المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: فن المقال التحليلي - فن الكتابة الصحفية

[فاروق أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: فن الحديث الصحفي

- ‌المبحث الأول: تعريف الحديث الصحفي

- ‌المبحث الثاني: الإعداد للحديث الصحفي

- ‌المبحث الثالث: إجراء الحديث الصحفي

- ‌ تحديد موعد اللقاء:

- ‌ إدارة الْحِوَار:

- ‌ تسجيل الحوار:

- ‌المبحث الرابع: كتابة الحديث الصحفي

- ‌المبحث الخامس: الحديث التليفوني

- ‌المبحث السادس: المؤتمر الصحفي

- ‌الفصل الثاني: فن التحقيق الصحفي

- ‌المبحث الأول: تعريف التحقيق الصحفي

- ‌المبحث الثاني: إعداد التحقيق الصحفي

- ‌أولًا: اختيار فكرة التحقيق

- ‌ثانيًا: جَمْعُ المادة الأولية للتحقيق

- ‌ثالثا: تنفيذ التحقبق الصحفي

- ‌المبحث الثالث: كتابة التحقيق الصحفي

- ‌أولا: قالب الهرم المعتدل المبني على العرض الموضوعي

- ‌ثانيًا: قالب الهرم المعتدل المبني على الوصف التفصيلي

- ‌ثالثًا: قالب الهرم المعتدل المبني على السرد القصصي

- ‌الفصل الثالث: فن التقرير الصحفي

- ‌المبحث الأول: تعريف التقرير الصحفي

- ‌أولا: الفرق بين الخبر الصحفي والتقرير الصحفي

- ‌ثانيًا: الفرق بين التقرير الصحفي والتحقيق الصحفي

- ‌المبحث الثاني: كتابة التقرير الصحفي

- ‌المبحث الثالث: التقرير الإخباري

- ‌المبحث الرابع: التقرير الحي

- ‌المبحث الخامس: تقرير عرض الشخصيات

- ‌الفصل الرابع: فن المقال الصحفي

- ‌المبحث الأول: تعريف المقال الصحفي

- ‌المبحث الثاني: فن المقال الافتتاحي

- ‌المبحث الثالث: فن العمود الصحفي

- ‌المبحث الرابع: فن المقال النقدي

- ‌المبحث الخامس: فن المقال التحليلي

- ‌الفصل الخامس: الحملة الصحفية

- ‌المبحث الأول: تعريف الحملة الصحفية

- ‌المبحث الثاني: التغطية الصحفية للحملة

- ‌المبحث الثالث: نموذج تطبيقي للحملة الصحفية

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌المبحث الخامس: فن المقال التحليلي

‌المبحث الخامس: فن المقال التحليلي

تعريف المقال التحليلي:

المقال التحليلي: هو أبرز فنون المقال الصحفي وأكثرها تأثيرًا.. وهو يقوم على التحليل العميق للأحداث والقضايا والظواهر التي تشغل الرأي العام. والمقال التحليلي يتناول الوقائع بالتفصيل، ويربط بينها وبين غيرها من الوقائع التي تمسه من قريب أو بعيد.. ثم يستنبط منها ما يراه من آراء واتجاهات1. والمقال التحليلي لا يقتصر فقط على تفسير أحداث الماضي أو شرح الوقائع الحاضرة.. وإنما يربط بين الاثنين؛ ليستنتج أحداث المستقبل. ولأن المقال التحليلي يقوم على التحليل العميق والمدروس للأحداث.. فهو غالبًا ما يكون أسبوعيًّا.. ولو كان ينشر في صحيفة يومية.. وليس هناك حجم معين للمقال التحليلي.. ولكنه قد يحتل ساحة صفحة كاملة من الجريدة.

وهناك فاروق جوهري بين المقال التحليلي وبين المقال الافتتاحي -غير الفارق في الحجم والمساحة والمكان الثابت- وهو أن المقال التحليلي لا يعبر عن سياسة الصحيفة وإن كان يجب ألا يختلف معها.. فهناك مساحة كبيرة من الحرية تُمنح لكتاب المقال التحليلي تسمح لهم بالتميز عن رأي الصحيفة2.

ولقد لعب المقال التحليلي دورًا متميزًا في تاريخ الصحافة العربية.. بل إن تاريخ الصحافة العربية هو في واقع الأمر تاريخ كتاب المقال التحليلي

انجليزي يسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

ص: 229

منذ رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وحتى محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين في النصف الثاني من القرن العشرين.. وبين الفترتين برزت عشرات الأسماء اللامعة في كتابة المقال التحليلي في الصحافة العربية1. الشيخ محمد عبده وعبد الله النديم وأديب إسحاق ورشيد رضا ومصطفى كامل والشيخ علي يوسف وأحمد لطفي السيد وأمين الرافعي وعبد القادر حمزة والدكتور محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد.

وظائف المقال التحليلي:

للمقال التحليلي عدة وظائف هامة؛ ولكن يبرز في مقدمتها الوظائف الثلاث التالية:

1-

عرض وتحليل الأحداث الجارية، والكشف عن أبعادها ودلالاتها.

2-

مناقشة وطرح القضايا والظواهر التي تشغل الرأي العام المحلي أو الدولي، ومساعدة القراء على فهمها ومتابعتها.

3-

التعبير عن السياسات والاتجاهات السائدة في المجتمع، وطرح وجهات نظر القوى السياسية والاجتماعية في البلد الذي تصدر به الصحيفة2.

موضوعات المقال التحليلي:

يتسع المجال أمام كُتَّاب المقال التحليلي -شأنهم شأن كُتَّاب العمود الصحفي- للخوض في مختلف مجالات النشاط الإنساني من سياسة واقتصاد واجتماع وثقافة وفكر.. ولكن ينفرد النشاط السياسي بالاستحواذ على غالبية ما يكتب من مقالات تحليلية.

ولعل في هذا ما يكشف عن فرق هام بين المقال التحليلي وبين العمود الصحفي، فعلى حين تغلب السياسة على المقال التحليلي.. نجد المسائل الاجتماعية تغلب على العمود الصحفي.

1 لمزيد من التفاصيل انظر: حمزة عبد اللطيف: أدب المقالة الصحفية في مصر "سبعة أجزاء""دار الفكر العربي" القاهرة.

2 Firth. Eric: the Editorial Article: p.p. 66-72.

ص: 230

كذلك فإن هذه الحقيقة تكشف عن فاروق آخر بين المقال التحليلي والمقال الافتتاحي.. إذ يغلب على المقال الافتتاحي طابع "التعليق السريع" على الأحداث الجارية، في حين يغلب على المقال التحليلي طابع "التعليق العميق" على نفس الأحداث الجارية.. لذلك كان في إمكان الكاتب أن يكتب المقال الافتتاحي كل يوم، في حين لا يستطيع غالبًا أن يكتب المقال التحليلي إلا كل أسبوع.

كتابة المقال التحليلي:

يكتب المقال التحليلي -شأنه في ذلك شأن جميع أنواع المقال الصحفي- في قالب الهرم المعتدل.. أي: يحتوي على مقدمة وجسم وخاتمة؛ ولكن المقال التحليلي يتميز عن كل من المقال الافتتاحي والعمود الصحفي بكبر حجم مساحته في الصحيفة.. وهو الأمر الذي يسمح لكاتبه بأن يحشد في جسم المقال أكبر كمية من التفاصيل والحجج المنطقية والأدلة والشواهد التي تشرح موضوع المقال.

كذلك فإن كبر حجم مساحة المقال التحليلي تسمح لكاتبه بحشد كمية كبيرة من المعلومات الخلفية التي تتعلق بموضوع المقال.

فمقدمة المقال التحليلي يمكن أن تحتوي على العناصر التالية:

1-

إبراز حدث من الأحداث الهامة الجارية.

2-

طرح قضية تشغل الرأي العام وتمس مصالح الجمهور.

3-

تقديم اقتراح جديد يثير اهتمام القراء.

أما جسم المقال التحليلي فيتضمن العناصر التالية:

1-

المعلومات الخلفية للموضوع الذي يناقشه المقال.

