الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[و
الجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه]
(1):
أحدها: زعمهم أن الله حي عليم قدير، من غير أن تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة، فأثبتوا الأسماء والأحكام مع نفي الصفات.
الثاني: أبعد من ذلك من وجه أنهم قالوا: هو متكلم بكلام يقوم بغيره، وليس الجسم الذي قام به الكلام متكلمًا به، فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة، ونفوا الاسم والحكم عن موضع الصفة لكنهم لم يجعلوا متكلمًا إلّا من له كلام، وجعلوا هناك عالمًا قادرًا (2) من لا علم له ولا قدرة.
الثالث: أبعد من ذلك من وجه آخر، وهو ما قالوه في الإرادة: تارة ينفونها، وتارة يقولون: هو مريد بإرادة لا في محل، فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة، وجعلوا الصفة تقوم بغير محل.
وكل هذه الأمور الثلاثة مما يعلم ببدائه (3) العقل، وبما فطر الله عليه العباد بالعلوم الضرورية أن ذلك باطل، وهو من النفاق، لكنهم احتجوا في ذلك بحجة ألزمها لهم الكلابية والأشعرية ومن وافقهم، وهو الصفات الفعلية مثل كونه خالقًا رازقًا عادلًا محييًا مميتًا، وتسمى صفة التكوين، وتسمى الخلق، وتسمى صفة الفعل، وتسمى التأثير، فقالوا: هو خالق فاعل مكون عادل، من غير أن يقوم به خلق ولا تكوين ولا فعل ولا تأثير [ولا عدل](4)، فكذلك المتكلم والمريد، وقالوا: إن الخلق هو نفس المخلوق واتبعهم على ذلك الكلابية والأشعرية فصار (5) للأولين عليهم حجة بذلك، وإنما قرن هؤلاء بين الأمرين لأنهم قالوا: إن قلنا إن
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(2)
في الأصل، س: عالم وقادر. والمثبت من: ط.
(3)
في الأصل، ط: ببداية. والمثبت من: س.
(4)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(5)
في س: فصار عليهم.
التكوين قديم لزم قدم المكونات والمخلوقات كلها، وهذا معلوم الفساد بالحس، وإن قلنا: إنه محدث لزم قيام الحوادث به.
وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة (1) ويقولون: لا يكون فاعلًا إلّا بفعل يقوم بذاته، وتكوين يقوم [بذاته](2) والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق وهذا هو الذي ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد [ومالك](3) في كتبهم، كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي (4)، وأبي منصور الماتريدي (5) وغيرهم، وكما ذكره البغوي في شرح السنة (6)، وكما ذكره أصحاب أحمد كأبي إسحاق (7) وأبي بكر عبد
(1) في الأصل: الدلالة.
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(3)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(4)
في كتابه عقيدة أهل السنة والجماعة ص: 6، 7 تعليق الشيخ محمد بن مانع.
(5)
في كتاب التوحيد -لأبي منصور الماتريدي- ص: 44 - 49.
(6)
شرح السنة -للبغوي- 1/ 177 - 180 باب الرد على الجهمية.
(7)
هو: أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن شاقلا البغدادي، شيخ الحنابلة، جليل القدر، كثير الرواية، حسن الكلام في الأصول والفروع. توفي سنة 369 هـ.
راجع: طبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 2/ 128 - 139. وشذرات الذهب -لابن العماد- 3/ 68.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه "إبطال التأويلات" مخطوط- اللوحة 147 "فصل: وجميع الأسماء والصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه أو وصفه بها رسوله قديمة موصوف بها فيما لم يزل، ولم يزل بصفاته خالقًا رازقًا موجودًا معدمًا محييًا مميتًا". . ما نصه.
". . . وقد ذكر أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن شاقلا هذه المسألة مفردة نقلتها من خط أبي بكر الكشي من أصحابنا فقال: وزعم. . ".
العزيز، والقاضي (1) وغيرهم، لكن القاضي ذكر (2) في الخلق هل هو المخلوق؟ أو غيره قولين، لكن استقر قوله على أن الخلق غير المخلوق، وإن خالفهم ابن عقيل، وكما ذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب اعتقاد الصوفية (3)، وكما ذكره أئمة الحديث والسنة.
قال البخاري في آخر الصحيح (4) في كتاب الرد على الجهمية والزنادقة (باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها (5) من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه،
(1) هو القاضي أبو يعلى. تقدم التعريف به.
(2)
ذكر ذلك في كتابه "إبطال التأويلات لأخبار الصفات" مخطوط- اللوحة 147 - 150 - في الفصل المشار إليه آنفًا.
(3)
هو: أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الكلاباذي الحنفي، المتوفى سنة 380 هـ.
ولم أجد له كتابًا بهذا الاسم، وإنما الذي أشارت إليه المصادر هو كتاب "التعرف لمذهب أهل التصوف" وقد طبع على هامش الأحياء للغزالي سنة 1321 هـ، كما نشر بالقاهرة سنة 1933 هـ، وشرح عدة شروحات.
راجع: كشف الظنون -لحاجي خليفة- 1/ 53، 163، 225. وهداية العارفين -للبغدادي- 2/ 54. ومعجم المؤلفين -لكحالة- 8/ 222. وتاريخ الأدب العربي -لبروكلمان- 4/ 81. وتاريخ التراث العربي -لسزكين - 1/ 4 / 173 - العقائد والتصوف. وقد أشار الشيخ إلى ذلك الكتاب -كتاب التعرف- في رسالة في الجواب عمن يقول: إن صفات الله نسب وإضافات، ضمن جامع الرسائل والمسائل 1/ 160. جاء فيه:
فقد عقد الكلاباذي بابًا لذلك قال فيه: ". . والخلق والتكوين والفعل صفات لله تعالى، وهو بها في الأزل موصوف، والفعل غير المفعول وكذلك التخليق والتكوين. . ".
راجع: التعرف لمذهب أهل التصوف -للكلاباذي- ص: 38.
(4)
صحيح البخاري -كتاب التوحيد- 8/ 187.
(5)
في الأصل: ونحوهما. وفي س، ط: ونحوها. والمثبت من: صحيح البخاري.
هو الخالق المكون (1) غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون).
ولا ريب أن هذا القول الذي عليه [أهل](2) السنة والجماعة هو الحق، فإن ما ذكر من الحجة أن العالم القادر المتكلم المريد لا يكون إلّا بأن يقوم به العلم والقدرة والكلام والإرادة، وهو (3) بعينه يقال في الخالق والفاعل، فإنه من المعلوم ببدائه (4) العقول وضرورتها أن الصانع الفاعل لا يكون صانعًا فاعلًا إلّا أن يقوم به ما يكون به فاعلًا [صانعًا، ولا يسمى الفاعل فاعلًا](5) كالضارب والقاتل والمحسن والمطعم، وغير ذلك إلّا إذا قام به الفعل الذي يستحق به الاسم، ولكن الجهمية نفت هذا كله، وفروخهم وافقتهم في البعض دون البعض.
وأما أهل الإثبات فباقون على الفطرة، كما وردت به الشريعة، وكما جاء به الكتاب والسنة، فإن الله وصف نفسه في غير موضع بأفعاله، كما وصف نفسه بالعلم والقدرة والكلام، ومن ذلك المجيء والإتيان والنزول والاستواء، ونحو ذلك من أفعاله، لكن (6) هنا أخبر بأفعاله، وهناك ذكر أسماءه المتضمنة للأفعال.
ولم يفرق السلف الأئمة بين أسماء الأفعال وأسماء الكلام، كما في صحيح البخاري (7)، عن سعيد بن جبير أن رجلًا سأل ابن عباس قال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، فذكر مسائله، ومنها
(1) في صحيح البخاري: وهو الخالق وهو المكون. .
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(3)
في س، ط: هو.
(4)
في الأصل، ط: ببداية. والمثبت من: س.
