الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبناء المستعمَرات الأفرسيَوية وَعَالم الكِبَار
((وعينه دائماً تنادي
…
مجرم عالم الكبار))
((شاعر))
لقد تأصلت فكرة (الأفرسيوية) في الأزمة التي تحكم التطور الإنساني منذ نصف قرن. فهي تنم عن أحد مظاهرها، وعن إحدى نتائجها. وهي تمثل أيضاً وسائل حلها. ولقد وُلدت هذه الأزمة من النظم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للقرن العشرين، مقدمة بذلك إلى من تنبؤوا بها- مثل ديستويفسكي ونيتشه- موضوعات عن قيام الحضارة وانهيارها.
ولكن ما إن حل عام 1914م حتى تجاوزت الأزمة هذا المظهر الفكري والميتافيزيقي لكي تمس مباشرة شعوب الأرض؛ وأفراد البشر؛ تمس دماءهم وجلودهم. وبلغت الأزمة منتهى شدتها حين وجد العالم- الذي تورط في مأساة لا حل لها- نفسه على حدود تاريخه في عام 1939م، فلم يستطع أن يمضي في طريقه إلى أبعد من هذه الحدود، لأنه كان قد استنفد قدراً كبيراً من زاده بالحرب العالمية الأولى. فلم يستطع أن يتقوت خلال حرب عالمية ثانية في إطار تلك النظم البالية والتنظيمات الجغرافية والسياسية التي قسمته إلى كتلتين متميزتين: كتلة (الشعوب المتحضرة) التي تسكن أوروبا وأمريكا، وكتلة (الشعوب المستعمرة) التي تسكن آسيا وإفريقية.
كان العالم إذن قد استنفد كل إمكانياته، فإذا به يجد نفسه عام 1939م في نهاية مرحلة حاسمة. لقد قادته القوى التي مزقته داخلياً إلى مصير واحد على الرغم من تعارضها، قادته إلى التحلل، قاده الاستعمار والعنصرية إلى النهاية المحتومة: إلى الحرب العالمية الثانية.
وهكذا لعب القدر دوره، فإذا بالعالم المستعمر نصفه والمتحضر نصفه الآخر، العالم الذي خطا فيه جيلنا خطواته الأولى، وحققت فيه الطائرة محاولاتها الأولى، العالم الذي كان فيه الاستعمار والقابلية للاستعمار بمثابة الشاشة التي تتابع عليها أحداثه المهمة مثل (حادثة فاشودة) أو (حادثة أغادير)، هذا العالم الذي كان يؤمن بانقسامه الجغرافي السياسي، كأنه هو وضعه الطبيعي، كأنه فصل بين فصيلتين من فصائل الحيوان: إذا بهذا العالم لم يعد له وجود.
ولكن كان على حرب عام 1939م- حين محته- أن تلد عالماً جديداً مطابقاً لحاجات الإنسانية التي بلغت رشدها، مطابقاً لمطامحها، ومع ذلك فإنها لم تلده.
ففي عام 1945م- السنة التي كان يتوقع فيها هذا الحادث السعيد- أخرج التاريخ سقطاً مشوهاً، حين أجهض على يد (قوابل) من الأشرار، لقد ساقوا البشارة بمولود جديد اصطنعوه من لفائف منتفخة، رغبة في تغيير معالم الجريمة، وفي تضليل الشعوب التي كانت تنتظر ميلاده، كان هذا المولود الجديد هو (عالم الأربعة الكبار). ولم يكن للمزورين حيلة تنجيهم من أن يسيئوا الظن بأنفسهم، ومن أن يقلقوا على مستقبل الوليد الجديد المصنوع .. !
ونحن نجد انعكاسات لهذا القلق البالغ في دراسات حديثة، ظهرت في الغرب عن المشكلات الجغرافية السياسية، كذلك الانعكاس الذي يبدو أن صاحبه أراد أن يعبر عن قلقه ويصفيه في الوقت نفسه، حين لفت نظرنا إلى أن ((تصفية التأثير الغربي لم تتم في الأعوام العشرة الماضية كما قدر ذلك في عام 1945م)) ها هوذا (القابل) الشرير، وقد استعاد ثقته القديمة في العالم القديم أو على الأقل في أنقاض العالم القديم.
لقد دفع الضمير المضطرب أبطال الحضارة إلى بعض المحاولات خلال الحرب العالمية الثانية، وكان ميثاق الأطلنطي إحدى هذه المحاولات لوضع أسس عالم جديد، ولكن حين ذهب الخطر اكتفى هؤلاء الأبطال بأن يستقروا بين أطلال
العالم القديم، وكانوا قد وجدوا في بوتسدام ( Potsdam) ظروف طمأنينتهم، وهكذا بدا التاريخ وكأنه سائر في طريقه الهادئ بالنسبة إلى قوم، وراجع القهقرى بالنسبة إلى آخرين.
لقد سجلت الحرب العالمية الأولى أيضاً محاولات كهذه، فوقع حظ الإنسانية تحت رحمة (الحق والحضارة) وشاعت (الشعارات) نفسها لتحرك الشعوب من أجل إنقاذ الديمقراطية، وشاعت الكلمات نفسها:(حرية- سلام- عمل). تلك الكلمات التي تعبر عن المثالية الإنسانية في منتهى تواضعها، وفي ذروة سموها جميعاً. وكانت مبادئ الرئيس (ولسن) الأربعة عشر قد أعلنت- قبل أن يعلن ميثاق الأطلنطي- حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
فقد وجدنا أنفسنا إذن في عام 1945م في الأوضاع نفسها التي كنا فيها عام 1919م، أي في حضارة لم تتغير مضامينها وادعاءاتها، فالأمم المتحدة لم يكن يمكنها إذن إلا أن تكون طبعة ثانية من عصبة الأمم، وروزفلت لم يكن يمكنه إلا أن يكون تعقيباً على ولسن، الوجه الجميل نفسه، فإن الأسباب النفسية الواحدة تنتج الآثار السياسية نفسها.
والعالم المتحضر الذي لم يعدل أفكاره المجلوبة من (العالم المستعمر) لم يكن ليعدل حياله خطته السياسية، فظلت هذه الخطة- بالتالي- امتداداً لاستعمار القرن التاسع عشر، على تفاوت في جوهريتها وصراحتها، غير أنه في أثناء الحرب، وفي الساعة التي تقررت فيها (أخوة السلاح)، عرف الأوروبي كيف يختار السياسة التي تناسب تلك الساعة، هو الذي يتمتع بالمقدرة الانتهازية الجبلية الفطرية، فعرف (لورانس) مثلاً في الساعة التي هدد فيها (فون أرمين) قناة السويس عام 1915م كيف يثير (الثورة العربية) المشهورة حين دلل ضعف الشيخوخة لدى عجوز هو الشريف حسين، وتملق مطامع حفنة من الزعماء الشبان المخمورين بفكرة (المملكة العربية).