2-

حشد الأدلة والشواهد والحجج التي تؤكد وجهة نظر الكاتب.

3-

كشف أبعاد الموضوع ودلالاته المختلفة.

4-

عرض الآراء المؤيدة أو المعارضة لوجهة نظر كاتب المقال والرد عليها.

أما خاتمة المقال التحليلي فهي تحتوي على العناصر التالية:

1-

خلاصة وجهة نظر الكاتب في الموضوع.

2-

استثارة ذهن القارئ ودفعه للاهتمام بالقضية التي يطرحها الكاتب.

ص: 231

3-

فتح حوار بين الكاتب والقراء من ناحية، وبينه وبين غيره من الكُتَّاب من ناحية ثانية حول موضوع المقال.

ويوضح الشكل التالي طريقة كتابة المقال التحليلي المبني على قالب الهرم المعتدل:

رسم يسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

البناء الفني للمقال التحليلي المبني على قالب الهرم المعتدل

ص: 232

نموذج للمقال التحليلي المبني على قالب الهرم المعتدل:

صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

1

- اختار الكاتب أن تكون مقدمة مقاله التحليلي حول أهمية حدث من الأحداث الجارية؛ وهو الإضراب الذي قام به عمال بولندا:

إن ما حدث في بولندا أمر لا يكاد يصدق، وهو أخطر من أن يمر بلا تعليق!

إن عامل الكهرباء المفصول الذي يشبه في شكله وثيابه وحياته إحدى شخصيات "ماكسيم غوركي"، والذي ترك زوجته وأطفاله الخمسة بعد

1 المستقبل - 6 سبتمبر سنة 1980.

ص: 233

بدء الإضراب، وتسلق سور مصنع لينين. وتولى فورًا قيادة الإضراب.. هذا العامل جلس وجهًا لوجه أمام نائب رئيس وزراء بولندا، وتحت أضواء كاميرات تليفزيون العالم، يوقع اتفاقًا وكأنه حفل توقيع معاهدة دولية.. ولكنه اتفاق عن دولة شيوعية بين زعيم إضراب عمال وبين ممثل حزب الطبقة العاملة في بولندا!

وسواء نفذ الاتفاق أم لم ينفذ، فإن الحدث المثير قد تم، وقد تم بواسطة عمال بولندا ومثقفيها وحدهم دون فضل لأي أحد عليهم؛ بل وربما برغم أنف العالم كله، وهو حدث سياسي وذهبي وثوري من الدرجة الأولى -وتطور- ولو قبله المعسكر الشرقي، فسوف يكون مدخلًا لتطورات هائلة.. توقعها كثيرون.. ولم يتصور أحد "كيف" يمكن أن تحدث.

- أما جسم المقال، فقد بدأ بفقرة تمهيدية أشار فيها الكاتب إلى جانب من تفاصيل الخبر ورد فعله على بعض التكتلات السياسية العالمية؛ مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، وغرب أوربا، والفاتيكان:

في بداية الإضراب، وضع العمال البولنديون العالم كله -دون استثناء- أمام امتحان خطير!

وقد خذلهم العالم كله، أيضًا دون استثناء!

ألم تكن أمريكا -مثلًا- تحرض شعوب شرق أوربا على التمرد؟ ألم تكن دول غرب أوربا تنتظر ساعة تشقق المعسكر الشرقي؟ ألم يكن الفاتيكان يذكي شعلة الكاثوليكية ضد الدولة هناك؟ إلى آخره

إلى آخره

وفجأة بدأ إضراب منظم بشكل مثير في أكثر دول شرق أوربا حساسية؛ وهي

ص: 234

بولندا! وإذا بالعالم كله يصاب بالذعر!! وإذا بأهل الشرق وأهل الغرب وأهل الحياء يحبسون أنفاسهم!

أمريكا وألمانيا الغربية قررتا الإسراع بالقروض المتلكئة إلى "حكومة بولندا"؛ وذلك لمساعدتها في التغلب على الأزمة الاقتصادية التي كانت هي السبب المباشر فيما حدث.

والفاتيكان والكادرينال ويزنسكي يوجهان نداء إلى العمال المضربين "بالاتزان والتعقل". وإذا كانت روسيا ودول شرق أوربا -وهذا مفهوم- قد تمنت الهدوء، والاتفاق دون حاجة إلى صدام، فإن يوغوسلافيا ورومانيا بالذات، وبحكم رقعهما شعار الاستقلال عن موسكو، كانتا أكثر قلقًا واضطرابًا، فها هو شعب من شعوب شرق أوربا يطالب عماله بنوع آخر من الاستقلال أكثر خطورة وعمقًا!

وإذا كان هناك خوف ما -في المعسكر الشرقي- على النظرية الماركسية اللينينية. إلا أن الخوف الأكبر في المعسكر الشرقي والغربي والعالم كله، كان على شيء آخر: هو الوفاق، أو ما يشبهه، الذي يسود بين الدول الكبرى في العالم

روسيا لا تريد أن تصل الأمور إلى درجة تهدد أمنها القومي، فتضطر إلى التدخل العسكري في بولندا، كما فعلت في المجر وتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان، ليس لأن عندها ذرة من الشك في قدرتها العسكرية على إخماد الإضراب بسرعة؛ ولكن لأن النصر العسكري هنا سيكون هزيمة سياسية، وسيؤدي إلى اتساع الهوة بين الشرق والغرب، وبالتالي انقطاع

ص: 235

العون الغربي اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وتجاريًّا، وتصاعد نفقات التسلح، وبالتالي أيضًا سينعكس هذا كله على الأحوال المعيشية الداخلية لروسيا نفسها، بعد أن قطعت منذ خروشوف مسافة طويلة في طريق "الانفتاح".

وأمريكا أيضًا لا تريد اضطرابًا مثل هذا يجعل الروس يقدمون على حل عسكري؛ ذلك أن أمريكا تعرف أنها ستقف أمامه مكتوفة اليدين؛ فيكون ذلك هزيمة أخرى لأمريكا، ويكون ضربة قاضية لآمال كارتر في إعادة انتخابه.

ودول غرب أوربا لا تريد أن ترى حلًّا عسكريًّا سوفيتيًّا في بولندا؛ ذلك أن أوربا هي أكثر من يتحمل آثار عودة جو الحرب الباردة، ولأن روسيا والمعسكر الشرقي عامة صار أهم سوق اقتصادي وتجاري لغرب أوربا. ولو تأثر ذلك لتدهور مستوى الإنتاج والتصدير والمعيشة في غرب أوربا إلى حد هائل.

هكذا، نحن في عالم تراجعت فيه حرب المذاهب العقائدية، وتقدمت فيه اعتبارات المصالح المادية، فإذا قام في وسط هذا كله شعب صغير يتمرد ويهدد رخاء الآخرين، فإن كل الآخرين يطالبونه بالسكوت والاحتمال، فمصالحه لا يجوز أن تفسد مصالح من هم أقوى وأكبر وأهم.

أما الفقرة الثانية من جسم المقال الافتتاحي، فقد حشدها الكاتب بكمية من المعلومات الخلفية التاريخية عن الموقع الجغرافي لبولندا، وتأثير هذا الموقع على وضعها السياسي:

ص: 236

وقد كان هذا حظ بولندا بالذات، فوجودها بين روسيا وألمانيا عبر التاريخ جعلها أكثر شعب تتعرض خريطته للتغير.. وأحيانًا للمحو التام من على خريطة أوربا.. وجعله بالتالي -كرد فعل- شعبًا شديد الوطنية إلى حد الرومانتيكية، ينتج "شوبان" وأمثاله عبر تاريخه الطويل في الاستشهاد.

فمنذ 41 سنة -باليوم- قامت الحرب العالمية الثانية؛ بسبب مدينة "دانزنغ" التي هي نفسها مدينة "غدانسك" مركز التمرد الحالي، لا لأن "دانزنغ" -أو غدانسك- بالغة الأهمية في حد ذاتها؛ ولكن لأنها بمثابة "بيضة القبان" في ميزان التوازن العالمي.. ليس مسموحًا لها أن تميل قيد أنملة عن مكانها المحدد لها!

هكذا رأينا العالم كله يناشد عمال بولندا "التعقل" و"عدم المبالغة" والاكتفاء بما حدث.

ذكرني هذا بالفصل التاريخي الشهير الذي كتبه "سيتفان زفايغ" بعنوان "أمة تتآمر على شرف امرأة"، روى فيه قصة الكونتيسة البولندية الحسناء "ماري فاليسكا" التي رآها نابليون في حفلة وهو في طريقه إلى غزو روسيا. وكان كل نبلاء بولندا يحاولون انتزاع وعد من نابليون بمنح بولندا استقلالها في حالة انتصاره.. وفهموا أن نابليون قد جُن غرامًا بالكونتيسة الحسناء، وأنه يريدها وأنها امتنعت عليه

وتوالى النبلاء والأمراء عليها يقنعونها بأن تسلم نفسها لنابليون.. وأن تضحي من أجل بولندا.. حتى رضيت بذلك وهي دامية العينين.

ص: 237

وقد أحبها نابليون بعد ذلك وأحبته ومنحته ابنه الوحيد، وكانت آخر من ودعه على الشاطئ وهو ذاهب إلى منفاه في جزيرة القديسة هيلانة.

وتلك قصة أخرى؛ ولكنني تذكرتها وأنا أرى العالم كله "يتآمر على عفاف بولندا"، ويطلب من بولندا التنازل عن طموحها، في سبيل هناء بقية العالم.. أي: أقوياء هذا العالم.

وفي الفقرة الثالثة من جسم المقال، أشار الكاتب إلى التركيب الاجتماعي والطبقي لقائد الإضراب العمالي البولندي:

على أن هناك من الأحداث ما تبقى نتائجه هامة ومؤثرة، سواء انتهى بالقمع أو بالنجاة..

فقد تم في القرن التاسع عشر -مثلًا- قمع "كومونة باريس" قمعًا رهيبًا؛ ولكن الحادث نفسه ترك بصماته على كل تفكير اشتراكي أو ديمقراطي بعد ذلك..

وفي تقديري أن أحداث بولندا من هذا النوع، أيًّا كان مصيرها..

وقد يصبح هذا العامل الكهربائي المفصول من عمله، والذي تسلق أسوار المصنع صبيحة يوم الإضراب في ثياب رثة، تاركًا خلفه زوجة وخمسة أطفال، وتولى على الفور قيادة حركة الإضراب البالغة الدقة والتنظيم.. قد يصبح "فاليسا" هذا اسمًا في سلسلة أسماء: ماركس وليفين وستالين وبريجنيف. وقد يصبح ورقة مهملة في سلة التاريخ، رمز محاولة فاشلة مهما كانت صحيحة أم خاطئة، في سلسلة أسماء: تروتسكي ودوبتشيك وغيرهما؛ ولكن المؤكد

ص: 238

هو أن كل العمالقة الكبار اليوم.. من هوا كيو فينغ إلى بريجنيف.. إلى كارتر، يحاولون أن يحسبوا كل حركة لهذا العامل الذي كان مغمورًا ومفصولًا من عمله منذ ثلاثة أسابيع.

وفي الفقرة الرابعة من جسم المقال، بدأ الكاتب في تحليل نتائج الحدث البولوني، فأشار إلى أثر هذه الأحداث على الوفاق الدولي من ناحية، وعلى الاتجاهات الفكرية والمذهبية في الدول الشيوعية من ناحية ثانية، وعلى مستقبل الدور الذي يلعبه العمال في الحركة الشيوعية من ناحية ثالثة:

فالنظام الشيوعي كما قام وتدعم في روسيا.. ثم تكرر بصور مشابهة في الصين شرقًا إلى المجر غربًا.. هذا النظام الذي يضم أقل من نصف سكان العالم بقليل.. هناك دائمًا "الجامدون" الذين يعتبرونه نظامًا نهائيًّا للمستقبل. وكان هناك دائمًا الجامدون من ناحية أخرى -مدرسة فوستر دلاس- التي لا ترضى بأقل من تدميره تمامًا. ثم كان هناك من الماركسيين إلى بعض اليمينيين -مثل ديجول- من يراهنون على أن الحرب العالمية ليست الحل؛ ولكن المستقبل هو تطور هذا النظام من الداخل..

