الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التّعَايش أو الوجُود المشتَرك وَالاستِعمَار المشتَرَك
لقد سجل تشرشل في خطابه الذي وجهه إلى طلبة الكلية الأمريكية في فولتون ( Fulton) في أبريل (1947م) لحظة رئيسية في حياته السياسية، ورسم في الواقع منعطفاً خطيراً في التوجيه الدولي الناتج عن روابط الحرب العالمية الثانية، وعن مؤتمر يالتا ( Yalta) وبوتسدام ( Potsdam).
ولقد حركت الخطبة الأقدار حين خلقت حداً جديداً، هو الستار الحديدي، سماه تشرشل نفسه بهذا الاسم، وهو يتمتع (بقوة تفريق) أعظم مما أتيح لخط سيجفريد الذي كان يفصل قبيل الحرب العالمية الثانية، بين ألمانيا الهتلرية والديمقراطيات الغربية. وهكذا ظهرت توقعات جديدة طبقاً لجغرافية سياسية جديدة أحدثت انقسام عالم الكبار إلى كتلتين. فأفسح ذلك الازدواج العالمي الجغرافي السياسي- الموروث عن القرن التاسع عشر- أفسح مجالاً لتالوث ظهر فيه عنصر ثالت مكون من كتلة (أبناء المستعمرات) الأفرسيوية موضوعاً للنزاع الجديد، وشاهداً عليه أيضاً.
وفي هذه الحقبة الجديدة يجب أن نفهم مركز الشعوب الأفرسيوية في عالم الكبار، وعلاقاتهم معهم، حتى نكوّن لأنفسنا فكرة عن التطور الذي سيقودها أخيراً إلى باندونج كي تفر من الجاذبية التي تهدد بربطها في فلك الحرب.
والواقع أن خطبة فولتون قد أحدثت تصفية في العالم، الذي كان يسوده الغموض منذ عام (1945م)، حيث لم يكن في وسعه أن يحقق السلام، أو يتابع الحرب. فإذا بفكرة- الستار الحديدي- تلقي وضوحاً على الموقف، فقد أصبحت إرهاصاً لحرب عالمية ثالثة، واضعة بذلك نهاية للحيرة التي كانت
تسيطر على العقول المهتمة بالسلام والتوافق في العالم، لأنها متأثرة ببعض الأوهام، وبعض الآمال.
فبدأ الضمير الإنساني يتصل من جديد بالواقع المرير، ويأخذ هذا الواقع أولاً اسم، الحرب الباردة. حرب باردة تظهر فيها فجأة ارتفاعات في درجات الحرارة. فهنا وهناك مناطق ساخنة في كوريا، وفي الهند الصينية مثلاً.
ثم إذا بهذه الحرب قد حددت مفهومها ونظريتها، ففي 12 مارس (1947م) نادى ترومان بنظرية الحد من التسرب الشيوعي ( Containment)، أي إنه يجب إيقاف انتشار الشيوعية، وبعد ثلاثة أشهر نادى مارشال بمشروعه المعروف الذي يرسي القاعدة الاقتصادية لنظرية (حد الشيوعية)، مكملاً في الوقت نفسه نظرية ترومان بنظرية كبح جماح الشيوعية ( Roll Back) إذ يجب الضغط على الشيوعية حتى ترجع إلى حدودها.
ولقد أثارت هذه المحاولات رد فعل في روسيا السوفيتية التي أعلنت في 28 يونية (1948م) فرض حصارها على برلين.
وبهذا تستفحل الحرب الباردة مقتربة من ذروتها التي ستبلغها عما قريب في كوريا، محولة في طريقها عالم الكبار إلى ورشة عسكرية، تجهز فيها الحرب العالمية الثالثة.
ومضت السياسة الدولية في هذه الحقبة تتلقى وحيها وأوامرها من هيئات أركان الحرب، فأصبحت اهتماماً استراتيجياً خالصا.
وحيث قد قام الاعتبار الاستراتيجي في الموقف الجديد على الغريزة الاستعمارية القديمة، التي لم تستأصلها الحرب العالمية الثانية، فقد نتج عن ذلك صورة جديدة للعلاقات بين العالم المتحضر والشعوب الأفرسيوية، وهذه العلاقات مطبوعة من ناحية العالم المتحضر بطابع استعمار جديد. يمكن تسميته لما يحمل من وصف خاص، باسم:(الاستعمار المشترك). فهو مفهوم سياسي من
نوع معاهدة الدفاع الأوروبي ( C.E.D) والهيئة الاقتصادية لأوروبا الغربية ( O.E.C.E) ولكن خارج النطاق الأوروبي، أعني نوعاً من التشارك في ميدان الاستعمار مطابقاً لضرورات الوضع الاستراتيجي.
فـ (استراتيجية التطويق) هي صياغة لهذه الفكرة في ألفاظ عسكرية، والقواعد العسكرية في نطاق حلف الأطلنطي، وحلف مانيلا وحلف بغداد هي مظاهره المختلفة، وصيغه المحلية.
لقد غيرت الحرب الصناعات، ولكنها لم تعدل نفسية العالم المتحضر تعديلاً عميقاً، فلقد طفر العلم، بينما جرى الضمير في مكانه، ووضعت المشكلات دائماً في ألفاظ القوة، وجعلت القنابل الذرية والهيدروجينية والصواريخ الموجهة في رأس قائمة عوامل السلام، وأصبحت (مراكز القوة) الحجة العليا للدبلوماسية الدولية.
ومع ذلك فإن تياراً جديداً يتداول في العالم، تياراً لم يصل بعد إلى منطقة الضغط العالمي للحرب الباردة، لكن نسمته بدأت تنال من هذه الثلوج المترسبة، فحتى الآن لم تجد (إرادة القوة) متكلماً آخر في العالم غير قوات من طبيعتها، ومن نوعها. فقد أيقظ الاستعمار الأمريكي مثلاً اليابان عام (1868م) نافخاً فيها من روحه روح القوة، وكانت كارتة- بيرل هاربر- التي حدثت في ديسمبر (1941م) الإجابة على تلك المحاولة، وبذلك كانت الإجابة من طبيعة التحدي والاستفزاز نفسها. ولكن بعد هذا النصر الباهر، سحقت اليابان الوسائل نفسها، فإن ((من سل سيف البغي قتل به)) كما قال الإنجيل. وكان هذا على كل حال هو الحوار الذي يدور بين أصمين، بينما كان حوار آخر يقدم إلى ضمير القرن العشرين مثالاً، هو والمثال الأول على طرفي نقيض، فلم يعارض غاندي الاستعمار الانجليزي بقوة من النوع نفسه، بل بقوة جديدة هي قوة (عدم العنف). وبهذه القوة لم يحرر (المهاتما) الهند فحسب، بل إنه قد أقر قانوناً سياسياً قائما على قيم أخلاقية جدد لها قيمتها المنتقصة بسبب حضارة منحت
الأولوية للقوة المجردة. والنصر السياسي الذي أحرزه (غاندي) يسجل دون شك لحظة هامة في تاريخ الهند، ولكن انتصاره الأخلاقي يعد أيضاً أكثر أهمية، فهو يسجل اللحظة المؤثرة التي أصبح فيها مبدأ (عدم العنف) قوة سياسية عالمية. وبفضل هذه القوة دخل (المستعمَر) إلى المسرح الدولي، فإن ملايين الناس يدينون بتحررهم السياسي إلى وساطة الهند،- وعلى سبيل المثال سبعون مليوناً في أندونيسيا-. إنه الرجل المستعمَر يدخل المسرح الدولي، وهو عنصر إنساني حاول المستعمرون إبقاءه حتى الآن في الظلام وراء شاشة التاريخ، ولم يسمحوا له منذ قرنين من الزمان بأن يكون على الأكثر سوى شخص من الشخوص، فهو الآن يدخل الحدث المسرحي بفكرة تغير هيئته، وتغير الوضع المسرحي نفسه.
لقد بدأ حوار جديد في التاريخ، حوار لم يكن المتحدث إلى القوة فيه قوة أخرى من نوعها، تجر العالم إلى الحرب طبقاً لسياسة (حافة الهاوية)(1) بل هو نوع جديد، ليس المتكلم فيه مسلحاً بقنابل ذرية، بل بقوانين جديدة أخلاقية وسياسية، برهن غاندي على صلاحيتها وتأتيرها.
وكان من نتائج هذا الحوار الأولي غير المتوقعة إعادة بناء الازدواج الجغرافي السياسي بطريقة غير مباشرة. لكن في غير الوضع الذي ورثه العالم عن أوضاع القرن التاسع عشر. بحيث يعيد بناءه طبقاً لخطة جديدة، في ضوء تفسير جديد. فالحضارة لم يعد محدثها شعوب معستعمرة وقفاً على الاستعمار والقابلية للاستعمار، بل إنها شعوب انتصرت على تلك العبودية المزدوجة، شعوب لم تعد ترضى بأن تستخدم فقط كقاعدة لتمثال التاريخ. بل على العكس يريد أبناؤها أن يكونوا فنانيه وملهميه.
إن دخول الشعوب الأفرسيوية على المسرح قد أعاد الازدواج الجغرافي السياسي بطريقة معينة، ولكن في الوقت نفسه أتت هذه الشعوب معها بمبدأ
(1) كلمة يعبر بها عن مغامرته السياسية.
تركيب للعالم؛ وبإمكانيات تعايش جديد يحمل بوضوح طابع عبقريتها. أعني الشروط الأخلاقية لحضارة لا تكون تعبيراً عن القوة أو الصناعة.
وفي هذه المرحلة، لم ترد هذه الشعوب أن تمثل الدور الثاني متعلقة بأذيال الكبار، ولكن دور أنداد أحرار في اختيار طريقهم الخاص بوسائلهم المناسبة، واقتناعهم بأن اختيارهم هذا يتيح للإنسانية فرصة جادة للهروب من الحرب. وعلى ذلك- وخاصة منذ مؤتمر باندونج- فيمكننا أن نلخص تخطيط السياسة العالمية في تيارين متميزين يمكن أن يلتقيا أخيراً. فلم يعد التاريخ يصنع في المصانع والورش الخاصة بالحضارة الصناعية.
والفصل الجديد فيه يوضع تحت عنوانين، وتعمل ميزانيته في عمودين، هما: العناصر التي يجلبها الكبار من ناحية، والعناصر التي تجلبها الشعوب الأفرسيوية من ناحية أخرى، تلك الشعوب التي ألقت قناع النسب المجهول (أبناء المستعمرات) الذي فرضه عليها القرن التاشع عشر لكي يخفي شخصيتها، وهذان العنصران المختلفان يؤديان حواراً تتتابع حلقاته في ترتيب جدلي، يتضمن أزواجاً متطابقة في اطراد تكويني تبعاً للتطور الذي حدث منذ عام (1945م): كبار وشعوب أفرسيوية، قوة وعدم عنف، منطقة حرب ومنطقة سلام، استراتيجية التطويق والحياد، استعمار مشترك، وأفرسيوية ....
هذه الأزواج ترسم الصورة الراهنة للعالم، وتكشف عن جميع القوى التي تكيف تطوره ومستقبله. وإن جدولها ليسمح من أول وهلة ببعض الاستنتاجات عن إمكان تلاقى التيارين الذين تفسرهما، يسمح لنا على كل حال بأن نستخلص فكرة عن العقد الكبير في تداخل عوامل التاريخ منذ عشر سنوات، وعن حقائقه الأساسية التي تكون في الوقت نفسه العوامل الجوهرية في توجيه السنوات المقبلة.
والحق أننا نعرف مقدمات الحوار، ولكننا نجهل نتائجه، فالحياد الذي هو الصورة الأساسية لعدم العنف يعد إجابة على استراتيجية التطويق، ولكنه إجابة لم تفصح بعد عن جميع نتائجها الأخلاقية والسياسية.
وأيضاً فإن فكرة الأفرسيوية التي ولدت نظرياً في باندونج هي إجابة على الاستعمار المشترك، الذي ينتج ضمناً عن التقاء الاهتمام الاستراتيجي بالغريزة الاستعمارية القديمة، التي لم تصف بعد، ولكننا لم نعرف بعد صورتها النهائية، فكل زوج هو مرحلة في الحوار الذي بدأ في العالم، منذ عشر سنوات، بين القوة وعدم العنف. وباندونج هي في الواقع لحظة رئيسية في هذا الحوار، وبهذا يمكننا أن نرد على هؤلاء الذين يرون فيه صورة سلبية للوحدة الأفرسيوية الموجهة ضد الغرب- كما يقولون- فيمكننا أن نجيب بأن هذا التفسير نفسه يكون صورة جد سلبية في تحديد موقف القائلين به من المشكلة الإنسانية، وخاصة فيما يخص السلام، بما أن مؤتمر باندونج كان يهدف في نهاية مناقشته إلى تنظيم قوى العمل والسلام.
وعليه فإنهم يكشفون عن نواياهم السيئة حين يرون في هذا الجهد من أجل البناء والسلام شيئاً من السلبية الموجهة ضد الغرب.
وفضلاً عن أن هذا التفسير يعبر عن الاتجاه الاستعماري المألوف نحو اعتبار كل قرار يتخذه الخصم الأفرسيوي ليوجه قواه بنفسه إجراء يسلبه حقه، ويهدده بالطرد والحرمان، فإنه يكشف عن شكل خاص من أشكال الحرب الباردة، أعني شكلاً من أشكال الصراع الداخلي بين عناصر القوة، أي بين الرأسمالية والشيوعية.
ولهذا الصراع الذي يحتل مقعد الصدارة حالياً- بسبب المخاطر التي يهدد بها العالم- نهايتان ممكنتان، تبعاً للمخرج الذي قد يجده، إما في توقعات القوة، توقعات الحرب التي لا يمكن تحاشيها، وإما في توقعات السلام المقصود في كل الظروف، مهما كانت تلك الظروف.
فنحن إذن في هذه المرحلة من التاريخ، حيث يتوقف مصير العالم في نهاية الأمر على الكلمة الأخيرة في الحوار الناشب ضمناً بين القوة وعدم العنف. فإذا
كان الصراع قائماً بين الكبار من الناحية السياسية، أعني بين قوى من النوع نفسه، فإنه ينحصر أخلاقياً بين شقي الضمير الإنساني.
ومن الوهم البالغ ألا نرى فيه سوى شكل جديد لصراع الأجناس. كما يريد هؤلاء الذين لم يروا في مؤتمر باندونج إلا شكلاً سلبياً للوحدة الآسيوية موجهاً ضد .. البيض.
هذه الأحكام السطحية ليست سوى فيض من اللاشعور مشحون بالعنصرية الطاغية، ولدينا بعض الكتابات الحديثة عن الصين الجديدة، والتي كان لها وقع في الأوساط الأدبية الباريسية، وهي تقدم لنا مثلاً على ذلك. فهي قصة لا شعورية أكثر منها عرضاً للحالة الراهنة في هذا البلد، قصة لاشعورية تظهر بين سطورها انفعالات باطنة تثيرها تلك الحالة عند الكاتب، فإذا به يعطينا في الواقع وصفاً للاشعوره في الوقت الذي يزعم فيه أن يصفها لنا. ومن المؤكد أن كتابات من هذا النوع تدخل في نطاق التحليل النفسي بقدر ما تخضع للنقد الأدبي على الأقل.
فبسبب أتوماتيكية داخلية، وبسبب فكرة مسيطرة آلياً، ما زالت المشكلات الإنسانية في الغرب ترد دائماً ولا شعورياً إلى خصومة عنيدة بين الأجناس، وهذه الفكرة المصيطرة المستبدة تتحدى أحياناً أبسط المقاييس، ففي خلال مناقشة حديثة عن المشكلة الجزائرية في البرلمان الفرنسي، حاول أحد النواب المسلمين بشتى الطرق أن يرد أحد زملائه الأوروبيين إلى موضوع المناقشة، بينما لا يريد هذا أن يرى فيها شيئاً سوى الخصومة بين البيض والمستعمَرين. ومع ذلك فبدهي أن مشكلة الجزائر لا يمكن أن تكون مشكلة بيض بالمعنى الذي يقصد إليه تاريخ الإنسان الطبيعي، وهو ما أراد النائب المسلم أن يثير ملاحظته في المناقشة، ولكن دون جدوى لأن البداهة لم تكن لتبرئ الإنسان من فكرة مسيطرة عليه.
ولقد أثار غاندي حين عودته من مؤتمر المائدة المستديرة المنعقد في عام (1931م)، حين توقف في باريس ليلقي محاضرة بناء على طلب بعض أصدقائه، أثار تعليقات صادرة عن بعض الأوساط الأدبية، مطبوعة بالمرض النفسي نفسه. فعلى أثر مناقشات جرت بين المهاتما وبعض المتحدثين البيض تحدث بعضهم في الصحف عن (احتشام العقل الغربي) و (قلة حياء العقل الشرقي) .. ولقد كان هذا قدراً محتوماً على العموم.