(5)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(6)
في ط: ولكن.
(7)
تقدم تخريجه ص: 322.
قال: وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1)، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2)، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3)، فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس: وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم أزل (5) كذلك. . . هذا لفظ البخاري واختصر (6) الحديث.
ورواه البرقاني (7) من طريق شيخ البخاري بتمامه، فقال ابن عباس: فأما قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (8)، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (9)، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (10)، فإن الله جعل نفسه ذلك، وسمى نفسه ذلك، ولم ينحله أحدًا غيره، {وَكَانَ اللَّهُ} ، أي: لم يزل كذلك، هذا لفظ الحميدي صاحب الجمع (11).
(1) سورة الفتح، الآية:14.
(2)
سورة النساء، الآية:157.
(3)
سورة النساء، الآية:134.
(4)
سورة النساء، الآية:96.
(5)
في صحيح البخاري: يزل.
(6)
في س، ط: بتمامه واختصر. . .
(7)
تقدم التعريف به والكلام على روايته ص: 146، 324.
(8)
سورة الفتح، الآية:14.
(9)
سورة النساء، الآية:158.
(10)
سورة النساء، الآية:134.
(11)
وهو كتاب "الجمع بين الصحيحين" للحميدي (لم يطبع).
قال عنه الذهبي: رتبه أحسن ترتيب.
مؤلفه: أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله الحميدي، مؤرخ محدث، كان ظاهري المذهب، صاحب ابن حزم وتلميذه، توفي سنة 488 هـ.
راجع: الأنساب -للسمعاني- 4/ 262 - 264. وسير أعلام النبلاء -للذهبي - 19/ 120 - 127. وت: (2) ص: 121. من سير أعلام النبلاء. وكشف الظنون -لحاجي خليفة- 1/ 599.
ورواه البيهقي (1) عن البرقاني من حديث محمد بن إبراهيم البوشنجي (2)، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري قال: إن الله سمى نفسه ذلك، ولم ينحله غيره، فذلك قوله {وَكَانَ اللَّهُ} أي: لم يزل كذلك.
ورواه البيهقي (3) من رواية يعقوب بن سفيان [عن يوسف](4) ولفظ السائل فكأنه كان ثم مضى، ولفظ ابن عباس: فإن الله سمى نفسه ذلك، ولم يجعله [لأحد](5) غيره، فذلك قوله {وَكَانَ اللَّهُ} أي: لم يزل (6).
[قلت] يقال: جعلتَ زيدًا عالمًا، إذا جعلته في نفسك، وجعلتُه عالمًا إذا جعلتُه في نفسي (7)، أي: اعتقدته عالمًا، كما قال تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (8)، أي:
(1) رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص: 382.
(2)
في الأصل، س: البوسنجي. والمثبت من: ط.
هو: أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن الفقيه المالكي البوشنجي، شيخ أهل الحديث في عصره بنيسابور. توفي سنة 290 هـ.
راجع: طبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 1/ 264، 265. وسير أعلام النبلاء -للذهبي- 13/ 581 - 589. وتهذيب التهذيب -لابن حجر- 9/ 7 - 10.
(3)
رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص: 381.
(4)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(5)
ما بين المعقوفتين زيادة من: الأسماء والصفات- للبيهقي.
(6)
بعد كلمة (لم يزل) بياض في الأصل في نهاية السطر بقدر كلمتين، وكذا في "س"، والكلام متصل في: ط.
وهو نهاية كلام ابن عباس، وبداية تعليق للشيخ، يفسر به ما تقدم. ولذا أضفت كلمة (قلت) بين المعقوفتين.
(7)
في الأصل: نفس. والمثبت من: س، ط.
(8)
سورة الزخرف، الآية:19. .
اعتقدوهم {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (1)، أي: في نفوسكم بما عقدتموه من اليمين.
فقوله: جعل نفسه ذلك، وسمى [نفسه ذلك، يخرج على الثاني أي: هو الذي حكم بذلك وأخبر بثبوته (2) له، وسمى](3) به نفسه، لم ينحله (4) أحدًا غيره (5).
وقوله: وكان [الله](6) أي: لم يزل كذلك، والمعنى: أنه أخبر أن هذا أمر لم يزل عليه، وهو الذي حكم به لنفسه، وسمى به نفسه، لم يكن الخلق هم الذين حكموا بذلك له، وسموه بذلك، فأراد بذلك أنه لو كان ذلك مستفادًا من نحلة الخلق له لكان محدثًا له بحدوث الخلق، فأما إذا كان هو الذي سمى نفسه [وجعل نفسه](7) كذلك، فهو سبحانه لم يزل ولا يزال كذلك، فلهذا أخبر بأنه كان كذلك.
ولهذا اتبع أئمة السنة ذلك كقول (8) أحمد في رواية حنبل: لم يزل الله عالمًا متكلمًا غفورًا.
(1) سورة النحل، الآية:91.
(2)
في س: ثبوته.
(3)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(4)
في س، ط: ينحله ذلك.
(5)
بعد كلمة "غيره" بياض بقدر كلمة في: الأصل، س. ونجمة في: ط.
والذي يظهر لي أنه نهاية كلام وبداية آخر.
(6)
ما بين المعقوفتين بياض بقدر كلمة في: الأصل، س. ورمز له بنجمة في (ط).
ولعل ما أثبته يستقيم به الكلام، وهو ما ظهر لي من السياق.
(7)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(8)
ذكر قول الإمام أحمد في رواية حنبل القاضي أبو يعلى في كتابه "إبطال التأويلات لأخبار الصفات -مخطوط- اللوحة: 147 - فصل: وجميع الأسماء والصفات التي وصف الله بها نفسه.
وقال في الرد على الجهمية (1): (لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا، لا متى، ولا كيف)؟.
ولهذا احتج الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بكلمات الله التامات (2) في غير حديث فقال: أعوذ بكلمات الله التامة.
ففي صحيح البخاري، عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: "أعيذكما بكلمات الله التامة"(3) وذكر الحديث.
وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم إذا نزل منزلًا قال: أعوذ بكلمات الله التامات"(4)، [وذكر
(1) الرد على الجهمية والزنادقة ص: 134.
(2)
التامات: ساقطة من: س، ط.
(3)
رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: "إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".
صحيح البخاري 4/ 119 كتاب الأنبياء الباب رقم 10.
والحديث باللفظ الذي ذكره الشيخ رواه أبو داود في سننه 5/ 104 كتاب السنة - باب في القرآن حديث / 4737.
قال أبو داود: وهذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق.
والترمذي في سننه -أيضًا- 4/ 396 كتاب الطب- باب رقم 18 - الحديث / 2060.
وابن ماجة 2/ 1164 كتاب الطب- باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به - الحديث / 3525.
(4)
رواه مسلم عن خولة بنت حكيم السلمية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك".
والحديث باللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله رواه ابن ماجة في سننه -كتاب الطب- باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه- الحديث / 3547 (2/ 1174) والدارمي 2/ 200 - كتاب الاستئذان- باب ما يقول إذا نزل منزلًا، الحديث / =
الحديث] (1).
وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يمسي: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق"(2) وذكر الحديث، وذلك في أحاديث أخر.
قال أحمد وغيره: ولا يجوز أن يقال: أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض، أو بشيء مما خلق الله، ولا يتعوذ إلّا بالله أو بكلماته.
= 2683.
ورواه بلفظ آخر عن خولة -أيضًا- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نزل أحدكم منزلًا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه".
صحيح مسلم 4/ 2080، 2081، - كتاب الذكر والدعاء. . باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره. الحديث / 54، 55.
(1)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(2)
رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، قال:"أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك".
صحيح مسلم 4/ 2081 كتاب الذكر والدعاء -باب في التعوذ ودرك الشقاء وغيره. الحديث / 550.