ودعاة "الوفاق الدولي" رهانهم على هذا التطور في الشرق والغرب.. حين يزول خوف الزوال في الغرب.. وخوف الحصار في روسيا.. ويتم تبادل المنافع؛ وبالتالي أسباب البقاء بين المعسكرين.. فيبدأ النظام في المعسكر الشرقي يتغير من الداخل.

ولكن كيف؟

لقد أخذت انتفاضات المجر وتشيكوسلوفاكيا شكلًا معاديًا للاتحاد السوفيتي؛ وبالتالي برزت

ص: 239

أسباب الأمن تدخل روسيا وسكوت أمريكا، فهناك في أوربا خط تقسيم اتفق عليه بين الشرق والغرب في "يالطا"، وليس لأحد أي حق في اجتيازه.

ولكن اضرابات بولندا كان لها طابع آخر تمامًا.

فهي منظمة بشكل مذهل.. منضبطة بطريقة تدل على سابق وجود عمل تنظيمي عميق في معزل عن علم السلطة.. وهي منصبة على قضية داخلية محضة. وقد فجرها فرار داخلي معيشي، هو رفع سعر اللحوم.

وقد كسبت الحركة جولة هائلة بمجرد اعتراف الدولة بزعامة الحركة كطرف آخر تدخل معه في مفاوضات رسمية وعلنية، الأمر الذي لم يحدث قط في دولة شيوعية، يحتكر فيها الحزب الشيوعي السلطة كلها، ولا يقبل حتى التغيير إلا من خلاله.

ويجب أن نعترف ويعترف العالم أن هذه المطالب كانت تبدو صعبة التحقيق، مستحيلة القبول من السلطة الشيوعية.

ولكن حكومة بولندا وقعت على أخطر حدث داخل المعسكر كله، حين قبلت أمرين:

الأول: حرية تكوين نقابات العمال بشكل ديمقراطي.

والثاني: حقهم في الإضراب دفاعًا عن مصالحهم.

ص: 240

صحيح.. إن هذا تم في إطار اعتراف النقابات العمالية بوَحْدَة الحزب الشيوعي وسلطته، ونظام الحزب الواحد؛ أي: بالأسس السياسية الراهنة للدولة. ولكن ما تم، رغم ذلك، هو خطوة هائلة نحو التعددية والديمقراطية..

فالدولة لا تناقش الآن نقابات مصنوعة بواسطتها وزعامات لا وزن لها.. ولكنها تناقش نقابات كونت نفسها بنفسها.

وقد كان هناك "جيريك" رئيس الدولة والحزب بمفرده.. الآن صار زعيم آخر يوازنه ويقابله هو "فاليسا"، الذي كان عاملًا مفصولًا، وصار خلال ثلاثة أسابيع زعيمًا شعبيًّا غير منازع في بولندا.

ما معنى هذا "مذهبيًّا"؟

معناه: أن "الطبقة العاملة" الصناعية المستنيرة، التي كانت في خيال "كارل ماركس" تثور على "حزب الطبقة العاملة" أي: الحزب الشيوعي الحاكم، على أساس أن أي حزب شيوعي يعتبر نفسه -أوتوماتيكيًّا- حزب الطبقة العاملة..

ومعناه: أن "الطبقة العاملة" تريد أن تفاوض الدولة -دولة العمال- على أجورها وسياساتها الاقتصادية.. كما تفاوض نقابات الحزب أصحاب العمل.. فكأن "الطبقة العاملة" البولندية المضربة تعتبر الدولة بمثابة "صاحب العمل"، تفاوضه، وتضرب أحيانًا المضغط عليه.

