواحي ضعفه، وسط انحطت فيه قوى الحركة والتقدم، فالمديح إنما هو تعويض بالكلام عن الواقع المحس، تعويض عن الحقيقة الموضوعية في هذا الوسط بالحقيقة الشخصية الذاتية: وتلك هي محاولة تبرير انحطاط القوى الأخلاقية والاجتماعية. وهذا التبرير يحدث بطريقتين، فهو إما تعويض بالذاتي عن الموضوعي، وإما تعويض بماض مشرف مهيب عن حاضر مفلس، وهو في كلتا الحالين يجعل من باب المستحيل إحداث علاج اجتماعي. فمن البدهي أننا حين نواجه مشكلة الرمد مثلاً، وهي من المشكلات التي تحدث كثيراً من الخسائر في العالم الإسلامي بكل أسف، فليس مما يحل المشكلة أن نقول بأن طب الرمد كان من اختراع عالم مسلم من علماء القرن الثالث عشر هو ابن المحصن فإن تعويضنا- اللاشعوري- بلوحة من لوحات الماضي عن واقع الحال قد يجعل الحل مستحيلاً من الوجهة النفسية. على أنه ليس من مهمة الإسلام الخالد أن يستر أو يبرر بطريقة أو بأخرى ضعف نظام زمني يدعي أنه إسلامي، خاصة إذا ما علمنا أن الإسلام من معدن روحي لا يحتاج مطلقاً إلى أن يغمس في المديح، أو في (ماء الورد) حيث أراد بعض المحترفين سيئي التوجيه أن يغمسوه ليمنحوه- فيما
يبدو- قدراً أكثر من المضاء الاجتماعي، وليجعلوا منه آلة قادرة على أن تفصل ثوباً للعالم الإسلامي من مادة التاريخ العصية، والواقع أننا لسنا في حاجة إلى صنع الآلة، بل لصنع العامل الذي يستخدمها، ولا شك في أننا حين ننقد مظاهر ضعف هذا العامل، فإن ذلك خير وأفعل من أن نستطرد في تقريظ الآلة. ومما لا جدال فيه أن الإسلام قد احتفظ بمضائه الذي صيغت به الحضارة الإسلامية كدرة فريدة في التاريخ، ولكن المسلم هو الذي فقد استخدامه الاجتماعي. ومع ذلك فقد احتفظ بالجوهر، أي بهذا المضاء الروحي الضروري لحل عقدة العقد في العالم الراهن، حيث لا يمكن أن تحل الأزمة بوسائل القوة. فإن العالم يجب أن ينقذ في الواقع من أخطار القوة، ولكي يتم إنقاذه منها فمن الواجب أن يخط سبيله بحيث لا يغوص في أوحال السيطرة مرة أخرى.
وهنا نجد أن المنقذ هو الإسلام حيث وضع علامتين مهمتين على هذا الطريق، فلقد حدد- بصورة ما- خطورته بمبدأين أساسيين، ليؤمِّن الإنسانية ضد جميع أشكال الاضطهاد الديني والزمني، فأرسى القرآن أولاً في الضمير المسلم تحديداً جوهرياً لإرادة القوة، ولم تدع تعاليمه في هذا المجال أي لبس أو غموض كما تشير إليه الآية الكريمة:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 28/ 83].
ولن يتسنى لمصدر أن يحدد أخطار (القوة) في الضمير الإنساني بصورة أوضح من هذا. ونحن نرى أن إقبال ربما استطاع حين تأمل هذا النص أن يجد فيه (جنيناً) روحياً لم يتح له أن يكتمل وينضج، إذ لا يمكننا أن ننكر أن التاريخ قد احتوى بعض مظاهر (السيطرة الإسلامية)، ومع ذلك فإن لنا أن نفرق تفرقة جوهرية بين (فكرة السيطرة) التي نصادفها- بلا جدال- في أساس (الإمبراطورية الإسلامية) و (الامبراطورية الاستعمارية الحديثة) هذه التي ذهبت إلى حد إبادة الشعوب المستعمَرة، بل ذهبت دائماً إلى أقصى الحدود المحالة للشيطنة الإنسانية
…
فالدولة الإسلامية لم تلتزم مبدأها بدقة، ولكن المبدأ قد
حد فعلاً من سلطانها، ولئن كان لم يتح له أن ينمو نمواً كاملاً في التاريخ، فإنه لم يفقد حيويته فقداناً كاملاً. وشأنه في ذلك شأن بذرة مستودعة باطن التربة، تظل الحياة مختزنة فيها إلى أن تجد الشروط البيولوجية لنموها وتطورها، وبالمثل يستطيع (الجنين) الإسلامي أن ينشط في شروط تاريخية جديدة. وهذه الشروط إنما تصدر عن الضمير المسلم، وعن موقفه في الظروف التي يمر بها الآن العالم المسمم بجرثومة (القوة). ومع ما تحدثه البذرة الأخلاقية الإسلامية في حل المأساة العالمية ندرك ما يمكن أن تمنحه بذرة كهذه- حين ينشطها مبدأ (عدم العنف) - من معنى لرسالة السلام، وهو السلام الذي يحمله مليار من أبناء البلدان المتخلفة كيما يضعوا حداً للحرب، كما فعل من قبل جمهور إنساني مسلح بإيمانه فحسب، يقوده البابا ليون الأول ( Léon) حين أوقف أتيلا ( Attila) قائد الهونجر على أبواب مدينة مانتو.
ولكن إذا كان الإسلام حين استودع بذرة كهذه في الضمير المسلم قد أمنها من السيطرة الزمنية، فلقد حصنها من ناحية أخرى ضد الاستبداد الروحي، فإن هناك مبدأ آخر يعلن في قوة حصانة الضمير الإنساني، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 2/ 256].
هكذا حددت الثقافة الإسلامية خطر السيطرة زمنياً وروحياً، كما يحدد الخطر في البحر علاماته على سطح الماء، ولو أننا عدنا إلى الماضي لأدركنا أن الحكم الإسلامي قد اتبّع تقريباً في هذا المجال طريقاً وسطاً بين هذين المبدأين اللذين كانا بمثابة حاجز يحول بين تطوره وبين أن يغرق في (إرادة القوة). ومما يلقي ضوءاً على هذا المعنى أن التاريخ الإسلامي، حتى في فصل الفتوحات التي ربما أدمت حقيقته قلب إقبال- لم ينم هذه الفكرة الاستعمارية التي تحول كل فتح إلى مشروع هدم متعمد، أخلاقي ومادي. فإذا كان المبدأ الأول قد حدد نتائجه في الإطار الزمني فإن المبدأ الثاني قد حددها في الإطار الروحي.
وهكذا وجدنا في القرن السادس عشر في اللحظة التي بلغت فيها الامبراطورية العثمانية منتهى قوتها في حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي أوروبا الجنوبية الشرقية أن ديوان العلماء عندما أخذ رأيه أيام السلطان (سليم السفاح) في مشروع لتحويل إكراهي للأطفال المسيحيين في المناطق المحتلة إلى الإسلام، قد اعترض هذا الديوان على المشروع، وأدانه طبقاً لمبدأ صريح مطلق، منع قبل ذلك تكوين (هيئة تبشيرية) داخل المجتمع الإسلامي كما تكونت داخل المجتمع المسيحي.