وأوحت الانتهازية نفسها في الجزائر بعض التصرفات المجردة من أي أهمية اجتماعية، ولكنها ذات مظهر ديمقراطي، وذلك مثل إلغاء القانون المشهور بـ (قانون أبناء المستعمرات) ومنح رخصة الصيد في ظل بعض الشروط، ودخول المسلمين المقيد في بعض المجالس المحلية، حيث بقي القرار النهائي من كل وجه في أيدي الأوروبيين، وكان هذا- كما قالوا- دين الاعتراف بالجميل للثمانين ألفاً من الجزائريين الذين ماتوا من أجل فرنسا.
ولكن ساعة (أخوة السلاح) تمضي- بطبيعة الحال- كما تمضي سائر الساعات.
ففي الشرق الأدنى لم يكن الأمر أمر مملكة عربية، وإنما كان أمر إنشاء (وطن قومي يهودي).
وفي الجزائر، لم تكد أعلام الفرق المنتصرة المؤلفة من أبناء المستعمرات تطوى، حتى وجدنا أن التصرفات التي أملتها (أخوة السلاح) قد بدأت تسحب، وربما كان سحب قانون فبراير سنة 1919م الحدث الأول الذي يؤرخ به إقحام الضمير الجزائري في السياسة، وهو تاريخ مهم في تكوين الفكرة والمطالب القومية. وكان هذا الحدث أيضاً هو الذي كشف عن الطريقة الاستعمارية التي شكلت منذ ذلك الحين رصيد السياسة الفرنسية في مراكش، وهي تتمثل في جعل أعمال الاضطهاد والسلب والنهب تحت إشراف الرجعية التقليدية، و (الشخصيات الإسلامية) التي خلفت لنا خلفاء نعرفهم بأسمائهم.
وإذن فقد مضت الانتهازية في الشرق كما في إفريقية الشمالية حاملة معها محاولات (أخوة السلاح). بينما نجد السياسة الدولية في مظهرها الجديد تنتقل من المثالية إلى الواقعية. فهي وفي سنة 1919م كانت قد انتقلت من مثالية (ولسن) إلى واقعية (لويد جورج)، وفي سنة 1945م خطت الخطوة نفسها بموت (روزفلت) الذي تخلت فلسفته الإنسانية عن مكانها لمذهب استعماري جديد تجسد كثيراً أو قليلاً في (تشرشل)، وفرّط فيه أو دافع عنه (ترومان).
وهكذا يبدو التاريخ في ربع قرن وكأنه يعيد نفسه، دالاً بذلك على أن شيئاً لم يتغير في الواقع في نفسية الحضارة الغربية.
ولكن على الرغم من المظاهر فإن التاريخ لا ينضغط ولا يعود إلى الوراء، وليست هناك قوة في الأرض تستطيع أن تحد مجراه، أو أن تعيده اطّراده. الواقع أن الذي تكرر في سنة 1919م و1945م لم يكن التاريخ، وإنما هو محاولة العالم الغربي أن يعيد صنعه لتحقيق مصالحه.
ولكن هناك كسباً خلقياً وفنياً له وزنه الثقيل في توجيه العالم، فإن تاريخه لا يمكن أن يعود إلى الوراء، ولا أن يستمر على حال، ولكنه مطرد دائماً إلى الأمام، لا تستطيع أي مقاومة إنسانية أن تحمله على أن يخطو خطوة إلى الخلف، ولا أن تعيده إلى الماضي.
ونحن نفهم الآن الصراع المحزن الذي يمكن أن ينشأ عن مقاومة كهذه، عندما تصادم قوى التأخر القوى الواقعية في التاريخ، هذه التي تدفع العالم حتماً ودائماً إلى الأمام، فإن الاتجاهات الرجعية يمكنها أن تأخذ صورة الإيحاء السلبي لتضليل الضمائر، أو النشاط العنيف لتحطيم الطاقات العذراء، أو أن تقترح حلولاً خاطئة لتمويه المشكلات الحقيقية، فتحافظ بذلك على وضع بال لا يتفق مع اعتبارات الحياة القومية والدولية.
ومع ذلك فإنهم لا يستطيعون أن يحتفظوا بقوى انفجارية هائلة، خلف السد الوهمي الذي يريدون إقامته في وجه التاريخ، وخاصة إذا كان في مقدور هذه القوة أن تحطم كل شيء يقف أمامها، وأن تبدده.
فهذه المحاولة المجنونة التي شرعوا فيها عام 1945م لم يكن لها إلا أن تخفق في النطاق العالمي عامة، وفي النطاف الاستعماري خاصة.
لقد أرادوا أن يبقوا على حالة (شعوب المستعمرات) أي على شعوب لا تبلغ رشدها، فتظل تحت وصاية الكبار في إدارة شؤونها ومصالحها الخاصة.
ولكن أبناء المستعمرات كانوا قد اعتزموا وكرسوا قواهم لإحراز حريتهم، فبلغت الأزمة بذلك قمتها، إذ إن النظام الاستعماري الذي كان فيما مضى رأس مال للعالم المتحضر قد صار (تحدياً) له، وهو تحد يفسح المجال لمواجهة أليمة بين قسمين متباينين ومتعارضين، في الضمير الإنساني المنقسم على نفسه.
وكأننا أمام معركة بين (القدامى والمحدثين) من نوع جديد، وذات طابع غريب شاذ، يمثل فيها (المتحضرون) القوى الرجعية البالية المتشبثة بأذيال الماضي، على حين يمثل (المتأخرون) القوى المتطلعة إلى المستقبل.
وكان مسرح المعركة أحياناً .. هيئة الأمم المتحدة، فأمكننا أن نحكم بهذا على كلا المتخاصمين في الدور الذي يقوم له في هذا المسرح الجديد، كلما نوقشت مشكلة الحرية، وخاصة حرية إفريقية الشمالية.
وإذن فهذا اختبار جوهري: لأنه عندما تحذف هذه المشكلة- مشكلة الحرية - وعندما ترفض الفكرة أو الجزاء في أي تحكيم دولي، فإن ذلك يوقف النمو التاريخي الذي يهدف إلى أن يحقق في العالم تنظيماً فنياً للعلاقات الإنسانية.
وإن حياة مشتركة متواثقة الصلات لتفرض في الواقع جواراً وثيقاً، وبالتالي حقوقاً لهذا الجوار في النطاق العالمي. ولكن تنظيماً كهذا ليسر مستقلاً عن التقدم الخلقي باعتباره النتيجة النفسية للتقدم الصناعي. والتقدم الخلقي لا يجد صورته في هذا النطاق إلا في تحكيم دولي يرضى الناس بكل حرية عن فكرته وجزائه.
