الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدع طائفة من أهل الإثبات
…
فرد على هؤلاء من أهل الإثبات فأثبتوا عموم قدرته وعموم مشيئته وخلقه وعلمه القديم وكل هذا حسن موافق للكتاب والسنة وهو مع تمام الإيمان القدر بعلم الله القديم ومشيئته وخلقه وقدرته على كل شيء لكن ضموا إلى ذلك أشياء ليست من السنة
فإنه من السنة أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وألا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأنه يأمر العباد بطاعته ومع هذا يهدي من يشاء ويضل من يشاء كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
فزعموا مع ذلك أنه يخلق الخلق لا لحكمة في خلقهم ولا لرحمته لهم بل قد يكون خلقهم ليضرهم كلهم وهذا عندهم حكمة فلم ينزهوه عما نزه عنه نفسه من الظلم حيث أخبر أنه إنما يجزي الناس بأعمالهم وأنه لا يزر وازرة وزر أخري وأنه من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما
بل زعما أن كل مقدور عليه فليس بظلم مثل تعذيب الأنبياء والمرسلين وتكريم الكفار والمنافقين وغير ذلك مما نزه الله نفسه عنه فلم يكن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه حقيقة عند هؤلاء إذ كل ما يمكن ويقدر عليه فليس بظلم فقوله تعالى {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} عندهم لا يريد ما لا يكون ممكنا مقدورا عليه وهو عندهم لا يقدر
على الظلم حتى يكون تاركا له وزعموا أنه قد يأمر العباد بما لا يكون مصلحة لهم ولا لواحد منهم لا يكون الأمر مصلحة ولا يكون فعل المأمور به مصلحة بل قد يأمرهم بما إن فعلوه كان مضرة لهم وإن لم يفعلوه عاقبهم به فيكون العبد فيما يأمره به بين ضررين ضرر إن أطاع وضرر إن عصي ومن كان كذلك كان أمره للعباد مضرة لهم لا مصلحة لهم
وقالوا يأمر بما يشاء وأنكروا أن يكون في الأحكام الشرعية من العلل المناسبة للأحكام من جلب المنافع ودفع المضار ما تبقي الأحكام الشرعية ممكنة به حتى كان منهم من دفع علل الأحكام بالكلية ومنهم من قال العلل مجرد علامات ودلالات على الحكم لأنها أمور تناسب الحكم وتلائمه وهو يجوزون مع هذا ألا يكون للعبد ثواب ومنفعة في فعل المأمور به لكن لما جاءت الشريعة بالوعد قالوا هو موعود بالثواب الذي وعد به وربما قالوا إنه في الآخرة فقط فإن الفعل المأمور به قد لا يكون فيه مصلحة للعباد ولا منفعة لهم بحال ولا يكون فيه تنعم لهم ولا لذة بحال بل قد يكون مضرة لهم ومفسدة في حظهم ليس فيه ما ينفعهم ومعلوم أنه إذا اعتقد المرء
أن طاعة الله ورسوله فيها أمراه به قد لا يكون فيها مصلحة له ولا منفعة ولا فيها تنعم ولا لذة ولا راحة بل يكون فيها مفسدة له ومضرة عليه وليس فيها إلا ألمه وعذابه كان هذا من أعظم الصوارف له عن فعل ما أمر الله به ورسوله ثم إن كان ضعيف الإيمان بالوعيد والوعد ترك الدين بالكلية وإن كان مؤمنا بالوعيد صارت دواعيه مترددة بين هذا العذاب وذلك العذاب وإن كان مؤمنا بوعد الآخرة فقط اعتقد أنه لا تكون له في الدنيا مصلحة ولا منفعة بل لا تكون المصلحة والمنفعة في الدنيا إلا لمن كفر أو فسق وعصى
وهذا أيضا وإن كان هو غاية حال هؤلاء فهو مما يصرف النفوس عن طاعة الله ورسوله ويبقي العبد المؤمن متردد الدواعي بين هذا وهذا وهو لا يخلو من أمرين إما أن يرجح جانب الطاعة التي يستشعر أنه ليس فيها طول عمره له مصلحة ولا منفعة ولا لذة بل عذاب وألم بل مفسدة ومضرة وهذا لا يكاد يصبر عليه أحد
وإما أن يرجح جانب المعصية تارة أو تارات أو غالبا ثم إن أحسن أحواله مع ذلك أن ينوي التوبة قبيل موته
ولا ريب إن كان ما قاله هؤلاء حقا فصاحب هذه الحال أكيس وأعقل ممن محض طاعة الله طول عمره إذ أن هذا سلم من عذاب ذلك المطيع في الدنيا ثم إنه بالتوبة أحبط عنه العقاب وأبدل الله سيئاته بالحسنات فصارت جميع سيئاته حسنات فصار ثوابه في الآخرة قد يكون أعظم وأعظم من ثواب ذلك المطيع الذي محض الطاعة ولو كان ثوابه دون ثواب ذلك لم يكن التفاضل بينهم إلا كتفاضل أهل الدرجات في الجنة وهذا مما يختاره أكثر الناس على مكابدة العذاب والشقاء والبلاء بطول العمر إذ هو أمر لا يصبر عليه أحد فإن مصابرة العذاب ستين أو سبعين سنة بلا مصلحة ولا منفعة ولا لذة ليس هو من جبلة الأحياء إذا جوزوا أن لا يكون في شيء من طاعة الله مصلحة ولا منفعة طول عمره
وهؤلاء يجعلون العباد مع الله بمنزلة الأجراء مع المستأجرين كأن الله أستأجرهم طول مقامهم في الدنيا ليعملوا ما لا ينتفعون به ولا فيه لربهم منفعة ليعوضهم مع ذلك بعد الموت بأجرتهم وفي هذا من تشبيه الله بالعاجز الجاهل السفيه ما يجب تنزيه الله عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا