الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: نموذج تطبيقي للحملة الصحفية
"حملة الأسلحة الفاسدة"
تعتبر قضية الأسلحة الفاسدة -التي أثارها إحسان عبد القدوس في منتصف عام 1950 بمجلة روزاليوسف المصرية الأسبوعية- واحدة من أشهر الحملات الصحفية في تاريخ الصحافة العربية.. وأكثرها تأثيرًا.. ويكفي أنه ينظر إليها باعتبارها أحد الأسباب الرئيسية في قيام ثورة 23 يوليو سنة 1952 بمصر.
وتنتمي حملة الأسلحة الفاسدة من الناحية الصحفية إلى الحملات الصحفية المفاجئة.. أي: تلك التي تقوم بدون تخطيط مسبق، والتي يفرضها تطور الأحداث.. وهي بذلك تختلف عن الحملات الصحفية المخططة.. أي: تلك التي يخطط لها جهاز التحرير في الصحيفة.. ولا يبدأ نشر شيء منها قبل أن تستكمل الصحيفة إعداد موضوعاتها إعدادًا كاملًا للنشر.
ويعترف إحسان عبد القدوس بخاصية "المفاجأة" لحملة الأسلحة الفاسدة.. فهو يقول: "كيف بدأت قضية الأسلحة الفاسدة؟ في أحد الأيام ذهبت إلى مجلس النواب.. وفي شبابي الصحفي كنت عندما أسمع أن أحد الشخصيات المهمة سوف تتحدث في المجلس كنت أذهب بنفسي، وفي مجلس الشيوخ كان المتحدث هو المحامي الكبير مصطفى مرعي1.. ولم يكن يتحدث عن الأسلحة
1 مصطفى مرعي: محام ونائب سابق في مجلس النواب في فترة ما قبل ثورة يوليو 1952، وتولى أحد المناصب الوزارية في إحدى حكومات الأقلية في تلك الفترة.. وقد كان وما يزال من الصحفيين المرموقين.. وهو يكتب للصحافة دون أن يعمل بها.. وكان لكتاباته وما تزال تأثير كبير على المثقفين المصريين.
الفاسدة؛ إنما عن استيراد الأسلحة، وذكر في كلامه أن الأسلحة كلها خردة، وبدا واضحًا من حديثه أن يتهم "فاروق" نفسه بأنه مشترك في هذه العملية.
وبعد أن استمعت إلى حديثه خرجت من الجلسة وأنا أغلي، ورحت أفكر في الموضوع وأقلبه من كافة زواياه، ثم كتبت مقالًا.. مقال ليس تحقيق.. مقال عنيف جدًّا.. أيدت فيه مصطفى مرعي، وعرضت القضية، لقد وجدت أخيرًا ما يخفف عني ألم الهزيمة المرة التي عانينا منها في سنة 1948"1.
وهكذا بدأت حملة الأسلحة الفاسدة في مجلة روزاليوسف بالمقال التالي:
مَن هو الضابط الذي يملك قصرًا في جزيرة كابري؟
وزير الدفاع يوجه اتهامًا إلى جميع أسلحة الجيش.
الصحف المصرية تترافع عن المليونير المتهم..
كان استجواب الأستاذ مصطفى مرعي بك عن أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة السابق شهادة مجد وفَخَار لضباط وجنود الجيش المصري، فقد أثبت المستجوب أن هؤلاء الضباط والجنود لم تهزمهم جرأة العدو وحنكته؛ إنما هزمتهم جرأة موردي السلاح والذخيرة الذين تعاملت معهم وزارة الدفاع الوطني.
إنها شهادة يعتز بها كل ضابط وكل جندي، وتعتز بها كل أرملة شهيد، وكل يتيم مات أبوه في ساحة فلسطين، وكل ثكلى مات ولدها في سبيل العروبة.. فهؤلاء الذين ماتوا كانوا في حياتهم أقوى من قنابل اليهود؛ ولكنهم كانوا أضعف من القنابل التي وصفها مصطفى مرعي بك بأنها تنطلق إلى الوراء، وأنها تصيب من يطلقها، وكانوا أضعف من الرصاص "الخردة" الذي تنقطع أنفاسه في منتصف الطريق، فيخر صريعًا على الأرض قبل أن يصل إلى هدفه من صدور العدو.
وأذكر أنني سألت المرحوم القائمقام أحمد عبد العزيز قائد الكوماندوس في حرب فلسطين عن اليوم الذي لا ينساه من أيام القتال، فأجابني والدموع
1 المستقبل - باريس - 29 يونيو سنة 1981 "مذكرات إحسان عبد القدوس.. يكتبها: جمال الغيطاني".
تلمع في عينيه: "إني لا أستطيع أن أنسى يوم كان الباشجاويش يطلق مدفعه على مواقع العدو، وقد وقف من حوله "طاقم" المدفع من الجنود.. فإذا بإحدى القنابل تنفجر إلى الوراء فتحطم المدفع، وتقتل الباشجاويش وجميع رجاله، فيخروا صرعى فوق حطام المدفع وابتسامة الاستشهاد تضيء وجوههم".
وقد سبق أن أشرت أكثر من مرة إلى أن حديث صفقات الأسلحة التي عقدت في إيطاليا لم يعد سرًّا، وأنه حديث تستطيع أن تسمعه في كل شارع من شوارع روما ونابلي وميلانو، وأشرت إلى أن هناك مندوبًا خاصًّا لا يزال يقيم في روما -وأكتفي بأن أقول أن اسمه "أمين"- يستطيع أن يتحدث طويلًا عن هذه الصفقات التي كان اليهود أنفسهم يحاولون بيعها إلى الجيش المصري ليحاربهم بها!! وأشرت إلى أن هذا المندوب الخاص قاسى الأمرين، وهو يحاول أن يؤدي واجبه بصدق وأمانة.. ولم يقاسِ ما قاساه من عملاء دولة إسرائيل؛ بل من عملاء مصر الذين يشترون السلاح باسمها، والذين كانوا كل منهم يستر على الآخر، وكل منهم يدافع عن الآخر في الإثم.
وسبق أن صرخت على صفحات هذه المجلة، وعلى صفحات مجلات أخرى، مطالبًا بإجراء تحقيق سريع لننقذ سمعة مصر، والتي أصبح معروفًا في جميع أنحاء العالم أنها دولة مغفلة، وأصبحت إدارتها الحكومية شعارًا للرشوة وفساد الخلق والذمم.. وقلت: إني لا أستطيع أن أذكر أسماء؛ لأنه ليس لدي مستندات؛ ولكني أعرف أن أحد ضباط الجيش أصبح يمتلك قصرًا في جزيرة كابري -مصيف أصحاب الملايين- يدعو إليه كل عام شخصيات مصرية كبيرة للتمتع بالجمال والراحة والهدوء، على حساب شهداء فلسطين الذين قتلهم الرصاص المغشوش، وعلى حساب الشعب المصري الكريم الذي ابتزت أمواله باسم العروبة والشهامة.. ثم ناشدت معالي الوزير أن يدعو إليه هذا الضابط ويسأله:"من أين لك هذا؟ " وأن يراجع حسابات جميع الضباط والمتعهدين في البنوك المحلية والأجنبية، لعله -على الأقل- يجد مجالًا للشك!
إلى أن تولى مصطفى مرعي بك شرح استجوابه، فأخرج من تقرير رئيس ديوان المحاسبة السابق مستندات دامغة تثبت التلاعب الخطير الذي حدث في شراء هذه الصفقات، وثبت أنها كانت تتم مع علم رجال وزارة الدفاع بما فيها من تلاعب، ومع علمهم أنها أسلحة مغشوشة، ومع علمهم أن هذه الأسلحة المغشوشة ستوضع في يد جنود وضباط مصريين؛ ليحاربوا
بها في حين أنها لا تكفي لا للحرب ولا للدفاع عن النفس!! ورغم ذلك فقد حاول معالي وزير الدفاع أن يدافع عن هذه الصفقات.
لم ينتظر معاليه حتى يجري بنفسه تحقيقًا دقيقًا.. ولم يسمح معاليه بأن يترك في نفسه حتى مجالًا للشك وسوء الظن الذي يدل على حسن الفطنة! بل أعد دفاعًا -أو أُعِدَّ له دفاع- قام يلقيه في مجلس الشيوخ، وعندما رفض المجلس أن يستمع إليه؛ لأن الوثائق كانت أقوى من أن تحتمل دفاعًا، نشر معاليه هذا الدفاع في الصحف.
وماذا قال معاليه في دفاعه؟
قال: "وقد اتضح لي أن هناك أفرادًا كثيرين، كما أن هناك جهات متعددة، أملت عليها مصالحها الخاصة إثارة الشكوك في كل أعمال التوريدات، كما أن قيام لجنة الاحتياجات بالأعمال الخاصة بالتوريدات من جهة وقيام الجهات المختصة في القوات المسلحة باستلام وفحص ما يورد من جهة أخرى كان ذلك سببًا في حدوث بعض الاحتكاك، وإثارة منافسات أدت إلى التقدم ببعض البيانات التي استند إليها ديوان المحاسبة في مناقضاته".
ولا أظن أن معالي الوزير كان يقصد المعنى الواضح الذي تدل عليه هذه الفقرة، فهو في سبيل الدفاع عن لجنة الاحتياجات التي كانت تتولى عقد الصفقات، اتهم جميع أسلحة الجيش التي كانت تتسلم هذه الصفقات.
المعنى المفهوم من هذه الفقرة؛ هو أن أسلحة الجيش المختلفة "غارت" من لجنة الاحتياجات، وحسدتها على ما تتمتع به من نفوذ ومن اعتمادات، فظنت في الصفقات التي عقدتها حتى أن سلاح المهمات قال في تقرير رسمي: إن هناك "مؤامرة" تدبر ضد الجيش المصري.
ويمكن أن يفهم أيضًا -وهو معنى ليس ببعيد- أن أسلحة الجيش المختلفة كانت تريد أن تتساوى في فرص الاستفادة من هذه الصفقات، فلما أعجزها وأعجز قوادها تطبيق مبدأ "تكافؤ الفرص" في "الإشراف" على اعتمادات حملة فلسطين.. أثاروا هذه الزوبعة، لا باسم الوطنية، ولا باسم مصلحة الجيش، ولا باسم الحرص على أرواح الضباط والجنود المحاربين؛ ولكن لمجرد أنهم لم يستفيدوا كما استفاد غيرهم!!
لا نظن أن معالي الوزير يقصد هذا المعنى الخطير الذي تدل عليه هذه الفقرة الخطيرة من دفاعه..
لا نظن ذلك؛ لأن واجب الوزير يقتضيه أن يصون لها احترامها.. وواجب المحامي يقتضيه ألا يرد تهمة السرقة عن موكله بتوجيه تهمة القتل إليه، وهذا الدفاع هو رد تهمة بتهمة أفظع منها.. تهمة تمس ضميره وخلق ووطنية أسلحة الجيش المختلفة، فلا يمكن أن يكون الوزير قد قصده؛ إنما هي غلطة يحسن بالوزير تصحيحها.
تولى معالي الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا الدفاع باسم الحكومة، فبدأ كلامه في مجلس الشيوخ منشدًا معجبًا بسحر بيانه قائلًا:"لم نرَ في هذه القاعة استجوابًا انتحل فيه المتهم صفة المدعي، وصفق المطعون فيه للطاعن، وأحسن المضروب فيه لجلاده، كما وقع في هذا الاستجواب"..
ويريد معاليه أن يقول: إن الاتهامات التي وردت في الاستجواب وقعت كلها في عهد الحكومة السابقة، لا في عهد حكومة الوفد.. وهذا صحيح، إن المتهم هي الحكومات السابقة، والذي وجه الاتهام كان وزيرًا من وزراء هذه الحكومة، فهو يعترف بولايتهم.
لنقل هذا..
إذن لماذا تحمس معالي سراج الدين باشا كل هذا الحماس الذي كاد يفقده أعصابه في الدفاع عن الاتهامات التي وردت في تقرير رئيس الديوان؟!
هل كان يدافع عن السعديين والدستورييين، وعن وزراء السعديين والدستوريين، ومَن عاونهم في حكوماتهم؟! وما هذا الحب المفقود الذي تحرك فجأة في قلب سراج الدين باشا، ودفعه لأن يدافع عن فضائح وقعت في عهد حكومات غير وفديه؟
ولماذا لم يؤيد هذه الاتهامات حتى يدمغ حكم "الأقليات" بفضيحة لا تُمحى على مدى الدهر ما يدعوه إليه واجبه وتعصبه الحزبي؟!
إن هناك سرًّا..
وهو سر ليس في حاجة لأن يفصح عنه فؤاد باشا، لأنه سر مفضوح!!
وقد كان مجرد دفاع فؤاد باشا سراج الدين عن هذه الاتهامات -مع اعترافه بأن حكومته غير مسئولة عنها- كافية لإثباتها.. ولإثبات
أن الجرائم التي يدل عليها الاتهام هي جرائم مستمرة، أكبر من أن تتحملها حكومة واحدة.. ولو أن معاليه اقتصر في دفاعه على نفس مسئولية حكومة الوفد عن هذه الجرائم، فربما كان هذا أفضل له، وأفضل لحكومته، وأفضل لمصر المسكينة التي ضاعت بين مختلف عهودها..
وبعد فإن الرأي العام كله يؤمن بأن هناك جريمة وطنية قد وقعت، وكل جريمة لا بد لها من فاعل..
فأين الفاعل؟
أين المجرم؟
لقد أثار مصطفى مرعي بك غبار الاتهام حول المليونير المصري المدعو عبد اللطيف أبو رجيلة، ومن تعامل معه في الصفقات التي باعها للجيش المصري..
وقد كانت إثارة هذا الاتهام في الوقت الذي لم تبرد فيه بعد جثث الشهداء، ولم تجف دماؤهم من فوق رمال فلسطين -كافية ليثور الرأي العام، وتثور الهيئات مطالبة برأس المتهم.. كان هذا يحدث في أي بلد من بلاد العالم، أما في مصر فلم يحدث منه شيء؛ بل لم يبقَ الاتهام معلقًا أربعة وعشرين ساعة حتى تتولى الحكومة التحقيق؛ إنما ظهرت الصحف كلها في اليوم التالي وقد نشرت دفاعًا مجيدًا يعدد فيه أبو رجيلة الخدمات الجليلة التي أداها لوطنه، ولم ترفض صحيفة واحدة نشر هذا الدفاع؛ بل رأت إحدى الصحف أن ليس من اللياقة أن تنشر اسم "أبو رجيلة" في محضر جلسة مجلس الشيوخ، وهو على ما هو عليه من ملايين، فحذفت اسمه من بين أقوال مصطفى مرعي بك، وأكتفت بأن تشير إليه بكلمة "واحد من الناس"، وبذلك اطمأن صاحب الملايين إلى أن الرأي العام معه، أو على الأقل قد سكت عنه، ما دامت الصحافة قد سكتت عنه؛ بل وأشادت بوطنيته.
ويستطيع أبو رجيلة بعد ذلك أن يتفرغ لبناء قطعة الأرض التي اشتراها -في شارع سليمان باشا- ودفع ثمنها نصف مليون جنيه "كاش"، واستقدم لها خمسة من كبار المهندسين لوضع رسوماتها، ويستطيع بعد ذلك أن يكتفي بابتسامة يوجهها إلى كل مصري يزور إيطاليا، وبخدمة أو خدمتين يقدمها له، فيطمئن إلى أن كل مصري سيشيد بكرامته
وحماسته الوطنية..
وهذا حرام..
حرام في حق مصر، وفي حق الأخلاق، وفي حق المستقبل
…
ولولا نقص المستندات لقلت كثيرًا، ولتحدثت عن شبان كان يُرجى منهم خير كثير لولا أن شجعهم سكوت الصحف وتضليل الرأي العام على اتباع طريق الحرام، ولتحدثت عن وزراء سابقين ورجال كبار كان يمكن أن يضعوا مواهبهم في خدمة مصر، لولا أنهم وجدوا في البيئة التي تحيط بهم ما يشجعهم على أن يعيشوا في خدمة أنفسهم على حساب مصر، وهم شبان ورجال اشتركوا جميعًا في صفقات الأسلحة التي كانت محل الاستجواب
…
وحتى لو كانت لدي المستندات الكافية لأقول كل شيء فماذا يجدي ما أقول، إذا وقفت وحيدًا، وليس في يدي سوى قلمي الضعيف، ماذا يجدي أن أصرح وأثور على الورق؛ بينما الكل من حولي قد سدوا آذانهم، وأعمى الجشع عيونهم؟!!
وقد يكون عبد اللطيف أبو رجيلة ومَن على شاكلته أبرياء؛ ولكن براءتهم التي قد تثبت فيما بعد، لا تنفي أنهم اليوم محل اتهام في جريمة لم تستطع أقوال الحكومة أن تنفيها أو تردها.. وهي جريمة لن يقضى على أثرها، إلا ظهور فاعلها وإدانته.. وعندما أطالب بأن تسعى الحكومة جهدها، وأن تنسى جميع الاعتبارات؛ لتكشف عن هذا الفاعل، وتحصر مسئوليته، وتحاكمه بتهمة الخيانة العظمى، فإني لا أرمي إلى الانتقام للجريمة؛ بل أرمي إلى ما هو أهم وأسمى وأخطر.. أرمي إلى إعادة الثقة والاطمئنان إلى ضباط الجيش وجنوده.. فإن كل ضابط وجندي -وأقولها صريحة- لم يعد يطمئن بعدما سمعه في قاعة مجلس الشيوخ إلى سلاحه وذخيرته.. وعندما يفقد الجندي ثقته بسلاحه، فقد ثقته بنفسه، وفقد روح القتال.
وضاع مستقبل مصر!! ولن يستعيد الجندي المصري ثقته بسلاحه وبنفسه إلا إذا اطمأن إلى أن الحكومة جادة في اتهامات ديوان المحاسبة -وهو الرقيب الأعلى في الدولة- واطمأن إلى أن وزارة الدفاع قد طهرت، وطهر المتعاملون معها من كل شائبة، ومن كل شك..
واتقوا الله في مصر، وفي جنود مصر، وفي ضباط مصر1..
1 روزاليوسف - 6 يونيو سنة 1950.
- ويلاحظ أن حملة الأسلحة الفاسدة بدأت بمقال صحفي.. ولم تبدأ بخبر أو حديث أو تحقيق أو تقرير صحفي.. ويعود ذلك إلى أن الطابع العام الذي كان يميز هذه المرحلة في تاريخ الصحافة المصرية هو طابع الرأي.. فقد كانت الصحافة المصرية في هذه الفترة صحافة رأي وليست صحافة خبر.. لذلك كان من الطبيعي أن يكون المقال هو الأداة الصحفية المناسبة لبدء هذه الحملة.
وهناك ملاحظة أخرى.. أن المقال الذي بدأت به الحملة.. قدم وجهة نظر بدلًا من المعلومات والبيانات والوثائق الخاصة بالموضوع.. وهي نقطة ضعف خطيرة في مثل هذه الحملات التي تهدف إلى تنظيف المجتمع من الفساد.. إذ لو كانت الحكومة قد ردت على المقال بوثيقة واحدة تؤكد سلامة الأسلحة لانهارت الحملة قبل بدايتها.. ولكن وجد عاملان هامان ساعدا على استمرار الحملة ونجاحها فيما بعد:
العامل الأول: أن الأسلحة التي استخدمت في حرب فلسطين كانت فاسدة بالفعل.. وهو الأمر الذي أضعف موقف الحكومة في الرد.
العامل الثاني: أنه رغم أن كاتب الحملة قد بدأ الكتابة دون أن يملك سندًا واحدًا يثبت به دعواه.. إلا أنه كان يعتمد على أن مجرد نشر المقال.. سوف يدفع بعض من يملكون الأدلة والوثائق من قراء الصحيفة أن يتقدموا بها إليه.. وقد يكون ذلك بفعل الرغبة في خدمة العدالة ومصلحة الوطن.. أو قد يكون بفعل مصالح خاصة ولتصفية حسابات شخصية.. وقد تحقق ما توقعه الكاتب بالفعل.. فيذكر إحسان عبد القدوس في مذكراته:
بعد عدة أيام، فوجئت بأحد الأشخاص، كنت أعرفه منذ فترة طويلة أثناء الطفولة، جاءني في روزاليوسف، كان شابًّا ولكنه يبدو عليه أنه ميسور الحال، اسمه علي عبد الصمد، وبدأ يحكي لي عن عمليات استيراد الأسلحة. وإذا به يحضر لي مستندات عن عمليات قام بها عدد من الضباط والأمير عباس حليم، لاستيراد أسلحة قديمة، من إسبانيا، من فرنسا، من بلاد أخرى.
وأثناء حديثه وقعت مفاجأة أخرى بالنسبة لي.. أنه هو نفسه يقوم بعمليات استيراد أسلحة، وأن هذه المستندات التي
أحضرها لي، الهدف منها هو التشهير بآخرين أخذوا منه عمليات استيراد كان المفروض أن يقوم بها هو.. يعني: هو خسر في عملية، فأراد مني أن أشنع بالذين كسبوها. طبعًا فرحت جدًّا؛ لأن المستندات التي قدمها لي، لم يكن من الممكن الحصول عليها بسهولة. ولم أكن أستطيع أن أقوم بإثارة قضية ضخمة كهذه إلا إذا كان تحت يدي مستندات تثبت ذلك، خاصة وأنني بسبيل تحديد أشخاص بعينهم، وضع علي عبد الصمد أمامي كل هذه المستندات، وبدأت أستعد لنشر الفصل الأول.
وفي نفس الوقت، أثار مقالي الأول العديدين، من بينهم هيئة الضباط الأحرار، لم أكن أعرف أي شخص منهم، لم أكن أعرف عبد الناصر أو غيره؛ لكنني أعرف عددًا كبيرًا من الضباط كأفراد، أعرف مصطفى لطفي، وعبد المنعم أمين، وغيرهما، بدأ الضباط يتصلوا بي، قالوا لي: إن لديهم عمليات مهمة جدًّا، وسوف نحضر لك تفاصيلها ومستنداتها، الذي عرفته أن القائم بعملية جمع هذه المستندات هو المرحوم صلاح سالم -أحد قادة ثورة يوليو فيما بعد- لأنه كان يعمل مع الفريق حيدر في وزارة الحربية، وكان يستطيع من موقعه أن يحصل على هذه المستندات، وبالفعل جاءوني بتفاصيل عديدة لعمليات أخرى مدعومة بالوثائق، ثم جرى اجتماع بيني وبينهم في منزل صديق عزيز لي اسمه حافظ صدقي، وشفت منهم شخصيات عديدة، لا أذكرهم بالتحديد، ولا أدري هل رأيت منهم جمال عبد الناصر أو لا، لم تكن تهمني الأسماء؛ إنما كانوا بالنسبة لي شبان ثوريين، يجمعنا هدف واحد، تكلمنا طويلًا حول الموضوع، وترتيب الأوراق، ثم بدأت الحملة1.
- وكان للحملة رد فعل عنيف على الحكومة المصرية وفي الرأي العام المصري، وبعد ثلاثة أعداد من النشر في المجلة
…
تولت النيابة التحقيق في القضية.. وأصدرت أمرًا بمنع نشر أي تفاصيل عن الأسلحة الفاسدة. وإلى هنا تعتبر الحملة.. من الناحية الصحفية.. حملة ناجحة.. فهي قد أثارت الرأي العام وجعلته يتحمس للقضية؛ بحيث استطاع أن يشكل قوة ضاغطة ساعدت على تحويل القضية إلى سلطات التحقيق.
وقد تولى محمود عزمي النائب العام في ذلك الوقت الإشراف على سير التحقيق.. وفي البداية كان جريئًا إلى أقصى حد.. واشتهر بالنزاهة والأمانة
1 المستقبل - باريس 29 يونيو سنة 1981 "مذكرات إحسان عبد القدوس".
إلى درجة أنه أمر بالقبض على ضباط من ذوي الرتب الكبيرة في الجيش.. بل أمر بالقبض على النبيل عباس حليم.. وكان أحد المتهمين في القضية؛ ولكن لم تمضِ فترة طويلة حتى أخذ النائب العام يتعرض لضغوط كبيرة انعكست على سير التحقيق، فقد أخذ يتباطأ وينحرف مجراه لصالح المتهمين من أصحاب النفوذ.. بل لقد أفرج عن المتهمين مع الاستمرار في القضية.. وقد أثار هذا التطور المريب في سير التحقيق الرأي العام داخل الجيش وخارجه بين صفوف المجتمع كله.
لذلك لم يجد كاتب الحملة في مجلة روزاليوسف سوى أن يعود لإثارة القضية من جديد.. ولكنه ووجه بقرار النيابة بعدم النشر في الموضوع.. فتحايل على القرار بأن بدأ حملة أخرى تدور حول الجيش وعلى حيدر باشا قائد الجيش.. وقد حققت الحملة الجديدة هدفين هامين:
الهدف الأول: تحقيق المتابعة المستمرة لموضوع حملة الأسلحة الفاسدة، وإن كان بشكل غير مباشر امتثالًا لأمر النيابة.. ذلك أن التوقف عن متابعة الحملة معناه فقدانها لحيويتها؛ وبالتالي فقدانها لقوة تأثيرها على الرأي العام.
الهدف الثاني: كشف الانحرافات داخل قيادة الجيش.. وهي نفس القيادات المسئولة عن استخدام الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين.
لقد بدأ إحسان عبد القدوس الجزء الثاني من حملة الأسلحة الفاسدة بمقال يهاجم فيه قيادة الجيش ممثلة في الفريق محمد حيدر باشا، ويحمله مسئولية الهزيمة في حرب فلسطين1.
وفي المقال الثاني طالب الكاتب صراحة باستقالة الفريق حيدر
…
ثم التحقيق معه.. وهذا نص المقال:
- إني أطالب بالتحقيق مع الفريق محمد حيدر باشا..
- أخطاء حيدر باشا وأخطاء إبراهيم عطا الله باشا..
- كيف عين حيدر باشا وزيرًا؟! وكيف عين قائدًا للجيش؟!
- الضابط الصغير الذي لم يستطع حيدر أن يحاكمه!..
- إن الجيش ملك للشعب، وولاؤه يكون للدولة!..
- ماذا قال النقراشي في الجلسة السرية؟ ثم لماذا عدل عن رأيه؟
- المواوي يقول: كان الجيش يقوم بأعمال تتعارض مع التدريب!
1 روزاليوسف - 24 أكتوبر سنة 1950.
- الجبهة الثانية التي فتحها حيدر باشا وهزم فيها!..
إن الذين يطالبون باستقالة الفريق حيدر باشا يترفقون به أكثر مما يحقدون عليه.. وأنا من المترفقين بحيدر باشا المشفقين عليه؛ ولكني رغم ذلك لا أطالبه بالاستقالة؛ وإنما أطالب بالتحقيق معه.. فاستقالة سعادته ليست سوى اعتراف منه بالخطأ أو بالفشل، وهو اعتراف بينه وبين نفسه لا يستفيد منه الجيش، ولا تاريخ الجيش، ولا يصون التقاليد المتبعة في جميع جيوش العالم، والتي تقضي بالتحقيق في أسباب الفشل أو الخطأ أو الهزيمة، ثم تسجيل هذه الأسباب في ملف رسمي يرجع إليه عندما يحتاج القادة إلى موعظة أو إلى درس يوفر عليهم الوقوع في نفس الخطأ ويجنبهم هزيمة جديدة..
وقد أخطأ من قبل قائد آخر هو الفريق عطا الله باشا، وتكررت أخطاؤه حتى ثار عليه بعض ضباط الجيش كما هو معروف، فماذا كانت نتيجة هذه الأخطاء؟
لقد استقال سعادته أو طلب إليه أن يستقيل، ثم نُسي كل شيء بعد حين!!
وكان أن تكررت نفس الأخطاء بعينها في عهد قيادة حيدر باشا؛ بل إننا لو استعرضنا الأيام والحوادث، لظننا أن هذه الأخطاء قد تكررت عن عمد، وأن سياسة المشرفين على الجيش هي سياسة التمادي في كل ما هو خطأ.. ولو كان الفريق عطا الله باشا قد قدم إلى مجلس تحقيق، وسجلت عليه أخطاؤه، وبحثت أسباب هذه الأخطاء لانتهت استقالته -أو إقالته- بتعديل نظم الجيش، وتعديل السياسة المشرفة عليه، ولاستطاع حيدر باشا أن يرجع إلى ملف هذا التحقيق؛ ليوفر على نفسه ما تعرض له سلفه!
وقد قلت: إني مشفق على حيدر باشا.. وإني مشفق عليه من ألسنة الناس، سواء منهم الحكوميون أو المعارضون، وسواء منهم الرسميون أو غير الرسميين، وسواء منهم الكبار أو الصغار، وهي ألسنة حداد لم ترحم حيدر باشا، ولم تحفظ له هيبته ووقاره، وهو الرجل الذي عاش عمره لا يملك سوى الهيبة والوقار..
وإني مشفق على معاليه من همسات ضباطه وجنوده.. هل يريد معاليه أن أترجم له هذه الهمسات؟
ولكنها لم تعد همسات، فقد أصبحت صرخات لا بد أنها وصلت إلى أذني حيدر باشا، رغم أنه حرص في الأيام الأخيرة على أن يغلق على نفسه النوافذ والأبواب.. صرخات سجلها الضباط في منشورات يوزعونها على دور الصحف، وتصل بالبريد إلى آلاف الشخصيات، وسجلها ضباط إدارة المخابرات الحربية في تقاريرهم التي يرفعونها إلى رؤسائهم، والتي يطلع عليها حيدر باشا لو كان مواظبًا على الاطلاع.. وفي كل يوم أتلقى خطابات تحوي هذه الصرخات، ويطلب أصحابها نشرها موقعة بإمضائهم، وأصحابها هم من ضباط الجيش، وهم يذكرون مع أسمائهم رتبهم والوحدات التابعين لها.. وقد أبيت دائمًا أن أنشر هذه الخطابات منسوبة إلى أصحابها؛ لأني أحترم تقاليد الجيش التي تصون الحدود بين المرؤسين والرؤساء، والتي تقوم على هيبة القائد والاحترام الواجب له..
ورغم ذلك فقد ضاق صدر أحد الضباط، وهو اليوزباشي مصطفى كمال صدقي، حتى لم يعد يحتمل السكوت، ورغم إيمانه بتقاليد الجيش، فنشر باسمه الكامل مقالًا مطولًا في مجلة "الاشتراكية" قال فيه بالحرف الواحد:"والمطلوب الآن من حيدر باشا إيقاف زياراته غير المرغوب فيها للوحدات، والتي تأخذ شكلًا استفزازيًّا، قد ينتج عنه أضرار كثيرة!! ".
وقال كلامًا كثيرًا لا أستطيع أن أتحمل مسئولية نشره؛ لأني لا أعرف الظروف التي احتمى بها مصطفى كمال صدقي من القانون حتى أحتمي بها معه!!..
فماذا كان مصير هذا الضابط الصغير؟
لقد قدم إلى مجلس تحقيق في 7 أكتوبر، وانعقد هذا المجلس في إدارة الإمدادات والتموين برياسة الأميرالاي عبد الحميد محمد، وأخذ في استجواب الضابط المتهم..
وهذا هو نص الأسئلة والأجوبة التي دارت في التحقيق:
س: لماذا لم تحاول الحصول على إذن بالنشر في الجرائد؟
ج: إن الدافع الذي دفعني للكتابة في الجرائد دون الحصول على إذن
بالنشر من الجهات المختصة، هو أن ما كتبته لا يمكن أن تسمح لي الرئاسات بنشره؛ لأن هذه الرئاسات كثيرًا ما تنشر بلاغات يظهر فيما بعد كذبها، بدليل البلاغ الذي نشره حيدر باشا، والذي جاء فيه أن صفقات الأسلحة كانت خالية من أي غش ومطابقة للمواصفات، ثم ظهر بعد ذلك عدم صحة هذا الكلام؛ بدليل وجود ضباط الآن مسجونين ومتهمين بالسرقة شكلًا والخيانة العظمى موضوعًا..
س: هل لم يكن هناك طريقة قانونية لرفع صوتك إلى الرئاسات؟
ج: إنني لا أثق برئاسة على رأسها حيدر باشا.
س: ما الذي دعاك لكتابة ما كتبت؟ علمًا بأن التحقيق الآن بين يدي القضاء، ولم يبت فيه بعد.
ج: درجت منذ أن التحقت بالكلية الحربية وبعد تخرجي ضابطًا بالجيش على أن أكون مسئولًا -كما تقضي الأصول العسكرية- عمن هم تحت قيادتي؛ ولذلك أعتبر حيدر باشا مسئولًا عن كل ما اقترفته لجنة مشترواته؛ لأن هذه اللجنة كانت تحت رئاسته المباشرة، ثم إنني رغبت أن يشترك الجيش في التحقيق الموجود الآن بين يدي الهيئة القضائية؛ أي: إثارته بين من تحملوا التضحيات الجسيمة بسبب خيانات لجنة المشتروات..
س: لماذا تهاجم حيدر باشا بالذات؟
ج: ليس بيني وبينه أي عداء شخصي ولكنني هاجمته، وبيده السلطة والقوة، وبإمكانه البطش بشخصي الضعيف، مضحيًا بذلك بمصلحتي الشخصية في سبيل الصالح العام، وحتى يمكن تناول مأساة فلسطين.
س: ما هي الأسباب التي تدفعك إلى هذا الهجوم؟
ج: أولًا: لإبقائه على مساعدي رئيس أركان حرب الجيش السابق في نفس مراكزهم، وتوسيعه لاختصاصاتهم -هنا جملة رأيت حذفها- ثانيًا: لعدم قدرته على اختيار القائد الذي يمكن أن تنجح المعركة على يديه، وإن شئتم أوضحت وأسهبت بما يملأ مجلدًا ضخمًا..
هذا، هو بعض ما جاء في محضر التحقيق مع اليوزباشي مصطفى كمال صدقي -مع احتفاظي برأيي في إجاباته- وقد يعتبر هذا الضابط جريئًا في تحديه للقائد العام للقوات المسلحة إلى هذا الحد؛ ولكن الذين حققوا معه كانوا أجرأ منه، فقد أوقفوا التحقيق معه فجأة، وقبل أن يتم، ودون
أن يحيلوا الضابط المتهم إلى مجلس عسكري، كما يقضي بذلك القانون، ثم اكتفوا بأن منحوه إجازة مرضية يقضيها في بيته..
ماذا بقي للجيش بعد هذا؟!
ماذا بقي للجيش إذا كان ضابط صغير في رتبة يوزباشي يستطيع أن يتحدى القائد العام علنًا، ثم يتحداه مرة ثانية في تحقيق رسمي، ولا يستطيع القائد العام أن يرد تحديه إلا بأن يمنحه إجازة مرضية؟!
لماذا يخاف حيدر باشا من التحقيق مع هذا الضابط؟
وأي قوة في الأرض تستطيع أن تمنعه من محاكمته؟! إلا أن يكون سعادته -أي: حيدر باشا -يخشى أن يمنح هذا الضابط فرصة ليقول فيها أمام هيئة المحكمة أكثر مما قال.
وإذا كان هذا الكلام يستطيع الضباط اليوم أن يقولوه علنًا، فماذا يمكن أن يقولوه همسًا؟!
إن هذه الواقعة وحدها تكفي للتحقيق، لا مع الضابط الصغير؛ بل مع حيدر باشا نفسه، الذي ترك منصبه كقائد عام للقوات المسلحة يتعرض لمثل هذه الجرأة دون أن يحاول الدفاع عنه؛ بل يعمل على أن يصون شخصه قبل أن يصون كرامة المنصب!!
دخول فلسطين:
ولكن هذه الواقعة -للأسف- ليست هي كل الوقائع التي يجب أن يحقق فيها مع حيدر باشا، وكنت قد وعدت سعادته في مقالي الأول أن أجيب له على سؤال:"هل كان الجيش المصري مستعدًّا لدخول فلسطين؟ ". وفهم من هذا المقال أني أحمل حيدر باشا مسئولية دخول الجيش فلسطين بلا استعداد، وقد تطوعت بعض الزميلات بالإجابة على هذا السؤال قبل أن أجيب عليه، ونسب بعضها الخطأ إلى حيدر باشا بوصفه الوزير المسئول، ونسب البعض الآخر الخطأ إلى المغفور له النقراشي باشا بوصفه رئيس الوزارة التي تتحمل المسئولية العامة..
وأحب أولًا أن أسجل أني عندما أكتب عن الجيش أرفعه فوق مستوى الأحزاب، فالجيش -كما قال مونتجمري في إحدى المناسبات- هو "ملك الشعب"، ويجب أن يبتعد عن السياسة وأن يظل كذلك، ويجب أن يكون ولاؤه للدولة؛ ولذلك فإني لا أريد أن أزج بقلمي في اتهامات حزبية، وسيان عندي أن يكون النقراشي أو حيدر أو إبراهيم عبد الهادي أو أي رجل من رجال العهد السابق هو المسئول عن حملة فلسطين، وإني أرحب بالتحقيق مع أي منهم إذا كان هناك وجه للتحقيق معه؛ ولكني أخص حيدر باشا وحده بما أكتبه؛ لأنه لا يزال متمتعًا بسلطانه رغم فشله، ولأني أكتب عن المسئولية الإدارية والفنية والعسكرية..
أما المسئولية الدستورية، فمن أراد أن يبحثها من الزملاء الأعزاء فليبدأ بما نشر في بعض الصحف "وثيقة الاتصال"، وبعد تعيين حيدر باشا وزيرًا للحربية؛ من أن معاليه سيكون وزيرًا دائمًا للحربية؛ أي: وزيرًا للحربية في كل وزارة، ولينته الزملاء الأعزاء عند الأزمة الصامتة السريعة التي قامت عند تأليف وزارة الوفد الحالية، والتي كان من جرائها تعيين حيدر باشا قائدًا عامًّا للقوات المسلحة!!
أما أنا فإذا امتنعت عن الكتابة في المسئولية الدستورية؛ فلأني تعهدت أمام النيابة في قضية سابقة بعدم التعرض لهذه الناحية.
ولنعد إلى مسئولية حيدر باشا..
إن معاليه كان يعلم مدى النقص في أسلحة الجيش وذخيرته ومعداته وتدريب جنوده، ويعلم أن هذا النقص وصل إلى حد أن أوقفت التدريبات السنوية لضرب النار، وحدد الضرب بأقل من "المرتب" المعتاد في بعض الوحدات؛ وذلك لعدم وجود طلقات..
وقد حدث في إبريل عام 48 -أي: قبل إعلان الحرب بشهر واحد- أن جاء اللواء أحمد محمد علي المواوي بك إلى القاهرة من مركز قيادته من العريش ليحضر مؤتمرًا لقواد الأسلحة، عقد في مكتب عثمان باشا المهدي رئيس هيئة أركان حرب، وحضره مدير مكتب حيدر باشا نائبًا عن معاليه.. وأبدى قواد الأسلحة -بما فيهم المواوي بك- في هذا المؤتمر مدى النقص الخطير في الأسلحة والعتاد بين جميع الوحدات، وحُمِلَ محضر هذا المؤتمر إلى معالي حيدر باشا.