وفي الظروف الحالية، نستطيع على الأخص أن نقيس أهمية هذين المبدأين وفاعليتهما في دور الإسلام كمنقذ في العالم، حيث تنحصر المشكلة على وجه التحديد في أن يتخلص من تورطه في فكرة السيطرة الأخلاقية والزمنية، وهذا بقدر ما يتجه التطور العالمي نحو عهد من الإنسانية العالمية، تلك التي يجب أن يتجه إليها كغاية مقررة للخروج من الأزق، والتي يمكن فعلاً أن نرى (جنينها) اليوم في تخطيط المنظمات في ميثاق الأمم المتحدة، وفي إعلان (حقوق الإنسان) التي تهدف إلى أن تكفل له كرامته، ولكن هذا الضمان نفسه يسمح لنا بأن نقيس التأثير النسبي جداً للنظام (المدني Laic) في هذا الميدان، فإنه بكل صراحة لم يضمن شيئاً وهذا معروف في الجزائر بكل أسف حيث ينقض الاضطهاد والقمع على رؤوس الشعب بوحشية لم نعرف لها نظيراً، وما كان له أن يضمن شيئاً في عالم لا يتوفر فيه للضمير الإنساني قاعدة أخلاقية.
وهل في الواقع من مغزى لهذا الضمان في ضمير وحوش تعذب وتقتل رجلاً ملوناً إذا ما أبدى إعجابه في الطريق بامرأة بيضاء؛ وماذا يمكن أن يكون مغزاه بالنسبة إلى أولئك الذين يتخذون من التفرقة العنصرية نظرية للدولة في جنوبي إفريقية؛ .. الواقع أن هذا النوع من الابتداع الذي عكفت عليه الآداب الرسمية لا يغني سوى أدب (الإنسانيات) الأكاديمية الصادرة عن الأذواق الإغريقية اللاتينية، وهو أدب لا يغني مطلقاً الضمير الإنساني، فإذا لم يكن لدى هذا
الضمير سبب معين لكي يحترم كرامة الإنسان، وإذا لم يكن لديه في هذا النطاق بعض الضوء السماوي فإن أي ((إعلان دولي لحقوق الانسان)) يكون من قبيل الأدب المجرد. إن الإسلام يأتينا بهذا الضوء الذي يحوط الإنسان ويجعله محترماً في عيني أخيه الإنسان، إنه يأتى بهذا السبب السامي الذي يفرض احترامه مهما كان لونه، وجنسه، وقوميته، واعتقاده. وهو يضع لفلسفة الإنسان هذا الأساس الميتافيزيفي:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الاسراء: 17/ 70].
فهذه الآية القرآنية تعطي للإنسان كل عظمته، وكل بروزه، وكل حجمه في الضمير الإسلامي، وإنما ينتج حجمه من هذا التكريم الأساسي حيث لم يعد الإنسان نقطة صغيرة من المادة الحية، نقطة صغيرة تافهة، إذا قيست بمقاييس المادة تلك التي تعدّ الكرة الأرضية ذاتها (نقطة في الفضاء) نقطة صغيرة تافهة تستطيع قنبلة ذرية واحدة أن تمحو منها مئتي ألف، كما حدث في هيروشيما.
فحجم الإنسان في نظر الإسلام ينتج عن اللانهائية التي خصه الله بها، عندما نشهد في حديث القرآن عن الخلق سجود الكون لآدم، ثم يطرد الله إبليس؛ لأنه رفض السجود له، ونحن ندرك كم يكون هذا الأساس مهماً لتشييد بناء إنسانية عالمية، مهماً في اللحظة التي لم تعد تستطيع فيها الإنسانية خلاصاً من مأزقها حيث أقحمتها إرادة القوة، إلا عن هذا الطريق: طريق الحضارة الذي يهب للإنسان حرياته وأصالته وألوان اختياره جميعاً.
ولو أننا أدركنا كم يكون من المفيد في هذا الطريق أن نأخذ بهذه المبادئ الإسلامية، فسنرى من هنا ضرورة تنشيط هذه المبادئ بإنشاء ثقافة مناسبة لحال المجتمع الإسلامي، لتطبيقها بمفهومها الاجتماعي، وعلاقاتها التاريخية الجديدة. وجدير بالقادة المسلمين أن ينظروا إلى هذه المشكلة في هذا الاتجاه فيترجموا قيم الإسلام (الروحية) إلى قيم (اجتماعية) وهم بهذا يسهمون في إغناء الثقافة الإنسانية (بحقيقة) إسلامية تحييها، وتؤتيها بالتأكيد عنصراً جوهرياً مكملاً، يغذي (أجنة) عديدة يجب أن يتم نموها وتطورها في اتجاه الفكرة العالمية.
إن الفكرة الغربية التي تحكم العالم الآن قد ورثت عن أصولها الهلينية ذوقاً مطبوعاً بطابع الجمال. والفكرة الإسلامية قد قامت على محور المبدأ الأخلاقي، فالحقيقة هنا تُعرف (بالحق) وتعرف هناك (بالجمال) وكلتا الفكرتين تكمل الأخرى: ولكن حينما يلزم التضحية بعنصر منهما فإن المبدأ الإسلامي لا يتردد في أن يضحي بالجمال من أجل الحق، وهذا الاختيار لا يقوم على أساس عقلي، بل بتأثير الآلية النفسية، والدوافع الداخلية الكامنة في (الطبيعة) المسلمة، وبتأثير إرادة أخلاقية سجلت طابعها على إنتاج العبقرية الإسلامية كله، تلك العبقرية التي لا تهتم كثيراً بأن تخلق في العالم أشكالاً وصوراً، وأن تجمّل (الحقيقة) باستعمال بعض المساحيق.
فهذا الغرام (بالحقيقة) في العالم الإسلامي قد يفسر طابع الفن الإسلامي. فهو بحكم (طبيعته) في خط هذه (الحقيقة) المجردة، التي لا يساعد جوها على خلق ما يسمى بالقصة الخيالية مثلاً. ولئن كانت قصة (حي بن يقظان) قد صدرت عن عبقرية ابن الطفيل، فلأن (الحقيقة) التي تعبر عنها ذات طابع أخلاقي، ولأن العنصر الجمالي لم يقصد فيها إلا تابعاً لعملية الخلق والإبداع في موضوع أخلاقي، وليس هو مطلقاً موضوعها وجوهرها.
والحق أن العالم الإسلامي قد انتظر نموذج الأدب الغربي العاصر كيما يكتشف (القصة) ويتذوقها وذلك منذ ألمحاولات الأولى لدرسة (المنفلوطي) فالفكر الإسلامي مطبوع بطابع التحفظ والدقة التي لا تشبه طبعاً ما يسمى (الدقة العلمية)، ولكنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار في مضمون حضارة حديثة ضحت بالدقة الخلقية، فضحت بالمبادئ من أجل الشكليات والمصالح. لقد قال روبسبيير ( Robespierre) مثلاً:((فلتسقط المستعمرات ولتحي المبادئ))
…
ولكن بقيت المستعمرات وضاعت المبادئ. إن العصر الذري الذي نعيش فيه لا حاجة به إلى حساب مدقق- فالحساب لم يتقدم في الدقة إلا مع العقل الالكتروني- الذي يستخدمونه اليوم، وإنما هو في حاجة إلى بعض المبادئ المدققة النزيهة التي
تحكم سلوك الأفراد والدول. ولقد يصدمنا أحياناً أن نرى عالماً يدفع الدقة العلمية إلى أقصى مداها، وهو مع ذلك يسمح بتساهل غريب في أمر الحقيقة المجردة، فيدهشنا ما نراه يتخذ من الاحتياطات الشاذة إزاء هذه الحقيقة، كأنه يواجه خطراً قاتلاً، ولقد تدور عيناه أمام طريق الحقيقة البسيط المستقيم، كأنما يغشى عليه من الهاوية.