ولما كانت صلاحية نظام كهذا تكمن في الحرية التي يتيحها لكل فرد، أو يدافع عنها لمصلحته. فإن هذه الصلاحية تنتهي منذ اللحظة التي يكون فيها النظام متصوراً أو معتبراً على أنه وسيلة للنشاط زائدة، موضوعة تحت تصرف الكبار لضمان امتيازاتهم أكثر من أن يكون وسيلة لضمان المصالح الحيوية للإنسانية، وعلى الأخص حرياتها الأساسية التي عرفت في الاعلان الدولي المشهور لـ (حقوق الإنسان).
ونحن مضطرون إلى أن نلاحظ- في ضوء عشر سنوات من النقاش داخل أروقة هيئة الأمم المتحدة- أن التقدم الأخلاقي الذي يحقق صلاحية هذه المنظمة ليس في رصيد الكبار، فإن الدرجة الكلية للحضارة الإنسانية لا يدل عليها رصيد القنابل الذرية المختزنة في قلاع الدول الكبرى، وإنما يكون هذا التقدم في نمو (ضمير دولي) في العالم، والقوى التي تزيد في هذه الدرجة ليست هي التي ثوفر القوة والرفاهية للكبار، والتي تحاول أن تكون من وسائل القهر والاضطهاد ضد الشعوب (المتأخرة) كما يقولون، وإنما هي القوة التي تقر توازناً اجتماعياً وسياسياً ينسجم مع نمو عالم يجب ألا تعالج فيه المشكلات الإنسانية بمنطق القوة (1)، وإنما بمنطق البقاء، حذراً من وقوع كارثة.
ولقد سيطرت على الحياة الدولية- بكل أسف- (إرادة القوة) التي لا تفارق حضارة القرن العشرين، فهي قانون للنفسية الغربية، قانون يسجل التأخر الخلقي لإنسان الغرب، حتى كأنه يعيش في القرن التاسع عشر.
وأحياناً يبدو وكأنه يجر الخطى في القرون الوسطى عندما يستمد غذاءه الروحي من تاريخ محاكم التفتيش، ومن سيرة فرسان الاستعمار، بينما أصبحت عبقريته الصناعية نفسها ترفض أطماعه وادعاءاته عن غزو العالم، كأنما خلقه الله ليغذي به ترفه فحسب.
وفضلاً، عن ذلك فإن (إرادة القوة) هذه جبن تُجاوز أهدافَها تُحطم حقيقة الوضع المزدوج الجغرافي السياسي الذي ذكرناه، فإذا بها تعمل على إظهار لفظ جديد، في ثالوث مكون من (كتلتين) و (مجموعة مستعمرة)، فيجد العالم (المتحضر) نفسه منشقاً طبقاً لـ (ميكانيكا) خاضعة لأخلاق جذبية ولصناعة
(1) في إحدى المؤلفات الهامة عن (الماركسية في الاتحاد السوفييتي) لاحظ الأُستاذ هنري شامبر وجود هذه البلبلة المشتركة في المحتمع الرأسمالي الحر، كما أنها في المجتمع الماركسي، قال:((إن العالم الحر والماركسي السوفييتي حين فضلا القوة على الفرد الإنساني قد أنكرا وينكران عملياً القيم الإنسانية الحقة التي تدعو إليها المسيحية)).
طردية. فأوروبا المدفوعة بصناعتها في العالم، تلك الصناعة التي تقهرها على المساكنة والجوار، قد انتكست دائماً بأخلاقها إلى قاعدة الانطلاق الفكري التي انطلق منها الاستعمار، فهي تعود دائماً إلى العنصرية، وإلى احتقار الإنسانية. تلك العنصرية التي مر لها أخيراً مشهد محزن بقرية صغيرة بمقاطعة المسيسبي ( Mississipi) حيث قام سبع مئة مواطن بمظاهرة صاخبة بمناسبة مقتل الفتى الزنجي (إيميت تيل Emmet Till)، لم تكن هذه المظاهرة من أجل الثأر للضحية المسكينة، وإنما من أجل الدفاع عن قاتليها، ولقد دلل المحامون الذين توجهوا إلا القضاة في ختام مرافعتهم قائلين:((إن أجدادكم سيتململون في قبورهم، لو أنكم أدنتم هؤلاء المتهمين لأنهم قتلوا زنجياً))، أقول:((دللوا على معرفتهم بنفسية هذه العدالة، التي تعرف الجزائر الآن إجراءاتتها المشؤومة)).
وأياً ما كان الأمر، فحين نأخذ في اعتبارنا من ناحية هذا الدفع للحضارة الغربية الناشئ عن صناعتها ومن أخرى ذلك الانطواء الذي تفرضه عليها فلسفتها الأخلاقية، فسنصل إلى هذا الوضع الشاذ بنتائجه السياسية التي يقتضيها، أعني نوعا من التحلل، يصيب إرادة القوى لدى الكبار بفعل تأثيره الخاص. فإذا بإرادة الكبار وقوتهم لا يتخذان الاتجاه نفسه، إذ تدفعهما القوة إلى المستقبل، وتردهم (الإرادة) بعنف إلى قوانين الماضي. ولهذا الوضع الشاذ صورته الحية التي تتمثل في أن الصواريخ الموجهة، والتسلح الذري لا يزيدان قوة الكبار إلا صورياً. فقد أصبحنا في عالم متحد الشكل، تجبره القوة- لا الأخلاق- على أن يلتزم حدوده، فلا يستمر في بسط إمبراطورية استعمارية، لدرجة أن هذا الوضع الشاذ ينتهي إلى حالة أكثر غرابة، هي أن (الوسائل) التي يتحكم فيها الكبار قد حددت نطاقها، ولم يكن هذا التحديد في النهاية طبقاً (لإرادة القوة) لدى حائزيها، وإنما طبقاً لمطامح الشعوب المستعمَرة الإفريقية الآسيوية وإرادتها للبقاء.
وكان من النتائج السياسية لهذا الوضع وجود نوع من الحياة الديمقراطية يوزع- ولو نظرياً- المسؤولية الدولية، لا على أساس (القوة)، بل على أساس (البقاء) أو (الضمير).
وأوضح دلالة على هذا مثلاً، ذلك الجزء من المسؤولية الذي تتمتع به في الأمم المتحدة دويلة نصف مستعمرة، هي دولة (هايتي)، والذي خولها أن تقرر مصير الشعب الليبي. وأن تنتزعه من بين مخالب الاستعمار، على الرغم من إرادة بعض الكبار.
وإن إدراج مسألة الجزائر في جدول أعمال الأمم المتحدة، لشاهد آخر على هذا التطور، الذي يعد من الناحية المادية من عمل الكبار. ولكنه يخرج من أيديهم، حتى كأنه شيء لم يقدروا حسابه، فيقلب تقديراتهم، وتكهناتهم، وامتيازاتهم.