وبعد أيام عقد في بلودان مؤتمر مثلت فيه جميع الدول العربية، وتقرر فيه عدم دخول الجيوش النظامية فلسطين؛ اكتفاء بالقوات المتطوعة من بين هذه الجيوش، واكتفاء بمساعدة مجاهدي فلسطين مساعدات فعالة واسعة المدى.
وبعد أيام أخرى وقف المغفور له النقراشي باشا في مجلس النواب وقال في جلسة سرية: إنه تقرر ألا يدخل الجيش المصري النظامي فلسطين، لا لعدم استعداده؛ بل لأن ليس من كرامة الجيوش النظامية أن تحارب عصابات يهودية غير منظمة، ولأنه قد يكون هناك احتمال واحد في الألف، ألا ينتصر الجيش المصري انتصارًا مشرفًا ساحقًا فينتقص هذا من سمعته؛ ولذلك فقد تقرر الاكتفاء بدخول قوات المتطوعين ومساعدتها بالسلاح والرجال.. وبعد أيام أخرى وقف النقراشي باشا في البرلمان المصري مرة ثانية ليقول: إنه قد تقرر دخول الجيش المصري فلسطين، وليقول: إن الجيش مستعد لهذه الحملة التأديبية تمام الاستعداد..
وبذلك تحمل حيدر باشا المسئولية الإدارية والفنية والعسكرية لحملة فلسطين؛ بوصفه الوزير المختص، والوزير الذي يبلغ مجلس الوزراء والبرلمان حقيقة حالة الجيش..
حالة الجيش:
ولكي أبين حقيقة حالة الجيش عند بدء الحملة وفي خلالها، أنقل للقارئ فقرات من محضر رسمي بأقوال سعادة المواوي بك سجل بتاريخ 11 نوفمبر عام 48 "سعت 600":
1-
أبان المواوي بك أن العجز الظاهر في مقدرة الوحدات عمومًا -ولا سيما وحدات المشاة- راجع إلى انعدام تدريب هؤلاء الجنود قبل إحضارهم إلى الميدان.
2-
اعترف المواوي بك أنه لم يشأ في وقت ما أن يخجل من إظهار هذه الحقيقة السافرة لرؤساء الجيش، حين كلف بقيادة الجيش في العمليات..
3-
أظهر المواوي بك أنه وقد خدم في الجيش في منطقة العريش قبل قيام الحملة فترة طويلة من الزمن لم يكن لديه أي تسهيلات لإجراء تدريب مشترك للوحدات التي كانت وقتئذ بالعريش.
4-
سجل عزته أن لواء التدريب بعد إنشائه بالقاهرة لم يتفرغ في وقت ما لإتمام تدريبه، وكانت تطلب وحداته للقيام بأعمال تتعارض مع التدريب، وكانت النتيجة الحتمية لذلك أنه لم يستطع أن ينهض بذلك اللواء إلى الدرجة التي كان ينشدها، وإلى الدرجة التي كانت تمكن الجيش في وقت ما من خوض معركة ما..
5-
"غير قابل للنشر"..
6-
انتقل بعد ذلك إلى الكلام عن بقية أسلحة الجيش، فبدأ بسلاح خدمة الجيش الذي كان عاجزًا تمامًا في بدء العمليات عن إمداد الوحدات بالعربات اللازمة مما أجبره على استئجار عربات مدنية لمساعدته في أعمال الحملة..
7-
"غير قابل للنشر"..
8-
تكلم عن حالة الطائرات، فأبان أنها كانت على درجة عالية من التحكم في الجو حين لم يكن للعدو نشاط جوي نذكره، ولما طال الزمن وخسرنا العدد الكثير من الطائرات والطيارين تمكن العدو بعد أن جلب طائرات عديدة حديثة النوع من انتزاع السيطرة الجوية بالكلية.
9-
الفرسان كانت عريانة قديمة الأزل، والدبابات الخفيفة كانت بحالة يُرْثَى لها، ولم تستطع أن تؤدي واجبها على ما يجب..
10-
أطنب سعادته في مدح المدفعية قائلًا: إنها أدت واجبها إلا أنها قليلة بالنسبة لعدد الجيش..
واختتم المواوي بك كلامه قائلًا: "ليس عندي ما أضيفه إلى ما ذكرت سوى: إن كانت مصر ترغب في أن تقوم بعمليات واسعة النطاق بعد ذلك، فليس لدى السلطات المسئولة من حل سوى أن تفكر تفكيرًا جديًّا في إصلاح الجيش إصلاحًا شاملًا".
الجبهة الثانية:
كانت هذه هي حالة الجيش عند بدء حملة فلسطين وخلالها، ورغم ذلك لم تكن الحملة خطأ كاملًا، فقد استطاع هذا الجيش أن ينتصر في المواقع الأولى،
وأن يصل إلى أبواب تل أبيب، وكان يمكن أن يتم له النصر النهائي لو أن حيدر باشا استطاع أن يستفيد من الهدنتين اللتين أعلنتا خلال الحملة، ولو أن سعادته استطاع أن ينتصر في الميدان الخارجي، أو الجبهة الثانية التي فتحها في أسواق أوربا لشراء الأسلحة والذخيرة.. ولكن معاليه هزم في الجبهة الثانية كما هزم في الجبهة الأولى، وكانت هزيمته ترجع إلى سوء اختياره للرجال، وإلى سوء التصرفات، وهي التصرفات التي يحمل معاليه مسئوليتها، سواء كان يدري بها أو لا يدري، وكما يقول الشاعر القديم:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
وكانت هزيمته في هذه الجبهة الثانية بمثابة تحطيم مخازن الأسلحة للجيش، وكان انتصار العدو في هذه الجبهة معناه انتصارهم في ميدان فلسطين دون حاجة منهم لأن يطلقوا طلقة واحدة..
ولكن، هل كان هذا هو كل ما يتحمله حيدر باشا من مسئولية؟
والخطة الحربية نفسها التي اتبعت، هل كانت خطة عاقلة؟
إني لا أدعي علمًا بالخطط الحربية، ولا أستطيع أن أناقش حيدر باشا وهو القائد العام العبقري الهمام.. ولكني لن أناقشه؛ بل سأكتفي بأن أنقل إلى سعادته صورًا من الأوراق التي يحتفظ بها في وزارته.. وليبق سعادته في منصبه سبعة أيام أخرى ليقرأ المقال التالي!! 1
1 روزاليوسف - 21 أكتوبر سنة 1950.
- ونجحت الحملة الصحفية على محمد حيدر باشا قائد الجيش في أن تثير الرأي العام داخل الجيش، وتطوع عدد كبير من الضباط -وخاصة الضباط الأحرار- في مد إحسان عبد القدوس بالمعلومات والبيانات التي تكشف عن أخطاء قائد الجيش.. ويذكر إحسان عبد القدوس في مذكراته:"كان الذي يمدني بالمعلومات التفصيلية هم الضباط الأحرار.. وأذكر اثنين من الضباط شهدا معي أمام النيابة؛ وهما: عبد المنعم أمين الذي أصبح عضوًا في مجلس قيادة الثورة، ومصطفى لطفي الذي أصبح سفيرًا.. وكان موقفهما في غاية الجرأة.. إذ تضمنت شهادتهما اتهام "فاروق" نفسه..! "1.
وقد شجعت البيانات والوثائق التي وضعها الضباط الأحرار بين يدي إحسان عبد القدوس.. على استمراره في الحملة على محمد حيدر باشا قائد الجيش.. وكتب حلقة ثالثة يكشف فيها أخطاء حيدر باشا في حملة فلسطين.
وهذا هو نص المقال الثالث:
أذكر أني في أغسطس عام 1945 كتبت مقالًا بعنوان: "هذا الرجل يجب أن يذهب"، هاجمت فيه اللورد كيلرن سفير بريطانيا الأسبق، وطالبت بإخراجه من مصر، وقد حققت النيابة العامة في هذا المقال، وأمرت بحبسي احتياطيًّا على ذمة التحقيق، وبعد أن أفرج عني دعاني المغفور له أحمد حسنين باشا وقال لي:"إننا جميعًا نسعى لإخراج كيلرن من مصر؛ ولكن مقالك هذا عرقل مسعانا، فإن بريطانيا دولة عنيدة في مثل هذه المواقف أن تحمي كرامتها وكرامة سفرائها أمام الحملات العلنية"، واستشهد رحمه الله بتمسك بريطانيا بأحد سفرائها في تركيا رغم عدم رضائها عنه، لا لشيء إلا لأن الصحف التركية كانت تهاجمه!
ولم أقتنع يومها برأي أحمد باشا حسنين، واستمرت روزاليوسف تهاجم اللورد كيلرن، ثم اشتركت الصحف الأخرى في مهاجمته، واستطاع أحمد حسنين أن يستغل هذه الحملة الصحفية في تأييد مسعاه لدى الحكومة البريطانية حتى طرد اللورد من مصر فعلًا..
1 المستقبل - باريس - 6 يوليو سنة 1981 "مذكرات إحسان عبد القدوس".
وهذا الرأي الذي سمعته من المغفور له حسنين باشا، سمعت مثله هذا الأسبوع من بعض ذوي الرأي!! فقد قيل لي: إن الحملة على حيدر باشا قد تؤجل استقالته إذا كان هناك أمل ان يستقيل، وقد تؤجل التحقيق معه إذا كان هناك أمل في أن يحقق معه أحد.. لا لشيء إلا لمجرد العناد!
عناد من؟!
وإذا جاز لبريطانيا أن تعاند المصريين، فكيف يجوز للمصريين أن يعاند بعضهم بعضًا على حساب المصلحة العامة، وفي مثل هذه المسائل الحساسة المتعلقة بكيان الجيش وسلامته ومستقبله، والتي لا تحتمل الزمن؛ لأن الزمن يزيدها تعقيدًا على تعقيد، وخطرًا على خطر؟!
ومَن الذي يعاند؟
هل هو حيدر باشا الذي يرفض أن يستقسل، ويرفض أن يتقدم إلى مجلس تحقيق، أم هي الحكومة التي تأبى أن تطلب من وزير الحربية التحقيق مع القائد العام للقوات المسلحة؟
وهل هذا هو الموقف الذي كان ينتظره حيدر باشا من نفسه، والذي كان ينتظره منه الناس، وهو يرى نتيجة أخطائه بعينيه، دون أن يتقدم لتحمل مسئولية هذه الأخطاء، ودون أن يتنحى حتى لا يتكرر الخطأ على يديه مرة ثانية؟!
إني أريد أن أحتفظ لحيدر باشا بجميع الصفات الحميدة، أريد أن أقول عنه: إنه شجاع ونزيه، وشهم، وكريم، وطيب، وقد لا يدري معاليه مدى الألم الذي أعانيه عندما أضطر للخضوع أمام المنطق، فأدع القلم ينزع عنه إحدى هذه الصفات أو بعضها!!
ولكن الصفات الحميدة -للأسف- ليست مجرد كلام يقال، ولا مجرد حروف تكتب؛ ولكنها دائمًا صفات لأعمال، فليقل لي معاليه أي عمل يمكن أن أنسبه إليه من بين مواقفه الأخيرة يستحق عليه لقب شجاع، أو لقب غيور على مصالح وطنه وجيشه؟!
هل يريد سعادته أن يستمع إلى مثل من أمثلة الشجاعة والغيرة حدث في مثل موقفه اليوم؟!
لقد طلب المريشال بيتان عقب هزيمة الجيش الفرنسي في أوائل الحرب الأخيرة، وفي عهد الاحتلال الأماني أن يؤلف مجلسًا لتحقيق أسباب هزيمة الجيش الفرنسي، وتحديد المسئولين عن الهزيمة.. طلب بيتان إجراء هذا التحقيق وهو القائد الأول للجيش الفرنسي، وكان يمكن أن ينتهي المحققون إليه ويحملونه المسئولية وحده؛ ولكنه وضع التقاليد العسكرية ومصالح جيشه فوق سلامته ومصلحته الشخصية، كما واقفت ألمانيا على إجراء هذا التحقيق رغم قيام احتلالها لفرنسا، ورغم ما كان يجره التحقيق من إثارة ضباط الجيش وتحمسهم لجيشهم، لا لشيء إلا لأنها دولة عسكرية تقدر تقاليد الجيوش، حتى لو كانت جيوش أعدائها..
ذلك موقف يستحق عليه صاحبه لقب شجاع وشهم وغيور، وإذا أراد من سلسلة هذه المقالات عله يتحمس فيختم عمره الطويل بموقف يؤهله لصفحة معالي الفريق حيدر باشا أن يستزيد من هذه المواقف، فليرجع إلى المقال الأول من صفحات التاريخ، وعله يفكر أن يحمي شيخوخته من كل ما يسمعه وما لا يسمعه!
أما الحكومة فموقفها من هذا العناد غامض، فإني أعلم أنها لن تلح طويلًا على سعادة حيدر باشا إذا قكر سعادته في الاستقالة، كما أنها لن تتردد طويلًا إذا وجدت الظروف التي تتيح لها التحقيق معه.
وهنا أسمح لنفسي بسؤال معالي وزير الحربية: هل يعتقد معاليه أن حالة الجيش تحتمل الاستسلام للظرف؟
لقد كانت إحالة التحقيق في صفقات الأسلحة المغشوشة إلى النيابة العمومية إجراء حاسمًا طمأن ضباط الجيش وجنوده، وهدأت نفوسهم في انتظار نتائجه..
وحيدر باشا كان -وهو وزير للحربية- أخطر على الجيش من الأسلحة المغشوشة، فإن السلاح المغشوش قد يتغلب عليه القائد الصالح، أما القائد القاصر فقد ينهزم حتى لو لم يكن السلاح مغشوشًا!
فلماذا لم يحقق مع حيدر باشا كما حقق في الأسلحة المغشوشة؟! بل لماذا لا تقدمني الوزارة إلى النيابة للتحقيق معي في هذه المقالات إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل، كما جاء في بلاغ الوزارة الذي قدمتني به إلى النيابة العمومية للتحقيق معي فيما كتبته عن صفقات الأسلحة؟!!
إني مندهش، ومصر كلها في دهشة!!
ثم هناك رجل كنت أعتقد أنه سيؤيدني في مطالبتي بالتحقيق مع معالي الفريق حيدر باشا، وهو اللواء أحمد محمد علي المواوي بك..
فهذا الرجل مظلوم، وأستطيع أن أرى مما بين يدي من وقائع أنه كان مجبرًا على أمره، مسيرًا ولا مخيرًا، وأستطيع لو طلبني محاميًا عنه في التحقيق -لولا أن نقابة المحامين قد نقلت اسمي إلى جدول غير المشتغلين- أن أعدد له مواقف عديدة حاول فيها أن يتجنب الأحداث الجسام التي وقعت خلال الحملة.. ولكن المواوي بك لم يطلب التحقيق في أسباب انسحاب الجيش من فلسطين، وتحديد المسئولية عن هذا الانسحاب، ولا أظنه سؤيدني في هذا الطلب، وقد علمت -أو بلغني- أن عزته قد شرح لمعالي وزير الحربية الحالي كل ما حدث في فلسطين؛ ولكنه عندما سنحت له الفرصة ليسجل هذا الشرح في تحقيق رسمي أَبَى أن يتكلم..
وأخيرًا، لا أستطيع إزاء هذا العناد، إلا أن أستمر في الكتابة؛ بل إني لا أكتب إنما أنقل.. أنقل الهمسات المحبوسة في صدور الضباط والجنود الأبطال، وأنقل آيات السخط من فوق شفاه أرامل وأيتام الشهداء، وأنقل المعلومات الخطيرة التي تتململ في ظلام الأدراج..
القائد العبقري:
وقد تكلمت في المقال الأول عن تدخل حيدر باشا في سلطات القواد، وفي اختيار الضباط، وفي إخفاء خبر الحملة عن قائدها العام حتى الأيام الأخيرة..
وتكلمت في المقال الثاني عن مسئولية دخول الجيش فلسطين بلا استعداد ولا تدريب، وبلا أسلحة صالحة..
وهذا المقال خاص بمسئولية سعادته عن وضع الخطة الحربية التي اتبعت في "تأديب عصابات اليهود"، والتي انتهت بالانسحاب من فلسطين..
هل كان حيدر باشا هو الذي وضع الخطة؟
إنه اتهام خطير؛ لأنه ليس للوزير أن يتدخل في وضع خطة حربية فنية، يجازف فيها بأرواح الجيش وسمعته وكرامته، خصوصًا إذا كان هذا الوزير هو حيدر باشا!
إنه اتهام خطير لم أكن لأجرؤ على توجيهه، إن لم يكن تحت يدي دليل.. وما تحت يدي دليل يقوم على واقعة واحدة تشهد على جميع الوقائع..
فقد حدث أن وضع حيدر باشا خطة للاستيلاء على بعض المستعمرات، وحمل مدير مكتبه هذه الخطة إلى رئيس أركان حرب الجيش في يوم 22 يونيو 48، ولا تزال صورة من هذه الخطة محفوظة في إدارة العمليات الحربية، وأصلها محفوظ في مكتب الوزير.
وقد وضعت هذه الخطة تحت عنوان "مقترحات عن عمليات حربية مقبلة"، وجاء فيها بالنص:
أ- توفير قوة ضاربة من القوات المحتلة أسدود، وتعطى لقائد مستقل؛ لمهاجمة والاستيلاء على مستعمرات: بيرتوفيا، بيت دراس، كفار وينج.
ب- توفير قوة مماثلة من القوات المحتلة المجدل؛ لمهاجمة والاستيلاء على مستعمرات: امخبا، جوليس، خان الواديات، القضبة..
هذه هي إحدى الخطط التي وضعها حيدر باشا.. كيف أباح معاليه لنفسه أن يضع خطة حربية فنية، وأي تجارب اعتمد عليها ليغتصب لنفسه هذا الحق، وأي ثقافة حربية يتمتع بها معاليه ليجرؤ حتى على أن يشير أو يقترح في عمليات تحركات الجنود..
لقد تخرج معاليه في الكلية الحربية -وأنا أنقل التاريخ من الذاكرة عام 1905- وعمل بالجيش عامًا واحدًا أمضاه في سلاح الخيالة للتدريب على ركوب الخيل، ثم نقل إلى سواري بوليس مصر، وظل ضابط بوليس
حتى نال رتبة الأميرالاي، ثم نقل وكيلًا لمصلحة السجون، ثم مديرًا لها فوكيل وزارة لها ثم وزيرًا للحربية..
فأي تجربة في هذا العمل الطويل تبيح لحيدر باشا التدخل في وضع خطة حربية؟
هل كان معاليه يعتقد أن انتصار جيش على الأعداء لا يستلزم من الذكاء والعلم أكثر مما يستلزم انتصار البوليس على إحدى مظاهرات عام 1919؟!
وهل كان معاليه يعتقد أن قيادة جيش لا تستلزم من الهمة والدراية أكثر مما تستلزمه قيادة مساجين مصلحة السجون؟!
إني أضبط قلمي بصعوبة؛ حتى لا يجن معي، ويخرج عما يليق في مخاطبة القواد العظام أمثال حيدر باشا!!
وقد ردت العمليات الحربية على هذه الخطة التي وضعها حيدر باشا ردًّا فنيًّا لو تأمله حيدر باشا لاعتبره إهانة.. فقد جاء في رد العمليات بالنص:
"إن المجدل يجب أن تكون مُؤَمَّنَةً تأمينًا خاصًّا، حتى إذا ما اضطرت قواتنا الموجودة في أسدود إلى الانسحاب -لا قدر الله- بسبب ما، فإنها تنحسب إلى هذه القاعدة، وإلا فيتسبب عن انسحاب القوات من أسدود انهيار جميع الخطوط حتى الحدود المصرية".