لقد يكون لازماً للفكر الحديت أن تقوم ثورة ثقافية لتحدث في الإدراك البشري التركيب الواقعي للجمال وللحق، ومهما كان الأمر، فإن للإسلام في هذا التوقع العالمي لتحديد ثقافة شاملة دوراً كبيراً، إذ هو يأتي بعناصر ثقافية جوهرية، كما يأتي بعناصر جغرافية وسياسية ذات أهمية خاصة لبناء فكرة الأفرسيوية.
ولكنا ندرك أيضاً أنه لكي يؤدي الإسلام بصورة فاعلة هذا الدور المزدوج، فإن عليه أن يترجم قيمه الروحية إلى نظام اجتماعي، كما يترجم إليه جميع إمكانياته الطبيعية، بحيث يحوِّل هذه وتلك إلى حلول مادية للمشكلات التي تواجهه في الإطار الأفرسيوي، أو في الإطار الإنساني.
ولكن دور الإسلام ابتداء من هذه النقطة لن يكون دور دين، أو دور مجال مساحي مجرد- هو القارة الوسيطة ( Le continent intermédiaire) - وإنما هو دور مجتمع، فهو يتصل حينئذ اتصالاً نوعياً بالدور التاريخي للرجل المسلم. ولا مجال هنا لكي نؤكد الأهمية الجغرافية السياسية (القارة الوسيطة) تلك الأهمية التي أكدتها فعلاً التطورات الأخيرة في الحالة الدولية، حين أثبت أن ميزان السلام والحرب إنما يقوم حقاً في الشرق الأوسط حيث يقع مركز الثقل في الاستراتيجية العالمية (1). فالدور التاريخي للعالم الإسلامي يتحدد إذن بوضعه الاجتماعي، ولقد حدد هذا الوضع- وإن كان بصورة غير مباشرة- حديث
(1) ولا زالت الحوادث السياسية تؤكد هذه الحقيقة منذ كتبنا هذه الأسطر وبالأخص بعد العدوان الثلاثي على مصر.
خاص أدلى به جلالة الملك سعود للصحفي اليهودي الأمريكي الفريد ليلينتال ( Alfred Lilienthall) ، حيث أعلن أن ((الجزيرة العربية قد عاشت خلال قرون مضت على هامش الحضارة والتقدم، وأن أمامها بالتالي طريقاً طويلاً وشاقاً، عليها أن تجتازه .. )).
هذا الإعلان يعطي صورة مصغرة عن الوضع الاجتماعي في العالم الإسلامي الذي تخلص فقط من (انحطاطه) الذي استمر قروناً، والواقع أن هذا العالم، في فترة الحضارة الحالية يمر بحالة يطلق عليها بادرة الحضارة ( pré-civilisation) أي الحالة التي تسبق الحضارة، فأمامه إذن ((طريق طويل وشاق))
…
ومن الواجب عليه أن يجتازه مع جميع الشعوب الأفرسيوية، وذلك بأن يتخلص من القابلية للاستعمار، ومن الاستعمار، وهو واجب عليه حتى يحول بين (تعايش) الدول الكبرى وبين أن يأخذ هذا التعايش اتجاه (استعمار مشترك) بالنسبة إلى البلدان المتخلفة، ولن يتاح لنا أن نحقق هذه التغييرات جميعاً إلا إذا التزمنا بتوجيه الثقافة. فالمشكلة إذن هي مشكلة تثقيف العالم الإسلامي، وهي التي تواجهنا من الزاويتين الاجتماعية والعملية، ولقد سبق أن درسنا الوجوه النظرية لهذه المشكلة، وخصصناها بأحد مؤلفاتنا في الدراسة المنهجية (1)، فلن نعود إلى الحديث عنها هنا.
أما من الوجهة العملية فإن هذه المشكلة تواجهنا في صورة (الإيجابية في الوسط الإسلامي): إيجابية الفرد، وإيجابية المجتمع الذي ينتسب إليه، فما إيجابية الرجل المسلم، والمجتمع المسلم؟ هذا هو السؤال
…
والحق أن بعض التجارب العملية في الوسط الإسلامي قد تدفعنا إلى أن نعكس السؤال ليصبح: لماذا كان هذا الوسط سلبياً؟
(1) درس المؤلف مشكلة الثقافة في العالم الإسلامي في كتابه (شروط النهضة ومشكلات الحضارة). وقد صدرت ترجمته العربية بالقاهرة في يوليو 1957م. وأعيد طبعه في دار الفكر بدمشق 1979م.
إننا نلاحظ فعلاً سلبية فردية وجماعية تحبط المحاولات النافعة، وتحط من قيمة المقاصد والوسائل.
ولقد سبق أن وصفنا هذا الشكل السلبي في (النهضة) الإسلامية حين تحدثنا عن الميل إلى تنمية الحاجات ( Entropie) في هذا المجتمع الذي يسيء استخدام الوسائل المتاحة له. ويمكننا أن نلاحظ هذه المظاهر السلبية سائرة على قدميها في الأحداث اليومية في حياة المسلمين. ومن هذه المظاهر ذلك البون الشاسع بين (الجانب الروحي) و (الجانب الاجتماعي) خلال الحج، فالحج بكل تأكيد مناسبة يصل فيها (الجانب الروحي) إلى قمته، بينما يقدم الجانب الاجتماعي فيه صوراً نموذجية من الخلل والسلبية، وحبوط المقاصد والوسائل. فالحج إلى مكة مناسبة ينحصر اهتمام الحاج فيها- بعد أداء الشعائر- في أن يرعى صحته، فهناك إذن اختبار للمعونة الطبية والإسعاف الذي يحتاج إليه الحاج بسبب إعيائه البدني، في مناخ قد يجهده حين يختلف مع المناخ الذي عاش فيه، ولأن الأحوال الصحية خاصة تصبح ضعيفة مهما كانت الاحتياطات التي تتخذها سلطات الحج بالنسبة إلى تلك الأفواج الهائلة.
والمعونة الطبية توجد خلال هذه الحقبة في مكة والمدينة، فإذا صرفنا النظر عن تنظيم السلطات المحلية التي يجب أن نشكرها إذ تواجه كل عام حالة استثنائية، فإن هناك معونة أخرى في صورة بعثات طبية ترسلها البلاد الإسلامية، وليست تنقصنا في هذه النقطة النوايا الطيبة من جانب الحكومات، ولا الوسائل التي تضعها هذه الحكومات تحت تصرف البعثات الطبية.
ولقد أتيح لنا أن نرى شخصياً خلال الحج الأخير (1) كيف أن هذه البعثات تواجه مقتضيات الحال. ولقد رأينا طبيبين في البعثة المصرية لا يعالجان سوى مواطنيهما
…
الأغنياء منهم فقط
…
أما الفقراء غير القادرين فقد تركوا لقضائهم المحتوم، واضطروا للذهاب إلى البعثة الجزائرية مثلاً، فهذان الطبيبان لم
(1) أي حج عام 1375هـ - 1955م.