ولكن يجب أن نبين هذا الشيء- الذي لم يقدروه- بصورة عملية لكي نفهم ما يحتويه من شحنة متفجرة، ومدى تأتيره في الحالة الراهنة. ففي منطق حضارة هذا القرن، حيث يرد كل شيء إلى مقياس ((القوة)) وبالتالي إلى مقياس النصر أو الهزيمة، يجب أن نقول بأنه كأنه كان ((نصراً للشعوب المستعمَرة)) و ((هزيمة أوروبية))، لكي نفهم مبلغ أهميته في نفسية الغرب الحالية، وأنعكاساته على السياسة الاستعمارية خارج أوروبا، إنها نفسية حالة الاحتضار، أو هي تقريباً هذه الحالة، أعني الحالة التي يكون فيها الشعور غير المتعقل بالخطر القاتل، وما ينشأ عن ذلك من حسرة عارمة، سبباً في خلق رد فعل عنيف.
وليست الأحداث الدامية التي عاشها العالم منذ عشر سنوات- تلك الأحداث التي تتفاوت في عنفها وتلطخها، في إندونيسيا وفي مدغشقر وفي إفريقية الشمالية- إلا النمو التاريخي لتلك النفسية الاحتضارية.
فمنذ عام 1945م ونحن نرى مأساة الأخذ بالثأر، إذ يريد الاستعمار أن يثأر مقدماً لموته الوشيك في البلاد التي تخلع نيره، وتنبذ غله. وما هذه الآلاف من الرجال المقتولين والمعذبين في البلاد التي ما زالت تحت نير الاستعمار، ليست هذه- واأسفاه- إلا ضحايا هذه المعركة الدامية، معركة الأخذ بالثأر، التي لا يرى الاستعمار خلالها في شعوب المستعمرات شيئاً مقدساً؛ لا دماءها، ولا أعراضها، ولا حقوقها الابتدائية.
وإن انفجار التفرقة العنصرية في جنوبي إفريقية، حيث أغلقت الكلية الجامعية الوحيدة للملونين في (فارت هار Forte Hare) لينبع من المرض العقلي نفسه الذي يسمى (الذهان). فكل هذه الجرائم تعاويذ دامية، ووسائل مقيتة لسحر أسود مشؤوم، يريد إنقاذ سيادة البيض بأي ثمن.
في هذه الحالة الخاصة بالعقل الغربي يجب أن نبحث عن مبعث هذه الجهود المنحرفة التي لا يكفون عن أن يقفوا بها في وجه الاتجاه الطبيعي للعالم، في سبيل التطور السلمي الأفرسيوي.
وإن إرادة الكبار بما تتمتع به من حق الاعتراض- الفيتو- في المناقشات الدولية لتعتبر في الواقع التيار المضاد لاطراد التاريخ: تياراً مضاداً محملاً بكل العناصر السلبية التي تملكها حضارة لم تستطع أن تتغلب على مصاعبها الأخلاقية. وهذا الجمود الأخلاقي كله هو الذي يضغط بثقله على المصير الإنساني، معطلاً التاريخ، تاركاً الأحداث تجري في مكانها.
هذا النوع من الافتقار يتمثل طبعاً في سنوات خالية من التاريخ، ففي إحدى صور تأبين عام 1952م، العام الذي بدا لأحد النقاد خالياً من التاريخ، ترجم هذا الناقد عن ملاحظته بمقارنة مقتبسة من هذه- الأوبرات- التي تنشد فيها الجوقات:(فلنسر .. فلنسر)، دون أن تتقدم.
ولقد أرادت السياسة الغربية بما يقرب من هذه الطريقة، أن تدفع العالم إلى التقدم منذ عام 1945م، فلم تكف الجوقة عن أن تنشد نشيد التقدم والحضارة،
وأن تصيح: ((إلى الأمام
…
إلى الأمام
…
))، ولكن كلما كانت تظهر محاولة، للتقدم الفعلي في إفريقية وآسيا، كان الفيتو يوقفها بطريقة أو بأخرى.
فقد تحدث أحد رؤساء الحكومة السورية فيما مضى، عن إمكانيات المساعدة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد العربية، مع أحد مراسلي الصحف الذي سأله في هذا الموضوع. لقد قال:((إن هذه الإمكانيات موجودة نظرياً، ويكفي - في نظره- أن نتصور خطة لمشروع ممول من إيرادات البترول في المنطقة)) ولكنه أضاف قائلا: ((إن الشركات البترولية تثير اعتراضاتها عندما تتحرك فكرة مشروع كهذا، فلسان الحال إذن يقول: سيروا
…
سيروا
…
ولكن لا تستخدموا تعويضاتنا من أجل هذا
…
)) هذا التعطيل يهدف طبعاً إلى عرقلة تطور الشعوب، وإلى تأخير ساعة تحررها السياسي والاقتصادي.
وبهذه الطريقة، وفي سبيل هذه الغاية، فرض الاستعمار على التاريخ تأخراً ضاراً: فرب أمر كان ينبغي أن يحدث عام 1945م، لم يحدث حتى الآن. وإن الاستعمار ليدين لهذا التأخير بنوع من تأجيل الحكم عليه، هو الذي كرر مأساته الدامية في العالم. لقد أذنت ساعة سقوطه، ساعة إلغائه من مجال السياسة، ومجال الفلسفات الفكرية التي تغذيه منذ وقت طويل.
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية عشنا وكأننا في فراغ من التاريخ، لتأخر صدور هذا الحكم وما نتج عنه، وكأننا نمر بمرحلة غير تاريخية، حيث وجدنا الأحداث المرتبطة بتطور الأشياء معطلة، معلقة، مؤخرة. فهناك تخلف بين جدول هذا التطور، وجدول الأعمال والمحاولات السياسية، ويتجلى ذلك خاصة في محاولات الأمم المتحدة حل المشكلات ذات الطابع الاستعماري، فإذا بهذه المشكلات تتسكع من دورة إلى أخرى، دون أن تجلب لها سنوات التسكع حلاً، وأبلغ مثال على ذلك مشكلة شمالي إفريقية (1).
(1) ينعكس هذا المظهر في نطاق وطني محدود في مسألة دستور الجزائر، الذي ووفق عليه عام 1947م ولم يطبق إلى أن شبت نيران الثورة في أوائل نوفمبر 1954م، فألغته، وهكذا تولد الأحداث ميتة في تلك الحقبة غير التاريخية التي تمر منذ عام 1945م.
ولكن كلما زاد تعطل التاريخ، تراكمت الأحداث المتخلفة عن الفيتو الاستعماري خلف السد الذي يريدون به إيقاف اطراده، فهناك ضغط خطر يزداد في العالم، وربما انهار هذا السد الصناعي تحت ضغط التطور المنطلق الجبار للشعوب الأفرسيوية، وتحت اندفاع إراداتها الشعبية كما انهار في الصين الشعبية، وفي الهند الصينية، بقيادة (هوشي منه).
هذا بالضبط هو الشكل الدرامي للأزمة الراهنة، فعندما يغذي الناس أحلامهم من الوهم الساذج في أن يعيدوا تاريخ الماضي، فإن الطاقات الطبيعية تنطلق لكي تصنع تاريخ الحاضر والمستقبل. وإذا كان الناس يرتابون، ويقدرون، ويترددون، فإن الطاقات المنطلقة تمضي حتماً إلى غايتها.
إن إرادة الشعوب طاقة من طاقات الطبيعة التي تقلب التقديرات، طاقة لا يمكن أن يقاومها سد، مهما كان متيناً محكماً. وإن انتصار إرادة هذه الشعوب على محاولات الكبار لهو قدر حتم من أقدار التاريخ.
وبقي أن نذكر مساهمة الغرب الكبيرة في هذه الحتمية. فإن عبقريته الصناعية هي التي أسرعت بالتاريخ، وعلى الرغم من هذا فهو يريد أن يعطله، فإذا كان الغرب متأثراً بعلمه، قد وضع العالم على عتبة العصر الذري، فقلب بذلك جميع عناصر المشكلة الإنسانية، فإنه يريد مدفوعاً بأخلاقه أن يعيد العالم إلى القرون الوسطى، والتناقض المحزن بين هذين الوضعين مفهوم بيِّن.
وإذا كانت عبقرية الغرب قد أنشأت بنفسها أحد العناصر التي حتمت الاتجاه المنطلق للتاريخ، فلم تدعه يرجع إلى الوراء، فإن هذه العبقرية قد برهنت على أنها لا تستطيع أن تكفي نفسها بنفسها، وبرهنت الأحداث الدولية الحالية على عجزها الأخلاقي عن أن تحتل مكان القيادة في العالم. إذ لكي تتحمل أعباء هذه القيادة لا بد من سلطة أخلاقية، ودفعة روحية مما لا وجود له في هذه العبقرية الصناعية، ولا في مبادئها ولا في توجيهها.
وربما كان هذا الفصل أو التميز أقل وضوحاً، إذا لم نضع المناقشة في الإطار الثقافي الغربي حيث يصبح تعبير (النجاح الصناعي) مقصوداً به (النجاح) في كل شيء، وحيث ترد المشكلة الإنسانية إلى مبادئ ميكانيكية تأخذ صفة مقاييس، والواقع أنه من الصعب أن نهرب من سيطرة الوهم الميكانيكي في هذا الإطار، فلقد رأينا أثر هذه السيطرة في بعض المناقشات الحديثة في الغرب، مثلاً بمناسبة الدراسة التي نشرتها اليونسكو ضد العنصرية بعنوان (الجنس والتاريخ) للكاتب كلود ليفي ستروس ( Claud Levi Strauss)، عام 1952م، فإن هذه الدراسة لم تعدم أن تثير بعض التعقيبات؛ وخاصة تلك التي كان كاتبها يؤكد فيها أن سيطرة الغرب الصناعية إنما تعتمد بكل تأكيد على سيطرة قيمه الخلقية.
ويمكن تفسير هذا الوهم كما يفسر الخطأ النسبي الذي يقع فيه من يرى حركة، وهو راكب في جهاز يتحرك أيضاً، فهو يرى حركة نسبية يحاول أن يصدر عليها حكماً مطلقاً. والعقل الغربي وثيق الصلة بنظامه الثقافي، فمن الصعب عليه أن يتخلص من الوهم الميكانيكي، أي من صلته بهذا النظام، حتى يصدر عليه الحكم الصحيح.
فهو أسير العبقرية الصناعية، ما دام يطبق نتائجها هذه، على المجال الأخلاقي، بحيث ينسب النجاح المادي إلى فضيلة خلقية.
وعلى كل حال، فإن مما يزيد الوهم أن للوسط الغربي فضائل خلقية جميلة؛ شهد بها (غاندي) أكثر من مرة؛ ولكن هذه الفضائل ليست سوى فضائل داخلية أنانية لا إشعاع لها. والعقل الغربي- وخاصة في التعقيب على نظرية كلود ليفي ستروس- لا يجعل في اعتباره هذا الوضع الخاص، لأنه- هو نفسه - ذاتي، أناني من الوجهة الأخلاقية. فالفضيلة الغربية لا وجود لها بالنسبة إلى العالم، لأنها لا تشع على عالم الآخرين. والغربي لا يحمل فضائله خارج عالمه- هو- فخارج حدوده الأوروبية لا يكون إنساناً؛ بل أوروبياً، وهو لا يرى بعد
ذلك أناساً، بل مستعمَرين (1)؛ فهو يتحرك ببرجه العاجي؛ كما يتحرك الرحالة بخيمته؛ وهو حيثما ذهب- سواء كان صانعاً أو مخبراً صحفياً أو مجرد سائح في بلد متخلف- ينشئ- عن قصد أو غير قصد- ما يسمى حالة استعمارية ( Situation Coloniale) .
وعليه فالأوروبي لا ينشئ في هذه الحالة روابط صداقية (2) وأخلاقية؛ فإن علاقاته مع المستعمَر، هي من النوع الاقتصادي أو الإداري أو السياحي؛ بل حتى من النوع الاستراتيجى في بعض الحالات تبعاً لاتصاله بزبائن أو رعايا أو أقوام مستعمرين؛ أو لحم يطعمه للقنابل الذرية.
وبدهي أنه لا يمكننا أن نستخلص من هذه الروابط الخاصة خطاً سياسياً يتفق مع القيادة الروحية للعالم. وأن هذه الاعتبارات والأفكار الاقتصادية لا يمكنها أن تنتجه، ففي أحد التحقيقات عن الصين الجديدة نشر الكاتب الصحفي الإنجليزي كنجسلي مارتان ( Kingsly martin) بكل استهزاء وتهكم محادثة جرت بينه وبين بعض الأمريكيين- المطلعين على بواطن الأمور- والذين لا يعدون مئات الملايين من الآسيويين سوى متخلفين تعساء، يمكن انقسامهم إلى طيبين وأشرار تبعاً لولائهم أو تمردهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
فمن الواضح أنه لا يمكن أن يكون المرء حكماً في موقف عالمي معقد، ولديه نفسية بسيطة إلى هذا الحد. وأمريكا لا تستطيع التغلب على المصاعب المتصلة
(1) يعدّ شفيتزر ( Schveitzer) وغيره من الوجوه الطيبة سطوراً من النور تحدد الحقيقة التي نذكرها.
(2)
تحدث مراسل صحفى باريسي عن ارتباط الشعوب السوداء بفرنسا بعد هزيمة 1940م فحكى قصة استقباله لدى أحد السود قائلاً: ((لقد كان يزحف عند قدمي كأنه كلب)) والذي يهمنا في هذا النص ليس هو الألفاظ المادية المحسة في المقارنة، وإنما الصورة الصادرة عن اللاشعور.
بهذه الحالة حيث تتركز أزمة نصف قرن من الزمان، دون أن تتغلب أولاً على عقدها النفسية الخاصة حيال الشعوب المستعمَرة الأفرسيوية.
وهي لن تستطيع خاصة أن تصفي الأزمة دون أن تخضع عنصرها الجوهري لتحكيم خلقي في النزاع بين المستعمِر والمستعمَر، فمن الواجب دون شك مساعدة الطرفين على التغلب على مرض الاستعمار والقابلية للاستعمار.
وإن إخفاق أمريكا في هذه المشكلة ذات الطابع الإنساني والأخلاقي، لا يساوي في دويه شيئاً سوى نجاحها في المشكلات ذات الطابع الصناعي. وإن مأساة العالم المرتبطة إلى حد ما منذ عشر سنوات بهذا الإخفاق الأخلاقي والنفسي، الذي هو السبب الرئيسي في دفع الشعوب الأفرسيوية إلى البحث عن اتجاه جديد، وهو الذي قادها إلى مؤتمر باندونج.
وطبيعي أن هذا الافتقار لا يتجلى نقصاً نوعياً في العقل الأمريكي، وإنما باعتباره شكلاً ينطبع في بوتقة خاصة؛ لحضارة لم يعد لديها الضوء السامي الذي يكشف لها جوانب المشكلات الإنسانية، لأنها ردت هذه المشكلات إلى المنطق العقلي المجرد. ولا شك في أنه كان من الممكن أن تقوم السعادة المادية للمتعطل الذي يعيش في مدينة الأكواخ في إفريقية الشمالية، ولأخيه الذي يعيش في الظروف نفسها في الهند على أسس فنية صناعية نجدها في إطار الحضارة الغربية. ولكن حظهما المشترك قد ظل غريباً عن مودتها وعن فكرتها، بعيداً عن قلبها. لقد غاب شبح البؤس الإنساني عن عبقرية الغرب.
إن المشكلات الإنسانية لا تظهر في العواصم الغربية، لأن ذكاء العقل الفني يدركها في ضوء خاص، يعريها عن مظهرها الإنساني، ولا ينظر إليها إلا في شكلها الكمي؛ أعني من الوجهة الاقتصادية والاستراتيجية. فلئن ظلت تلك المشكلات دون حل خلال الفترة الاستعمارية كلها، تلك الفترة التي خلفتها؛ فذلك لأن الغرب لم يباشرها بقلبه.
ولدينا تجارب حديثة تبرهن لنا على أن عنصر المودة الإنسانية هو يلعب دوراً كبيراً في حلها؛ وليس العقل الفني؛ ففى خلال عامين أحرزت سورية شوطاً كبيراً في تقدمها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أكثر مما حققه استعمار ربع قرن من الزمان في شكل (الوصاية)، وليست إنجلترا المتورعة هي التي حسمت المشكلة الإنسانية الأليمة للمنبوذين في الهند؛ أو حتى وضعتها في طريق الحل، وسنذكر فيما بعد أي تأثير غير مباشر قامت به- على كل حال- في هذا الميدان، ولكن يرجع الفضل كله إلى الجمهورية الهندية الفتية نفسها، تلك التي نصت في دستورها على مبدأ حل المشكلة، وشرعت في تطبيقه في مشروع القانون المعتمد في 27 أبريل سنة 1955م.
وإذن فقد فات الإنسانية بعد أن انتهت المأساة الكبرى عام 1945م أن تعلن عن ليلة 4 أغسطس (1)، أعني أن تعلن سقوط الامتيازات، والمساواة في الحقوق لجميع الشعوب، وهذه هي غلطة الكبار الذين لم يستغلوا الوثبة المحررة آنذاك كيما يحققوا الثورة الكبرى للقرن العشرين، تلك التي من شأنها أن تأتي بحل للأزمة المتأصلة التي قدمت للعالم أسباب الحرب الحقيقية الواقعية مرتين؛ مهما تسترت بأسباب ظاهرية عاجلة.
والواقع أن الأسباب الجوهرية التاريخية التي نتجت عنها جميع الأزمات الخاصة كحرب الترنسفال، وحادثة فاشودة، وأغادير، هي الأسباب نفسها التي أدت إلى قيام الحربين العالميتين، أعني أزمة متأصلة تمتد جذورها في أعماق النفسية الاستعمارية التي سيطرت على السياسة العالمية كلها حتى الآن. ولم تكن فكرة (المجال الحيوي) العزيزة على هتلر إلا نظيراً، ونتيجة نفسية وسياسية لمذهب (الإمبراطورية الاستعمارية) الذي كان الموضوع الجوهري في القرن التاسع عشر.
(1) ليلة مشهودة في تاريخ الثورة الفرنسية، وفيها ألغيت الفوارق بين الطبقات.
وعليه، فقد كان يجب أن تكون تصفية الاستعمار الموضوع رقم (1) عام 1945م في أي برنامج للسلام في العالم، وأن تستأثر بالنص الجوهري الصريح في ميثاق الأمم المتحدة. ولا شك في أن هذه القضية كانت من أهداف الضمير الإنساني المجهد، عندما خرج العالم من خضم الحرب العالمية الثانية؛ فلو أن هيئة الأمم المتحدة أرادت أن تدافع عن هذه القضية، لكان لديها أسباب أخرى غير السبب الخلقي لإقناع الضمائر في الغرب.
إن الواقع الاستعماري الذي امتزج منذ زمن بعيد بطرائق الحياة الغربية لا يدان من وجهة أخلاقية فحسب، فإن الإدانات الأخيرة التي وجهتها إليه الكنيسة دون جدوى، قد برهنت على فشل الادانة الخلقية في علاج الواقع الاستعماري، ولكن ربما كان لدى الأمم المتحدة حيثيات وإدانات أخرى في هذا الميدان.
إن تطبيق أي قانون يقتضي إقناعاً وإلزاماً؛ فلو أردنا إقرار قانون السلام في العالم فيجب أن نستخدم هاتين الوسيلتين؛ ولقد انطبع الواقع الاستعماري على الحياة في الغرب منذ زمن بعيد حتى إنه لا يكفي في إدانته مجرد مجافاته للأخلاق.
ولنأخذ على ذلك مثلاً ما حدث أثناء الجلسة الختامية للدورة الثلاتين لمؤتمر الغرف التجارية، لحوض البحر الأبيض المتوسط وإفريقية الفرنسية- وهو مؤتمر انعقد في مرسيليا في 2/ 10/ 1955م- لقد قرر هذا المؤتمر أن ((فرنسا تعيش من خيرات إفريقية وتعمل لها يومين في الأسبوع)) ونحن ندرك من هذا الإعلان أهمية الواقع الاقتصادي في إيضاح جوانب النفسية الاستعمارية.
ففي الظروف التي يكفي فيها هذا الإيضاح في حد ذاته، دون أن تدخل نزعات شاذة أخرى؛ نرى من الواجب إقناع المتمسكين بهذه النظرية بالبرهان الاقتصادي .. مؤكدين لهم أن من الممكن أن يعيشوا دائماً يومين في الأسبوع من خيرات إفريقية؛ على أساس نظام اقتصادي كامل دون ضرورة للرباط
الاستعماري الذي لا يليق إلابـ (اقتصاد عبودي) ويبقى طبعاً على المتخصصين في الاقتصاد؛ وعلى زعماء القانون العام وقضاته أن يبرزوا عناصر النظام الجديد؛ والرباط العضوي الجديد الذي يمكن أن يجمع بين المستعمِر السابق والمستعمَر السابق أيضاً.
وقد كان لدى أمريكا الوسائل الجوهرية لهذا الاقناع، فقد كان يمكنها أن تقنع العالم الذي انتهى من الحرب العالمية الثانية بالبرهان الخلقي والبرهان الاقتصادي. وقد كان لديها الوسائل التي تحدث بها الانقلاب السلمي في العالم بمساعدته على تحقيق ثورته الخلقية والنفسية والاقتصادية والسياسية، وكان من الواجب أن يكون أول عمل لهذه الثورة تخليص المصير الإنساني من الرهن الاستعماري دون إراقة دماء، ولو أن أمريكا فعلت هذا لأنقذت ما كان يفيد إنقاذه من عهد مضى. وهي بإلغائها الاستعمار، وطيها لصفحة جرائمه تضع الواقع الاستعماري نفسه في ضوء جديد، إذ أن المشروع الاستعماري- بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية- لا يخلو من فائدة إنسانية في نهاية الحساب. فقد سجل بالنسبة للمستعمِر نفسه نقطة الانطلاق في تغيير حياته وتحويرها. ويمكننا أن نقيس أثر ذلك في حالة اليابان التي دخلت فعلاً في التاريخ الحديث منذ الإنذار، الذي وجهه إليها الكومودور بيري عام 1868م.
ولقد أحدث المشروع الاستعماري بصفة عامة صدمة نفسية حددت موجة التاريخ الجديدة في آسيا وإفريقية، حين وضع (أبناء المستعمرات) على طريق الحضارة الحديثة: وقد يكون طريقاً مزروعاً بالأشواك، ولقد يكون على المستعمَرين أن يتجاوزوه حفاة الأقدام، ولكنه يوصلهم إلى الهدف على أي حال.
وأياً ما كان الأمر، فإن المشروع الاستعماري الذي أراد أن يعدّ المستعمرين (أشياء) قد اضطرهم في الواقع إلى أن يديموا الفكرة وأن يدركوا قيمة شخصياتهم.
وفي بعض الحالات اضطرهم إلى أن يفكروا ويعملوا للمرة الأولى في ظل مفهوم اجتماعي، حين انتزعهم من أحوالهم البدائية، وزج بهم في نوع من الحياة جديد، فعرضهم بذلك لعقبات اجتماعية جديدة، ومصاعب جديدة في سبيل التكيف، واختبارات أدبية عقلية جديدة كوَّنت شيئاً فشيئاً شخصياتهم الجديدة.
ومما لا جدال فيه أن الاستعمار قد حرَّك جزءاً من الإنسانية، ونحن مدينون لـ (جون أرنولد تويبي) باستعارة رائعة حين وصف الركود المزمن في بعض المجتمعات البدائية الساكنة على- الكورنيش الناتئ في الجبل- الذي يعد في رأيه قاعدة الانطلاق للمجتمعات المتطورة نفسها، عندما وجدت هذه المجتمعات نفسها في فجر التاريخ، في طريقها إلى تسلق- الجانب الوعر من الحضارة- ويمكننا القول- إذا استخدمنا هذه الاستعارة- بأن المجتمعات البدائية قد بدأت بدورها في تسلق هذا الجانب بفضل الاستعمار، وأن سوطه اللعين هو الذي أيقظ المتأخرين الذين ما زالوا يأخذون- حمام الشمس- على (الكورنيش) شأنها في ذلك شأن الأبراص.
على أن من الطبيعي أن يكون طابع الاستعمار أكثر عمقاً في أوروبا إذ هو يتشبث بسلوك يتفق مع (إرادة القوة) وثقافة الإمبراطورية، ومع نوع من الحياة يسير جنباً إلى جنب مع النمو الصناعي.
ولقد كان طابعه ملحوظاً حتى في النطاق الأدبي، ليس هذا في الميدان الذي يحتله التعليم الاستعماري في النظام الجامعي فحسب، كيما يهيئ بعض الإداريين الاستعماريين، بل في ميدان الاجتهاد العلمي ذاته. فمن الواضح أن المستعمرات قد قدمت إلى العلماء حقلاً جديداً للاستكشاف، ومصدراً للمعرفة الجوهرية عن المجتمعات البدائية، التي ترشد الدارسين في دراساتهم للتطور الإنساني في بدايته. وعليه، فلو أننا وضعنا هذه المسألة في ضوء آخر، غير الضوء الأخلاقي، فربما
لا ننكر خصوبة الواقع الاستعماري في كثير من الميادين. ولكننا لا نستطيع أيضاً
أن ننسى أن هذه الخصوبة قد امتدت جذورها في الآلام الإنسانية، متغذية بالنهب والسلب واللصوصية وقتل الجماعات من أبناء المستعمرات، الذين سلبوهم حريتهم، وسعادتهم وشرفهم الإنساني.
ولن نستطيع أن ننكر حين ننظر إلى الأشياء في هذا الضوء، أن زمن الاستعمار قد مضى.
إن الاستعمار مرحلة من مراحل التطور الإنساني، وقد فات أوانها، فكل محاولة لإطالتها أو تكرارها تأخر وعودة إلى الماضي، ومصير الاستعمار يقاسم مصير اختراع استنفد أغراضه، وتخلف بفعل التقدم الإنساني المستمر، فإذا وجدنا أن بعض الأوساط تحاول تبريره بشتى الاعتبارات الإنسانية أو الاقتصادية، فإن هذه الاعتبارات لا تعكس هم التقدم، وإنما تحمل طابع العرف والعادة، وبعض ما يشبه الخمول الذي يسمى تقاليد. وهو فضلاً عن ذلك يذكرنا بنكتة أطلقها اقتصادي فرنسي مشهور، حين وجه اللوم إلى أولئك الرجال الذين يعطلون الاقتصاد الفرنسي داخل الروتين، مصرين بذلك على إبقائه في عهد عربة اليد دون أن يفكروا في مساعدة سائقها حتى يستخدم المحرك.