فإذا اتهموا اليوم باندونج بأنه نوع من التآمر ضد (الحضارة البيضاء) فإنهم لم يتعدوا حدود تقاليدهم الثابتة. وإنها لفكرة مرضية مسيطرة تلك التي تعدل دائماً كلمات الحوار- قوة وعدم عنف- مقدمة كلمة (جنس)، كلما قصد مفهوم (إنسانية)، ولكن الكلمة الأخيرة في هذا الحوار ستقرر مصير العالم، ومن الممكن أن تقرر في نطاق توقعات عدم العنف تبعاً لكل احتمال، لأنه إذا كانت (إرادة القوة) تعمل من أجل الحرب فإن وسائل القوة نفسها تعمل من أجل السلام، حين تخلق كصدى للحالة النفسية التي تهدف إلى السيطرة، حالة نفسية قوامها الخوف، فإذا بطل تأثير القوة بفعل التأثير المضاد، فيجب أن تبقى الكلمة الأخيرة في الحوار لعدم العنف. وأياً ما كان الطريق الذي نسلكه لكي نصل لحل أزمة العالم الذي تعد الحرب الباردة أحد أعراضها المميزة، فإن هذا الطريق سيمر حتماً بباندونج. فقد خلق المؤتمر الأفرسيوي في الواقع مركزاً جديداً لجاذبية التاريخ، وإن مبادئه المستوحاة من الـ ( Panch Shila) أو المبادئ (الخمسة) لتخط الطريق الوحيد للوصول إلى حلف إنساني يعد الطريقة الواقعية لحل الأزمة، في مقابل الميثاق الاستعماري الذي خلقها. إذ من الناحية العملية نجد أن المشكلة الاستعمارية هي التي سيطرت على الوضع الدولي منذ عشر سنوات، بل إن العلاقات بين الكبار أنفسهم لتقع تحت سيطرتها، كما رأينا ذلك في كوريا، وفي الهند الصينية (1)، وإذا كانت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى قد رفضتا
(1) كما نرى ذلك في الوقت الذي يوضع فيه الكتاب تحت الطبع. بينما تخلق القوات الانجليزية الفرنسية بمهاجمتها لمصر توتراً خطيراً بين الغرب وروسيا.
اشتراك فرنسا في صياغة بيانهما النهائي عن المؤتمر الأخير الذي انعقد في واشنطن، فذلك لأنهما لم ترغبا على وجه التحديد في وضع ثقل قضية الاستعمار في إفريقية الشمالية على كاهل هذا البيان. وهذه الحيلة الدبلوماسية ترينا كم يحتاج العالم إلى كثير من الوضوح في موقف طال أمده، فإذا اعتقدنا أن هذا الوضوح ضروري في الكلمات والبيانات، فإنه بالتأكيد أكثر ضرورة في النوايا والأعمال.
ولكن نوايا الكبار وأعمالهم هي التي تنشئ منذ عشر سنوات سدى القضاء الذي حل بالمصير الإنساني، وإن قلة صراحتهم بالنسبة إلى مصر الملايين من البشر المستعمرين لهي التي تعطي للمؤتمر الأفرسيوي ما يستحق من اهتمام.
فالأفرسيوية التي تقرر مصير الكتل البشرية في آسيا وإفريقية على خط نشاط يمتد بدقة من طنجة إلى جاكرتا، ولدت هذه الأفرسيوية كإرادة لهذه الملايين في أن تتضامن ضد الاستعمار الجديد الذي يحاول أن يجرها إلى حرب عالمية ثالثة، وهذا هو رد فعل المشروع الاستعماري الجديد، الذي ينشئ من أجل استراتيجية التطويق نوعاً من تدويل الاستعمار المألوف في شكل استعماري مشترك. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الشكل لا تعوزه سوابق، فالواقع أن تاريخه يتصل بما قبل الحرب العالمية الأولى فإن حرب البوكسر ( Boxers) في الصين الإمبراطورية عام (1900م) كانت مشروعاً للاستعمار المشترك. فقد كان الجنرال الألماني الذي احتل (بكين) يقود كتيبة أوروبية، ولكن المشروع أصبح اليوم أكثر تستراً، لأنه يجب عليه أن يحسب حساباً لتطور العالم، حيث أصبحت بعض الشكليات ضرورية منذ ذلك الحين. فهو يريد أن يستثمر مصالح الاستعمار بطرقه الخاصة. دون أن يرث منه اسمه، إلا إذا أجبرته الظروف على الإعتراف به. ولم تعدم هذه الظروف أن تحلي جيد التاريخ خلال العشر سنوات الأخيرة بعدد من الاعترافات، وخاصة في اللحظة التي تصل فيها مأساة شمالي إفريقية إلى ذروتها، حيث تحطم قوى الاستعمار الغاشمة وجود الشعب الأعزل، وحيث يتمرن (رجال النظام) على إصابة الهدف في أناس من البشر، كذلك الطبيب الجزائري
في تلمسان الذي قتل لأنه رفض فقط أن يبوح بأسماء الثوار الذين عالجهم. ولقد صدرت بعض تصريحات حول هذا الموضوع مفيدة وبغيضة في الوقت نفسه، فمثلاً يمكننا أن نقرأ في صحيفة النيويورك تيمس في عددها الصادر في 2/ 9/ 1955 تعليقاً معبراً تماماً عن الحالة في شمالي إفريقية، حدد فيه كاتبه بخط واحد من قلمه نقطتين هامتين، في النظرة الاستعمارية التي تعتنقها صحيفته الأمريكية الكبرى قال:
أ- ((أياً ما كانت عيوب النظام الفرنسي في إفريقية الشمالية فإن فرنسا- في رأيه- هي البلد الوحيد الذي يمكنه حالياً أن يحتفظ بإفريقية الشمالية للعالم الحر)).
ب- ((وإن سيطرة فرنسا لهي خير من استبداد إقطاعيين من أبناء المستعمرات، أو خير من الفوضى والحرب الأهلية)).