يكن يهمهما في الحج سوى الجانب النفعي. أما الطبيب السوري فيمكننا أن نأخذ عليه أنه كان في منى وهي المكان الصحراوي الذي لا توجد فيه صيدلية، كان يكتب لمن يقصده من الحجاح (تذكرة طبية) كأنما لدى الحاج القدرة على أن يشتريها من صيدلية في ركن قريب، أو كأنما ((التذكرة)) في حد ذاتها تعتبر الدواء اللازم. وأما البعثة العراقية فقد أقامت لنفسها ((مخيماً)) خارج مكة تماماً، وبعيداً جداً عنها، بحيث لا يستطيع من لا يملك القدرة على الذهاب في سيارة خاصة- وتلك حالة عامة- أن يذهب إليها إلا بشرط أن يكون في حال من الصحة الكاملة. فكأنما جاءت هذه البعتة عموماً لتقيم لأعضائها مخيماً بظاهر مكة.
وكان رئيس بعثة طبية أخرى لا يظهر إلا مساء، عندما يلطف الجو، على سطح القهوة.
وهكذا ترينا الظروف إلى أي حد تنحط النوايا والمحاولات والوسائل في حقل النشاط (1). وهي ترينا من ناحية أخرى المستوى الذي يحدث فيه هذا الإحباط الذي يقع في صفوف الصفوة بأوسع معاني الكلمة، بحيث تشمل مجالاً اجتماعياً يبدأ من الطبقة المثقفة التي تقود الشؤون السياسية إلى الطبقة البورجوازية التي تتولى الشؤون الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، فكلتا الطبقتين سلبية على مذهبها وفي مجالها الخاص. فإذا انحطت قيمة الشهادة الجامعية بصورة ما من الناحية الاجتماعية لدى الطبيب فإن قيمة المال تنحط أيضاً في الإطار الاجتماعي في يد رجل الأعمال. ومئة فرنك في يد رجل الأعمال الغربي ((في حدود المعادلة الشخصية لحائزها)) لها فاعليتها الاقتصادية الكاملة، فهي تندمج-
(1) من حقنا أن نذكر المثال الشاذ الذي يؤكد القاعدة، فإن البعثة الجزائرية التي كانت مجهزة تجهيزاً كاملا بالأدوية كانت تبدي في الواقع غيرة وحمية بالنسبة لجميع الحجاج دون أدنى تفرقة بينهم بسبب المركز الاجتماعي أو القومية، وقد بذل جميع أعضائها وعلى رأسهم الدكتور عبد العزيز الخالدي أقصى ما يستطيعون من جهد.
عموماً- في رأسمال منتج، أما بين يدي البورجوازية المسلمة فإنها تخضع لمعامل التقليل والتصغير (1) فلم يعد لها من الناحية الاقتصادية قيمة مئة الفرنك، حيث تدخل عموماً في رأس مال نفعي، لا يحمل طابعاً أجتماعياً، ولا يهدف إلى فائدة عامة.
وربما كان لهذا الفساد في الجانب (الاجتماعي) ما يفسره، فلقد وجد العالم الإسلامي نفسه وقد بدأ يخرج من انحطاطه، مأخوذاً بمشكلاته العاجلة، مشكلات تحرره السياسي حتى أن مشكلة حضارته الأساسية قد أصبحت في المقام الثاني في ضميره، وفي ألوان نشاطه، إذ إن صفوته قد اتجهت (طبقاً للحلول العاجلة) مكونة (قيادة سياسية) في البلاد الهادفة إلى التحرر، (وجهازاً إدارياً) في البلاد التي كسبت استقلالها، بحيث كانت الحزبية ( Partisme) ، والوظيفة ( Carriérisme) تمتص هذه الصفوة كلما تكونت في بلد من البلاد.
ومن هنا يأتي الارتجال وعدم التهيئة في أعمال تتفاوت في عائدها الشخصي وفي غموضها. من أجل حضارة تتطلب في الفرد أسمى مواهبه الأخلاقية والعقلية وتقتضي منه أقصى تضحية وإيجابية.
إن للتاريخ رواده ومعبدي طرقه فإذا اكتشف الأولون مجاهله وطرائق مستقبله فإن مهمة الآخرين أن يحافظوا عليها. والعالم الإسلامي ينتج (صفوة) صالحة لأن تصبح (رواده) القادرين على أن يستهلوا سيره في التاريخ ويعينوا له المرحلة التي يقطعها يومياً نحو توقعاته البعيدة.
وهذا هو دور الثقافة: أن تمنح هؤلاء الرجال وعي القائد ومغزى رسالته الحضارية في الإطار الأخلاقي والعقلي والاجتماعي والصناعي.
(1) يتضح هذا الاتجاه حين نرى أن استغلال رأس المال في بلادنا لا يتجه وجهة المشروعات الاقتصادية بل هو في أحسن أحواله يتجه إلى بناء عمائر سكنية، وذلك إن
لم يتجه إلى اقتفاء الحريم (المترجم).
ولكن العالم الإسلامي لم يواجه بعد مشكلة الثقافة بطريقة منهجية وهذا النقص هو الذي يسبب له تلك السلبية المؤثرة على أوجه نشاطه والتي يحملها المسلم في نعاله. حتى في اتجاهه إلى (الوظيفة)، وإذا كانت الوظيفة تتطلب عموماً وجود موظف فإن العكس يحدث كثيراً في البلاد الإسلامية حيث يتطلب الموظف خلق الوظيفة. وفي اللحظة التي انعقد فيها مؤتمر باندونج صادفت في إحدى العواصم العربية أحد الموظفين الكبار المكلفين بأمر وزير الخارجية بإعداد (دوسيه) خاص بشؤون آسيا طلبت منه باعتباره مصدر ثقة، بعض المعلومات المكملة المتعلقة بمؤتمر باندونج فإذا بي أجد نفسي أمام موظف لا أمام وظيفة فلقد كان موضوع الوظيفة بعيداً عنه بعداً تاماً.
على أن ما يؤلم في مثل هذه الظروف ليس هو الجهل الحالي الذي يتصف به الموظف فربما لا يكون قد تمكن مؤقتاً من دراسة الموضوع ولكن المؤلم حقاً ألا يكون لديه الاستعداد لكي يبدأ العمل، كما دفعنا إلى افتراض ذلك عدم وجود أي فكرة موجهة لديه فسلبيته الآن يبدو أنها تشاركه وظيفته حتى كأنها جزء من ذاته مطبوعة في مباني شخصيته. وهكذا يبدو أن المسلم ليس سلبياً فقط، بل إنه بما اعتراه من خلل في الغريزة الاجتماعية- الناتج عن ملابسات تاريخه وعن التمسك الأعمى بالشكليات التي خلفتها له قرون الانحطاط- يبدو أحياناً وكأنه يبحث قصداً عن طريق السلبية. والواقع يدل على أن هذا الوضع لم يخرج في إفريقية الشمالية من إدراك الذوق الشعبي الذي ابتكر رسماً تهكمياً (كاريكاتور) ليصور هذه السلبية في الغريزة الاجتماعية التي تحبط المقاصد والوسائل.
ويمثل هذا (الكاريكاتور) رجلاً يريد أن يشير إلى إحدى أذنيه فيستخدم اليد اليسرى ليشير إلى أذنه اليمنى أو يستخدم اليمنى ليشير إلى اليسرى. وبدهي أن هذا ليس أقصر طريق ليشير بصورة طبيعية خاصة إذا ما وجدناه يدير ساعده حول رقبته
…
كما صور ذلك الكاريكاتور.