ورواه الإمام أحمد في مسنده بلفظ قريب مما ذكره الشيخ: "من قال إذا أمسى ثلاث مرات: أعوذ بكلمات. . . " 2/ 290.
يقول ابن خزيمة رحمه الله في كتابه "التوحيد وإثبات صفات الرب. . " ص: 165، 166، بعد أن أورد بعض الأحاديث التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ بكلمات الله التامات، فقال:"أفليس العلم محيطًا -يا ذوي الحجا- أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه؟ هل سمعت عالمًا يجيز أن يقول: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟ أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟ هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ بخلق الله من شر خلقه".
وقد ذكر الاحتجاج بهذا البيهقي في كتاب الأسماء والصفات (1)، لكن نقل احتجاج أحمد على غير وجهه، وعورض بمعارضة فلم يجب عنها.
ثم قال البيهقي (2): (ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق من مخلوق (3)، فدل على (4) أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته، وهي غير مخلوقة، كما أمره الله أن يستعيذ بذاته، وذاته غير مخلوقة (5)).
ثم قال (6): (وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق، قال: وذلك أنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص).
قلت: احتجاج أحمد هو من الوجه الذي تقدم، كما حكينا لفظ المروذي (7) في كتابه الذي عرض على أحمد.
والمقصود هنا (8) الكلام على قول الطائفة الثانية الذين قالوا: إن القرآن هو الحروف والأصوات دون المعاني، ثم إن قولهم هذا: متناقض في نفسه، فإن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية، والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية، فلو لم يكن الكلام إلّا مجرد الحروف والأصوات، لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى، والذي
(1) في الأسماء والصفات ص: 186.
وسوف يبين الشيخ رحمه الله في الصفحات التالية أن البيهقي نقل احتجاج أحمد بهذه الأحاديث على أن القرآن غير مخلوق على غير وجهه.
(2)
المصدر السابق نفس الصفحة.
(3)
في س، ط: من مخلوق بمخلوق.
(4)
على: ساقطة من الأسماء والصفات.
(5)
في الأسماء والصفات: مخلوق.
(6)
أي: البيهقي بعد عدة أسطر في المصدر السابق.
(7)
في الأصل: المروزي. والمثبت من: س، ط.
(8)
في ط: هنا، ثم. . .
ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصلًا (1)، بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب، وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية، فإنما تكلموا بلغتهم، وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية، وكلام الله صدق، فلو كان قولهم: مجرد الحروف والأصوات، والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه، لم تكن الحكاية عنهم مطلقًا، بل كلامهم كان حروفًا (2)، ومعاني، فحكى الله ذلك عنهم (3) بلغة أخرى، والحروف تابعة للمعاني، والمعاني هي المقصود الأعظم، كما يترجم كلام سائر المخلوقين (4).
وهؤلاء المثبتة (5) الذين وافقوا أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ووافقوا المعتزلة على أن الكلام ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات يقولون: إن كلام الله القائم به ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات، وهذا هو الذي بينته أيضًا في جواب المحنة (6)، وبينت أن هذا لم يقله أحد من السلف، ولا قالوا- أيضًا: إنه معنى قائم بذاته، بل كلاهما بدعة وأنا ليس في كلامي شيء من البدع.
ثم منهم من (7) يقول: هو مع ذلك قديم غير حادث، لموافقتهم
(1) في س، ط: أصله.
(2)
في الأصل: حروف. والمثبت من: س، ط.
(3)
في ط: عنهم ذلك.
(4)
في س، ط: المتكلمين.
(5)
من الكرامية والسالمية ومن وافقهما من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف.
(6)
لعله يشير رحمه الله إلى جوابه المختصر الذي كتبه مع استعجاله الرسول.
وقد تقدم هذا في بداية هذا الكتاب.
(7)
من: ساقطة من: س.
هم: السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف حيث قالوا بقول المعتزلة، وبقول الكلابية، فوافقوا هؤلاء في قولهم:"إنه قديم"، =
الطائفة الأولى على أن معنى قول السلف: إن (1) القرآن كلام الله غير مخلوق، أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره قط.
ومنهم (2) من لا يقول ذلك، بل يقول: هو وإن كان مجرد الحروف والأصوات وهو قائم به، فإنه يتعلق بمشيئته واختياره، وأنه إذا شاء تكلم بذلك، وإذا شاء سكت، وإن كان لم يزل كذلك.
وظن الموافقون (3) للسلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، من القائلين (4): بأن الكلام ليس إلّا معنى في النفس، وكثير من
= ووافقوا أولئك في قولهم: "إنه حروف وأصوات" وأحدثوا قولًا مبتدعًا -كما أحدث غيرهم- فقالوا: "القرآن قديم وهو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذات الرب أزلًا وأبدًا، لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بها شيئًا بعد شيء"، واحتجوا بحجج الكلابية على أنه قديم وبحجج المعتزلة على أنه حروف وأصوات.
وقد تفرع عن قولهم هذا أقوال أخرى في الحرف والصوت، يمكن الاطلاع عيها في مجموعة الرسائل والمسائل -لابن تيمية- كتاب مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة الله الكريم 1/ 3 / 366 - 368.
وانظر: الأسماء والصفات -للبيهقي- 1/ 3 / 377، 378.
(1)
في الأصل: على أن. ولا يستقيم المعنى بذلك. وما أثبته من: س، ط.
(2)
وهم الكرامية فإنهم قالوا: "إنه سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، كلامًا قائمًا بذاته، وهو يتكلم بحروف وأصوات بمشيئته وقدرته ليتخلصوا بذلك من بدعتي المعتزلة والكلابية، لكن قالوا: "صار الكلام ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، من غير حدوث سبب أوجب إمكان الكلام وقدرته عليه".
وقد وافق الكرامية على هذا القول كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، لكن ليس من الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة المسلمين من نقل عنه مثل هذا القول.
انظر: مجموعة الرسائل والمسائل -لابن تيمية- كتاب مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة كلام الله الكريم 1/ 3 / 363، 455.
(3)
سوف يبين الشيخ رحمه الله من هم الموافقون للسلف بعد صفحة -تقريبًا- وأن أولهم عبد الله بن كلاب.
(4)
في الأصل: الموافقين. والمثبت من: س، ط.
القائلين: بأنه ليس إلّا الحروف والأصوات أن (1) معنى قول السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره وإرادته وقدرته، وهذا اعتقدوه في جميع الأمور المضافة إلى الله أنها [إما](2) أن تكون مخلوقة منفصلة عن الله، وإما أن تكون قديمة غير متعلقة بمشيئته وإرادته وقدرته (3).
ومنعوا أن يقال: إنه يتكلم إذا شاء، أو يتكلم بما شاء (4)، أو إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، أو أنه قادر على الكلام أو التكلم، أو إنه يستطيع أن يتكلم بشيء دون شيء، أو إنه إن (5) شاء تكلم، وإن شاء سكت أو إنه يقدر على الكلام والسكوت.
كما يمتنع أن يقال: إنه يحيى إذا شاء، أو إنه يقدر على أن يحيى وعلى أن لا يحيى (6)، إذ (7) الحياة صفة لازمة لذاته يمتنع أن يكون إلّا حيًّا قيومًا- سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
فاعتقد هؤلاء في الكلام والإرادة والمحبة والبغض والرضا والسخط والإتيان والمجيء والاستواء على العرش والفرح والضحك مثل الحياة.
وأول من أظهر هذا القول من الموافقين لأهل السنة في الأصول الكبار (8) هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهذا مقتضى ما ذكره الأشعري
(1) في س: أنه.
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(3)
في س، ط: وقدرته وإرادته.
(4)
أو يتكلم بما شاء: ساقطة من: ط.
(5)
في الأصل: إذا. والمثبت من: س، ط.
(6)
في الأصل: أن يجي. والمثبت من: س، ط.
(7)
في س، ط: إن.
(8)
في الأصل: الكبائر. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.