ومعنى هذا أن إدارة العمليات تقول لحيدر باشا باللغة المؤدبة الراقية: إنه لا يفقه شيئًا!!
ولا أدري هل طبقت الخطة التي وضعها حيدر باشا رغم أنف إدارة العمليات الحربية أم لا؟ ولكن الذي أعلمه -ويعلمه الجميع- أن الانسحاب الذي قالت فيه إدارة العمليات: "لا قدر الله" قد قدره الله فعلًا..
فانسحب الجيش من أسدود ودير سنيد والمجدل، دون أي هجوم جدي من اليهود؛ وإنما لمجرد أن العدو قطع خطوط مواصلات الجيش المصري في نقطتين بين المجدل والفالوجا، وبين المجدل وغزة، ولم تحاول القيادة أي محاولة لاسترداد هذه المواقع التي قطعت فيها خطوط المواصلات، كما
تم الانسحاب رغم أن أسدود والمجدل كانتا تستطيعان أن تقاوما، على الأقل كما قاومت الفالوجا..
وقد تم هذا الانسحاب بأمر القاهرة، وبعد أن تضاربت أوامرها مدة طويلة، وذلك على الرغم من أن أركان حرب المواوي بك القائد العام رفض الانسحاب، وإن كان قد اضطر له بعد أن وصل أمر القاهرة إلى الثلاثة الكبار الذين كانوا يديرون العمليات في فلسطين في ذلك اليوم؛ وهم: اللواء شعراوي وموسى لطفي ومدير العمليات، وكانوا قد وصلوا فلسطين في 19 أكتوبر في رحلة تفتيشية..
ولم يصدق اليهود أن الجيش المصري قد انسحب من هذه المواقع، وكذبوا عملاءهم العرب الذين أبلغوهم هذا الانسحاب!! فلم يدخلوا دير سنيد إلا بعد 48 ساعة من إخلائها، وبعد أن أخذوا العرب الذين أبلغوهم الخبر رهائن..
وكان من نتيجة هذا الانسحاب أن مجلس الأمن رفض قرار العودة إلى خط 14 أكتوبر الذي يمتد حتى أسدود؛ لأننا تركنا هذه الأرض تفضلًا ودون قتال..
ولا أريد أن أستمر طويلًا في تفاصيل الخطط الحربية؛ لأنها تفاصيل معقدة بالنسبة لي -ولست في عبقرية حيدر باشا- ولو أني أعتمد في سردها على وثائق ومعلومات واقعية..
ولكني أعود فأتساءل: من وضع الخطة العامة التي اتبعت في فلسطين؟
لا شك أن القائد العام للحملة لم يكن له دخل ولا نصيب في وضع هذه الخطة، وقد جاء على لسانه في محضر رسمي بأقواله، وهو المحضر الذي أشرت إليه في العدد الماضي، والذي سجل في يوم 11 نوفمبر عام 1948 "سعت 700" النص التالي:"إن الجيش المصري كان عليه واجب القيام بفصل المستعمرات الشمالية عن الجنوبية في صحراء النقب، مما اضطره إلى احتلال الخط الممتد من أسدود إلى بيت لحم بقوات لم تكن في وقت من الأوقات كافية بالمرة للدفاع عنه، يضاف إلى ذلك بعد هذا الخط عن القاعدة.. السبب الذي من أجله طالت خطوط التموين؛ فاستحالت مراقبتها وحمايتها".
وجاء في نفس المحضر في الفقرة "11" منه ما نصه:
11-
تكلم القائد العام كثيرًا عن إجباره على التقدم أكثر مما يجب، السبب الذي من أجله تعرضت خطوط مواصلاته إلى التهديد من جانب العدو "وأظهر سعادته أنه كثيرًا ما اشتكى من تعارض هذه النظرية مع واجبات السلامة العسكرية؛ ولكنه كان دائمًا مأمورًا من القيادة العليا بالقاهرة لمتابعة التقدم المتواصل، رغم إظهار تلك العقبات لهم في كثير من المرات".
هذا ما يقوله المواوي بك عن الخطة التي كان ينفذها، والتي يعترف أنه كان يؤمر بها أمرًا رغم اعتراضه، ورغم تعارضها مع سلامة الجيش الذي يقوده..
تصوروا قائدًا ينفذ خطة غير مقتنع بها؟.. أي نصيب لهذه الخطة من النجاح؟! وأي نصيب لهذا القائد في النصر؟! خطة توضع في القاهرة، دون استشارة قائد الحملة ودون موافقته عليها رغم اعتراضه.
ما هذا؟!
لماذا لم تغير الخطة ما دام المواوي هو الذي سيقوم على تنفيذها؟!
أو لماذا لم يغير المواوي ما دام لا يستطيع تنفيذ هذه الخطة؟! ومن المسئول عن كل ذلك؟!
مَن إن لم يكن حيدر باشا؟!!
إن نفس "المحضر" الذي بين يدي، وهو منزوج من "يومية الحرب" لرياسة القوات المصرية بفلسطين، ويشتمل على رد اللواء فؤاد باشا صادق على أقوال المواوي بك، ونصه:
"إن ما قمتم به من أعمال كان فوق مجهود البشر، وإني أعترف أمامكم بأنك كنت الشخص المتوكل على الله، وأن ستر المولى عز وجل قد أوصلك بهؤلاء الجنود إلى تلك النتائج، التي شرحتها عزتكم لنا، وإني أستطيع بكل اختصار أن ألخص كلامكم كالآتي:
أفهم أنك تعني أنك أمرت بتمثيل رواية هزلية بالجيش المصري
على مسرح فلسطين، كنت أنت أفرادها وجنودها وبطلها الأول، فقد أعطيتني صورة واضحة لحالة القوات التي سأتولى قيادتها لحين عودتك بعد فترة الاستجمام التي أرجو أن تكون قصيرة".
هذا ما يقول فؤاد صادق لزميله المواوي..
ومن أقوال فؤاد باشا صادق نستطيع أن نفهم أن قائد الحملة لم يُتْرَكْ له التصرف في شيء.. لا في وضع الخطة، ولا في مناقشة الخطة التي وضعت، وكل ما تُرك له هو ستر المولى والتوكل على الله!!
وإذا كان فؤاد باشا صادق قد وصف ما كان يجري في فلسطين بأنه رواية هزلية، فإن أحد فصول هذه الرواية، هو إرسال سعادته إلى الميدان معتقدًا أن المواوي بك سيقوم بإجازة قصيرة للاستجمام، وأنه -أي: المواوي- لم يسحب من القيادة بصفة نهائية!!
ألا يكفي كل هذا للتحقيق مع حيدر باشا؟!
ألا يعتبر هذا المحضر الرسمي اتهامًا لمعاليه يوجهه إليه اثنان من أكبر قواد الجيش؟!..
إن لم يكن كل هذا يكفي، فإني لم أنتهِ بعد!
طرائف حيدر باشا:
وبعض تصرفات حيدر باشا يدخل في باب الطرائف، رغم ما أعقبها من مصائب..
ففي سبتمبر عام 48 أرسل سعادة أحمد ثروت بك سفير مصر في باريس برقية خطيرة بالشفرة إلى وزارة الخارجية المصرية، وهذا نص ما بها من معلومات:
"وصلني من مصدر ثقة لا أشك في سلامة أخباره: أن اليهود يجمعون حوالي 40 ألف عسكري في النقب أمام القوات المصرية للحصول على نتائج حاسمة، من خلال النصف الأول من شهر أكتوبر".
وأحالت وزارة الخارجية هذه البرقية إلى معالي وزير الحربية الفريق محمد حدير باشا، فأحالها بدوره إلى رياسة هيئة أركان الحرب، وأحالتها هذه إلى إدارة العمليات، وأحالتها إدارة العمليات إلى القائد العام للحملة، وأحالها القائد العام إلى قواده، فكتب كل منهم على "الإشارة" التي تحملها كلمة "علم"!!
وكان هذا هو كل شيء..
لقد علمت القيادات المختلفة بالمعلومات الخطيرة التي تحملها برقية سفير مصر، وسجلوا علمهم بكلمة "علم"!!
كان هذا هو نصيب برقية مثل هذه يرسلها مصدر موثوق به لدى سفير مصر في باريس، لا أكثر من كلمة "علم"!
وفي الفرصة الوحيدة التي كان يجب أن يتدخل فيها حيدر باشا، فيشرف على استعداد القيادات لمقابلة هذا الهجوم الذي يشير إليه السفير المصري، لم يفعل معاليه شيئًا؛ وإنما أكتفى واستراح ضميره بكلمة "علم"!!
وفي منتصف أكتوبر، تحقق ما جاء في برقية السفير، وما علم به حيدر باشا قبل حدوثه بشهر، فقام اليهود بهجومهم المعروف الذي أعقبه الانسحاب..
- وطرفة أخرى:
فقد حدث أثناء الارتباك الذي صحب الانسحاب أن أرسل أمر انسحاب الفالوجا إلى المجدل، وأرسل أمر انسحاب المجدل إلى الفالوجا، فتسلم سيد طه أمرًا نصه:"انسحب عن طريق البحر"!!
ولعل حيدر باشا يعلم أن بين الفالوجا -حيث قيادة سيد طه- والبحر أميالًا.
- وطرفة ثالثة:
حدث أن قررت القيادة العامة في القاهرة استرداد بير سبع، وهي من أهم المواقع العسكرية، وكانت جميع الحملات التي دخلت فلسطين
من عهد نابليون حتى حملة اللنبي، تتخذ منها قاعدة حربية هامة، وكان اليهود قد بذلوا الكثير في سبيل إخراج الجيش المصري منها..
أتدرون كيف صدر الأمر لاسترداد بير سبع؟
لقد صدرت إشارة إلى الأميرالاي فؤاد ثابت تحمل الأمر التالي: "بسريتين من الكتيبة الأولى احتياط استرد بنفسك بير سبع".
والسرية لا يزيد عددها على مائة عسكري!!
وقد اعتبر الضباط هذا الأمر نكتة، وتندروا فيما بينهم أن المقصود هو أن يسترد فؤاد ثابت بير سبع "بنَفَسه" بفتح النون والفاء!!
- وطرفة رابعة:
فقد وضع اللواء موسى باشا لطفي قائد العمليات المشتركة تقريرًا بتاريخ 9 أكتوبر عام 1948، عن "مسرح العمليات الحربية في فلسطين"، أرسله إلى رئيس هيئة أركان حرب الجيش، وجاء في الباب الثامن منه عن التدريب ما يلي بالنص:
1-
الجيش العامل: نظرًا لما لاحظته رئاسة القوات من أن ضباط الصف والعساكر ينقصهم الكثير من "التدريب الابتدائي"؛ لذلك فقد وجد من الضروري البدء في هذا النوع من التدريب، الذي يعتبر الأساس الذي يبنى عليه التدريب الراقي، ولما كان من المتعذر سحب العسكر من المواقع الدفاعية وتدريبهم بعيدًا عنها، فقد اتخذ اللازم لترك أفراد قلائل للمراقبة في خطوط الدفاع أثناء النهار لتدريب الباقين التدريب الابتدائي، وعندما تتم هذه المرحلة فسينقل التدريب إلى مرحلة ضرب النار إذا سمحت حالة الذخيرة بذلك، وبعدها ينتقل إلى مرحلة التدريب الراقي التي تشمل المهارة في الميدان والتدريب الليلي..
واقتراح اللواء موسى لطفي اقتراح عملي رائع؛ ولكن عيبه أنه بدئ في تنفيذه في شهر أكتوبر؛ أي: بعد أن انتهت هدنتان استغرقتا في مجموعهما أكثر من شهرين، وكان يمكن خلالهما أن يتدرب الجنود حتى يكونوا على استعداد لمقابلة الهجوم الأخير..
هذه بعض الطرائف التي تدل على تخبط القيادة التي وضعها حيدر باشا
تحت أمرته.. القيادة المسئولة عن سلامة الجيش وأرواح ضباطه وجنوده.. والتي كانت تخضع لنفوذ حيدر باشا، صاحب النفوذ والسلطان..
وبعد فإني أرجو من حيدر باشا أن يشفق عليَّ أن لم يشفق على نفسه، فحرام أن يكلفني -بعد كل ما بذلته من جهد خلال الأسابيع الثلاثة الماضية- أن أكتب له مقالًا رابعًا، حتى يتحرك..
تحرك يا رجل..
وأعفني من مقال الأسبوع القادم1..
- رغم ضراوة الحملة ضد محمد حيدر باشا قائد الجيش.. فيبدو أنها لم تكن تكفي لإسقاط الرجل.. ولم ييئس إحسان عبد القدوس كاتب الحملة.. واستمر في الهجوم على الرجل.. وكتب الحلقة الرابعة من الحملة، حدد فيها رأيه بأنه لن يتوقف إلا باستقالة قائد الجيش ومحاكمته..
ويعتبر إصرار إحسان عبد القدوس على استمرار الحملة هو أحد أسباب نجاحها، فالمتابعة المستمرة لأي حملة صحفية هو أحد العوامل الرئيسية في نجاحها.. ذلك أن هذه المتابعة تضمن استمرار القضية "ساخنة" من ناحية، وتحتفظ باهتمام الرأي العام بها من ناحية ثانية.. وهو الأمر الذي تحقق في الحملة على حيدر باشا قائد الجيش. نقطة أخرى.. لقد توافق نشر الحلقة الرابعة من الحملة ضد محمد حيدر باشا بصدور قرار باستقالته من قيادة الجيش.. وهو الأمر الذي يعتبر نصرًا صحفيًّا لكاتب الحملة، وهذا هو نص المقال الرابع والأخير في الحملة على حيدر باشا:
ماذا أريد؟
إني لا أطالب باستقالة معالي الفريق حيدر باشا من منصبه بصفته قائدًا عامًا للقوات المسلحة؛ بل إني لم أتحدث عنه إطلاقًا بهذه الصفة، ولا أطالب حتى بالتحقيق معه تحقيقًا مباشرًا؛ بل كل ما أطالب به، هو التحقيق في أسباب انسحاب الجيش المصري من فلسطين تحقيقًا إداريًّا وفنيًّا ينتهي بتحديد المسئولين عن هذا الانسحاب، وتوقيع عقوبات إدارية عليهم، قد يكون من بينها الطرد من خدمة صاحب الجلالة الملك، وقد يكون من بينها إنزال
1 روزاليوسف - 7 نوفمبر سنة 1950.
رتبة المتهم من فريق إلى ملازم ثانٍ، وقد تكون العقوبة هي الاكتفاء بتوجيه اللوم، أو الاكتفاء بخصم ثلاثة أيام من المرتب
…
إلخ.
وهذا هو كل ما أطالب به، وليس ذنبي بعد ذلك أن تنحصر المسئولية في حيدر باشا؛ بل ليثق معاليه أني تعبت وتعب معي قلمي لأعفيه من المسئولية -أو من بعض المسئولية- ولكن عبثًا، فكل مستند كان يقع في يدي كان ينتهي إليه، وكل تصرف أو إجراء أو عملية تمت خلال الحملة كانت تتم بعلم معاليه وموافقته.. فهو مسئول دائمًا، ومسئول أولًا ومسئول أخيرًا!!
فهل فيما أطالب به ما يجافي المنطق؟
وهل يحتاج المنطق إلى أربع مقالات طوال عراض أحرق فيها دمي وأعصابي؛ ليقتنع معالي وزير الحربية الحالي، فيهتم بإجراء هذا التحقيق؟
لقد قيل لي على لسان معالي الأستاذ مصطفى نصرت: أن معاليه قد حصر كل جهده في مشكلة استيراد الأسلحة الجديدة، وأنه بلغ من حرصه على أعمال وزارته أنه يطلع على كل ورقة صغيرة أو كبيرة بنفسه قبل أن يوقعها، حتى أنه أصبح يتناول طعامه في بيته وبين يديه أعمدة من "الدوسيات" يقلبها بينما يقلب اللقمة بين شقيه، وهو لذلك قد ضاق وقته عن الاهتمام بفتح تحقيق إداري في أسباب انسحاب الجيش، يسير بجانب التحقيق الذي تجريه النيابة في صفقات الأسلحة..
ويتساءل معاليه -كما بلغني- عما يمكن أن يحدث لو أن هذا التحقيق الجديد شمل عددًا آخر من الكبار غير هؤلاء الذين شملهم تحقيق النيابة كيف تسير أعمال الوزارة بعد ذلك، بعد أن يختفي رؤساء مصالحها بين سجين، وموقوف عن العمل، ومطلوب للتحقيق؟!
وأبدأ، فأطمئن معالي الوزير إلى أن التحقيق في أسباب انسحاب الجيش لن يشمل إلا عددًا محدودًا ومعروفًا من الضباط الكبار؛ ولكنه سيشمل أيضًا الفريق حيدر باشا.. ثم إني مع تقديري للجهد الذي يبذله معالي الوزير لا أوافق معاليه على أن استيراد الأسلحة الجديدة يمكن أن يشغله عن اهتمامه بإجراء التحقيق الذي أطالب به، فإن هذه الأسلحة الجديدة التي نجح معاليه
في استيرادها، تحتاج إلى أيد قديرة لاستعمالها وصيانتها، وتدريب الجنود على القتال بها، ووضع الخطط التي ستشترك في تنفيذها.. ولن يطمئن معاليه إلى أنه وضع هذه الأسلحة في أيدي قديرة إلا بعد أن يبعد عنها الأيدي التي ثبت عدم قدرتها، ثم إن الجيش الآن يتوثب لنهضة جديدة، ويتلهف إلى دم جديد يعوضه عن الدم الذي نزف منه على أرض فلسطين، وهي نهضة لن تقوم إلا على أكتاف قواد أَكْفَاء متعلمين، ولن يغذيها إلا دم نقي غيور على كرامة الجيش ومستقبله.. وواجب الوزير، بل واجب الجميع، أن يدفعوا هذه النهضة إلى الأمام ويباركوها.. ويساهموا فيها، وهي نهضة تقتضي أن يسبقها حركة تطهير كاملة شاملة، سريعة حاسمة، لا يكتفى فيها بتحقيق النيابة، فإن النيابة تبحث عن اللصوص لتأخذ بحق المجتمع عن جريمتهم، ويجب أن تقوم هيئة أخرى لتبحث عن المخطئين، فتبعدهم عن مستقبل الجيش..
هذا هو رأيي؛ بل هذا هو المنطق، الذي أرجو أن يقتنع به معالي الوزير، كما أرجو أن يقتنع به معالي القائد العام للقوات المسلحة!
وإذا قلت: إني أرجو أن يقتنع القائد العام بهذا المنطق، فإني لا أتمادى في الخيال، رغم علامتي التعجب اللتين تعمدت وضعهما في آخر الفقرة السابقة. إنه ليس خيالًا أن يأمر حيدر باشا القائد العام للقوات المسلحة بالتحقيق مع حيدر باشا وزير الحربية السابق!
وليس خيالًا أن يقف مع حيدر باشا أمام المجلس الذي أمر بتشكيله؛ ليعترف بالأخطاء التي وقعت في عهده كوزير للحربية، ثم يبرزها إن وجد وجهًا لتبريرها..
وليس خيالًا أن يتلقى حيدر باشا حكم المجلس عليه بتحميله مسئولية هذه الأخطاء، ثم ينصرف كريمًا، ويقدم استقالته من خدمة جلالة الملك كريمًا مشكورًا..