إن انحطاط القيمة يبدو في صورة طبيعية في جميع الميادين التي يتجلى فيها عطل القادة والصفوة في المجتمع الإسلامي، ومما يدل على ذلك أن العالم الإسلامي لم يقم بعد بدراسات في الاجتماع تكشف عن نواحي ضعفه الداخلية، وذلك إذا ما صرفنا النظر عن بعض دراسات التخصص المقتصرة على نواحي الفن الشجي (الفولكلور) أكثر من أن تتجه وجهة اجتماعية وذلك كبعض رسالات الدكتوراة التي تقدم في باريس (1).
وجدير بالملاحظة أيضاً أن كتاب (فلسفة الثورة) الذي وضعه الرئيس جمال عبد الناصر، يسجل في العالم الإسلامي المحاولة الأولى التي نرى خلالها رجل السياسة يعبر عن أفكار سياسية بصورة نظرية منهجية. فالسياسي المسلم عامة لا يفلسف نشاطه وبذلك يتبع نشاطه طريق السلبية سواء حين يعلن أن (الأمر مستحيل) على الحل، وهذا يصيب مقدماً نشاطه بالعطل، أو حين يعد (الأمر سهلاً) فأي جهد كاف وهو بالتالي قاحل عقيم. والاستعمار الذي درس جيداً ما تؤديه الدراسات النفسية من خدمات جليلة لسياسته عرف هذا الاستعمار في ظروف كثيرة كيف يوفق بين خطه السياسي وبين الاتجاه المنحدر للفكر في الشعوب المستعمرة، ذلك الذي لا يتمتع بمقاييس للإيجابية التي تخول له الكشف عما ينصب له من أحابيل (فالقيادة السياسية) ترتدي أحياناً ثوب السلبية كأنها بزتها الرسمية. ولقد رأينا منذ قريب في إحدى المجلات المصورة صورة جماعة ناشئة وصلت إلى الحكم في شمال إفريقية، وقد ارتدى الجميع الثياب البيضاء كأنها جوقة موسيقية ووضع رئيسها في إصبعه خاتماً ثميناً به ماسة كبيرة علامة على سلبيته اللاشعورية ولقد كانت الصورة تدعو إلى القول: أيها السيد الوزير لماذا لم تبق هذه الحلية الثمينة الغالية في حقيبة السيدة زوجتكم؛ لقد فقدت اليد
(1) من الغريب أن نذكر أن مناهج الدراسة في الجامعات في البلاد العربية لا تدرس علم الاجتماع المطبق للعالم الإسلامي بل علم الاجتماع في ذاته حتى أن الطالب لا يتعلم كيف يعرف بيئته بل إنه يدرس فرعاً نظرياً من علوم الإنسان.
التي هي رمز على الإيجابية والتأثير قيمتها الرمزية نوعاً ما في الصورة التي تقدمها لنا الحياة السياسية الإسلامية الراهنة وليست هذه الحال نادرة.
وهذا النقص الاجتماعي منتشر في العالم الإسلامي في صور متعددة فهو يغفل مثلاً المقاييس الجمالية حتى عندما يصبح المبدأ الجمالي- فعال دائماً- مبدأ أكثر فعالية وإيجابية. فعلى محور واشنطن - موسكو يتمثل ذوق الجمال حتى في مقاييس الانتاج الصناعي فشكل المنتج ولونه وكيفية عرضه تتدخل هذه العوامل الجمالية في الانتاج بقدر ما تتدخل العوامل الصناعية لتضمن نجاحه التجاري. أما في المجتمع الإسلامي الحديث فإن السلبية تطبع جميع المظاهر والأشكال.
وفي عصر شاع فيه (الأسلوب) العالمي بتأثير امتداد الحضارة الغربية التي وضعت طابعها على العالم كله يصبح من الضحك في عصر كهذا أن نلفت النظر إلينا بطابع من طوابع القرون الوسطى فمن الممكن أن نكون سلبيين من الناحية السياسية بمجرد تفصيل بسيط لثيابنا، أو حركة نبديها، أو هيئة نرتديها، وحين نرى وزيراً مسلماً يرتدي البزة الأوروبية ويحتفظ بطربوشه الأحمر من قبيل النعرة الوطنية خلال حفلة ذات صبغة دولية فإننا نشعر بأنه قد اختار السلبية مهما كلفه ذلك من ثمن، وهي سلبية معجونة من خليط العجرفة الصبيانية والجهل بالعالم الراهن في اتجاهه العام. وتشعر أيضاً بأن الأمر يتصل بمجتمع بدأت حضارته عملها من القدم ولم تصل بعد إلى الرأس
…
أي إلى طربوش السيد الوزير. وحالة كهذه هي التي أوحت دون شك إلى رابندرانات طاغور ( Rabindranath Tagore) تلك العبارة الحزينة عندما رأى أن بلاده ((الهند قد انسحبت خلف حاجز ضيق من الظلام، في كبرياء منحطة مقفلة، وفي فقر فكري منطو على نفسه في سكون، مكررة بصورة تبعث على السخرية ماضياً فقد نوره وبهاءه!)).
ومع ذلك فيبدو أن هذه المشكلات قد بدأت تصبح موضوع دراسة في العالم الإسلامي، وعلى الأقل في الإطار القومي، فمصطفى كمال كان في هذا الإطار رائداً بلا نزاع، والحكومة المصرية بدورها- بإلهام قائد الجناح البغدادي فيما يبدو- تدرس إجراءات توحيد الزي. وإنه لحدث ذو أهمية نفسية رئيسية أن نرى فكرة الإيجابية وقد بدأت تلهم المحاولات الحكومية. ومع ذلك فربما كان من المهم ألا يقتصر حدث كهذا على النطاق القومي فحسب، بل أن يتسجل في تطور العالم الإسلامي. ولكم نتمنى دون شك أن يدرس مؤتمر إسلامي هذا المشكل دراسة مدققة، دون أن يرجع طبعاً إلى آراء المتخصصين في المديح، وإلا غرق في سيل من المديح أو في مماحكات الفكر الدرسي الملتوي.
وكي لا ينسينا الأمر أنّ هناك قدراً كبيراً من الوسائل المادية المهمة فادحة الثمن بالنسبة إلى شعب يفقد الحيلة والوسيلة، وهي تصاب دائماً بالعقم عندما تستخدم عملياً، لأنه لا يقدم المبدأ الأول في باب الإيجابية الاجتماعية، الذي يعبر عنه المثل الانجليزي المشهور ((الرجل اللائق في المكان اللائق)).
بينما تجد أن بعض الحالات في العالم الإسلامي تعكس القضية تماماً، مثلاً حين يوضع التعليم الحر كله لبلد ما بين يدي تاجر مخادع (1) فإن مثل هذه الحالات تذكرنا على الرغم منا بفكرة الكاتب الفرنسي اللاذع بومارشيه ( Beaumarchais) الذي كان يندد في سخرية ناهشة بسلبية عصره حين قال:((لقد كانوا بحاجة إلى محاسب فإذا بهم قد اختاروا راقصاً)). فراقص هنا، وتاجر بلح هناك، وإنما المرض هو هو عندما يريد مجتمع أن يكون سلبياً عديم التأثير
…
سيكون إذن على مؤتمر إسلامي أن يشرع في تخطيط حق للمشكلة الإسلامية من أساسها. بحيث يكون همه أن يجتاز بخمس مئة مليون من البشر حالة (بادرة الحضارة، Pré-civilisation) ليصل بهم إلى حالة الحضارة. وبحيث
(1) يشير المؤلف بذلك إلى أن أحد مديري التعليم في بعض البلاد الإسلامية تاجر من تجار البلح فعلاً.