في المقالات (1)، فإنه لم يذكر ذلك عن أحد قبله، لكن (2) ذكر عن بعض المرجئة أنه يقول بقوله (3)، وذكر عن بعض الزيدية ما يحتمل أن يكون موافقًا لبعض قوله (4).
وذكر (5) أبو الحسن في كتاب المقالات (6) قول أهل الحديث، وأهل السنة: فقال: (هذه حكاية قول جملة (7) أصحاب الحديث، وأهل السنة).
جملة ما عليه أصحاب (8) الحديث وأهل (9) السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا، والله تعالى إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (10)، وأن له يدين بلا كيف، كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (11)،
(1) مقالات الإسلاميين 1/ 350، 351.
وانظر: قول ابن كلاب في القرآن في مقالات الإسلاميين 2/ 257، 258.
(2)
في ط: بل.
(3)
المقالات 2/ 256.
(4)
المصدر السابق 2/ 256.
(5)
في هامش الأصل: حكاية الأشعري جملة قول أصحاب الحديث.
(6)
مقالات الإسلاميين 1/ 345 - 350.
(7)
في المقالات: جملة قول. والكلام إلى نهاية السطر عنوان لما بعده.
(8)
في المقالات: أهل.
(9)
أهل: ساقطة من: المقالات.
(10)
سورة طه، الآية:5.
(11)
سورة ص، الآية:75.
في س، ط، والمقالات:(خلقت بيدي).
وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (1)، وأن له عينين بلا كيف، كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2)، وأن له وجهًا، كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3).
وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علمًا كما قال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (4) وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ} (5).
وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة، كما قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (6).
وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر (7) إلّا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قالت:{وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (8)، وكما (9) قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لا (10) يشاء لا يكون.
وقالوا: إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله، أو يكون
(1) سورة المائدة، الآية:64.
في س: (بل يدان. .) وهو خطأ من الناسخ.
(2)
سورة القمر، الآية:14.
(3)
سورة الرحمن، الآية:27.
(4)
سورة النساء، الآية:166.
(5)
سورة فاطر، الآية:11.
(6)
سورة فصلت، الآية:15.
(7)
في الأصل: من خير وشر. والمثبت من: س، ط، والمقالات.
(8)
سورة التكوير، الآية:29.
(9)
في الأصل: وما. وفي س، ط: ولما. والمثبت من: المقالات.
(10)
في ط: ولم.
أحد يقدر أن يخرج عن (1) علم الله، أو أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله.
وأقروا أنه لا خالق إلّا الله (2)، وأن أعمال العباد يخلقها الله تعالى وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا.
وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين (3) ونظر [لهم](4) وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين (5)، ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين.
وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين (6)، ويلطف بهم (7) حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم، ولم يصلحهم (8)، وطبع على قلوبهم.
وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، كما قال، ويُلْجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال.
ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، و (9) الكلام في الوقف
(1) عن: كررت في: س.
(2)
بعد لفظ الجلالة ورد في المقالات: وأن سيئات العباد يخلقها الله.
(3)
في الأصل، س: للمؤمنين. والمثبت من: ط، والمقالات.
(4)
ما بين المعقوفتين زيادة من: المقالات.
(5)
في الأصل، س: للكافرين. والمثبت من: ط، والمقالات.
(6)
في الأصل، س: للكافرين. والمثبت من: ط، والمقالات.
(7)
في الأصل، س: لهم. والمثبت من: ط، والمقالات.
(8)
في المقالات: وأضلهم.
(9)
الواو ساقطة من: ط. ويظهر أن العبارة: -الكلام في الوقف واللفظ- عنوان لما بعدها.
واللفظ، من قال بالوقف أو باللفظ (1): فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق.
ويقولون: إن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (2)، وإن موسى عليه السلام سأل الله الرؤية في الدنيا، وإن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه (3) في الدنيا، بل يراه في الآخرة.
ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذئب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر (4).
(1) في س، ط، والمقالات: باللفظ أو بالوقف.
(2)
سورة المطففين، الآية:15.
(3)
في جميع النسخ: فأعلمهم بذلك لأنه لا يراه. . والمثبت من: المقالات.
(4)
فمرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فهو مؤمن ناقص قد نقص إيمانه بقدر ما ارتكبه من المعاصي، فالسلف رحمهم الله لا يعطون مرتكب الكبيرة اسم الإيمان المطلق، ولا يكفرونه بذنب ما لم يستحله.
هذا بالنسبة للتسمية والمعاملة الدنيوية، وأما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه، وهذا بعدله وحكمته، وإن شاء عفا عنه وغفر له، وهذا بفضله ورحمته.
وقد خالف السلف بعض طوائف المتكلمين كالخوارج والمعتزلة والمرجئة الخالصة.
فالخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة ويخرجونه من دائرة الإسلام، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهو -عندهم- مخلد في النار.
وقد أشارت بعض كتب الفرق إلى مخالفة النجدات والإباضية للخوارج في حكمهم على مرتكب الكبيرة.
أما المعتزلة فإنهم يقولون: مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين لا يسمى
والإيمان -عندهم- هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خير وشره وحلوه (1) ومره، وأن ما (2) أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن (3) ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، والإسلام أن يشهدوا أن لا إله إلّا الله على ما جاء (4) في الحديث (5)، والإسلام عندهم غير. . . . . . . . . . . . . . .
= مؤمنًا ولا كافرًا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج في التخليد في النار إذا مات ولم يتب.
وأما المرجئة فإنهم يقولون: مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان لأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وبناء على هذا فإنه في الآخرة يدخل الجنة ولا يدخل النار.
هذا مجمل آراء هذه الطوائف، ولكل منها أدلة ينقض بعضها البعض الآخر ومجانبتها للصواب ظاهر.
ومن أراد الوقوف على هذه المسألة فليراجع الكتب التالية:
- الإيمان -لابن تيمية- ص: 185، 186، 202، 301.- الإيمان -لأبي عبيد القاسم بن سلام- ص: 89، 93، 94، 95.- الشريعة- للآجري - ص: 146، 147.- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع- للملطي - ص: 45، 153، 154.- أصول الدين -للبغدادي- ص: 242، 249، 250.- الفصل في الملل والنحل -لابن حزم- 3/ 229، 230، 231، 235، 236.- شرح الأصول الخمسة -للقاضي عبد الجبار- ص: 657، 660، 666، 701، 702، 712، 713، 714.
(1)
في المقالات: وشره حلوه. .
(2)
في ط: وما.
(3)
أن: ساقطة من: س، ط.
(4)
جاء: ساقطة من: س.
(5)
الإشارة في ذلك إلى الحديث المروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل. . وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. . . " الحديث.
الإيمان (1).
= صحيح مسلم 1/ 36 - 38 - كتاب الإيمان- باب بيان الإيمان والإسلام، والإحسان. . الحديث / 1.
(1)
ظاهر هذا الكلام التفريق بين الإيمان والإسلام، وهذا أحد الأقوال في هذه المسألة، وممن قال به الحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وأبو جعفر الباقر وغيرهم.
انظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية للسفاريني 1/ 426. وبه قال جمهور الأشاعرة من المتكلمين.
انظر: العقيدة النظامية -للجويني- ص: 63. وشرح جوهرة التوحيد -للقاني - ص: 61، 60.
والقول الثاني: إن الإسلام والإيمان مترادفان وأنهما اسمان لمسمى واحد، وبه قال جماعة من السلف رحمهم الله منهم الإمام البخاري، والمزني، وأبو محمد البغوي، ومحمد بن نصر المروزي.
انظر: فتح الباري -لابن حجر- 1/ 105. والإيمان -لابن تيمية - ص: 310، 314، 320. وبه قالت المعتزلة وبعض الأشاعرة من المتكلمين.
انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار- ص: 705، 706. ومتشابه القرآن -للقاضي عبد الجبار- ص: 149، 150. وشرح جوهرة التوحيد -للقاني- ص: 61، 60.
والقول الثالث: أن بين الإسلام والإيمان تلازمًا مع افتراق اسميهما فإذا اجتمعا افترقا فيكون الإيمان هو الأعمال الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويكون الإسلام الأعمال الظاهرة كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت.
وإذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر أحدهما دخل فيه الآخر، فإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام ليصبح الإيمان هو مجموع ما تقدم من أعمال باطنة وظاهرة، وكذا إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان فيصبح الإسلام هو مجموع ما تقدم -أيضًا-. وإلى هذا القول كان يذهب شيخ الإسلام ابن تيمية.
انظر: الإيمان -لابن تيمية- ص: 1313. وجامع العلوم والحكم -لابن رجب- ص: 26. وفتح الباري -لابن حجر- 1/ 105.
وشرح الطحاوية لصدر الدين الحنفي- ص: 393، 394. وهذا القول (القول الثالث) -في نظري- هو أرجح الأقوال المتقدمة فهو رأي وسط بين الرأيين =
ويقرون بأن الله مقلب القلوب.
ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته (1)، وبعذاب القبر، وأن الحوض (2) حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق.
ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، ولا يقولون: أسماء الله هي الله، ولا غير الله، ولا يشهدون (3) على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون (4) بأن الله تعالى يخرج قومًا من الموحدين من النار، على
= السابقين، وفيه تجتمع النصوص وتأتلف.
(1)
الشفاعة ثمانية أنواع أحدها: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وقد ذكرها مفصلة بأدلتها ابن كثير في النهاية 2/ 139 فما بعدها، وشرح الطحاوية ص: 252 فما بعدها.
وسيأتي مزيد تفصيل لها، والكلام على من أنكرها في ص:697.
(2)
في ط: الحشر.
(3)
في س، ط، والمقالات: ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون. . وقد ورد بهامش الأصل تصحيح كما هو مثبت.
وسوف ينقل الشيخ رحمه الله في ص: 480 عن الأشعري، أثناء كلامه على موافقة أصحاب ابن كلاب لأهل السنة في كثير من الأصول- قوله:"ويقولون: أسماء الله تعالى وصفاته لا يقال: هي غيره، ولا يقال: إن علمه غيره، كما قالت الجهمية، ولا يقال: إن علمه هو هو كما قال بعض المعتزلة".
(4)
في س: يقولون.
وقد ورد في جميع النسخ بين قوله "غفر لهم" وقوله: "ويؤمنون" ما يلي: "ويؤمنون بأن الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم والكلام يستقيم بالمثبت من: المقالات.
ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، وينكرون الجدل والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم (2) للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقاة عدلًا عن عدلٍ حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يقولون: كيف؟ ولا لِمَ؟ لأن ذلك بدعة.
ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر، وإن كان مريدًا له.
ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه، ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليًّا (3) -رضي الله تعالى عنهم- ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر. . . "(4) كما جاء الحديث عن
(1) فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال: لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".
صحيح مسلم 1/ 182 كتاب الإيمان- باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، الحديث / 325.
وخروج من قال لا إله إلّا الله من النار يروى بألفاظ كثيرة مختلفة، يمكن الوقوف عليها في المصدر السابق- نفس الجزء والكتاب والباب، والأحاديث تحت الأرقام: 316، 317، 318، 319، 320، 321، 322، 326.
(2)
في هامش الأصل: لعله: ويأمرون بالتسليم. . .
(3)
في جميع النسخ: علي. والمثبت من: المقالات.
(4)
الحديث مع اختلاف يسير في اللفظ رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يمهل حتى إذا =
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال الله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1)، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله.
ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2)، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال (3):{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (4).
ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه (5) في الحضر والسفر.
ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث [الله](6) نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال، وبعد ذلك.
ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأن لا يخرجوا عليهم
= ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر".
صحيح مسلم 1/ 523 كتاب صلاة المسافرين وقصرها- باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه. الحديث / 172.
وقد روى مسلم تحت هذا الباب عدة أحاديث بألفاظ مختلفة في نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا.
وكذلك ابن أبي عاصم في كتاب السنة 2/ 216 - 223. وابن خزيمة في كتاب التوحيد- ص: 125 - 136.
(1)
سورة النساء، الآية:59.
(2)
سورة الفجر، الآية:22.
(3)
في س: قال: شاء. وهو تصحيف.
(4)
سورة ق، الآية:16.
(5)
في الأصل: يرون. والمثبت من: س، ط، والمقالات.
(6)
ما بين المعقوفتين زيادة من: المقالات.
بالسيف، وأن لا يقاتلوهم في الفتنة.
ويصدقون (1) بخروج الدجال، وأن عيسى بن مريم يقتله.
ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم.
ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر [كافر](2)، كما قال الله (3) وأن السحر (4) كائن موجود في الدنيا (5).
(1) في الأصل، ط: يصدقو. والمثبت من: س، والمقالات.
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والمقالات.
(3)
(4)
السحر: الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر.
وسحره -أيضًا- بمعنى خدعه. وأصله التمويه بالحيل وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء.
انظر: مختار الصحاح- ص: 288 (سحر). وتفسير القرطبي- 1/ 2 / 44.
(5)
أي: له حقيقة، وهذا خلاف ما تذهب إليه المعتزلة، ومن وافقهم.
وقد نقل القرطبي رحمه الله في تفسيره 1/ 2 / 46 - الاختلاف في هذه المسألة فقال: "ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة، وذهب عامة المعتزلة، وأبو إسحاق الإستراباذي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة، كما قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 66 / طه. ولم يقل تسعى على الحقيقة، ولكن قال: (يخيل إليه) وقال أيضًا: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 116 / الأعراف. وهذا لا حجة فيه، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع. . . ".
ثم أورد رحمه الله الأدلة على ثبوته ووقوعه ثم قال بعد ذلك: "فدل على =
ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم (1) وفاجرهم ومواراتهم.
ويقرون بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله.
وأن الأرزاق من قبل الله -تعالى- يرزقها عباده، حلالًا كانت أو حرامًا.
وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه (2).
وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم.
وأن السنة لا تنسخ القرآن (3).
وأن الأطفال أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد.
[وأن الله](4) عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى.
= أن له حقًّا وحقيقة فهو مقطوع به لإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق".
وللاطلاع على رأي الجمهور في هذه المسألة، وعلى رأي مخالفيهم، تراجع الكتب التالية:
- شرح الطحاوية- لصدر الدين الحنفي- ص: 569، 570.- تفسير ابن كثير - 1/ 133 - 148.- فتح الباري- 21/ 351 - 364. وقد أشار إلى أن من المخالفين لرأي الجمهور ابن حزم الظاهري.- متشابه القرآن -للقاضي عبد الجبار- ص: 99 - 103.- التفسير الكبير- للرازي- 3/ 213، 214.
(1)
في المقالات: برهم.
(2)
في جميع النسخ: يخبطه. والمثبت من: المقالات.
(3)
في الأصل: بالقرآن.
(4)
ما بين المعقوفتين زيادة من: المقالات.
ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى عنه (1)، وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنا، وقول الزور، والعصبية (2)، والفخر، والكبر والإزراء (3) على الناس، والعجب.
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق، وبذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة، والسعاية، وتفقد (4) المأكل والمشرب.
قال (5): فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلّا بالله، وهو حسبنا (6)، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير.
قال (7): فأما أصحاب عبد الله بن سعيد فإنهم يقولون بأكثر ما (8) ذكرناه عن أهل السنة، ويثبتون أن الباري لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلًا كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا.
ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال
(1) في س، ط، والمقالات: الله عنه.
(2)
في جميع النسخ: المعصية. والمثبت من: المقالات.
(3)
أزرى عليه إزراء: قصر به وحقره وهونه.
انظر: لسان العرب -لابن منظور- 14/ 356 (زرى).
(4)
في س، ط: ونفقة.
(5)
في ط: وقال. والقائل هو: أبو الحسن الأشعري. والكلام متصل بما قبله في: المقالات.
(6)
في المقالات: وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(7)
يعني: أبو الحسن الأشعري في المقالات والكلام متصل بما قبله.
(8)
في ط: مما.
والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى.
وقال (1): ويقولون أسماء الله تعالى وصفاته، لا يقال: هي غيره، ولا يقال: إن علمه غيره، كما قالت الجهمية، ولا يقال: إن علمه هو هو، كما قال بعض المعتزلة، وكذلك قولهم في سائر الصفات.
فذكر الأشعري أن أصحاب ابن كلاب يقولون بأكثر قول أهل الحديث، وأن لهم زيادة أخرى، وذلك دليل على أنهم ينقصون عن أقوالهم.
فأما قول ابن كلاب في القرآن فلم يذكره الأشعري إلا عنه وحده، وجعل له ترجمة، فقال (2): وهذا قول عبد الله بن كلاب.
قال (3) عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلمًا، وإن كلام الله صفة له قائمة به، وإنه قديم بكلامه (4)، وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحرف (5) ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وإنه معنى واحد بالله تعالى، وإن الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القارئ وأنه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير، وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير، وإنما سمي كلام الله عربيًّا، لأن الرسم (6) الذي هو العبارة
(1) أبو الحسن الأشعري في المقالات، والكلام متصل بما قبله.
(2)
مقالات الإسلاميين -للأشعري- 2/ 357، 358.
(3)
في هامش س: قف: حكاية كلام ابن كلاب في كلام الله تعالى.
(4)
وإنه قديم بكلامه: مكررة في: س.
(5)
في المقالات: بحروف.
(6)
في الأصل: الاسم. والمثبت من: س، ط، والمقالات.
عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيًّا لعلة، وكذلك سمي عبرانيًّا لعلة (1)، وكذلك سمي أمرًا لعلة، وسمي نهيًا لعلة، وخبرًا لعلة، ولم يزل الله متكلمًا قبل أن يسمى كلامه أمرًا، وقبل وجود العلة التي بها (2) سمي كلامه أمرًا، وكذلك القول في تسميته نهيًا وخبرًا، وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرًا، وكذلك (3) لم يزل ناهيًا).
فهذه حكاية الأشعري عن ابن كلاب أنه يقول: إن الله لم يزل متكلمًا، وإن كلامه صفة قائمة (4) به كعلمه وقدرته، وكذلك سائر الصفات التي يثبتها لله تعالى هي عنده قديمة قائمة بالله غير متعلقة بمشيئته وقدرته.
وأما الجهميّة المحضة من المعتزلة وغيرهم فعندهم لا يقوم (5) به شيء من هذه الصفات ولا غيرها، بل كل ما يضاف إليه فإنما يعود معناه إلى أمر مخلوق منفصل عنه، كما قالوه في الكلام، ولما قال أولئك لهؤلاء: إن الحروف لا تكون إلّا متعاقبة ولا بد لها من مخارج، وكلاهما يمنع قدمها، قال لهم هؤلاء: هذا بعينه وارد في المعنى، فإن المعاني مطابقة للحروف في الترتيب، وهي مفتقرة إلى محل كافتقار الحروف، فما قيل في أحدهما قيل في الآخر، ولما زعم أولئك أن الكلام كله هو معنى واحد، قال هؤلاء: إن جاز أن يعقل أن المعاني المتنوعة تعود إلى معنى (6) واحد، جاز أن يعقل أن الحروف المتنوعة
(1) لعلة: ساقطة من: س، ط. وفي المقالات: لعلة وهي أن الرسم الذي هو عبارة عنه عبراني.
(2)
في المقالات: لها.
(3)
وكذلك: ساقطة من: المقالات.
(4)
في س، ط: له قائم.
(5)
في الأصل: لا يقدم. والمثبت من: س، ط.
(6)
في س: حروف. وفي ط: حرف. وهو تصحيف.
تعود إلى حرف واحد، وقالوا لهم -أيضًا- الترتيب نوعان (1): ترتيب ذاتي، وترتيب وجودي (2)، فالأول: كترتيب العلم على الحياة والمعلول على العلة التامة، وهؤلاء الذين فسروا قولهم بأنه غير مخلوق: بأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته سواء قالوا: إنه معنى أو هو حروف أو هو حرف ومعنى (3)، يقولون: إن المخلوق هو المحدث وهو ما يحدثه الله تعالى منفصلًا عنه، وإنه ما ثم (4) إلا قديم أو مخلوق، وما كان قديمًا (5) فإنه لازم لذات الله -تعالى- ولا يتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يكون فعلًا له، وما كان محدثًا فهو المخلوق المنفصل عن الله -تعالى- وهو المتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يقوم (6) عندهم بذات الله فعل ولا كلام ولا إرادة، ولا غير ذلك مما يتعلق بمشيئته وقدرته، ويقولون: لا تحل الحوادث بذاته، ولا يجوز عليه الحركة، ولا فعل حادث، ولا غير ذلك، وهؤلاء يتأولون كل ما ورد في الكتاب والسنة مما يخالف ذلك، وهو كثير جدًّا، كقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (7)، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (8)، وكما وصف به نفسه من المجيء، والإتيان، والنزول، وغضبه يوم القيامة، ورضاه على أهل الجنة، وتكليمه لموسى ولعباده يوم القيامة (9)، وتكلمه بالوحي إذا تكلم به فسمعته الملائكة.
(1) في س: نوعًا.
(2)
ذكرهما الشيخ رحمه الله في: درء تعارض العقل والنقل 4/ 126.
(3)
في س، ط: معنىً وحرف.
(4)
في س: تم.
(5)
في الأصل: قديم. والمثبت من: س، ط.
(6)
في الأصل: لا يقدم. والمثبت من: س، ط.
(7)
سورة الأعراف، الآية:54.
(8)
سورة البقرة، الآية:29.
(9)
وتكليمه لموسى ولعباده يوم القيامة: كررت في س.
وهؤلاء جميعًا يحتجون على قدم القرآن، بحجتهم المشهورة التي هي أصل (1) المذهب، التي احتج بها الأشعري وأصحابه، والقاضي أبو يعلى (2)، وابن عقيل (3)، وأبو الحسن الزاغوني (4)، وغيرهم، وهي التي تقدم ذكرها (5) في بيان أصل الطائفة الأولى عن أبي المعالي، لأنه اعتقد أنه صاغها على وجه يدفع بها بعض الأسئلة، وقد ذكرنا ذلك، ونبين أنه بناها على امتناع حلول الحوادث به، ونحن نذكرها هنا كما ذكرها هؤلاء، فإن هذا مشهور في كلامهم كلهم، وقد اعترف أصحاب الأشعري أن هذه الطريقة هي عمدته، وعمدة غيره من أئمتهم كالقاضي أبي بكر (6)، وأبي إسحاق (7)، وابن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) في س: أهل.
(2)
تقدم التعريف به.
(3)
هو: علي بن محمد بن عقيل الفقيه البغدادي أبو الوفاء، أحد الأعلام، وفرد زمانه في العلم والنقل والذكاء، ولد سنة 432 هـ، وتوفي سنة 513 هـ.
راجع: طبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 2/ 259. والمنتظم -لابن الجوزي - 9/ 212 - 215. وميزان الاعتدال -للذهبي- 3/ 146.
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه "درء تعارض العقل والنقل 8/ 61 " أنه: "يوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور".
(4)
هو: علي بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغوني البغدادي الحنبلي أبو الحسن، كان بحرًا من بحور العلم، وصاحب تصانيف كثيرة منها "الإيضاح في أصول الدين" وله مقال في الحرف والصوت عليه فيه مآخذ. توفي سنة 527 هـ.
راجع: المنتظم -لابن الجوزي- 10/ 32. وسير أعلام النبلاء -للذهبي - 19/ 605 - 607. وشذارت الذهب -لابن العماد- 4/ 80، 81.
(5)
في س: ذكرهما.
(6)
تقدم التعريف به.
(7)
هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني أبو إسحاق الملقب بركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، ذكر ابن خلكان أن الحاكم قال: أخذ عنه =
فورك (1)، وأبي منصور (2) على قدم الكلام (3).
قال (4): لو كان كلام الباري حادثًا لم يخل من أن يقوم (5) بذات الباري تعالى (6) فيكون محلًا للحوادث بمثابة الجواهر، أو يحدث لا في محل وذلك محال، لأنه يؤدي إلى إبطال التفرقة بين ما يقوم بنفسه وبين
= الكلام والأصول عامة شيوخ نيسابور، له مصنفات منها:"جامع الحلي في أصول الدين"، و"الرد على الملحدين" في خمسة مجلدات. توفي سنة 418 هـ.
راجع: وفيات الأعيان -لابن خلكان- 1/ 28. وسير أعلام النبلاء -للذهبي - 17/ 353 - 355. ومعجم المؤلفين -لكحالة- 1/ 83.
(1)
تقدم التعريف به.
(2)
تقدم التعريف به.
(3)
هذه الحجة التي أشار إليها الشيخ رحمه الله وبين أنها عمدة الأشعري وأصحابه وهي قولهم: لو كان كلام الله حادثًا، لم يخل من أن يقوم بذات الباري، ويلزم من هذا أن يكون الله محلًا للحوادث، وهذا مستحيل.
أو يحدث لا في محل، وهذا محال -أيضًا- لأنه يؤدي إلى التفرقة بين ما يقوم بنفسه وما لا يقوم بنفسه. . .
ذكرها القاضي أبو بكر في "التمهيد" ص: 237، 238. وأشار إليها ابن فورك في "مشكل الحديث وبيانه" ص: 469 - 475.
(4)
القائل: أبو المعالي الجويني، ولم أقف على هذا النقل، وقد بين أبو المعالي في "الشامل في أصول الدين" ص: 539: أن العمدة في المسألة على أن ما يقبل الحوادث لا يخلو منها.
وقال في "الإرشاد" ص: 25: "الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى أنه لو قامت به لم يخل عنها، وذلك يفضي لحدثه".
وانظر: العقيدة النظامية -للجويني- ص: 27.
وذكر نحو ما أورده الشيخ رحمه الله هنا أبو منصور عبد القاهر البغدادي في كتابه "أصول الدين" ص: 106، 157.
(5)
في الأصل: يكون. والمثبت من: س، ط.
(6)
في س: يقال.
ما لا يقوم بنفسه، على أن في نفي المحل نفي اختصاصه، [إذ أليس (1) اختصاصه به -سبحانه- أولى من اختصاصه](2) بغيره، وإن حدث في محل آخر وقام به كان كلامًا لذلك المحل، وكان المحل به متكلمًا آمرًا ناهيًا، لأن كل قائم بمحل اختص به اختصاصًا يجب أن يضاف إليه عند العبارة بأخص أوصافه، يشتق له أو للجملة التي المحل منها وصف منه إما من أخص (3) وصفه أو أعم [أوصافه](4) أو من معناه، أو يصح إضافته إليه بأخص وصفه فإذا لم يكن ذلك بطل أن يخلق كلامه في محل، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل كونه حادثًا.
وقال طائفة: منهم القاضيان: أبو علي بن [أبي موسى](5)،
(1) في ط: إذ ليس.
(2)
ما بين المعقوفتين ساقط من: الأصل.
(3)
في الأصل: اختص. والمثبت من: س، ط.
(4)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(5)
ما بين المعقوفتين بياض في جميع النسخ. ولعل ما أثبته هو الصواب.
هو: القاضي أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي البغدادي، أحد فقهاء الحنابلة، كان ثقة، وله تصانيف في مذهب الإمام أحمد، وكان يقول: القرآن كلام الله، وصفة من صفات ذاته غير مخلوق ولا محدث، توفي سنة 428 هـ.
انظر: تاريخ بغداد -للبغدادي- 1/ 354. وطبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى - 2/ 182 - 186. والوافي بالوفيات للصفدي- 2/ 63، 64.
وقد ذكر الشيخ -يرحمه الله- في درء تعارض العقل والنقل 8/ 98 - أن كثيرًا من متكلمة أهل الحديث كأبي الحسن بن الزاغوني، وأبي بكر بن العربي، يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به. قال: "وأظن أن أبا علي بن أبي موسى ذكر ذلك، وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه.
وسوف يذكر الشيخ في ص: 492 أن أبا علي وأبا الحسن الزاغوني ظنًّا أن الأمة قاطبة اتفقت على أنه لا يقوم به الحوادث، وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه، وهذا نظير الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام وغيره، وهذا يرجح =
وأبو يعلى، وابن عقيل، وأبو الحسن الزاغوني -وهذا لفظه (1) -.
قال: والطريق الثاني المعقول، وفيه أدلة نذكر منها الجلي من معتمداتها، فمن ذلك نقول (2):
لو كان كلام الله مخلوقًا، لم يخل أن يكون مخلوقًا في محل أو لا في محل، فإن كان في محل، فلا يخلو أن يكون محله ذات الباري سبحانه، أو ذاتًا (3) غير ذاته مخلوقة، ومحال أن يكون خلقه الله في ذاته، لأن ذلك يوجب كون ذاته -تعالى- محلًا للحوادث، وهذا محال اتفقت الأئمة قاطبة على إحالته.
ومحال أن يكون في محل هو ذات غير ذاته- تعالى، لأن ذلك
= أن ما أثبته هو الصواب- إن شاء الله.
إضافة إلى أن من ورد ذكرهم من علماء الحنابلة وما أثبته أحدهم. وقد جاء ترتيبهم على حسب قدم وفاة كل منهم. فالقاضي أبو يعلى توفي سنة 458 هـ، وابن عقيل سنة 513 هـ، وابن الزاغوني سنة 527 هـ.
يضاف إلى ما تقدم موافقته لأبي الحسن الأشعري في بعض المسائل.
انظر: الدرء- 3/ 322، 324، 325، 7/ 74، 10/ 233.
(1)
أي: لفظ الجويني.
(2)
في هامش س: قف على كلام الإمام أبي الحسن ابن الزاغوني -رحمه الله تعالى-.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله في كتابه "درء تعارض العقل والنقل 2/ 244، 245 " أن هذه هي الطريقة المعروفة التي سلكها الأشعري وأصحابه في مسألة القرآن، ومن وافقهم على هذا الأصل من أصحاب أحمد، والشافعي ومالك، وأبي حنيفة.
وقد سبقهم إلى هذا التقسيم: عبد العزيز الكناني -صاحب الحيدة- ثم قال رحمه الله: "وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه، وأنه كان يقول بقولهم، وأن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وأن قوله من جنس قول ابن كلاب، وليس الأمر كذلك. . ".
(3)
في الأصل: ذاة. وفي س: ذات. والمثبت من: ط.
يوجب أن يكون كلامًا لتلك الذات ولا يكون كلامًا لله -تعالى- ولأنه لو جاز أن يكون كلامًا لله -تعالى- يقال له كلامه وصفته، لجاز أن يقال مثل ذلك في سائر الصفات، مثل الكون واللون والحركة والسكون والإرادة، إلى غير ذلك من الصفات، وهذا مما اتفقنا (1) على بطلانه.
ومحال أن يكون خلقه لا في محل من جهة أن الكلام صفة، والصفات لا بد لها من محل تقوم به، ولو جاز أن يقال: كلام الله لا في محل، لجاز أن يقال: إرادة وحركة وشهوة وفعل ولون لا في محل، وهذا مما يعلم إحالته قطعًا، وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنه غير مخلوق.