وكل هذا ليس خيالًا؛ بل حقائق قابلة للتطبيق، فإن أحدًا لا يستطيع أن يدعي بأن حيدر باشا كان يتعمد الخطأ، أو أنه كان يتعمد الهزيمة للجيش؛ بل كل ما هنالك أنه عجز عن الصواب، وعجزت كفاءته عن أن تصل بالجيش إلى النصر، أو تحميه من الانسحاب، والعجز ليس جريمة يعاقب عليها
القانون الجنائي، وليس جريمة تمس الشرف؛ إنما هو نصيب من الأنصبة التي يوزعها الله على الناس -وله في ذلك حكمة- وأصحاب هذا النصيب كان يجب أن يبعدوا عن التصرف فيما لا طاقة لهم على التصرف فيه، ثم كان يجب أن تسجل عليهم الأخطاء التي سببها عجزهم؛ حتى يتجنبها من يلي مناصبهم بعدهم، وكل هذا لا يتأتى إلا بمجلس تحقيق..
أقول: إنه ليس خيالًا أن يطلب حيدر باشا القائد العام التحقيق مع حيدر باشا الوزير السابق؛ إنما هي حقيقة واقعية، لا يقدم عليها إلا الشجعان، ولو أقدم عليها حيدر باشا لدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولترك لمصر سابقة تعتز بها وتباهي بذكراها الأمم..
ويبدو أن حيدر باشا لم يتعود مباهاة الأمم بشيء، فهذا هو المقال الرابع الذي أكتبه عنه وله، دون أن يفكر سعادته في أن يتحرك لا إلى الأمام ولا إلى الوراء..
هل يتجاهلني؟..
إنه لو تجاهلني، فلا يستطيع أن يتجاهل القراء، ولا يستطيع أن يتجاهل الرأي العام، ولا يستطيع أن يتجاهل هذه الهمسات التي ملأت أذنيه، وسدت عليه منافذ المستقبل.
إنه لا يتجاهل؛ ولكنه يقف صامتًا عاجزًا، لا يستطيع حتى أن يقفل عينيه؛ كي لا يرى الرجال الذين كانوا يحيطون به أثناء وزارته، والذين أطلق أيديهم، وأسبغ عليهم حمايته وثقته، وهم يتساقطون من حوله كأوراق الخريف، دون أن يستطيع أن يمد لهم يدًا، أو يدفع عنهم عقابًا أنزل بهم..
إن القلم حائر بين أصابعي! هل أرثي له أو أتحداه؟ هل أبكي عليه أو أصرخ في وجهه؟ هل أطالب بالتحيق معه أو أطالب أن يشفقوا به؟!
ما كان أغناني!!
ما كان أغناه!!
لولا أن عليَّ واجبًا يجب أن أؤديه، وعليه واجبًا لم يؤده حتى الآن!
الخطأ الأكبر:
وحيدر باشا هو الذي يدفعني إلى كتابة هذا المقال الرابع، وهو الذي يدفعني لأزيد في تعداد التصرفات الخطيرة التي وقعت في أثناء حملة فلسطين، على أن ينسب له دائمًا فضل تقديم هذا البلاغ إلى النيابة لا إلى وزير الحربية..
وكنت أعتقد أن المقال السابق سيكون هو المقال الأخير، فإني عندما كنت أكتب عن صفقات الأسلحة، لم أكد أصل إلى المقال الثالث حتى تحمس حيدر باشا وقدم بلاغًا إلى النيابة للتحقيق فيما نشرته روزاليوسف، أصر سعادته على أن ينسب دائمًا فضل تقديم هذا البلاغ إلى النيابة لا إلى وزير الحربية.
ولكن يظهر أن ما أطالب به هذه المرة أخطر مما طالبت به عندما كتبت عن صفات الأسلحة، فإن ثلاث مقالات لم تكفِ لتقديم بلاغ للنيابة "إحقاقًا للحق، وإزهاقًا للباطل".. وأصبح عليَّ أن أكتب مقالًا رابعًا..
أين انتهيت في المقال السابق؟
لقد وصلت بنا الحوادث إلى يوم قيام اليهود بهجومهم الكبير الذي انسحب فيه الجيش المصري من أسدود والمجدل، وترك الفالوجا محاصرة، ثم ما أعقب ذلك من سحب اللواء المواوي بك من القيادة العامة للحملة، ووضع اللواء أحمد فؤاد صادق باشا مكانه..
والمواوي وفؤاد صادق.. كل منهم ينتمي إلى مدرسة عسكرية مختلفة، فالأول يؤمن بالمدرسة التي تحتم طاعة الأمر دون مناقشة، فكان يطيع حتى لو لم يقتنع بالأمر الذي يطيعه، والثاني يؤمن بالمدرسة التي تبيح مناقشة الأوامر العليا، فكان يناقش إلى أن يقتنع أو يعتزل.. ولكن هل تغير الأمر بتغيير القيادة وبتغيير المدرسة التي يتبعها القائد الجديد؟
هل استطاع فؤاد صادق أن يمنع حيدر باشا من التدخل في وضع الخطط، أو هل كف حيدر باشا من تلقاء نفسه عن التدخل؟ وهل أقنعته الحوادث الجسام بأن تجاربه في البوليس، وفي مصلحة السجون، لا تؤهله لوضع خطة حربية، يسير بها أرواح جنود وضباط، وتتعلق بها كرامة أمة وجيش؟!
إن حيدر باشا لم يستطع أن يكف عن التدخل، وكأن العام الذي قضاه وزيرًا للحربية من نوفمبر 47 إلى نوفمبر 48، وتعود خلاله على ممارسة القيادة قد جعله مدمن قيادات.
وكان أهم ما يقلق معاليه في تلك الأيام هو أمر الفالوجا التي تركها معلقة بين السماء والأرض، محاطة بالأعداء من جميع الجهات، وربما كان معاليه يشعر بمسئوليته عن هذا اللواء الكامل الذي تركه محاصرًا، وربما كان شعوره هذا هو الذي يدفعه إلى التفكير ليل نهار في إنقاذ هذا اللواء بأي وسيلة وبأي شكل؛ بل إني أعلم أن معاليه لم يكن ينام أيامها، وكان كثيرًا ما ينام جالسًا في مكتبه وبالوزارة ورأسه فوق ذراعيه..
ولكن هل لجأ معاليه إلى القائد العام ليضع له خطة إنقاذ الفالوجا، أو هل لجأ إلى هيئة العمليات المشتركة؟
لا -ولا تتعجبوا- فقد لجأ معاليه إلى جلوب باشا الإنجليزي قائد الجيش العربي التابع لشرق الأردن!!
أرسل حيدر باشا الأميرالاي سعد الدين صبور بك مندوبًا عنه؛ ليفاوض جلوب في وضع خطة لإنقاذ الفالوجا.
ورحب جلوب باشا بالتعاون مع حيدر باشا، وأسرع ووضع الخطة، وكانت تقضي بأن تدمر قوات الفالوجا جميع أسلحتها الثقيلة، وتنسف جميع ذخائرها، ثم تنسحب بأسلحتها الخفيفة الخاصة بالدفاع الشخصي إلى بيت لحم، مخترقة طرقًا تقع كلها تحت سيطرة اليهود.. والحكمة في نسف وتدمير الأسلحة الثقيلة هي أنها تعوق الانسحاب!
وقد تفضل جلوب باشا فوضع تحت تصرف الجيش المصري لتنفيذ هذه الخطة ضابطًا خبيرًا في الطرق اسمه "لوكهيد" وشاويشًا إنجليزيًّا خبيرًا في تدمير ونسف الأسلحة.
وعاد صبور بك بهذه الخطة إلى حيدر باشا، ومعها خطاب من جلوب باشا يرجو الثقة به، ويستشهد على إخلاصه لمصر وللجيش المصري بعزام باشا!!
وأعلن حيدر ثقته بجلوب، ووافق على الخطة -وربما أبدى إعجابه بها- ثم أمر بتنفيذها..
ورجع صبور بك إلى بيت لحم، وأرسل تفاصيل الخطة مع أمر التنفيذ الصادر من الوزير إلى قائد الفالوجا الأميرالاي السيد طه، وقد أرسلها مع الصاغ معروف الحضري، الذي سعى إلى الفالوجا في قافلة كبيرة مكونة من خمسة وأربعين جملًا تحمل تموينًا للقوات المحاصرة، ويصحبها الضباط الإنجليزي "لوكهيد" والشاويش الإنجليزي، وقد وصلت هذه القافلة الكبيرة إلى الفالوجا بسلام ودون أن يتعرض لها اليهود في الطريق، وهو أمر يثير الريب، كما سيأتي تفصيله.. وقد تم كل هذا دون أن يعلم به القائد العام للحملة، ودون أن يعلم رئيس هيئة أركان حرب الجيش، ودون أن تعلم به هيئة العمليات المشتركة.. وكان الوزير العبقري -نابليون زمانه- يعمل وحده!!
وتلقى السيد طه الخطة وأُمر بتنفيذها فثار، وأعلن عدم موافقته عليها، وعدم موافقته أيضًا على بقاء الضابط والشاويش الإنجليزيين داخل المنطقة المصرية المحاصرة، ثم اتصل بالقائد العام -اللواء فؤاد صادق- وأبلغه خبر هذه الخطة، فثار فؤاد صادق بدوره، وأمر السيد طه بعدم تنفيذ أي أمر لا يتلقاه منه شخصيًّا، كما أمره بطرد الضابط والشاويش الإنجليزيين خارج المنطقة.
واتصل فؤاد صادق بالوزير، واحتج لديه على هذا التدخل في سلطاته، ثم هدد بترك القيادة إن نفذت هذه الخطة، التي وصفها بأنها خطة قاتلة..
واضطر حيدر باشا أن يعرض الخطة على هيئة العمليات المشتركة، فهل يذكر معاليه رأي هيئة العمليات؟ لقد اجتمعت هيئة العمليات المشتركة يوم 21 نوفمبر 48 "سعت 1100" في هيئة مؤتمر، ووضعت تقريرًا هذا نصه:
"اطلعت الهيئة على الخطة التي يحملها الأميرالاي صبور، وعلى اعتراض قائد الفالوجا، وقائد عام القوات، وقررت ما يأتي: إن الهيئة توافق حضرة صاحب العزة قائد القوات المصرية بفلسطين وحضرة صاحب العزة قائد
قوات الفالوجا، على أن هذه الخطة خطيرة جدًّا على القوة المحاصَرة للاعتبارت الآتية:
أ- بعد تدمير الأسلحة الثقيلة تصبح الروح المعنوية في القوة ضعيفة.
ب- تجريد القوة من أسلحتها المعاونة قبل انسحابها يضعف قوة نيرانها، ويقلل بدرجة كبيرة قوة مقاومتها، سواء في مواقعها أو أثناء انسحابها، ويحرمها من الأسلحة الضرورية المطلوبة لتغطية الانسحاب وأعمال المؤخرة..
جـ- تدمير الأسلحة وأعمال النسف، ستلفت نظر العدو إلى نشاط ستقوم به القوة لشق طريقها، وهذا مما يزيد العدو في إحكام تطويق القوة ومضايقتها..
د- من الأفضل استخدام الذخيرة المراد نسفها بإطلاقها على العدو بدلًا من نسفها..
هـ- انسحاب القوة، وهي ما يقرب من أربعة آلاف جندي وضابط، على طريق واحد خطر جدًّا؛ إذ يمكن العدو أن يركز جهوه في هذه المنطقة، خصوصًا وأن هذا الطريق يمر بمنطقة جبلية، ولا يمكن الخروج منه..".
هذا هو تقرير هيئة العمليات المشتركة، وقد وقعه اللواء موسى لطفي، واللواء عبد الله راشد، والقائمقام أحمد عبد الباري، وبقية ضباط الهيئة، وأقره رئيس هيئة أركان الجيش اللواء عثمان المهدي باشا..
ومعنى هذا التقرير: أن هذه الخطة وُضعت لإبادة قوات الفالوجا عن آخرها، بعد أن تقوم بنفسها بتدمير أسلحتها ونسف ذخيرتها الثقيلة..
ورغم ذلك فإن حيدر باشا لم يفقد ثقته في جلوب باشا إلا بعد أن وضع القائد العام -فؤاد صادق- خطة أخرى، طلب فيها معاونة جلوب لفك الحصار على الفالوجا، فرفض جلوب أن يتعاون في تنفيذ هذه الخطة، وقد وضع فؤاد باشا صادق هذه الخطة في تقرير له، نصه:
إذا أردتم الانسحاب، فيجب أن يقوم جلوب والجيش العراقي بهجوم على بيت جيرين واحتلالها قبل أن تتحرك قوات الفالوجا، إما لتسير إلى بيت لحم، أو لتشترك مع القوات العربية في القتال الدائر.
وحمل الأميرالاي سعد الدين صبور هذه الخطة إلى جلوب باشا، وفي يوم 5 يناير 49 أرسل برقية إلى رئاسة هيئة أركان الجيش يبلغها برفض العراق وشرق الأردن معاونة مصر بإرسال قوة هجوم تساعد قوات الفالوجا على الخروج..
كما قال في هذه البرقية: إن جلوب والملك عبد الله يضغطان على وزارة شرق الأردن لعمل صلح مباشرة مع اليهود.
وأكثر من ذلك..
لقد ثبت أن اليهود كانوا على علم بالخطة التي وضعها جلوب قبل أن يعلم بها السيد طه أو فؤاد صادق، فقد حدث بعد ذلك أن أسرع الصاغ معروف الحضري -وهو الذي حمل تفاصيل الخطة إلى الفالوجا- فكان أول سؤال وجهه إليه رجال قلم المخابرات الإسرائيلي هو:"لماذا لم ينفذ الجيش المصري خطة انسحاب الفالوجا التي وضعها جلوب؟ ".
وهذا السؤال نفسه سمعه رجال رسميون في مناسبة رسمية لا أستطيع ذكرها، ولا أذكر تفاصيلها، وكان ذلك قبل أن تنتهي الحملة..
وكان يجب أن يعلم حيدر باشا أن اليهود على علم بهذه الخطة منذ أن تركوا القافلة المكونة من خمسة وأربعين جملًا التي حملت أوامره، تمر في هدوء إلى الفالوجا دون أن يتعرضوا لها.
وقد أمر السيد طه بنحر أربعين جملًا من هذه الجمال لتموين جنوده، وأعاد خمسة جمال فقط إلى بيت لحم بصحبة معروف الحضري تحمل المرضى وبعض المدنيين، فاعتدى اليهود على هذه القافلة الصغيرة، وأسروا "معروف" وقتلوا واحدًا من الرجال، واستطاع الباقون أن يتشتتوا..
متى انتهى.
وبعد، ألا تكفي هذه الحادثة وحدها للتحقيق؟
وهل لو نفذت خطة جلوب، وأبيدت قوات الفالوجا كاملة، واستحلت دماء رجالها باردة لليهود، فهل كان أحد يفكر في التحقيق؟!
قد لا يكفي كل هذا؛ ولكن حيدر باشا نفسه يعلم أني لم أنتهِ من كل ما يمكن نشره، ويؤدي إلى التحقيق معه، وأنا لم أتعب..
ولكن، مَن يدري؟ قد يكون..
استقالة حيدر باشا:
كتبت هذا المقال في صباح يوم الجمعة وفقًا لمواعيد الطباعة في روزاليوسف، وفي مساء يوم السبت قبلت استقالة حيدر باشا، وكان يجب أن أوقف هذا المقال لأني أعتبر هذه الاستقالة هي نهاية الحملة على حيدر باشا.. النهاية التي كتبها سعادته بيده.. ولكن كان الطبع قد بدأ وربما لم يكن الذنب ذنبي؛ بل هو ذنب حيدر باشا الذي يجهل مواعيد الطباعة في روزاليوسف!!
"إحسان"1.
- رغم نجاح الحملة الصحفية في إرغام قائد الجيش على الاستقالة، وإرغام الحكومة على قبول هذه الاستقالة.. إلا أنه لم تمر سوى أسابيع قليلة حتى حدث تحول كبير في قضية الأسلحة الفاسدة -وهي القضية الأصلية التي أمرت النيابة بمنع النشر حولها- كذلك حدث تغير في سير التحقيق في قضية الفساد في الجيش المتهم فيها محمد حيدر باشا قائد الجيش وعدد آخر من كبار الضباط..
لقد دفع هذا التحول في مسار التحقيق بما يبدو أنه في صالح المتهمين.. وذلك التحول لم يكن بسبب البراءة أو عدم كفاية الأدلة؛ وإنما لحدوث تدخل قوي من "الحكم" من أجل لم التحقيق وتبرئة المتهمين دون وجه حق.. لقد دفع ذلك التحول إحسان عبد القدوس إلى إعادة الكتابة في الموضوع من جديد.. وفي 5 ديسمبر سنة 1950 كتب مقالًا تساءل فيه: أين ينتهي مصير تحقيقات الجيش؟ أشار فيه إلى الشائعات
1 روزاليوسف - 14 نوفمبر سنة 1950.
التي تردد وجود تدخل خارجي في تحقيقات النيابة.. وهدد بأنه يملك وثائق جديدة.. وقال: إن المستندات لا تزال في أدراج روزاليوسف.
لقد كتب إحسان عبد القدوس يقول:
- أين ينتهي مصير تحقيقات الجيش..؟
- إني أطالب بتقديمي للمحاكمة إذا ثبتت براءة المتهمين!..
- المتهمون المفرج عنهم يخاصمون النائب العام!..
- المستندات لا تزال في أدراج روزاليوسف..! 1
1 روز اليوسف - العدد 1173 - 5 ديسمبر 1950.
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- وابتداء من 9 يناير سنة 1951 -أي: بعد حوالي شهر من المقال السابق- بدأ إحسان عبد القدوس إثارة حملة الأسلحة الفاسدة من جديد، رابطًا بينها وبين قضية الفساد في الجيش المتهم فيها محمد حيدر باشا قائد الجيش. وقد حاول أن يتحايل على قرار النيابة بعدم النشر في الموضوع بأن نشرها في صورة ذكريات يحكي فيها قصة إثارته للقضية، ومن خلال هذه الذكريات أخذ يقدم تفاصيل جديدة عن القضية أعطت الحملة الصحفية دفعة قوية، وجمعت حولها الرأي العام من جديد، وقد أخذت الحملة الجديدة عنوان: كيف أثيرت تحقيقات الجيش أمام النيابة؟ والجديد في هذه المقالات أنها نشرت نص الوثائق التي تؤكد أقوال الكاتب، ومنها صورة لعقود التسليح التي أبرمت بين زوجة أحد الضباط وأحد تجار الأسلحة، وغير ذلك من الوثائق الهامة التي دفعت القضية إلى مرحلة جديدة أكثر إثارة للقراء وللرأي العام.
وهذا هو نص المقال الأول في هذه السلسلة، وهو بعنوان:
1-
كيف أثيرت تحقيقات الجيش أمام النيابة؟
في يوليو عام 1949 كنت في إيطاليا، وسمعت هناك عدة أحاديث عن صفقات الأسلحة التي عقدها مندبو الجيش المصري ووكلاؤه، وكانت هذه الأحاديث تشمل تفاصيل دقيقة، وتشمل أرقامًا وتواريخ، وكان يهمس بها في أذني رجال أثق في معلوماتهم بحكم مناصبهم الرسمية، ورغم ذلك فقد كانت مجرد أحاديث، قد تقال في صالون؛ ولكنها لا تصلح للنشر؛ لأنه يعوزها المستندات والأدلة. وهالني بعد ذلك أن هذه الأحاديث لا تدور في أوساط محددة -أقصد أوساط المصريين- بل إنها تدور في كل مكان وعلى لسان كل الناس، وكان يكفي أن تجلس في مقهى "الدونية" بروما، أو تطوف بميدان "الدوم" في ميلانو، ويُعرف عنك أنك مصري؛ حتى تسمع قصة صفقة من صفقات الأسلحة والذخائر!!