ينجز مهمته هذه في زمن معين، مستخدماً بصورة فاعلة الموارد الروحية والمادية لتلك التجمعات البشرية، وأن تجربة الصين منذ خمس سنوات لتقدم لنا مثالاً نادراً على تأثيرها الاجتماعي حين نظرت إلى الأشياء من هذه الوجهة الفنية والكمية، فإذا كان الذباب قد اختفى، وإذا لم يعد هناك في المنظر الصيني كومة القاذورات اللازمة التي كانت تشوه جماله، وإذا كان بائع (الفطائر) البسيط قد أصبح في ملبسه وكأنه طبيب جراح في غرفة عملياته، يتناول بضاعته بملقط، ويتنفس خلف قناع من القماش، فمن المؤكد أن هذا لم يحل المشكلة الانسانية كلها في الصين، ولكنه يعد بلا جدال خطوة مهمة جداً في طريق الحل.
وأمام العالم الإسلامي خطوات مهمة عليه أن يخطوها حتى يبلغ المرحلة الحالية في التطور الإنسانى بما يستتبعه من اتجاه خاص. فسيكون إذن على المؤتمر الإسلامي المسؤول أن ينظر إلى المشكلة من وجهات ثلاث، مع اهتمامه منطقياً بعلاقاتها الداخلية أولاً، وبعلاقاتها مع فكرة الأفرسيوية ثانياً، ومع فكرة العالمية ثالثاً.
ولقد لفتنا انتباه القارئ في الفصول السابقة إلى عدد من نقط الاتصال في المجالين الثقافي والاقتصادي والواقع أن مؤتمر باندونج قد قام جزئياً بعمل المؤتمر الإسلامي حين كشف عن لزوم هذه الاتصالات وعن طبيعتها ومن ناحية أخرى فإن الاتصال الروحي في تركيب فكرة الأفرسيوية لا يمكن أن يتحقق إلا باتصال الفكر الإسلامي بالفكرة الهندوسية بواسطة الحوار والمواجهة. ومن هذا الاتصال نستطيع أن نقدح شرارة تركيب الفكر الأفرسيوي الذي يستطيع كل بلد من طنجة إلى جاكرتا أن يتعرف فيه جزءاً من عبقريته الخاصة، وأما من الناحية الثالثة فالاتصال يهدف أساساً إلى تحقيق العالمية كما بيَّنا.
أما من الوجهة التربوية فإن مشكلة الاتصال تواجهنا بمشكلة توجيه التعليم، وهنا يجب على القادة المسلمين أن يفتحوا عقولهم أكثر للقيم الثقافية في الهند وفي العالم، وما كان لهم أن يعرفوا نصيبهم من العبقرية في (الفكر الأفرسيوي)
إذا هم لم يعرفوا ويقدروا نصيب الآخرين. وأكثر من ذلك فإن هناك أنواعاً من الجهل لا يمكن الإغضاء عنها في القرن العشرين، وهناك إضافات لهذا القرن، وقيم خاصة به لا تستطيع طبقة مثقفة مسلمة أن تجهلها دون أن تشنع بنفسها (1). فليس من الممكن أن نعيش بنفسية المنعزل الذي يجهل قيم الآخرين، وهناك بلا جدال الكثير مما يجب إنجازه في العالم الإسلامي. فالمسلم الذي أوتي قليلاً من اليقظة والانتباه للأحداث، ولصداها اليومي يستطيع- بمجرد إدارته لمفتاح جهاز الاستقبال- أن يدرك أن الضمير المسلم غائب عن العالم، وأنه ضمير منعزل لا يشارك في الشؤون العالمية، فنحن لا نجده في المؤتمرات الدولية الكبرى، ولا في مصطرع الأفكار الناتجة عن اصطدام النظريات الاجتماعية والفلسفية التي تتقاسم الإنسانية الآن هذه النفسية الانعزالية تبلور سلبية العالم الإسلامي في الإطار العالمي، في الوقت الذي يتقرر فيه مصير الشعوب خارج حدودها القومية، وفي الوقت الذي يدخل العالم فيه إلى عهد التعايش أي العيش مع الآخرين مشتركاً معهم في بعض الالتزامات وفي بعض الحقوق. هذه الالتزامات والحقوق تطبق على التعايش فكرة (الملكية الشائعة) القانونية وبالتالي قواعد حسن الجوار وسوئه، التي تفرض نفسها على كل شريك في الملك.
هذه الفكرة يجب أن تتسجل في التطور النفسي للمسلم حتى يخرج من (العزلة) التي أغرقه فيها الانحطاط وحتى يدرك (حضور) الآخرين المحتوم في العالم الراهن. وحتى يتفتح لفكرة (القرين) الذي يقاسمه نعماءه وبأساءه، في عالم يتصل حل الأزمة الإنسانية فيه بجميع الشعوب والأديان، وإذا كان ضرورياً للمرء أن يحسب حساب حسن الجوار في رفيق القطار فإن اعتبار ذلك أكثر ضرورة في رحلة عبر التاريخ.
(1) من المحزن أنه في الأيام التي انعقد فيها مؤتمر باندونج كتبت صحيفة يومية كبرى بالقاهرة تحيي ذكرى غاندي، وتذكر أن تعاليمه كانت تهدف إلى السمو بالروح خاصة ولكن على حساب الجسد، فلو كان الصمت في وقت من الأوقات من ذهب لكان هذا وقت الصمت، حيث لا ينبغي أن يصرح كاتب عن جهله هكذا.
ولقد أقرت تعاليم الإسلام القانون الخلقي الأسمى للجوار، حين خلعت عليه أعظم تفسير اجتماعي، فالجار محترم في كل حال (1)، ولكن الأمر يتعلق مرة أخرى بأن نوفق في العالم الإسلامى بين الجانب الاجتماعي والجانب الروحي، وذلك بأن نعطي الجوار معناه الأوسع الذي ينطبق على ظروف الاتصال الإنساني الخاصة بالعصر الذري، فإذا كان جارنا هو الذي نراه ونسمعه، فإننا نسمع اليوم ونرى على بعد آلاف من الكيلومترات، فجوارنا لم يعد في شارعنا، أو مدينتنا، أو بلدنا، بل أضحى في كل مكان، أينما وجد آخرون.
وإذن فمن الجوهري بالنسبة للمجتمع المسلم أن يتخلص من النفسية الانعزالية الموروثة عن قرون الانحطاط حتى يثبت حضوره في العالم، ولا سيما عندما يؤلف الطبقة المثقفة في البلاد. فليس له أن يصطحب في صعوده وبعثه سلبية الوسط العائلي أولاً، والوسط الاجتماعي أخيراً.