وهنا نجد سمة الاستعمار المشترك، أعني الاستعمار الذي يمر من المرحلة المحلية إلى المرحلة الدولية بالتجاهل نفسه وعدم الاكتراث بمطامح وآلام ملايين المستعمَرين.
قد لا نستطيع أن نترجم بصورة أوضح من كلام هذا الصحفى عن مفهوم عالم يمنح الأسبقية لمشكلات القوة؛ التي تهم الكبار على مشكلات (البقاء) التي تخص الشعوب الأفرسيوية.
إن الاعتراف لا يمكن أن يكون صريحاً أكثر من هذا: فالاستعمار الفرنسي مجاز صراحة ليقوم بدور البوليس أو الجندرمة لكي يحافظ على إفريقية الشمالية في نطاق (نظام دولي) يسمي نفسه من أجل الظروف باسم (العالم الحر) بينما يكتم عن الناس اسمه الحقيقي.
ولكن جرة القلم نفسها، للمحرر الأمريكي نفسه تفيدنا ببقعها بقدر ما تفيدنا صراحة بعباراتها، فإن الاستعمار يظل في مرحلته الجديدة المطابقة للحرب
الباردة وفياً لعبقريته ولتقاليده، فهو لا يغتصب من المستعمر حريته في بساطة ونقاء، إنه يبرر الواقع فيقول: من أجل أن ينقذه من (الاستبداد الإقطاعي)، وهكذا يسلبونه أيضا كرامته، وشرفه الإنساني.
وحين قدم رئيس الوزارة الفرنسية إلى الجمعية الوطنية عند عودته من سفره الهائل للجزائر، حين قدم تقريره عن حالة الشعب الجزائري قال فيه:((إن هذه الحالة في الواقع مريضة واهنة))، ولكن ما السبب الذي نشأت عنه هذه الحالة المحزنة في نظره؛ هو بكل بساطة:((إن الإقتصاد الإسلامي قد ترك موارد تافهة لهذه الشعوب)) وإذن فليس هو الاقتصاد الاستعماري الذي أحدث أثره الهدام منذ عام (1830م)، إن رئيس الحكومة الفرنسي يرى من الحكمة ألا نتورط في تحديدات محرجة، بينما يمكننا أن نتخلص من هذا الحرج بتصريحات غامضة خادعة ومفيدة.
فالاستعمار المشترك يمكنه أن يجد نفسه مستتراً هنالك، حيث يسيطر الاستعمار البسيط إذ يمكنه أن يقدم له أقنعة يمنحه خلفها جميع الامتيازات الاستراتيجية والاقتصادية، كما حدث في مراكش حيث أحرزت سياسة (استراتيجية التطويق) جميع القواعد التي تريد إنشاءها في البلاد، دون أدنى اهتمام برأي الشعب المراكشي أو مصلحته، ودون أن يشعر هذا الشعب بالاستعمار الجديد.
ولكن الاستعمار المشترك لا يجد نفسه في كل مكان وفي كل حالة في هذا الوضع المريح، فربما يجد نفسه في نقطة أخرى من خط نشاطه الذي يتفق مع محور العالم الأفرسيوي من طنجة إلى جاكرتا مجبراً على أن يعمل مكشوف الوجه، لا يمكنه أن يتمسك بجهالة النسب، وبكتمان اسمه كما يتمنى.
ففي إيران لم يدع نشاطه في مشكلة البترول أي لبس أو غموض، فلقد أرغمه مصدق وحسين فاطمي على أن يلقي قناعه، ويلقي كل أوراقه في مسألة التأميم، وإنها لصفحة مؤلمة من التاريخ بالنسبة إلى الشعب الإيراني، فلقد ترك
لنا مقاول نقل البترول مسيو جورجيس هوليوس ( Gorges Helios) الذي كلفته الشركة الإيرانية الجديدة بتوزيع البترول المؤمم، ترك لنا معلومات ترينا كيف نهب الشعب الإيراني مادياً وأدبياً في أسابيع معدودة، قال: ((لقد عشت أسابيع غير عادية، حيث سيطر الفرس على ثروة أراضيهم، في غمرة انفجار للعظمة الوطنية، ولكن مستودعات البترول فاضت بسرعة خاطفة، وبذلك توقف الانتاج
…
)) ثم يفسر المقاول إخفاقه وفشله فيما كلف به، فيقص علينا أنه صادف خلال تلك الأسابيع أبواباً مغلقة في جميع خطواته لتوزيع البترول على السوق العالمية، ولتوفير وسائل نقله، فشركة شل ترفض تأجير ناقلتين، وشركة فرنسية للنقل النهري ترفض أن تؤجر له أو تبيعه أسطولاً من السفن النهرية الصغيرة، وحين فاتح أحد رجال الصناعة بفرنسا لينتهز فرصة سوق مربحة إلى أقصى حد، قال له بكل وقاحة:((إن ثمنه مؤثراً جداً على ما فيه من تواضع ورخص)) ولكن رجل الصناعة امتنع عن معاملة السوق، لأن هذه السوق لم تعد تخضع- كما نرى- لمجرد القانون الاقتصادي للعرض والطلب بل لقانون آخر .... هو قانون الاستعمار المشترك.
والواقع أنه إذا لم تكن المشكلة قد وجدت حلاً على يد مصدق، فإنها لم تكن لتحل أيضاً على يد إنجلترا، أو على الأقل ...... على يد إنجلترا وحدها. فحكومة واشنطن هي التي ساعدتها، اعتماداً على الاتحاد الأمريكي لشركات البترول.