ص: 241

ثم أشار الكاتب إلى تأثير الحدث البولندي على مركزية السلطة في الدولة الشيوعية:

ومعناه: أن "مركزية السلطة" في الدولة الشيوعية وحصرها في يد حزب واحد، مطالبة اليوم بأن تقبل صورة من "تعدد مراكز السلطة".. بوجود مركز آخر قوي يوازيها، ويعادلها، ويناقشها، هو نقابات العمال

فهل يمكن أن يقبل "المعسكر الشرقي" هذا التطور الخطير؟

إن المشكلة هي أن من يسمون أنفسهم "الاشتراكيين العلميين" كثيرًا ما لا يدركون أن "العلمية" معناها دراسة كل واقع جديد. وقد أنتج النظام في بولندا طبقة عاملة جديدة قوية مستنيرة لم تكن موجودة من قبل. وبالتالي لا بد من قبول ظروف جديدة وصياغات جديدة تناسبها، أما إذا غفلوا عن التطور، وتمسكوا ببيروقراطية الحزب الحاكم الواحد، فسوف يستمر الصدام بين "حزب الطبقة العاملة" وبين "الطبقة العاملة" ذاتها في صور متزايدة.

وفي فقرة أخرى من جسم المقال.. لجأ الكاتب مرة أخرى إلى المعلومات التاريخية الخلفية عن موقف الاتحاد السوفيتي في عصر البلاشفة من بولندا.. مستفيدًا من هذه الخلفية في طرح تساؤل عن موقف الاتحاد السوفيتي من المشكلة البولندية، وهل سيتدخل لقمع الاضطرابات أم يتفهم التغيرات التي حدثت في المجتمع البولندي؟:

إن في تاريخ الكتابات الشيوعية معركة شهيرة حول بولندا نفسها بين "روزالوكسمبرج" التي دعت إلى ضرورة ضم بولندا إلى الاتحاد السوفيتي؛ لأن بولندا المستقلة سوف تحكمها البورجوازية وليس الطبقة العاملة.. وبين لينين الذي رفض هذا التفكير بشدة وصمم

ص: 242

على حق بولندا في الاستقلال أولًا، ثم في القيام بثورتها بعد ذلك..

ولكن لينين كان رجل ثورة، في حين أن حكام الكرملين الحاليين هم قادة دولة عظمى، لها فوق الحسابات المذهبية حسابات الدول الكبرى؛ من أمن قومي، وتوازن دولي، وخطط استراتيجية

ومع ذلك، فلو أن الاتحاد السوفيتي ترك بولندا لتطورها الآن، فإنه سوف يكون قد أقدم على الحل التاريخي للخوف البولندي من "روسيا".. ذلك الخوف الذي يرجع عمره إلى ألف سنة.

وفوق ذلك، قد يكون في نجاح هذا النموذج مخرج للنظم الشيوعية إلى مجال آخر للتطور، بعد أن بقيت حبيسة نموذج واحد طيلة ستين عامًا.

- أما خاتمة المقال فقد حملت خلاصة رأي الكاتب في الأزمة البولندية.. كذلك تضمنت الخاتمة محاولة من الكاتب لاستثارة أذهان القراء ودفعهم للاهتمام بهذه القضية ومتابعتها في المستقبل:

لقد تطورت تلك البلاد اقتصاديًّا بشكل هائل؛ وبالتالي تطورت اجتماعيًّا؛ وبالتالي تراجعت صيغة "دكتاتورية البروليتاريا"؛ حيث لم يعد عمالها "بورليتاريون" بالمعنى الماركسي؛ إنما صارت أحزابهم تتباهى بأن في عضويتها كذا في المائة خبراء فنيين، وكذا في المائة مهندسين، وعمالًا مهرة، فهي طبقة عاملة جديدة.

وكثير من النظم -عبر التاريخ- كان مقتلها في نجاحها في تطوير البلاد اجتماعيًّا واقتصاديًّا. ثم عجزها عن التطوير السياسي الذي يلائم هذه الظروف الجديدة..

"فاليسا" تسلق أسوار مصنع لينين، وفتح الباب لهذا التطور..

وعلينا أن نراقب بعد ذلك ردود الفعل في الشهور القادمة.

ص: 243