ويستطيع التعليم الجامعي أن يعدل بعض أشكال الفكر لا أن يحورها كلية، فإن بين المثقف ورجل الشارع أساساً مشتركاً تنعكس عليه درجة التطور العام لوسطهما، والنفسية الانعزالية تتصل بهما معاً، فيجب إذن أن نواجه المشكلة من الأساس، فننمي معنى الارتباط لدى الطفل، لاخراجه من العزلة التي وضعته فيها التفرقة بين الذكر والأنثى في الوسط العائلي، حيث تنحاز الأم والأخوات إلى جانب، والأب والإخوة إلى جانب آخر. وهذا الوضع يمارس- فضلاً عن ذلك- سلطة تغرس الطفل في عزلته. حيث ينغلق فهمه للارتباط الإنساني. فالوسط العائلي المسلم لا يسلم للمجتمع كائناً اجتماعياً صالحاً لأن يؤدي فيه دوراً فاعلاً، لأن اتصاله بالآخرين متعسر، وسواء في ذلك أقرانه، وشركاؤه الذين يقاسمونه أعماله ومصيره. وتشهد بذلك الاتصالات اليومية في بيئة شمال
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» .
إفريقية خاصة، وربما كان السلوك الانعزالي أقل ظهوراً في تونس، مما شجع على تكوين النشاط النقابي، أسبق من نظيره في الجزائر مثلاً (1).
وينعدم معنى الصلة (الاجتماعية) بصفة عامة عند الصفوة (التقليدية) ذات الصبغة الزيتونية أو الأزهرية كما ينعدم لدى الصفوة (العصرية) المتخرجة في الجامعات الغربية، ومشكلة هذه الوراثة تخص العالم الإسلامي كله وتواجهه في اللحظة التي تستهل فيها فكرة التعايش عهداً عالمياً بالنسبة إلى الإنسانية.
إلا أنه يبدو أن المشكلة تبرز من ميدان اللاشعور لكي تأتي إلى ميدان الشعور في التطور الراهن للمجتمع الإسلامي. فإنه باهتمامه أكثر فأكثر بتكوين (إرادته الجماعية) يضع المشكلة في عداد المشكالات التي شعر بها ورغب رغبة ملحة في حلها، وإلى هذه الرغبة يجب أن نعزو سعيه إلى بحث موضوع توجيه الثقافة العربية، ومن الممكن أن نذكر تطوراً معيناً حدث في مصر في المجال المذكور، فلقد استطعت أن ألاحظ بنفسي هذا التطور خلال أعياد الجلاء، بمناسبة العرض العسكري الذي جرى في 25/ 6/ 1956م، وكنت قد شاهدت عرض يوليو 1954م أي منذ سنتين فلاحظت آنذاك مظاهر النفسية الانعزالية في صورة انفعالات الجماهير، حيث يعمل كل شخص منفرداً لكي يرى العرض من أجل متعته الخاصة، على حساب الآخرين. وفي العرض الأخير سجل الجمهور المصري قدراً أكثر من (الإرادة الجماعية)، وذلك حين ننظر إلى سلوك أي جماعة من الجماعات الشعبية. لقد كان هذا الجمهور يرعى عموماً قواعد الجيرة وفي كثير من الكرامة، وهذا يدل على أن (الفكر الجماعي) يسيطر شيئاً فشيئاً على (النفسية الانعزالية).
ولكن يلزمنا القول بأن المشكلة تظل تواجهنا في العالمين العربي والإسلامي، ولعل انعقاد مؤتمر يتخصص لدراسة الاجتماع في هذا العالم يضيء لنا هذا
(1) إننا لا نجد أحياناً في المسلم المثقف في الجزائر الاستعداد الاجتماعي بل على العكس فهو كأنه يندفع بغريزة لا اجتماعية ولا يشعر أنه يطبق بالضبط برنامج الاستعمار.
الجانب المهم، ويخرج لنا بنتائج عملية، وقد اقترحنا فعلاً فكرته منذ عام على سكرتارية المؤتمر الإسلامى بالقاهرة.
وعلى كل فإن على المؤتمر الإسلامي أن يجعل في جدول أعماله هذا الواقع الجوهري، وهو أن العالم الإسلامي يعيش في غير تاريخه، دون خطة في عالم حديث نحطط، وفي عالم التخطيط والخطط.
ومن الحق أن نقول: إن مهمة مؤتمر إسلامي لكي يحيط بمشكلة العالم الإسلامي، هي في أن يدركها في صورتها الدرامية، أي في ضمير الرجل المسلم وفي ذكائه، ذلك الرجل الذي يحيا هذه المشكلة كل يوم- إن صح التعبير- فمن أولاً هذا الرجل؛ وما حاله في المجتمع الإسلامي الراهن؟
إن من البين أنه- لا الراعي المتواضع الودود الذي لا يمكن زعزعة (الحقيقة الإسلامية) في ضميره، ولا صاحب المركز في المجتمع الإسلامي، الذي صنع تلفيقاً بين (حقيقته) ووضعه الاجتماعي- وإنما هو المثقف البسيط العاجز عن التفكير في عمل تلفيق كهذا، لأن كل رغباته ومطامحه ومصالحه تتركز في (حقيقة) ليست ثابتة كحقيقة الراعي. بل إنها حية حياة المأساة الإنسانية.
هذه هي المأساة الداخلية لبعض الفئات المسلمة التي تكون المشكلة المستكنة الرئيسية في العالم الإسلامي في سنواته العشرين المقبلة.
وهناك طريقان ندرك بهما المشكلة في ضمير هذه الطبقة المثقفة المسلمة، تلك التي تحاول- يائسة- السيطرة على حقيقتها. فهناك أولاً ناتج اختلاط الجانب الروحي بالجانب الاجتماعي في العالم الإسلامي يترتب عليه أن يكون لكل حقيقة تجسدها، فالعالم المسلم مثلاً صورة للحقيقة الإسلامية ونحن نشعر بمدى ما يكمن من الخطورة والاعتساف في هذا (التشخيص) للجانب الروحي الذي تنحط قيمه كلما ازداد هذا (العالم) بعداً عن المثل الأعلى، أو الكمال الذي يريد المجتمع الإسلامي أن يراه فيه.
ولكم كانت خيبة الظن سخيفة بحيث انتهت أحياناً بانقلاب إلى جانب العداوة للإسلام، لأن المثل الأعلى قد انهار في أعماق ضمير ما مع الانهيار المفاجئ لقيمة خص بها عالماً سقط من نظره، فالتشخيص شكل رهيب من أشكال مأساة الضمير المسلم.
والشكل الثاني من المأساة ينتج من علاقة المسلم بالإسلام. فهذه العلاقة مزدوجة، إذ هي روحية واجتماعية، فالعلاقة الروحية قوية سليمة لا يمكن مسها باعتبارها يقيناً مطلقاً، والضمير المسلم لا يشعر بأي نوع من القلق الميتافيزيقي. ولكن العلاقة الاجتماعية على العكس من ذلك أفسدتها المشكلات المادية التي تفرضها الحياة على كل مسلم، فهو يعتقد، وهو غير مخطئ، أنه مرتبط بمجموع هو العالم الإسلامي الذي يبدو له أن قدره مطبوع بالإسلام. فتنتج في رأيه علاقة سببية بين قدره الخاص أو حقه في المجتمع ودينه. وينتج عن هذا أخيراً نوع من النفاق في العلاقة الزمنية بين المسلم والإسلام. وإذا لم ينكشف هذا النفاق انكشافاً مفضوحاً بأن يحطم المسلم ارتباطه وينكر عقيدته، فإنه يتجلى في الميدان الفكري خاصة في صورة عجز عن مواجهة مشكلات العالم الإسلامي والتفكير فيها بصراحة وملاءمة، فهو بدلاً من أن يتحدث عن الرمد ( Ophtalmie) عندما ينبغي الحديث عنه، يتحدث عن ((علم الرمد Ophtalmologie)).