لقد تحدثنا فيما مضى عن بعض الأخلاق الجذبية التي تجعل فضائل الغرب دون إشعاع خارج نطاق معين، هو بكل صراحة نطاق الجنس الأبيض. هذا الاعتبار يمتد أيضا إلى المجال القانوني؛ فلقد كشفت مسألة البترول الإيراني عن وجود قوانين جذبية يعدّ تأثيرها باطلاً خارج النطاق المحلي. ونحن نعرف في إفريقية الشمالية شيئاً من هذا، فلقد أجاب وزير اشتراكي على استجواب لأحد النواب عم فضيحة الانتخابات المزورة في الجزائر، فلفت نظر المستجوب إلى أن الحكومة الفرنسية لم تعلق مطلقاً أهمية على هذه الانتخابات.
وجملة القول أن القانون الانتخابي في نظر هذا الوزير لا يكون صحيحاً إلا على الأراضي الفرنسية الأصلية، فهذا إذن قانون جذبي. ومن هذا القبيل، القوانين التي تحمي المواطن الأمريكي من تصرفات اتحاد شركات البترول ( Lois anti-trusts) إنها قوانين جذبية، وقد انكشف هذا على الأقل في مشكلة البترول الإيراني.
والواقع أنه منذ عام (1952م) وضعت لجنة هي لجنة (ميردال) تقريراً عن نشاط الترست ( Trusts) البترولي، ولكن علاوة على أن سكرتارية الأمم المتحدة قد حولته إلى ((وثيقة سرية)) لا تنشر، وذلك بناء على طلب من واشنطن، فإن الحكومة الأمريكية، لم تمنحه أي أثر يتفق مع القوانين المضادة للترست، ويجب أن نفهم من هذا أن البترول يعد في نظر واشنطن ((محصولاً استعمارياً)) تخضع سوقه لتشريعات سرية تنظم علاقاته بطريقة خاصة مع البلاد المستعمرة المنتجة، تشبه علاقات اتحاد شركات الفواكه ( United Fruit) مع جمهوريات الموز (1).
فالمشكلة إذن يجب أن يفصل فيها، لا طبقاً لقوانين، بل لمصالح محددة، هي مصالح الحلف الاستعماري المشترك. ونحن نعرف ماذا تكبدت إيران حيث تجاوزت القضية مجرد التوقعات الاقتصادية لكي تأخذ هيئة تصفية سياسية حقيقية، صفَّت أولاً بطلي التأميم، مصدق وفاطمي، ثم طهرت الجيش وصفوة الزعماء لكي تجعل حياة البلاد كلها في خدمة (استراتيجية التطويق) المتمثلة في حلف بغداد، وإن الاهتمام بهذه التصفية ليتجلى في اعترافات بعض الضباط المحكومِ عليهم بالإعدام خاصة، فلقد اعترف أحدهم بأن قائده- الذي كان محكوماً عليه أيضاً- قد أعاره كتابين يحمالان العنوانين ((الاقتصاد السياسي)) و ((اللإنسان والمجتمع)) وتلك لعمري جريمة لا تغتفر. وهكذا نفهم الأسباب
(1) جمهوريات في أمريكا الوسطى تتعامل تجارياً مع اتحاد شركات الفواكه، وقد أطلق عليها هذا الاسم في معرض التفكه والمناقشة في أثناء الظروف التي وقعت لجمهورية جواتيمالا منذ أربع سنوات.
الحقيقية التي من أجلها كان العقاب رادعاً، نطق به زاهدي دون شك عن طريق محكمة هزلية. ولكنا نعلم أي نصيب حاسم أسهمت به تلك (النوادي الرياضية) التي كانت في الواقع عصابات في طهران، أو مخلب قط للمخابرات الأمريكية. ولئن كانت الدبلوماسية نشيطة جداً خلال تلك الأحداث الأليمة، فإن صحافة الاستعمار المشترك لم تقف مكتوفة الأيدي، فلقد كانت وكالاتها تشيع في العالم أن سفر الفنيين الذين كانت تستخدمهم شركة الزيت الإيراني قد شل حياة عبدان، بينما نظم اتحاد البترول ((الترست)) في العالم إضراباً عن شراء البترول الإيراني منذ استولى الإيرانيون على امتيازه، مع أن عبدان في الواقع لم تشل بسبب رحيل الفنيين الأجانب، بل لأن مستودعاتها قد فاضت بالبترول، ولهذا فقد لزم توقف الانتاج لانعدام وسائل النقل، ولانعدام سوق تصريفه كما أوضح جورجيس هليوس ( Gorges Heliose) ، فنحن نجد إذن مرة أخرى الأسلوب نفسه، والسلوك التقليدي الأخلاقي والاقتصادي للامتيازات الاستعمارية نفسه، فالاستعمار لا يسلب الرجل المستعمَر حريته، أو ثروته المادية فحسب، بل إنه يلطخ شرفه، ويشوه سمعته من جميع الوجوه.
وفضلاً عن ذلك فمنذ أصبح البترول الثروة الجوهرية في اقتصاد كثير من البلاد الإسلامية، وهذه الصحافة تشن حملتها بانتظام للتشنيع مستغلة في ذلك الظروف المختلفة.
ففي اللحظة التي ثارت فيها قضية تزويد مصر بالأسلحة التشيكية، انتهز أحد المحررين الفرصة ليلوم الأمريكان على أن ضميرهم لا يرتاب ((عندما تصب شركات البترول في جيوب الحكام الاقطاعيين في البلاد العربية ملايين الدولارات التي تحمي نظاماً منحطاً)) (1).
(1) الإشارة هنا تتوجه بوضوح إلى العربية السعودية، والواقع أن رسوم استخراج البترول لم يسأ استخدامها في هذا البلد من أجل الصالح العام. كما بينا ذلك في مقالة طلبتها منا مجلة أسبوعية تونسية، ولكن يجب أن نقول: إن الصحيفة لم تنشر ما يتعلق بهذا الموضوع في مقالته، وبرهنت هكذا على أن الاستعمار يراقب ما يكتب في الموضوع حتى في صحيفة (وطنية) تونسية.
فهل فكر هذا المحرر لحظة واحدة في أن الشركات البترولية هي التي أسقطت نظام مصدق الديمقراطي، وسلبت الشعب الإيراني الوسائل التي يحقق بها استثماراً منتجاً؛ وربما استطاع رئيس الحكومة السورية السابق- الذي عرضنا فيما سبق رأيه عن إمكان تخطيط اقتصاد البلاد العربية- أن يوضح لنا هذا الموقف. ولكن هل كان محررنا بحاجة إلى ضوء خاص على هذا الموضوع؛
أياً ما كان الأمر، فإن مشكلة البترول قد فصل فيها في نطاق الحرب الباردة، تبعاً لأوامر استراتيجية التطويق، في الظروف نفسها، والعقلية نفسها التي حلت المشكلة الفلسطينية قبلها.
فدولة إسرائيل ليست في الواقع سوى رأس جسر أقيم بعناية في قلب العالم العربي، واحتله جيش مكون من أربع مئة ألف رجل مجهزين بوساطة القوى الغربية، ومتخفين بمهارة تحت لواء الصهيونية بالطريقة نفسها التي تستخدمها بعض شركات الملاحة، حين ترفع على سفنها أعلام دول أمريكا الوسطى، لأسباب مختلفة.
فالاستعمار المشترك يحب إخفاء اسمه ووجهه بطريقة أو بأخرى، فهو استعمار سري، ولكي يستكمل تخفيه فإنه يستخدم دعاية واعية ماهرة يوهم بها العالم (بعداوته للاستعمار)، وكلما كان موضوع الحديث في الأمم المتحدة يدور حول المشكلة الاستعمارية، وجدنا أن أصوات الدول الغربية الكبرى تذهب في الاتجاه نفسه)) ((أي لصالح الاستعمار)). ولكن تقارير الصحافة لا تفتأ تتحدث عن هذه العداوة للاستعمار، وهي عداوة من نوع نبيل يخدم دبلوماسية الولايات المتحدة، مثلاً. وهناك في الواقع بعد شاسع بين المثالية الديماقراطية لتلك الدولة، والقرارات التي تتخذها في السياسة غير الأوروبية.
وعلاوة على ذلك، فإن عداوتها للاستعمار المعلنة على حائط السياسة الدولية تضطرب بسرعة عندما تختبر أمام كفاح الشعوب الأفرسيوية العادي
للاستعمار، تلك الشعوب التي عانت أو ما زالت تعاني محناً هائلة من جراء النظام الاستعماري.
فهم يلومون هذه الشعوب على خطئها في تفسير مهمة هيئة الأمم المتحدة، حين ترى في هذه المنظمة منصة للمرافعة ضد النظام الاستعماري.
وهكذا يكشف الاستعمار المشترك عن نفسه كلما عجز عن الاحتفاظ بوقار عداوته للاستعمار، العداوة النبيلة، وهو ينكشف في حركاته، كما في قراراته وبياناته. ففي الشرق الأوسط لم يكتف بتثبيت دولة إسرائيل في فلسطين، على حساب ملايين المسلمين المطرودين من بيوتهم وأراضيهم، وبما أن الغاية تبرر الواسطة أو تفرضها، فيجب تدعيم هذا الوضع على أساس توازن ملفق صالح لأن يبقي الدول العربية دائماً في دائرة بن جوريون، وتحت رحمة كماشته، كتلك اللكمة التي كبدت سوريا خمسين روحاً في حادث بحيرة طبرية. ويجب أخيراً ضمان هذا التوازن الملفق بتصريح مشترك، بحيث يكفل بوساطته تفوق الدولة الصهيونية المضمون كوسيلة لإرهاق التطور الاجتماعي والسياسى في العالم العربي.
ولقد صدر هذا التصريح فعلاً عام (1950م)، فأكد الخط السياسي المتبع منذ عام (1945م) كلما لاحت ضرورة تحديد موقف مشترك. فمثلاً عندما انفجرت أزمة تزويد مصر بالأسلحة التشيكية في برقية صحفية بتاريخ 27/ 9/ 1955 نجد أن وزارة الخارجية البريطانية تقترح ((أن تتشاور الدول الغربية الثلاث كلما تلقت واحدة منها طلباً للأسلحة من إحدى الدول العربية))، ولم يقل أحد بأن طلباً مماثلاً من جانب إسرائيل يستلزم مثل هذا التشاور بين الثلاثة الكبار، ولكن السكوت هنا معبر
…
وفي موطن آخر نجد موقفاً آخر ليس أقل وضوحاً، وذلك عندما اضطرت وزارة الخارجية الأمريكية أن تحدد موقفها إزاء استخدام أسلحة حلف الأطلنطي في إفريقية الشمالية، لقد تحدث أحد ممثلي هذه الوزارة روبير مورفي ( Robert
Murphy) في رسالة إلى مستجوبه قائلاً: ((إن هدف جميع الحكومات أعضاء الحلف هي أن تواجه فعلاً الاضطرابات الخطيرة في المناطق الخاضعة لحكمها
…
)).
والذي نفهمه من هذا، بحكم منطق الأشياء، وفي ضوء الأحداث الأليمة الراهنة، هو أن إفريقية الشمالية خاضعة لتشريع قمع واضطهاد يصدق عليه حلف شمالي الأطلنطي، وفي هذا الشكل يظهر الاستعمار المشترك في قمة نشاطه، وحرارة اندفاعه، وفي جوهره النفسي أي في (الروحية الاستعمارية الخالصة) كما يظهر في مدلوله الاستراتيجي الناتج عن الحرب الباردة. فهو انعكاس لحالة التوتر التي تسود محور واشنطن - موسكو على محور طنجة - جاكرتا.