وأرسلت من روما برقية إلى "روزاليوسف" ألفت نظر الحكومة المصرية إلى هذه الأحاديث التي تؤذي سمعة مصر وسمعة جيشها، وأطالبها بإجراء تحقيق في هذه الصفقات ومحاكمة المسئولين عنها، وقد نشرت هذه البرقية تحت عنوان "محاكمة مجرمي حرب فلسطين"!
واعتقدت بذلك أني قد أديت واجبي.. وانتهيت!!
وعدت إلى مصر في شهر أغسطس، فتبينت أني كنت مغرورًا عندما اعتقدت أن برقية واحدة تكفي كي تتحرك الحكومة المصرية -بجلالة قدرها- للتحقيق في حادث ما، حتى لو كان هذا الحادث يمس سمعة مصر وكرامتها وهيبتها.. فبدأت أكتب في كل مكان أستطيع أن أكتب فيه، وكنت أكتب تلميحًا لا تصريحًا، وأحرص على ذكر "الجيوش العربية" بدلًا من تحديد الجيش المصري بالذات.. ولكن كان قلمي أضعف من أن يلفت نظر أحد من المسئولين رغم كثرة خطابات التأييد التي كنت أتلقاها من غير المسئولين!
لم يهتم بي أحد، ولم يصدر بلاغ بتكذيب ما ألمحت إليه في مقالاتي، رغم أن بعض هذا التلميح كان أقرب إلى التصريح إلى أن انتهى الأستاذ محمود محمد محمود رئيس ديوان المحاسبة السابق من وضع تقريره، وأشار فيه إلى بعض صفقات الأسلحة والذخيرة إشارة صريحة مدعمة بالوثائق والمستندات، واعتقدت مرة ثانية أن دور الصحافة قد انتهى، واكتفيت بأن أشير في "روزاليوسف" إلى تقرير للديوان، وأنا أحمد الله على أن الحق قد بدأ ينتصر، وأن العدل قد بدأ يأخذ مجراه، وأن سمعة مصر وجيش مصر ستظهر مما علق بها، ومما أذيع عنها في الخارج
…
ولكن تقرير الديوان، لم ينتهِ إلى التحقيق مع المتهمين وإخراجهم من مناصبهم -على أقل تقدير- بل انتهى بخروج رئيس الديوان واضع التقرير، فقد طلب إليه -كما يذكر القراء- أن يحذف من تقريره ما جاء خاصًّا بصفقات الجيش، فأبت عليه كرامته ونزاهته، وفضل أن يستقيل!
وهنا تبينت أن الذين يقفون وراء هذه الصفقات أقوى مما كنت أعتقد، وأقوى من أن ينتصر عليهم قلم؛ بل أقوى من الرأي العام..
ولم أؤيد يومها استقالة الأستاذ محمود، وكتبت أقول: إنه لو اكتفى كل موظف نزيه بالاستقالة، كلما هدد في نزاهته وكرامته، لما بقي لمصر من موظفيها إلا كل من ليس نزيهًا ولا كريمًا.. ثم ناشدت الأستاذ محمود محمد محمود ما دام لم يستطع أن يقاوم، وأن يحتمي في ضمانات منصبه حتى يظهر الحق، ناشدته أن يصدر بيانًا صريحًا بأسباب استقالته.. ولكنه لم يصدر هذا البيان، واكتفى فيما بعد بأن ينشر أنه لم يستقل لأسباب
شخصية، كما قال فؤاد سراج الدين باشا في مجلس الشيوخ، ولم تضع استقالة رئيس ديوان المحاسبة هباء، فقد حمل العبء عنه مصطفى مرعي بك، وحمله في قوة وفي جرأة لم يكن يقدم عليها إلا إنسان كامل كمصطفى مرعي.. وإني أذكر حديثًا دار بيني وبين مصطفى مرعي بك قبل أن يقف وقفته في مجلس الشيوخ بعدة أسابيع، قال لي فيه:"إنني ليس لدى ما أخشى عليه"؛ ولكنك لا تستطيع أن تتصور مدى ما يستطيع هؤلاء الناس أن يرتكبوه في حق الناس، ومدى ما يلزمنا من قوة النفس كي نتحمل ونقاوم ونتقدم، ثم روى لي حادث نجيب الهلباوي، وقد كان الهلباوي وطنيًّا فدائيًّا اتهم في حادث محاولة اغتيال السلطان حسين، وبلغ من قوة وطنيته أنه ضرب والدته عندما جاءته في السجن تغريه بالاعتراف على زملائه، وتقبل الحكم عليه، ثم خرج من السجن فإذا به مضطهدًا حتى من زملائه في الوطنية، وإذا بسعد زغلول نفسه يأبَى عليه وظيفة راتبها ثلاثة جنيهات يعول نفسه منها، وظل هذا الاضطهاد يلاحقه حتى تفتت أعصابه، وانطفأت وطنيته، وباع نفسه للإنجليز نظير عشرة آلاف جنيه، اعترف بها على أولاد عنايت في حادث مقتل السردار!!
وخبط مصطفى مرعي بقبضته على مكتبه -كعادته- وقال وهو يضم شفتيه في قسوة -قسوة على نفسه: "لا بد أن نستمر! " ووقف بعدها في مجلس الشيوخ يقلب صفحات تقرير ديوان المحاسبة، ويطالب بحق مصر في صيانة أموالها وكرامتها وسمعتها وأرواح جنودها وضباطها..
فماذا حدث؟
حدث ما لم يتوقعه أحد، فقد قامت الحكومة ممثلة في فؤاد سراج الدين باشا، تدافع عن التصرفات السوداء التي أوردها ديوان المحاسبة في تقريره..
دافعت عن هذه التصرفات رغم أنها غير مسئولة ولم تقع في عهدها..
وفهم الناس أكثر مما بينه فؤاد سراج الدين في بيانه، وأكثر مما قاله جميع أعضاء مجلس الشيوخ!!
وكما انتهى تقرير ديوان المحاسبة بخروج رئيس الديوان، انتهى استجواب مصطفى مرعي بخروجه من مجلس الشيوخ، وخرج مع الذين أيدوه
في استجوابه، كما عزل رئيس المجلس الذي سمح بأن يسير هذا الاستجواب في مجراه..
وكان يمكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد..
فالسلطة التنفيذية لم تتحرك لاتخاذ إجراء حاسم للتحقيق في صفقات الأسلحة والذخائر..
والسلطة التشريعية لم تجبر السلطة التنفيذية على اتخاذ هذا الإجراء..
وبقيت سلطة واحدة، هل كل ما بقي لمصر من أمل.. السلطة القضائية..
ولكن كيف يثار موضوع هذه الصفقات أمام السلطة القضائية؟
لم يكن هناك إلا طريق واحد؛ هو أن أقدم نفسي للقضاء متهمًا في قضية نشر خاصة بهذا الموضوع!
وهممت بالكتابة..
ولكن ماذا أكتب، ولم يكن تحت يدي -حتى ذلك الحين- مستند واحد أستطيع أن أعتمد عليه، وأن أقدمه للقضاء إثباتًا لحسن نيتي؟
ثم كان يجب أن أكتب عن صفقات غير التي أوردها ديوان المحاسبة في تقريره، وأثارها مصطفى مرعي في مجلس الشيوخ حتى لا يرد عليَّ بأن ما أكتبه سبق أن أثير واتخذ قرار بشأنه، وبذلك أحرم من تقديمي للقضاء، وكنت أعلم أن هناك صفقات لم تثر بعد؛ ولكن -كما سبق أن قلت- لم يكن لدي دليل عليها
…
وبدأت أعمل في جمع الأدلة والمستندات..
وفضلت أن أعمل وحدي، بعيدًا عن أجواء السياسة ورجالها؛ بل بعيدًا عن كل صاحب نفوذ أو صاحب اسم معروف..
وكان عليَّ أن أحسب حسابًا للأغراض الشخصية، والتيارات النفعية، التي تعيش بين كل هيئة، وكل جماعة..
وكان عليَّ أن أتأكد من أن كل كلمة أسجلها هي كلمة نظيفة، وكل ورقة أضع يدي عليها، هي ورقة موثوق بها..
كان عليَّ أن أرتفع فوق الأشخاص، وفوق الأغراض؛ لأن القضية التي أتعرض لها ليست قضية شخص ولا قضية غرض خاص؛ إنما هي قضية الجيش الذي تتعلق بأطراف أسلحته وسواعد رجاله كرامة مصر..
وكان يعمل معي شبان فاضت بهم حماستهم، وامتلأت صدورهم غيرة على جيشهم، وتحرروا من كل مطمع إلا أن يُؤمِّنوا مستقبل مصر، ويطهروا حاضرها.. وإلى هؤلاء الشبان يرجع الفضل في كل شيء، إن كان هناك فضل يُذكر..
وكنا نجتمع بطريقة خاصة، ويتصل أحدنا بالآخر بطريقة خاصة أشبه بما كنا نقرأ ونحن صغار في القصص البوليسية.. وكنا نبحث عن مستندات صفقة شراء 16 مدفع 105 م. م، عن طريق شركة "أوليكن"، عندما وقع في يدنا عقد شركة بين زوجة أحد الضباط وتاجر أسلحة..
ولهذا العقد قصة أُرجئها إلى الأسبوع القادم1..
1 روزاليوسف - 9 يناير سنة 1951.
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- وفي الحلقة الثانية من مقالات: كيف أثيرت تحقيقات الجيش أمام النيابة؟ كشف إحسان عبد القدوس عن قصة علي عبد الصمد تاجر السلاح -والصديق القديم للكاتب- وهو الذي أحضر له أول مستندات القضية، وكيف قبل أن يذهب معه إلى النيابة ليشهد ضد زملائه من تجار الصلاح.. وكان هدفه أن يدفع بالجماعة المنافسة له إلى السجن، وإذا بشهادته تنتهي بالقبض عليه بنفس التهمة باعتباره شريكًا في استيراد الأسلحة الفاسدة!..
وهذا هو نص المقال الثاني في هذه السلسلة:
قلت في الأسبوع الماضي: إنني كنت أجمع تفاصيل صفقة شراء 16 مدفعًا 105 م. م من إسبانيا عن طريق شركة أوليكن عندما وقع في يدي عقد شركة بين زوجة أحد الضباط وتاجر أسلحة.. أما كيف وقع العقد في يدي، فهي قصة الفضل فيها للحظ وحده..
فقد اتصل بي أحد أصدقائي الشبان، وأبلغني نبأ وجود مثل هذا العقد، كما سلمني ورقة كتبت عليها نصوص العقد بالقلم الرصاص، وبخط إنسان لا أعرفه، وعندما عرفته أقسمت ألا أبوح باسمه..
وكان الخبر مثيرًا.. فإن العادة لم تجرِ بأن تتاجر زوجات الضباط بالسلاح؛ بل لو تاجرت أي امرأة بالسلاح، لكان الخبر مثيرًا، حتى لو لم تكن زوجة أحد الضباط..
ويزيد في أهمية الخبر، أن الضابط الزوج كان صديقًا لإبراهيم المسيري بك رئيس لجنة الاحتياجات التي تتولى عقد صفقات الأسلحة، وكان أركان حرب سلاح المهندسين، وكان عضوًا في لجنة استلام الثكنات البريطانية، فإذا كانت زوجته تتاجر بالأسلحة وهو يتولى هذه المناصب الدقيقة المتصلة بصفقات الجيش، فلا بد أن وراء هذا العقد شيئًا.. ولكني لم أهتم بالبحث عما وراء العقد؛ بل حصرت همي كله في الحصول على العقد نفسه؛ لأنه وحده دليل على اتجاهات بعض الضباط، وعلى أن المشرفين على عقد صفقات الجيش والمتصلين بهم، ليسوا فوق مستوى الشبهات.. ثم هو دليل يثبت حسن نيتي أمام المحاكم مهما قلت بعد ذلك، ومهما واجهت من اتهامات!!
وقلت لصديقي الذي حمل إِلَيَّ خبر هذا العقد: إنني لا أستطيع أن أنشر شيئًا عنه، إلا إذا حصلت على العقد نفسه؛ لأن نشره هو توجيه تهمة خطيرة
محددة يعاقب عليها القانون، إلا إذا استطعت إثباتها، ودليل الإثبات لا يمكن أن يقوم إلا بإبراز العقد نفسه..
وقال الصديق: إن هناك أربعة فقط في مصر كلها يعلمون خبر هذا العقد وهم طرفاه، والشخص الذي نقل نصوصه بالقلم الرصاص، وهو.. وقد أصبحوا خمسة بعد أن عرفت أنا به.. أما طرفاه فليس من مصلحتهما نشر العقد وإثارة ضجة حوله، فكلاهما متهم، أما الشخص الآخر فقد يملك صورة من العقد؛ ولكنه لا يريد أن يبرزها.. وذهبنا إلى هذا الشخص الآخر، وكنا خمسة من الشبان، وكان تجمعنا بعضنا مع بعض يكفي ليخيف أي إنسان؛ ولكننا لم نحاول أن نخيف أحدًا؛ إنما استطعنا أن نقنع الشخص المذكور، بأن من مصلحة القضية أن يسلمنا صورة العقد.. وفي صباح اليوم التالي سلمها لنا، وكانت صورة فوتوغرافية واضحة..
وبقي سؤال:
كيف استطاع هذا الشخص أن يحصل على هذه الصورة قبل أن يسلمها لنا؟ وهو سؤال حير سعادة النائب العام، ولم يجد أمامه تعليلًا إلا بأن يعتقد أني قد حصلت على هذا العقد من تاجر السلاح الذي هو طرف فيه. وهو ما اعتقدته أيضًا حرم الضابط، وأعلنته أمام النيابة، فقد اعتقدت أن الخلاف الذي وقع بين زوجها وبين تاجر السلاح وهو طرف فيه، دعا هذا الأخير، إلى التشهير عن طريقي، وقيل أيضًا: إني اشتريت هذا العقد من تاجر السلاح بمبلغ مائتي جنيه..
وعندما سئلت في التحقيق عن المصدر الذي حصلت منه على هذا العقد، رفضت الإجابة، محتجًّا بسر المهنة الذي يصونه لي القانون..
والحقيقة التي أبَى أن يصدقها الجميع، هو أني لم ألتقِ بتاجر الأسلحة، إلا بعد أن حصلت على هذا العقد فعلًا، وقد سعيت إلى لقائه لأتأكد من صحة العقد وقد أكدها لي، وقال: إن هذا العقد كتب في قهوة "بالميرا" بمصر الجديدة، وقد كتب بخط الضابط نفسه لا بخط زوجته، ثم حمله -أي: الضابط- إلى بيته، وعاد به موقعًا من الزوجة..
وقال لي تاجر السلاح: إنه لم يلتقِ بالزوجة أبدًا، ولم يقصد التعاقد معها؛ إنما العقد كان قائمًا في الواقع بينه وبين الضابط، وقد حاولا مرارًا الاستفادة منه، كما أن هذا الضابط هو الذي قدمه إلى إبراهيم المسيري بك، عندما أراد -أي: تاجر السلاح- أن يشترك في توريد الأسلحة والذخائر للجيش المصري..
كما أبرز لي التاجر عدة عطاءات قدمها للجنة الاحتياجات لتوريد أسلحة، وعدة برقيات متبادلة بينه وبين أصحاب مصانع الذخيرة في فرنسا..
ولو أن هذه العطاءات قبلت؛ لكان الضابط -أو زوجته- شريكا في أرباحها بنسبة 45% كنص العقد..
فإذا كان العقد لم ينفذ -كما قيل في التحقيق- فإنه لم ينفذ لسبب خارج عن إرادة الطرفين؛ وهو ما يسميه القانون "الجريمة الخائبة"..
بل إن هذا العقد يمكن اعتباره قد نفذ، إذا علمنا أن تاجر الأسلحة قد عقد صفقة توريد أسلحة للحكومة السورية -كما اعترف لي- حتى لو لم يكن الطرف الثاني -أي: الضابط- يعلم بخبر هذه الصفقة، وذلك كنص المادة الخامسة من العقد التي جاء فيها:
"لا يحق لأي من الطرفين سواء الأول أو الثاني بالتعاقد أو التعامل أو بيع أو شراء أي أسلحة وما يشابهها أو أجهزة أو أدوات أو مهمات، مما تفيد الحروب لمصلحة قضية البلاد العربية، أو قضية العرب بفلسطين بدون علم الطرف الآخر، وأي تعاقد يظهر يكون كل من الطرف الأول والثاني مشتركين فيه، وتكون نسبة الأرباح موزعة بينهما كما هو مدون بالفقرة الرابعة من هذا العقد"..
ومعنى هذه المادة أن زوجة حضرة الضابط تعتبر شريكة في أي صفقة سلاح يعقدها التاجر، حتى لو لم تتم هذه الصفقة بعلمها..
ومع ذلك، فإني -كما قلت- لم أهتم بالعمليات التي ترتبت على هذا العقد؛ بل اعتبرت العقد في حد ذاته واقعة خطيرة، ثم اهتممت بمظاهر الثراء التي تحيط بالضابط، وكان قد بلغني أنه عضو في نادي السيارات، وأنه يشترك هناك في لعبة "البكاراه" فاتصلت بمفتي باشا محمود باعتباره عضوًا في النادي فأكد لي الواقعة، ثم جمع شهودًا آخرين على أن هذا الضابط كان يشتغل في مكتب إبراهيم باشا خيري وكيل وزارة الدفاع الأسبق، وأحد رجال الشركات الآن، ثم اشتغل في مكتب عمر سيف الدين، وهو ضابط على الاستبداع وأحد موردي السلاح للجيش المصري، وشريك
الأميرالاي حلمي حسين بك مدير الركائب الملكية، في شركة "دلتا موتورز"، وقد وضعت جميع هذه المعلومات أمام النائب عندما استمع إلى شهادتي، ثم طلبت الاستماع إلى أقوال تاجر السلاح في مواجهتي..
ولم يكن تاجر السلاح مقيمًا في بيته في القاهرة؛ بل كان في الإسكندرية، ولم يكن له فيها عنوان معروف..
وسألني النائب العام: أين يمكن العثور عليه؟
قلت: إنه ابن ذوات معروف، وهو يتردد كل ليلة على نادي "الاسكرابية"..
ودعا النائب العام ثلاثة من رؤساء النيابة الذين اختارهم ليعاونوه في التحقيق وقال لهم:
- إنكم جميعًا أولاد ذوات، فهل تعرفون علي عبد الصمد "اسم التاجر"؟!
وأجابوا النفي..
وعاد يسألهم
…
- هل تعرفون نادي الاسكرابية؟
وأجابوا بالنفي..
واتصل النائب العام بمحافظة الإسكندرية، وطلب استدعاء علي عبد الصمد إلى مكتبه في اليوم التالي، وأبلغها أن محله المختار هو "نادي الاسكرابية" أو "نادي الجعران الليلي" كما هو باللغة العربية..
واتصل رجال المحافظة بنادي الاسكرابية، فلم يعثروا على علي عبد الصمد..
وذهبت أنا إلى هناك في الساعة الثالثة صباحًا، فوجدته واتفقت معه على أن نتوجه سويًّا في الساعة العاشرة إلى النائب العام.. وكان مستعدًّا -كما كان دائمًا- لأن يتكلم.. وكنت أعتقد أن النائب العام سيسمع أقواله كشاهد، وكان قد غاب عن ذهني تمامًا أن القانون ينطبق في مثل هذه الحالة على التاجر والموظف..
واستطاع النائب العام أن يكتسب ثقة عبد الصمد، بعد أن حدثه عن عائلته وعن خاله إبراهيم بك يحيى المستشار بمجلس الدولة، ثم بدأ يستمع إلى أقواله..