فالاستعمار هو (عربة اليد) التي كانت نافعة في أوروبا في القرن التاسع عشر، ولكن يبدو أنهم في أوروبا لا يمكنهم الاستغناء عن هذه العربة، وخاصة في الميدان الاقتصادي؛ كما لاحظنا ذلك في مؤتمر الغرف التجارية المنعقد في مرسيليا فى أكتوبر 1955م.
وربما استطاعت هيئة الأمم المتحدة أن تلغي هذا الجهاز القديم، وأن تقنع هؤلاء وهؤلاء بأنهم يستطيعون أن يستغنوا عنه دون تحمل أي خسارة اقتصادية أو أخلاقية، وهي تستطيع أن تفعل هذا حين تقر بين المستعمِر والمستعمَر روابط جديدة، ونظاماً للعلاقات قائماً على أساس خطة للانفصال والاتصال الضروري، تتفق مع مطامح البعض ومع المصالح الاقتصادية والثقافية للجميع.
ولا شك في أنها بهذا توفر على العالم ما سيطرأ من أحداث دامية ذاق ويلاتها منذ عشر سنوات.
هذه الأحداث الحزينة تزيد بكل أسف، ومن يوم إلى يوم، التوتر الذي يهدد بتمزيق الوحدة الإنسانية تمزيقاً محزناً لا علاج له.
إن الأزمة تتعاظم كل يوم، موحية إلى الزعيم العمالي- كليمنت إتلي- بقلق بالغ عبر عنه في قوله:((في السنوات القادمة ستكون مشكلة العلاقات بين البيض والشعوب الملونة إحدى المشكلات المستعصية على الحل)).
فلو كان لنا أن نصف دواء للمرض، فإن الطريقة العلاجية المناسبة ستكون هي التي تعالجه في عناصره النفسية، قبل أي اعتبار اقتصادي أو سياسي، ونحن نريد أن نقول: إن بناء عقلية عالمية جديدة لا يصح أن يُتصور من الزاويتين: الاقتصادية والسياسية، بل من سائر الزوايا مقدمين في علاجنا العنصر النفسي، الذي يخلق نوعاً من القاسم المشترك في جميع المشكلات المتائرة حالياً بين الشعوب. ونحن نلاحظ ذلك في كل يوم.
وحتى في الكتابات العلمية الخالصة نلاحظ وجود هذا العنصر الانحرافي، الذي يقحم دخائل النفس الإنسانية في المشكلات الاقتصادية. ومن الأمثلة على ذلك ما نلاحظه في كتابات بعض الاقتصاديين الغربيين، تلك التي لا نستطيع أن ننازع في نزاهتها الخالصة، أو في جدارتها، فإن عنصر الانحراف يتدخل كلما اتصل الحديث بالمشكلة الاستعمارية. وإنه ليتحدث عنها بمنطق الفني الكامل الذي لا يغض النظر في أي لحظة عن قيمة الأرقام، ودلالة الأحداث والوقائع، غير أنه بعد أن يبرهن على الخسارة الهائلة التي جشمتها مستعمرة معينة لمستعمريها، يستخلص نتيجة غير منتظرة، هي أن وجود بلاده ضروري في المستعمرات على الرغم من خسارة الميزانية.
هذه بلا جدال نقطة تتشابك فيها حقيقة الضمير مع حقائق العلم، وينتج عن هذا انحراف يحدث بصورة مغرضة في جميع التصريحات والبيانات السياسية الرسمية التي تنشر عن ((كرم البعثة الاستعمارية)).
إن الإصلاحات السياسية والاقتصادية ذات أهمية قصوى لحل المشكلة الاستعمارية، ولكنها تحلها مخلفة وراءها في العالم بقايا في صورة عنصر نفسي. ولا شك أن الحلول التشريعية التي حدثت في الهند، أو في بورما أو في أندونيسيا كانت ضرورية، ولكنها تظل غير كافية طالما لم يتبع الفصل الضروري بين المستعمِر والمستعمَر، بالاتصال الضروري للرجلين اللذين فرقت بينهما ظروف الاستعمار والقابلية للاستعمار. فجميع الإمكانيات التي تسيطر على مستقبل العالم إنما تصدر أساساً عن طبيعة الاتصال الإنساني. والواقع أن المشكلة تقتضي حلاً مزدوجاً أي انفصالاً واتصالاً (1)، حتى إننا لو تصورناه من الزاوية التشريعية فحسب، فمعنى ذلك أننا نخدع أنفسنا بنصف حل. ولقد كان غاندي يقدر عجز حل كهذا بالنسبة إلى الهدف الإنساني، عندما كان يخاطب في كفاحه السلمي ضمير مواطنيه والضمير الإنجليزي، كيما يحرر كلا الخصمين من المرض الاستعماري نفسه.
لكن لكي يكون المشروع مؤثراً، ولكي يصفّي تماماً بقايا الاستعمار، فإن الأمر يقتضي ألا يكون في نطاق بلد، بل في نطاق العالم، حيث يجب أن يطهر ضمير جزء من الإنسانية سممته (ثقافة الإمبراطورية).
وعليه، فإذا كان دور الأمم المتحدة لا يمكن نكرانه في هذا الميدان، فإن نصيب هيئة اليونسكو في حل المأساة العالمية جوهري أيضاً.
إن قاتلي الشاب الأسود إيميت تل ( Emmet Till) ، وجمهور البيض الذين طردوا الفتاة أنتورين لوسى ( Miss Anthourin Lucy) من جامعة ألباما ( Albama) وهي الطالبة الأولى الزنجية التي سمح لها بالالتحاق بهذه الجامعة، قد أظهر هؤلاء
(1) يبدو أن هذه الفكرة قد بدأت تأخذ طريقها ولا سيما في خطب سيدي محمد بن يوسف سلطان مراكش، حيث عبر جلالته عن فكرته في إنشاء علاقات جديدة لبلاده مع فرنسا في حدود الاستقلال والتضامن.
وأولئك أي طريق طويل يجب أن نجتازه كي نصل إلى حل يتفق مع مشكلة العلاقات الإنسانية في عالم الكبار.
وفي الفكرة التي صدرنا بها هذ الفصل لم يكن يعلم الشاعر أنه يضع على فم طفل لعنة ملايين الناس، الذين تعذبوا وما زالوا يتعذبون بويلات العقل الاستعماري.
***