وهذه العلاقة المعيبة بين المسلم وأشياء يسمو بها إلى مرتبة المثل الأعلى، لأنه يرى فيها تأثير الفكرة الإسلامية في المجال الاجتماعي، هذه العلاقة المعيبة تخلق لديه نوعاً من الحرمان، ونوعاً من عدم الإخلاص الأدبي الذي يصرف نظره أحياناً عن بعض المشكلات خوفاً من أن يصطدم بمحرم في الدين، ناتجاً في نفسه عن عقدة الحرمان، حين يواجهها صراحة، فهو عندما يعالج مرضاً في المجتمع الإسلامي يشعر كأنه يسيء الظن بالإسلام.
وهذا الموقف التلفيقي اللاإرادي يعرّض جهوده أحياناً للخطر، حين يحول بينها وبين أن تؤتيَ ثمراتها في الميدان الاجتماعي.
وعندما يتعلق الأمر بموقف مثقف يريد دراسة مشكلات العالم الإسلامي دراسة موضوعية فإن عقدة نفسية كهذه تعقد مجهوده، وتسيطر فكرته بحيث تموه طبيعة هذه المشكلات، ويدخل في الدراسة بعض التحريف اللاشعوري.
ونتصور لهذه الحالة ضررها البالغ عندما تصدر عن متخصص في هذه المسائل وخاصة إذا ما كان لعمله تأثير كبير على اتجاه عصره، لقد أراد أحد هؤلاء المفكرين أن يضع خطة مؤلف اختار له بحق هذا العنوان:
نحو مجتمع إسلامي متمدن
ولكنه فكر فعدل العنوان بالصورة التالية:
(نحو مجتمع إسلامي)
في هذه الحالة نرى أن العلاقة المعيبة تتدخل في صورة حرمان أدبي يفرض التعديل المذكور، ولست أعتقد أن المفكر الكبير قد اعتبر أن الكلمة المقتطعة من العنوان الأول قد حرفت المشكلة في عقله فاختلستها وخدرتها بصورة ما في ضميره، فإن العملية التي تتم في الإطار النفسي لها طبعاً نتيجة في الإطار الأدبي أنها تقطع في الواقع المشكلة الأولية عن عنصرها الجوهري، وهو البحث في شروط حضارة المجتمع الإسلامي.
فلقد استبعد المفكر المحترم إذن مشكلة العالم الإسلامي الحاسمة من بحثه حين اعتقد وحملنا على الاعتقاد بأن المجتمع الإسلامي هو على وجه التحديد (متمدن)، وهكذا نراه وقد انجرّ مرغماً تحت تأثير (حالة إخلاص) إلى موقف من المدح العقيم.
ومع ذلك فكم كان يمكنه أن يخدم المصلحة العليا في العالم الإسلامي لو أنه وقف موقفاً موضوعياً إلى النهاية معتبراً أنه يوجد فعلاً (مجتمع إسلامي)، ولكنه موجود في حال (بادرة الحضارة) وأن من الأوفق أن نواجه مشكلة حضارته.
ومن هنا تنتج السلبية الضارة في الفكر أو النشاط، ولهذا فسيكون على المؤتمر الإسلامي أن يعيد دراسة مشكلة العالم الإسلامي، متناولاً لها من جذورها النفسية والاجتماعية بقدر الإمكان، ولست أدري ما إذا كانوا قد قاموا في العالم الإسلامي بجهد مقصود لدراسة (المرض) في شكله المزدوج: المرضي والعلاجي أم لم يقوموا.
فالحق أن الضمير المسلم يبدو وكأنه شعر (بالمرض) في حالة (نصف نوم) ثم انغمس فوراً في النوم دون أن يدرس الأسباب والوسائل الفعالة لمكافحته، فالمريض المسلم يجر معه مرضه، وهو يحقق هكذا أعجوبة حيث يشرع في (نهضة) دون أن يتحرر منهجياً من العوامل التي فرضت انحطاطه خلال القرون الأخيرة.
وعليه فالمرض ليس في طريقه إلى أن يزول أو ينصرف في السنوات القادمة، بل على العكس. فإذا بدا أن مداه بدأ يتناقص، في حدود البيئة الإسلامية، فإنه يتعاظم في النطاق العالمي، أي مع ظهور فكرة العالمية. وإذا كان المسلم يرى في بعض الظروف أنه مطمئن إلى تطوره القومي، أي بالنسبة إلى مقاييس محلية، فلن يكون مطمئناً مطلقاً إذا ما نظر إلى نفسه بالنسبة إلى التطور الدولي، فإن حياة العالم تفوته كل يوم أكثر من سابقه، والشعوب التي وضعت خطة بقائها تظل دائماً في المقدمة بفضل تخطيطها، وهنا يوجد المسلم مرة واحدة أمام المشكلة النفسية والصناعية، فتقدم الآخرين يصوغ في ضميره مأساة تأخره، ولكن هذه المأساة تتطلب حلاً، وهي تكون القانون النفسي الذي سيحكم أكثر فأكثر تطور العالم الإسلامي في السنوات القادمة. وهذا الحل الضروري لا يمكن أن يكون إلا نوعاً من (الثورة) التي تتيح للمسلم أن يتدارك تأخره عن بقية الناس.
وعليه فمن الممكن أن تقوم فيه (ثورة) عن طريق نفسه، أي من تخطيط يوفر للضمير الإسلامي ضمانات هو بحاجة إليها، أو أن تأتي هذه الثورة من الخارج حين يعجز عن القيام بها، والقيام بثورة في الاتجاه الإسلامي معناه تطبيق (فنية
ثورية) مستوحاة من القرآن فكل تغيير غريزي يفترض تبعاً للقرآن تغييراً في حال النفس: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/ 11]، وإذا كانت هذه الفنية صادقة في المشكلة الاجتماعية كلها، كما حاولنا التدليل على ذلك في كتاب سابق (1).
فهي تستتبع التخطيط التالي:
(أ) ماذا يجب تغييره في النفس المسلمة لكي نبرئ (مرض العالم الإسلامي)؟.
(ب) ما الوسائل والمناهج إلى هذا التغيير؟.
(جـ) وما الهدف- أو السبب النهائي- الذي يهدف إليه تغيير كهذا؟.
فعندما يواجه مؤتمر إسلامي هذه المسائل بوضوح وصراحة ويجيب عنها بطريقة ملائمة. فإنه يكون قد حل المشكلة الإسلامية فلا يبقى نفاق في العلاقة الاجتماعية بين المسلم والإسلام، ولا يبقى قلق في الضمير المسلم.
والعالم الإسلامي في مرحلة مخيفة من مراحل السديم المتخلق، حيث لم تدخل العناصر كلها في البناء طبقاً لنظام خاضع لقوانين محددة، ومن الجائز أن تؤدي مرحلة التخلق إلى نظام إسلامي؛ أو إلى فوضى شاملة تغرق فيها جميع القيم التي جاء بها القرآن إلى العالم. ولكن القرآن دائماً على أهبة الاستعداد لتكرار معجزته
…
إن شاء الله.
…
(1) انظر كتاب (شروط النهضة) طبعة دار الفكر بدمشق.