وفي شكل هذه التبعية الجديدة بين المحورين تتمثل صورة متطورة للاستعمار، ولكن هذه التبعية لا تنفي ارتباطاً مشتركاً معيناً يظهر في الفعل ورد الفعل المتبادل، والذي سجل اطراده المتطور العالمي الذي انتهى من ناحية إلى باندونج، ومن أخرى إلى جنيف.
ولقد كان للمؤتمرين بمشاكلهما وظروفهما ونتائجهما الخاصة في الجو العالمي تشابك جوهري في نطاق هذا الارتباط المشترك، وهو الحقيقة الجديدة الكبرى، والسمة الخاصة بالعصر الحاضر، سمة التلاقي الممكن بين التطورات الراهنة.
أما في العاجل، فإن نتائجهما المفاجئة لا تتوافق، ويبدو أنها متعارضة. فقبل باندونج، لم تكن الدراسات المخصصة قليلاً أو كثيراً للعلاقات بين الشعوب الأفرسيوية ودول الكتلتين لم تكن ترى هذه العلاقات إلا في نطاق الحالة العالمية التي تسيطر عليها واقع الحرب الباردة، وعليه فلم يكن أحد ليرى تطور هذه الشعوب إلا في هذا النطاق، فهي لم تكن لها إرادة أو اختيار يمكن تصورهما خارج الكتلتين المتنازعتين، كأن الوضع لا يفرض عليها سوى الاختيار بين الشيوعية والرأسمالية.
فكان من المستحيل أن تختار لنفسها خارج هذا الزوج المتنافر الذي تفرضه حالة عالمية تمر خطوطها السياسية بمركزين هما واشنطن وموسكو، وكان يجب أن تمر بهما جميع خطوط التطور الإنساني.
هذه الحتمية قد فات أوانها، فلقد فتحت باندونج باباً ثالثاً للشعوب الأفرسيوية. ويصدق هذا أيضاً بالنسبة إلى العالم أجمع بقدر ما يتخلص من حتمية الحرب.
على أنه يبدو أن عالم الكبار قد سجل فعلاً بمؤتمر جنيف اتجاهاً معيناً لأن يلتزم هذا التوجيه السلمي الذي قررت باندونج مغزاه وهدفه، فهناك كثير من نقط التلاقي بين المؤتمرين، ولكن لم يكن هناك اتفاق بين مواضيعهما على طول الخط.
وكما سبقت ملاحظته ربما أمكننا أن نذكر كثيراً من نقط الاختلاف في توجيههما الخاص. فمؤتمر جنيف الذي وضع نظرياً نهاية الحرب الباردة. لم يعدل جميع النتائج النفسية والسياسية لفترة ما بعد الحرب، في علاقات الشعوب الأفرسيوية بالكبار. وفكرة جنيف خاصة لم تضع نهاية لما نسميه ((بالاستعمار المشترك)) بل إنها فقط حاولت تغيير مكانه في التخطيط الجديد للعلاقات بين المحورين.
ففي التخطيط السابق كان وضعه معروفاً بالزوج (حرب باردة- استعمار مشترك)، ذلك الزوج الذي يصور العلاقة السببية بين الطرفين، فلم يلغ مؤتمر جنيف هذه العلاقة التبعية، بل إنه قد غير مكانها فحسب، بحي نرى كأنه يريد ضمها في زوج جديد.
فمشكلة تزويد مصر بالأسلحة التشيكية قد أفسحت المجال لتفسير صريح في هذا السبيل، فقد أعطت التعليقات التي أوحت بها في الصحف، وفي خطب الرسميين لفكرة جنيف تفسيراً يستحق الاهتمام.
فكتبت صحيفة (المانشستر جارديان) في عددها الصادر في 19/ 10/ 1955م تقول: ((ربما كان من الخير أن يتفق الغرب مع روسيا في الشرق الأوسط على أساس سياسة جديدة، لا تسمح لدول صغيرة في هذه المنطقة من العالم، بأن تقوم بمحاولات خطيرة، وهي للأسف غير جديرة بتحمل المسؤولية)).
وكتبت صحيفة غربية أخرى، (لوموند) في عددها الصادر في 22/ 10/ 1955م تردد دقات الجرس نفسها، فهي ترى أن ((نشاط إنجلترا الدبلوماسي فيما يخص العالم العربي يجب أن يتجه إلى إقناع الاتحاد السوفييتي بالاعتراف بالوضع الراهن في الشرق الأوسط، في نطاق مناقشات بين الأربعة الكبار)).
وفي هذه السطور تظهر بما لا جدال معه الرغبة والإيحاء ببعض ما يشبه (ميثاقاً استعمارياً) من نوع جديد، وهذا الإيحاء الذي تسوقه الصحافة يأخذ أهميته من الخطب الرسمية بصورة ما، كالخطبة التي ألقاها سير أنتوني إيدن في بورنموث ( Bornemouth) في 8/ 10/ 1955م حيث يرى خليفة تشرشل، بمناسبة أخطار صفقة الأسلحة التشيكية أن:((هذه بالضبط فرصة أمام الدول الكبرى لكي تتفق على أن تحاول التحكم في نفسها، وتتحد لكي تتحكم في الآخرين، وفي هذا يكمن في رأي التفسير الحق لفكرة جنيف .. )).
وحين نلاحظ من ناحية أخرى أن فكرة جنيف تعني التعايش أو الوجود المشترك، فإننا نرى في ضوء تعليقات الصحافة، وبناء على مقترحات رئيس الوزارة البريطانية. أنهم يريدون بتفسير معين للوضع الجديد أن يضعوا في الأوساط الغربية هذه المعادلة.
معايشة أو وجود مشترك = استعمار مشترك.
وذلك كشرط لاستئناف الحوار بين الشرق والغرب.
***