ولاحظت أنه لم يحلفه اليمين القانونية، التي يحلفها الشهود قبل أن يدلوا بأقوالهم؛ ولكنها كانت ملاحظة عابرة لم تستقر في ذهني طويلًا..
وبدأ عبد الصمد يتكلم فقال كل ما قاله لي وأكثر، وأبرز العقد الأصلي، وجميع أوراقه التي تشمل العطاءات التي تقدم بها إلى وزارة الدفاع، وروى حادث وكيل مصانع الأسلحة الذي استدعاه -أي: علي عبد الصمد- إلى مصر فإذا به يختطف، ويحيط به جماعة من المتعاملين مع لجنة الاحتياجات؛ ليتعاقدوا معه مباشرة.
روى علي عبد الصمد كل هذه الوقائع في صراحة وإسهاب، مؤيدًا أقواله بالمستندات، ثم إذا به يفاجأ -وأفاجأ معه- بالنائب العام وهو يوجه الاتهام إليه..
واصفر وجه علي عبد الصمد، وسكت عن الكلام، ونظر إليَّ نظرة عتاب، وكأنه يقول لي:"عملتها في!! " أو كأنه يتهمني باستدراجه لأقف به أمام النيابة موقف الاتهام، وهو حتى اليوم لا يزال يعتقد أني "عملتها فيه! ".
والواقع أني كنت حسن النية، وكنت جاهلًا بالقانون، وحتى لو لم أكن جاهلًا به لما سعيت لأن أعفي أحدًا من نصوصه إذا انطبقت عليه، فإن الأشخاص لم يكن لهم قيمة في نظري أمام الوقائع، حتى لو كانوا أقرب المقربين إِلَيَّ..
وقبض على التاجر وأفرج بكفالة خمسين جنيهًا.. وقبض على زوجة الضابط وأفرج عنها بكفالة.. وقبض على الضابط وبقي في الحبس حوالي خمسة أشهر..
ولكن هذه الحادثة في حد ذاتها لم تكن ذات قيمة؛ وإنما الضابط المقبوض عليه كان يستطيع أن يتكلم، وأن يتكلم كثيرًا، وكنت قد ذكرت في المقال الذي أذعت فيه خبر هذا العقد: "لو حدث وثارت الريب في نفس صاحب المعالي
الوزير، فقد أمسك بطرف خيط طويل، قد يؤدي به إلى كل شيء، فهذا الضابط ليس هو كل شيء؛ بل هو بعض الشيء".
وكان يجب إقناع الضابط بأن يتكلم..
وقد اقتنع، بعد أن خيل إليه أن رؤساءه قد تخلوا عنه، وأنه هو وحده الذي سيتحمل المصيبة كلها، وعندما تكلم جر الجميع معه إلى السجن، وكان هذا هو ما نسعى إليه..
ورغم ذلك فلم تكن قصة هذا العقد هي أول ما نشرته؛ بل بدأت بنشر تفاصيل صفقة شراء 16 مدفعًا 105 م. م عن طريق شركة أوليكن التي يمثلها في مصر النبيل عباس حليم.. وهي صفقة أرجو أن يرفع الحظر عنها قبل أن أبدأ في روايتها في العدد القادم1.
- وفي الحلقة الثالثة من هذه السلسلة أشار إحسان عبد القدوس إلى أربع وقائع هامة؛ وهي: شراء 16 مدفعًا عن طريق شركة أوليكن.. وواقعة شراء 250 ألف قنبلة يدوية.. وواقعة شراء المراكب "لوتشيا" التي سميت الغردقة.. ثم واقعة تعاقد زوجة أحد الضباط مع أحد موردي السلاح، وهذا هو نص المقال الثالث:
3-
كيف أثيرت تحقيقات الجيش أمام النيابة؟
- ماذا يعني لقب "النبيل الشريف"؟
- الرجل الإنجليزي الذي أدلى بشهادته..
- هل أنا مهدد بالقتل؟
شمل قرار الاتهام الخاص بقضية الجيش الذي أذاعته النيابة العامة في الأسبوع الماضي أربع وقائع:
1-
واقعة شراء 16 مدفعًا 105 م. م عن طريق شركة أوليكن.
2-
واقعة شراء حوالي 250 ألف قنبلة يدوية عن طريق شركة "كستروسيوني ميكانيكا".
1 روزاليوسف - 16 يناير سنة 1951.
3-
واقعة شراء المركب "لوتشيا" التي سميت "الغردقة".
4-
واقعة تعاقد زوجة أحد الضباط مع أحد موردي السلاح.
وهذه الوقائع الأربعة هي الوقائع التي قدمتها "روزاليوسف" إلى النيابة العامة؛ لتحقق مع المسئولين عنها..
ورغم ذلك -رغم أن النيابة أثبتت صحة جميع الوقائع التي تقدمت بها- فإني أعترف وأقر أني عندما وقفت أمام النائب العام لأول مرة لم أكن أعتقد أن سعادته سيستمر في التحقيق حتى نهايته، أو أن الظروف ستمكنه من ذلك، ومع أنه كان يستمع إلى أقوالي كشاهد فإني كنت أخشى أن يعتبرني متهمًا بين كل لحظة وأخرى، وكانت التهمة التي يمكن أن يوجهها إليَّ تهمة خطيرة بالنسبة إلى سمعة كاتب مثلي ومستقبله، وهي تهمة "التشهير بالجيش"، وكنت أخاف هذه التهمة، رغم أني كنت حريصًا في كل مقال كتبته على تمجيد ضباط الجيش وجنوده، وعلى تعداد السوابق المماثلة التي حدثت في الجيوش الأجنبية الأخرى.. وقلت في إحدى هذه المقالات:
"
…
لن أسكت قبل أن أطالب بحق الذين استشهدوا وجرحوا وشوهوا في فلسطين، وإسرائيل براء من دمائهم.. حقهم في الانتقام من المجرم، وحقهم في أن تكون تضحياتهم ثمنًا لجيش أفضل، ولوطن أفضل، ولسلاح أفضل.. سلاح نقتل به العدو.. ولا يقتل صاحبه".
وقلت:
"إذا كانت الرشوة دعاية سيئة، فإن التستر على رشوة دعاية أسوأ، وإذا كانت الجريمة لها خطر محدود، فإن التستر عليها أخطر، وإذا كان الرأي العام ينقم على المتهم في مثل هذه الجرائم، فإن السكوت عليها يجعل الرأي العام ينقم على المتهم وعلى البريء معًا".
وكان لي عذري في هذا الشك الذي داخلني وأنا أقف أمام النائب العام؛ فإن هذه الجرائم التي أعرضها عليه، سبق أن اكتشف مثلها ديوان المحاسبة ولم يستطع أن ينال المسئولين عنها، وسبق أن سمعت الحكومة بها فلم تتحرك لتحقيقها، وسبق أن أثير مثلها في مجلس الشيوخ، فلم يستطع حيالها
شيئًا، والنيابة العامة التي أقف أمامها هي جزء من السلطة التنفيذية -كما قررت محكمة النقض- وهي تخضع أحيانًا للتيارات السياسية والحكومية.. وجميع هذه التيارات تقف ضدي، وتهددني في حريتي ومستقبلي، فمن يضمن لي السلامة؟!
كان هذا هو شعوري في اليوم الأول الذي أدليت فيه بشهادتي؛ ولذلك كنت حريصًا على اختيار كل لفظ أنطق به، وعلى ألا أواجه اتهامًا إلا وتحت يدي مستند قاطع بصحته؛ بل حرصت وأنا أسلم هذه المستندات إلى النائب العام أوقع عليها بإمضائي، وأن أطلب من سعادته أن يوقع عليها بإمضائه؛ زيادة في الحرص، كما أني كنت أرفض أن أسجل في التحقيق أي حادثة سمعت تفاصيلها دون أن أحصل على مستنداتها، وقد أثار هذا الحرص سعادة النائب العام، "وشخط" فِيَّ مرة صائحًا:
- أنت عامل جريء، عامل نفسك وطني متطرف، وبيتحدى ناس كبار، ماتورينا جرأتك دي!
وأجبت في هدوء:
- إني جريء في حدود القانون!
ثم قلت له في صراحة:
- مَن يضمن لي ألا تجعل مني متهمًا وتقبض عليَّ؟
فأجاب:
- لا أحد.. وسأقبض عليك بمجرد أن أرى ذلك!
وكنت في أحوال كثيرة أرفض أن أجيب على بعض الأسئلة إلا بعد استشارة أصدقائي المحامين الذين يشاركونني سوء الظن، وكانوا عندما أعود إليهم ينصحونني ألا أجيب إلا في حدود ما بين يدي من مستندات، وهذا الحرص الذي أبديته جعل النائب العام يعاملني معاملة خشنة، فلم يسمح لي بشرب القهوة طوال مدة الإدلاء بشهادتي التي استمرت ثلاثة أيام، وكان يسمح لي بالتدخين بعد رجاء وإلحاح، وبعد أن أهدد بالتوقف عن الإدلاء بأقوالي..
وفي اليوم الأول كنت متعبًا، فقد غادرت القاهرة في قطار الصباح، ولم أكن قد نمت في الليلة السابقة لكثرة تفكيري في هذا التحقيق، ثم إني بدأت
أدلي بأقوالي في الساعة العاشرة صباحًا حتى الرابعة مساء دون أن أستريح، ودون أن أشرب قهوة، ودون أن أغفو أو أريح رأسي من التنبه اليقظ لكل سؤال وجواب، وبدأت أحس بدوار، وطلبت من سعادة النائب العام أن يريحني، وأن يؤجل التحقيق لليوم التالي؛ ولكنه رفض وقال بحدة:
- لن أتركك تغادر هذا المكتب حتى تتم أقوالك ولو اقتضى الأمر أن تبيت هنا.. وما أدراني؟.. ربما قتلت بعد أن تخرج من هنا، فكيف أتم التحقيق؟!..
قلت، وعلى فمي ابتسامة متعبة:
- التحقيق في مقتلي، أو في صفقات الجيش؟!
- إن مقتلك يحققه أي وكيل نيابة، أما أنا فيهمني تحقيق هذه الادعاءات!
وكان النائب العام يغالي وهو يتحدث عن قتلي، ولم يكن قطعًا يقصد أي نوع من الإيماء، ورغم ذلك فقد فلت لسعادته أنني قد هددت فعلًا بالقتل قبل أن يستدعيني إليه، وكان التهديد بواسطة التليفون، ولم أبلغ عنه النيابة؛ لأني سبق أن أبلغت النيابة عن تهديد وصلني منذ عامين، فكانت النتيجة أن عين أحد رجال البوليس السري لحراستي، وكان هذا الرجل يتبعني في كل مكان، حتى خيل إلي أنه يراقبني وأني مقبوض علي، لا "محروس"، فطلبت إعفاءه وإعفائي من خدماته المشكورة..
وكان أطول نقاش دار بيني وبين سعادة النائب العام، هو النقاش الخاص بالنبيل عباس حليم، وكيل شركة أوليكن في مصر، التي تولت توريد 16 مدفعًا 105 م. م من إسبانيا بمبلغ قدره خمسة ملايين من الدولارات تقريبًا..
وكنت قد تتبعت هذه الصفقة من أولها إلى آخرها؛ أي: منذ تقدمت الشركة بعطائها إلى أن وصلت بعض هذه المدافع إلى مصر، وحصلت على أسماء جميع المتصلين بها، وأسماء جميع الضباط الذين علموا شيئًا عنها، وأسماء أعضاء اللجان التي اختبرتها؛ بل حصلت على تاريخ حياة كل مدفع والمكان
الذي وُضِعَ فيه، والمرات التي طُلب فيها تجربته، ورَفْضِ المختصين إجراء هذه التجربة؛ خوفًا على حياتهم منها..
وقدمت كل هذه المعلومات إلى النائب العام، وقدمت معها الصورة الأصلية للعقد الذي اشتريت به هذه المدافع، والمذكرة التي اشتريت على أساسها، والمذكرة التي قدمتها شركة "بوفرز"، وكان المسئولون في الوزارة قد أخفوها حتى لا تقع في أيدي المحققين..
وقد لا يعلم النائب العام أن هذه الأوراق -رغم علمي بمحتوياتها- لم تصلني إلا في صباح اليوم الذي سافرت فيه من القاهرة إلى الإسكندرية لأدلي إليه بشهادتي، كما لم يلاحظ النائب المحترم الأستاذ عبد الغني أبو سمرة المحامي -الذي تفضل وسافر معي ليقف بجانبي- أن هناك شخصًا طويل القامة احتك بي في محطة مصر، ودس في يدي مجموعة من الأوراق.. وكانت هي هذه الأوراق..
وقد وضعت هذه الأوراق في حقيبتي، ولم أخرجها إلا في مكتب النائب العام، وقد فوجئت ساعتها بوجود توقيع توفيق باشا أحمد على العقد!
وسألني النائب العام "وأنا أكتب من الذاكرة":
- ما معلوماتك عن النبيل عباس حليم في هذه الصفقة؟
- إنه وكيل شركة أوليكن في مصر..
- وما هو الدور الذي قام به في توريد هذه الصفقة؟
- لا أدري.
- ما مسئوليته؟
- إن النبيل نفسه يستطيع أن يحدد مسئوليته!
- لقد ذكرت في مقالاتك اسم النبيل عباس حليم تحت عنوان: "النبيل الشريف"، فماذا تقصد بهذا العنوان؟
- إن عباس حليم يحمل لقب نبيل؛ لأنه أحد أفراد العائلة المالكة، وقد سبق للوفد المصري أن أطلق عليه لقب "شريف" عندما حرم من لقب نبيل في عهد الملك فؤاد!
- ولكن العادة لم تجرِ بالجمع بينهما؟
- أقصد المعنى الظاهر منهما!
- يفهم من هذا العنوان أنك تتهم النبيل عباس حليم في نزاهته؟
- أنا لا أتهم أشخاصًا؛ بل سردت وقائع، وما يهم النيابة هو أني رجوته أن يصدر بيانًا يشرح فيه وقائع هذه الصفقة ويحدد موقفه منها..
واستمرت المناقشة على هذا المنوال، وكان النائب العام يحتد خلالها ويحرص على أن يلقبني بلقب "أفندي"!
وانتهى الأمر بيني وبين النائب العام على أن أدلي له بما لدي من معلومات ينقصها المستندات، ثم يتولى سعادته تحقيقها حتى إذا تثبت من صحتها ذكرها على لساني في التحقيق، وقلت له وقائع كثيرة، كان يتولى التحري عنها في التو واللحظة.. وبدأت أثق فيه، وأطمئن إليه، وأؤمن به..
وكان أول ما كتبته في الصحف بعد أن انتهيت من الإدلاء بشهادتي هو نداء إلى الجمهور، بأن يرسل ما لديه من معلومات عن صفقات الجيش إلى النائب العام، ولو في "بلاغ من مجهول".
وعدت إلى النائب العام على وعد بأن أوافيه بكل ما أحصل عليه من معلومات جديدة..
ومضت أسابيع..
وكنت في زيارة صديق يقيم في أحد الفنادق الكبرى، عندما التقيت في البهو الخارجي بسيدة مصرية معروفة، حادثتني مليًّا عن قضية الجيش، ثم قدمتني إلى رجل إنجليزي من رجال الأعمال، قالت لي عنه: إن لديه معلومات هامة عن إحدى صفقات سلاح البحرية..
وقال الرجل الإنجليزي: إنه لا يريد أن يتدخل في هذه القضية أو يُذكر اسمه فيها؛ ولكنه سمع عني وسمع عن مدى اهتمامي بأمر هذه الصفقات، ثم إن مصر قد أكرمته كثيرًا، وأقل ما يستطيع أن يرد به كرمها هو أن يدلي بما لديه من معلومات خطيرة عن صفقة تمت على حساب مصالح الجيش ومصالح مصر.
والتقينا في اليوم التالي على مائدة شاي في مكان بعيد، وكان معنا السيدة المصرية المعروفة.. وبدأ يحدثني عن صفقة شراء ناقلة السوائل "لوتشيا" التي اشتراها السلاح البحري الملكي، وأطلق عليها اسم الغردقة.
إن هذه المركب عرضها أحد التجار -واسمه "الكابتن عزو"- على السلاح البحري بمبلغ 22 ألف جنيه تقريبًا.. ورفض السلاح البحري شراءها بحجة أنه ليس في حاجة إليها، وبعد ثلاثة أشهر اشترى السلاح البحري هذه المركب بالذات بمبلغ 36 ألف جنيه تقريبًا..
وهذا في حين أن ثمن المركب الأصلي لا يزيد عن 16 ألف جنيه!!
وسلمني الرجل الإنجليزي الكريم المستندات الخاصة بالمكاتبات بين التاجر حسن عزو والسلاح البحري الملكي. وكانت مستندات لا تقبل الشك، ورغم ذلك فإني لم أسلمها إلى النيابة توًّا، كما لم أنشر عنها شيئًا؛ لأن أمر الحظر كان قائمًا؛ إنما أرسلت بعض أصدقائي إلى الإسكندرية ليتأكدوا من واقعة شراء هذه المركب بالذات بمبلغ 36 ألف جنيه، كما تأكدت من هذه الواقعة عندما عثرت على صورة هذه المركب في مكتب التاجر الذي تولى بيعها للسلاح البحري.. واستغرقت هذه التحريات أربعة أسابيع، توجهت بعدها إلى النيابة العامة، وسلمت هذه الأوراق إلى الأستاذ مختار بك قطب الذي يتولى التحقيق في صفقات البحرية، وعندما اطلع عليها في مكتب النائب العام شد على يدي مهنئًا، فقد كان يبحث بنفسه عن أسرار هذه الصفقة!
وأدليت بأقوالي أمام الأستاذ مختار قطب، ولم أذكر اسم الرجل الإنجليزي ولا أشرت إليه؛ احتفاظًا بسر المهنة؛ ولكن استمرار التحقيق وتشعب أطرافه دل على اسمه، فاستُدعى كشاهد وأدلى بأقواله في مواجهتي، ثم قمت بترجمة هذه الأقوال له إلى اللغة الإنجليزية قبل أن يوقعها بإمضائه، وثبتت الواقعة واتهم بها أمير البحار وياور جلالة الملك أحمد بدر بك.
وبعد.. فإني لم أنتهِ من ذِكْرِ جميع وقائع التحقيق.. ولكني أكتفي بهذا القدر إلى أن تُنظر القضية.. حتى لا أتعرض لأسرار ليس من صالح القضية إزاحة الستار عنها الآن1.
1 روزاليوسف - 23 يناير سنة 1951.
يوجد صورة سكانر
يوجد صورة سكانر
- استمرت التحقيقات في قضية الأسلحة الفاسدة، ثم نام التحقيق؛ بسبب دخول أسماء كبيرة ومعروفة منهم "فاروق" نفسه؛ لذلك لم تجد روزاليوسف بُدًّا من أن تعود لتثير القضية من جديد، وكان ذلك في مايو سنة 1951، وخاصة بعد أن أوقف التحقيق الخاص بالفساد في الجيش.. وعودة محمد حيدر باشا قائد الجيش المستقيل إلى منصبه!..
ففي أول مايو سنة 1951 كتب إحسان عبد القدوس مقالًا بعنوان:
حيدر يعود والشهداء لا يعودون!..
نكتفي بنشر الجزء التالي منه:
حيدر يعود، والشهداء لا يعودون..
الخط العريض الذي يسير فيه الجيش..
مطلوب من الوزير أن يكون صفرًا..
سياسة المساومة هي سياسة الوفد..
في شهر أكتوبر الماضي كتبت سلسلة مقالات عن تصرفات الفريق محمد حيدر باشا عندما كان وزيرًا للحربية إبَّان حملة فلسطين..
ولم أطالب في هذه المقالات باستقالة حيدر باشا من منصب قائد عام القوات المسلحة..
ولم أتهمه بمحاولة التأثير على الشهود في قضية صفقات الأسلحة؛ بل إني برأته من كل مسئولية جنائية عن هذه الصفقات، وأكدت في أكثر من مناسبة طهارة ذمته وطيبة قلبه؛ ولكني استشهدت بقول الشاعر القديم:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
كل ما طالبت به في هذه المقالات الطوال إجراء تحقيق مع الفريق محمد حيدر باشا في أسباب فشل حملة فلسطين، ولم أطالب بالتحقيق معه تحقيقًا مباشرًا؛ بل طلبت التحقيق في أسباب الهزيمة وتحديد المسئولين عنها،
وتوقيع العقوبات الإدراية عليهم، وإن كنت قد حصرت المسئولية بعد ذلك في حيدر باشا، لا لأني كنت أتعقبه شخصيًّا؛ بل لأن جميع الحوادث والوثائق الرسمية التي اطلعت عليها -والتي لا تزال تحت يدي- كانت تنتهي إليه وإلى تصرفاته، وقد قلت يومها بالحرف الواحد:
"ليس ذنبي أن تنحصر المسئولية في حيدر باشا؛ بل ليثق معاليه أني تعبت وتعب معي قلمي لأعفيه من المسئولية، أو من بعض المسئولية؛ ولكن عبثًا، فكل مستند كان يقع في يدي كان ينتهي إليه، وكل تصرف أو إجراء أو عملية تمت خلال الحملة كانت تتم بعلم معاليه وموافقته.. فهو مسئول دائمًا، ومسئول أولًا، ومسئول أخيرًا".
وكانت هذه الوثائق التي نشرتها، كلها وثائق رسمية محدودة التاريخ والصورة، وكانت تثبت أن حيدر باشا يتدخل في وضع الخطط الحربية، وفي إصدار أوامر التقدم رغم معارضة القواد، وفي إرسال فرق كاملة إلى القتال لتموت دون أن يدرب أفرادها؛ بل دون أن يلقنهم مبادئ الدفاع عن النفس، ثم يسد أذنيه عن صراخ المواوي وهو يشكو نقص تدريب الجنود، ويشكو فساد الأسلحة وفساد حتى سيارات النقل، ويشكو من التدخل في سلطاته، ويشكو من إجباره على الاستعانة بضباط معينين رغم عدم ثقته بهم
…
إلخ!!
ولم أكتفِ بهذه الوثائق الصارخة الدامغة لإقناع المسئولين بضرورة إجراء تحقيق في أسباب هزيمة فلسطين؛ بل استشهدت بالتاريخ.. تاريخ الجيوش العريقة التي تعتز بتقاليدها، والتي تحرص على معالجة مواضع الضعف فيها، وتحرص على أن تتجنب الوقوع في خطأ سبق أن وقعت فيه، وتأبَى أن تضع أرواح جنودها وضباطها في أيدي قواد جهلة عاجرين، حتى لو كان هؤلاء القواد من أبطال الفضيلة والنزاهة والشرف.. وقلت: إنه حدث مثل هذا التحقيق عندما هزم الجيش البريطاني في حرب البوير، وحدث مثله في الحرب العالمية الأولى عقب أسر فرقة إنجليزية بكامل معداتها في معركة "كوت العمارة" بالعراق، وحدث تحقيق آخر عقب فشل حملة الدردنيل، وفي كل مرة كان يتراجع فيها الجيش البريطاني، في الحرب الأخيرة كان يجرى تحقيق ينتهي بعزل القائد حتى تتابع على قيادة القوات البريطانية في الشرق خمسة قواد، كان آخرهم مونتجمري..
كتبت كل هذا بالتفصيل الذي لا يدع مجالًا للشك في ضرورة التحقيق في أسباب هزيمة فلسطين، والتحقيق مع الفريق حيدر باشا بالذات، ثم
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
انتهت هذه المقالات باستقالة سعادته من منصب القائد العام للقوات المسلحة.
- وفي نهاية نفس الشهر "مايو سنة 1951" طرق إحسان عبد القدوس زاوية جديدة في موضوع حملة الأسلحة الفاسدة.. إذ أخذ يكشف قصة المؤامرة على قضية الأسلحة الفاسدة، وكيف تم الضغط على النائب العام "محمد عزمي بك" الذي وقف في بداية التحقيقات موقفًا صُلْبًا لحماية العدالة؛ ولكن ما لبث بعد فترة قصيرة أن استجاب للضغط، وحاول أن ينحرف بالتحقيق، ويتستر على بعض كبار المتهمين من أصحاب النفوذ.. وكتب إحسان عبد القدوس سلسلة مقالات بعنوان:
"من يستطيع أن يروي قصة المؤامرة؟ ".
وشرح في المقال الأول التفاصيل الكاملة للظروف التي تم فيها التحقيق في قضية الأسلحة الفاسدة.. وكيف تم الضغط على النائب العام للانحراف بالتحقيق:
1-
من يستطيع أن يروي قصة المؤامرة؟
- النائب العام لا يريد أن يتكلم؛ لأن له ثمانية أولاد.
- وزير العدل كان محاميًا عن متهم بالعيب في الذات الملكية.
- تدخل سراج الدين باشا في القضية أثار أزمة..
- الأثر الذي تركته قضية القطن في قضية الجيش.
- الأسباب التي استقال من أجلها حيدر باشا لا تزال قائمة.
قال النبيل عباس حليم على لسان محاميه في قضية الجيش: إن هناك مؤامرة!
فلتكن هناك مؤامرة..
ولكن، من يستطيع أن يروي قصة هذه المؤامرة؟!
إني شخصيًّا لا أستطيع، أو على الأقل لا أستطيع أن أكتب وأنا مطمئن إلى أن القانون يقف بجانبي؛ لأن المؤامرت تتميز دائمًا بأنها تتم
بلا مستندات، والقانون يحتم على الكاتب أن يجمع مستنداته قبل أن يكتب..
ثم إني أبعدت نفسي عن قضية الجيش منذ أن تولت تحقيقها النيابة؛ لأني كنت أحد طرفي الاتهام بحكم البلاغ المقدَّم من حيدر باشا ووزير الحربية، فخشيت أن أحرج المحققين باتصالي بهم، كما أنهم خشوا على أنفسهم الحرج، فلم يحاول واحد منهم أن يتصل بي؛ بل إنهم فضلوا ألا يدرجوا اسمي في قائمة الشهود حتى لا يثير وجودي في قاعة المحكمة ثائرة المتهمين، كما قال النائب العام مرة..
ولذلك، وقفت من القضية -مع بقية المتفرجين- أرقب وأستمع وأتتبع، وأحاول أن أفهم، وإذا كان أحد لا يستطيع أن يدعي أن بين يديه من المستندات ما يمكنه من رواية تفاصيل المؤامرة كاملة، فإن كل إنسان يستطيع أن يفهم أنه كانت هناك مؤامرة، دون أن يكون في حاجة إلى ذكاء كبير يعينه على الفهم!
إنسان واحد في مصر يستطيع أن يتكلم، وأن يفيض في الكلام، وأن يتحمل مسئولية كلامه، وهو محمد عزمي بك النائب العام السابق..
ولكن عزمي بك له ثمانية أولاد أكبرهم في الثامنة عشرة من عمره، وهو يريد أن يعيش لهم، ويخشى إن تكلم ألا يعيش! ويريد أن يعيش بينهم، ويخشى إن تكلم أن يفارقهم إلى السجن! ويريد أن ينفق عليهم حتى يصيروا رجالًا، ويخشى إن تكلم أن يعجز عن الإنفاق، وليس له من مورد إلا معاشه الحكومي..
ثم إنه يشعر أنه أصبح وحيدًا مكشوف الظهر، فالحكومة لن تتوانى عن أن تبيعه وهو في المعاش كما باعته وهو في منصبه، والرأي العام قد يهتف له؛ ولكنه أعجز من أن يحميه أو يعوض أولاده فيه، ثم إنه قد تعمق في دراسة القانون حتى آمن بأن القانون خدعة كبرى، وتعمق في دراسة أصحاب النفوذ، حتى عرف أن لكل منهم وجهين ولكل منهم لسانين، وليس لأحد منهم ضمير ولا قلب!
وهو لا يزال يذكر ذلك الكبير الذي كان يعاونه في التحقيق، وكان يجلس أمامه وعيناه مسبلتان من شدة خشية الله، وشفتاه تتمتمان بلا انقطاع بآيات القرآن، وأصابعه لا تفارق مسبحته، وصوته يهب كلما جاء ذكر "محمد" مصليًا عليه ومسلمًا.. لا يزال يذكر أن هذا الرجل التقي الورع الذي كسا وجهه الإيمان، كان حربًا على التحقيق، وكان ينقل أخباره وخطواته أولًا بأول إلى المتهمين الذين يهمهم أن يضعوا العراقيل، وأن ينصبوا الشباك، وأن يحبكوا أطراف المؤامرة.
لذلك كله لن يتكلم النائب العام السابق، وسيبقى لسانه حبيس شفتيه، وسيبقى سخطه حبيس صدره، وسيبقى هو حبيس داره، تقوم من حوله أشباح تضطهده في عزلته كما اضطهدته في منصبه!
ورغم ذلك، فهناك الكثير مما يقال:
فقد كان يسيطر على التحقيق ثلاثة أطراف: النيابة العامة، والحكومة، والمتهمون، وكلهم -أو أغلبهم- من أصحاب النفوذ!
وكانت النيابة تعتقد أن الحكومة تقرها في جميع تصرفاتها، وكان النائب العام يعرض خطوات التحقيق أولًا بأول على الحكومة، سواء على النحاس باشا شخصيًّا، أو على مَن يقوم مقامه.
وكانت الحكومة تقر هذه التصرفات صغيرها وكبيرها؛ ولكنها كانت عندما تدير وجهها إلى الناحية الأخرى، تنفي عن نفسها مسئولية هذه التصرفات، وتلقي التبعة كلها على النائب العام وحده، ثم لا تتوانى عن اتهامه بالعناد و"بالجليطة" في اتخاذ إجراءاته.
وهذا ما لم يستطع أن يلمحه النائب العام، أو يتنبه له إلا في المراحل الأخيرة من التحقيق1.
1 روزاليوسف - 29 مايو 1951.
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- وفي المقال الثاني أتم إحسان عبد القدوس قصة المؤامرة على قضية الأسلحة الفاسدة، وفيه شرح العوامل التي جعلت النائب العام يخضع للإغراءات:
2-
مَن يستطيع أن يروي قصة المؤامرة؟!
- هل طلب النائب العام الإنعام عليه برتبة الباشوية؟
- وزير العدل يطلب أن يحتفظ بملفات القضايا التي حفظت!
- كان النحاس باشا يخشى أن تقوم ثورة في مصر.
- طه حسين يطرد النائب العام من سقارة!!
- الصحفي الذي حاول أن يتوسط في قضية التموين!!
- السؤال الذي يستطيع أن يجيب عليه النبيل عباس حليم.
إني عندما أكتب، أرجو من القارئ أن يتعب معي، وأن يجهد ذاكرته، ويستعين بمعلوماته السياسية والدستورية؛ ليستطيع أن يرى الفراغ الكبير الذي أتعمد أن أتركه بين السطور، وأن يلمح القفزات الواسعة التي أقفزها وأنا أسرد الحوادث، محاولًا أن أحتفظ بتوازني بين ما يجب أن يقال، وما يمكن أن يقال!!
وهذه القصة الطويلة التي بدأتها في العدد الماضي وأحاول أن أتمها بهذا المقال.. قصة المؤامرة على قضية الجيش -كما سماها النبيل عباس حليم- تدور حول مبدأ واحد، هو مبدأ فصل السلطات الذي قرره الدستور، وبالأخص فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية.
والنيابة العمومية جزء من السلطة التنفيذية؛ لأن الوزير ومجلس الوزراء يملك تعيين النائب العام ووكلائه أو فصلهم للإجراءات واللوائح؛ ولكن النيابة عندما تبدأ التحقيق تصبح سلطة قضائية، يسمونها "القضاء الواقف"، وليس من حق الوزير، ولا من حق مجلس الوزراء، ولا من حق أي هيئة من هيئات السلطة التنفيذية أن تتدخل في عملها، وإن كان يبقى لهذه السلطة التنفيذية دائمًا حق التصرف في مصائر النائب العام ووكلائه..
فهل تدخلت السلطة التنفيذية في تحقيقات الجيش؟
وهل اطمأن النائب العام ووكلاؤه على مصائرهم في جميع مراحل القضية؟!
إني أترك الإجابة على هذا التساؤل لما يمكنني سرده من تطورات الحوادث التي مرت بهذه القضية؛ ولكني أحب أولًا أن ألفت النظر إلى أنه كان من المغالاة أن نطلب من النائب العام السابق أن يكون ملاكًا، أو أن يكون بطلًا وطنيًّا، فقد كان يكفي أن يكون رجلًا، وهو فعلًا كان رجلًا وخيرًا من كثيرين غيره من الرجال، رغم أنه في الخامسة والخمسين من عمره وله ثمانية أولاد صغار؛ ولكنه كان يخضع لجميع المؤثرات التي يخضع لها الرجال جميعًا، وأولها الحرص على بقائه في منصبه، والحرص على مستقبله، والحرص على أن يجنب نفسه طغيان ظالم، أو دسيسة واش، ثم إنه كان في حاجة إلى أن يشعر بالاستقرار حتى يستطيع أن يؤدي عمله، وحتى يكتسب ثقة معاونيه وتضامنهم معه..
وقد حاول كثيرًا أن يقاوم هذه المؤثرات التي يخضع لها جميع الرجال الذين قدر عليهم أن يتولوا مناصب الدولة، وحاول كثيرًا أن يبين وجة المصلحة العامة لمن لا يستطيع أن يرى إلا بعين المصلحة الخاصة.. ولكن مقاومته لم تُجْدِ، وجاء يوم أحس فيه أن الدنيا كلها قد انفضت من حوله، وتكشفت له وجوه القوم عن مخادعين وجواسيس، فخارت قواه، وبدأ يفقد ثقته في الرأي العام، ويتجه إلى أصحاب الرأي الخاص.. ورغم ذلك لم يغفر له ضعفه ولم تغفر له وَحْدَته، فلحقته يد الانتقام، وأخرج من منصبه قبل أن يتم مهمته..
ولم يستطع محمد عزمي بك أن ينأى بنفسه عن الاتهام، فاتهم بأنه كان يساوم أثناء التحقيق على رفع قيمة مرتبه.. وذلك غير صحيح، فقد رفع مرتبه فعلًا من 1500 جنيه إلى 1800 جنيه قبل أن يبدأ التحقيق في قضية الجيش، وكان وزير العدل يعارض في هذه الزيادة، وكان يريد أن يرفع قيمة مرتب النائب العام إلى 1600 جنيه فقط1.
1 روزاليوسف - 5 يونيه 1951.
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- ورغم عنف الحملة الصحفية، وإصرار الكاتب على الاستمرار فيها ومتابعتها؛ حتى يحتفظ بقوة دفعها، واهتمام الرأي العام بها.. إلا أن التحقيقات استمرت فترة.. ثم نام التحقيق؛ بسبب دخول أسماء كبيرة ومعروفة في القضية ومنها "فاروق" نفسه. وبعد عدة شهور قامت الثورة في 23 يوليو سنة 1952، وأعيد التحقيق مرة أخرى في القضية.. وطلب من إحسان عبد القدوس أن يشهد في التحقيق.. وقد رفض الذهاب إلى المحكمة، وكانت حجته في ذلك كما يذكر في مذكراته:
"قلت: إن شهادتي لن تجدي الآن بالنسبة لي.. لأن الهدف الذي كنت أرمي إليه من إثارة هذه القضية تحقق بالفعل؛ وهو قيام الثورة.. فأصبح لا يهمني أبدًا مصير القضية أو مصير المتهمين، ولا أحب أن أشهد عليهم أو أشهد معهم.. إن كل مسئوليتي تنحصر فيما كتبته في روزاليوسف.. ورفضت الشهادة.. طالما أن الهدف الذي سعيت من أجله تحقق.."1.
- ويؤخذ على حملة الأسلحة الفاسدة أنها اعتمدت اعتمادًا كاملًا على فن المقال الصحفي.. ولم تحاول أن تستخدم الفنون الصحفية الأخرى؛ مثل: فن التحقيق الصحفي، وفن الحديث الصحفي، وفن التقرير الصحفي.. والفنون الثلاثة الأخيرة أقدر على التعبير عن مثل هذه الموضوعات أكثر من المقال الصحفي.. فضلًا عن شعبيتها وجاذبيتها للقراء!..
وإن كان من الضروري أن نتعرف أن الحملة لم تقتصر على مقالات إحسان عبد القدوس وحده.. فقد شارك فيها عدد كبير من رسامي الكاريكاتير بروزاليوسف، ونشر كثير من هذه الرسوم الكاريكاتيرية في صفحات متفرقة من المجلة وفي أعداد متعاقبة.. وقد احتل بعضها الصفحة الأولى.. ونقدم بعض النماذج من هذه الرسوم الكاريكاتيرية:
1 المستقبل - باريس - يوليو سنة 1981 "مذكرات إحسان عبد القدوس".
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- وبجانب فن الكاريكاتير، فقد جندت مجلة روزاليوسف فن الخبر الصحفي لخدمة حملة الأسلحة الفاسدة، فطالما نشرت العديد من الأخبار التي تكشف بعض أسرار القضية في بابي "أسرار" و"حاول أن تفهم"؛ وبذلك تكون المجلة قد استخدمت ثلاثة فنون صحفية؛ وهي: المقال الصحفي، وفن الكاريكاتير، وفن الخبر.
وهذه نماذج من الأخبار التي نشرتها مجلة روزاليوسف حول قضية الأسلحة الفاسدة.
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
صورة تسحب اسكنر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- والتقييم النهائي لحملة الأسلحة الفاسدة أنها كانت حملة صحفية ناجحة بالمعيار الصحفي.. فقد نجحت الحملة في أن تحقق الهدف الذي أثيرت من أجله.. وهذا الهدف هو في نظرنا عكس ما يرى إحسان عبد القدوس كاتب الحملة!..
فقيام الثورة لم يكن هدفًا واضحًا أو متخفيًا للحملة.. ولكنه قد يكون أحد نتائجها المباشرة أو غير المباشرة.
إن نجاح أية حملة صحفية رهن بوضوح هدفها.. والهدف الواضح لحملة الأسلحة الفاسدة كان الكشف عن عدد من كبار المسئولين في الدولة تورطوا في عقد صفقات مشبوهة لتوريد أسلحة فاسدة للجيش المصري، وقد حارب الجيش بهذه الأسلحة في فلسطين، وكانت أحد أسباب هزيمته!..
هذا هو الهدف الواضح للحملة، وقد تحقق بالفعل، ومن هنا تعتبر الحملة من الناحية الصحفية.. حملة ناجحة.. بصرف النظر عن مدى العقاب الذي نال مَن تورطوا في عقد هذه الصفقات.. إذ ليس من وظائف الصحافة.. ولا في إمكانها أن تعاقب المنحرفين.. وإنما كل ما تستطيعه هو أن تكشف الانحراف والمنحرفين أمام الرأي العام.. ثم يبقى أمر عقابهم مسئولية النظام السياسي وأجهزته القضائية.. وعدم توقيع العقاب على المسئولين في قضية الأسلحة الفاسدة لا يقلل من نجاح هذه الحملة الصحفية، وإن كان يطرح العديد من علامات الاستفهام حول مدى سلامة البناء السياسي والقضائي في المجتمع!..