ثم قال (2): قالوا: قد وصفنا (3) الباري بأشياء حدثت في غيره، ألا ترى أنا نصفه بأنه محسن بإحسان أحدثه في حق عباده، ونصفه بأنه كاتب لوجود كتابة أحدثها في اللوح المحفوظ، فما كان يمتنع بأن (4) يكون ها هنا مثله؟
قلنا: الإحسان صفة قائمة بنفس المحسن، وليس (5) توقف وصفه بهذه الصفة على وجود الإحسان منه، وإذا ظهر إحسانه على خلقه كان
(1) في ط: اتفقنا.
(2)
أورد نحوه البغدادي في "أصول الدين" ص: 107، فقال:"فإن قالوا: أليس قد يحدث الله تعالى في غيره نعمة وفعلًا وفضلًا، ويكون هو المنعم المتفضل الفاعل به، دون المحل الذي وقع فيه الفعل والنعمة والفضل، فما أنكرتم أنه يحدث -أيضًا- كلامًا في غيره فيكون هو المتكلم به دون المحل. . . قيل: إن الأوصاف الصادرة من خصوص أوصاف هذه الأفعال راجعة إلى محلها، لأن الفعل أو النعمة أو الفضل إن كان حياة فالمحل بها هي وإن كان قدرة أو علمًا أو لذة أو حركة فالمحل بها قادر عالم أو ملتذ متحرك، كذلك خصوص أوصاف الكلام يجب أن يرجع إلى محله دون فاعله".
(3)
في س، ط: وصفت.
(4)
في س، ط: أن.
(5)
في س: لئن.
ذلك أثر (1) وصفه بالإحسان، لأن ما فعله هو صفته، وجرى ذلك مجرى وصفه بأنه صانع، فإنه يوصف بذلك، لأنه عالم بحقيقة المصنوع، لا أن الصنعة (2) هي المصنوع، وكذلك القول في وصفه بأنه كاتب، لأن الكتابة تجري مجرى الصنعة (3) في أنها نوع من أنواع العلوم بكيفيات المنفعل في إيجاد فعله، وذلك أمر غير المصنوع وهذا بين واضح.
قلت: هذا الإلزام (4) بالمحسن والكاتب والعادل والخالق ونحو ذلك، هو إلزام مشهور للمعتزلة على قول أهل الإثبات، باطنه أن المتكلم لا بد أن يقوم به الكلام، فألزموهم أسماء الأفعال، وهذا السؤال هو الذي ضعضع هذه الحجة عند أبي المعالي الجويني والرازي وغيرهم، لما ألزمهم (5) المعتزلة بذلك، ولهذا عدل عنها أبو المعالي إلى أن قال (6):
قد حصل الاتفاق على أنه سبحانه متكلم بكلامه، وأنه لا بد من ضرب من الاختصاص في إضافة الكلام إليه، ثم الاختصاص: إما اختصاص قيام، وإما أن يكون اختصاص فعل بفاعل، والثاني باطل، لأنه لا فرق بين خلق الأجسام وأنواع الأعراض، وبين خلق الكلام، في أنه لا يرجع إلى القديم سبحانه صفة حقيقة من جميع ما خلقه.
قلت: فهو في هذا لم يلتزم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، لئلا ترد عليه المعارضات، لكن قال: يزول
(1) كلمة: أثر. ساقطة من: س.
(2)
في س: لأن الصفة. وفي ط: لا أن الصفة.
(3)
في س: الصفة.
(4)
في الأصل، س: لا لزام.
(5)
في الأصل: ألزموهم. والمثبت من: س، ط.
(6)
انظر نحوه في "الإرشاد" لأبي المعالي- ص: 111، 118.
الاختصاص، وهذا الذي ذكره في الحقيقة مستلزم (1) لذلك وملزوم له، فإن الكلام له اختصاص، فإن لم يكن بفاعله كان بمحله، والمعارضات واردة لا محالة.
وأجاب غيره عن أسماء (2) العادل والمحسن ونحوهما بأن قالوا: العادل من تمام الأسماء عندنا، لأنه فاعل العدل، وإنما يشترط قيام العدل بالعادل منّالا (3) من حيث كان فاعلًا للعدل، بل لخصوص وصف ذلك الفعل، فإن العدل قد يكون حركة أو سكونًا أو نحوهما، فمن ذلك الوجه يجب قيامه به، وكل معنى له ضد فشرط قيامه بالموصوف به، والذي يسمى عدلًا فينا من (4) الأفعال، فله ضد وهو الجور، فمن ذلك يجب قيامه بالفاعل منا.
قلت: هذه فروق لا حقيقة لها عند التأمل، فإن قيام الكلام بالمتكلم، كقيام الفعل بالفاعل سواء، لا فرق بينهما في الشاهد، ولا في اللغة والاشتقاق، ولا في القياس العقلي، ولهذا عدل الرازي عن تقرير الطريقة المشهورة بأن (5) المتكلم من قام به الكلام إذا (6) كانت تحتاج إلى هذه المقدمة، وإلى نفي جواز كونه محلًا للحوادث، وأثبت ذلك بطريقة في غاية الضعف، وهي الإجماع الجدلي المركب (7).
(1) في س، ط: يستلزم.
(2)
في س، ط: اسم.
(3)
في "س": مقالًا.
(4)
في س: في.
(5)
في س، ط: من أن.
(6)
في س: إذ.
(7)
أبو عبد الله الرازي، لم يعتمد في مسألة القرآن على الطريقة المعروفة للأشعري، وهي امتناع أن يحدث في نفسه كلام، لكونه ليس محلًا للحوادث، لأنه ضعف هذا الأصل، فلا يمكنه أن يبني عليه، وإنما أثبت ذلك بإجماع مركب فقرر أن الكلام له معنى غير العلم والإرادة، خلافًا للمعتزلة ونحوهم، =
والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد لهم في مسائل الصفات والقدر، فجعلوه موصوفًا بمفعولاته القائمة بغيره، حتى قالوا: من فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل السفه فهو سفيه، ومن فعل الكذب فهو كاذب، ونحو ذلك، فكل هذا باطل، بل الموصوف بهذه الأسماء من قامت به هذه الأفعال، لا من جعلها دعلًا لغيره أو قائمة بغيره.
والأشعرية عجزوا عن مناظرتهم في هذا المقام، في مسألة القرآن، ومسائل القدر، بكونهم سلموا لهم أن الرب لا تقوم به صفة فعلية، فلا يقوم به عدل ولا إحسان ولا تأثير أصلًا (1)، لزمهم أن يقولوا: هو موصوف بمفعولاته، فلا يجب أن يكون القرآن قائمًا به، ويكون مسمى بأسماء القبائح التي خلقها.
لكن أبو محمد بن كلّاب يقول (2): لم يزل كريمًا جوادًا، فهذا قد
= وإذا كان كذلك فكل من قال بذلك قال: إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى فلو لم يقل بذلك لكان خلاف الإجماع فهذا هو العمدة التي اعتمد عليها في كتابه "نهاية العقول في دراية الأصول -مخطوط- اللوحة: 131.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذكره لما تقدم: "وهو ضعيف، فإن الأقوال في المسألة متعددة غير قول المعتزلة والكلابية".
راجع: درء تعارض العقل والنقل 2/ 324. وانظر: جامع الرسائل -لابن تيمية- 2/ 9.
(1)
فهم يفرقون بين صفات الذات وصفات الأفعال، فعندهم أن قوله: إني خالق رازق عادل محسن، صفات ذات وهي غير صفات الأفعال المحدثة كالخلق والرزق والعدل والإحسان لأنها قد كانت موجودة مع عدمها، فوجب أن يدل ذلك على تغايرها لأنفسها.
انظر: التمهيد -لأبي بكر بن الباقلاني- ص: 215.
(2)
ذكر الأشعري في "المقالات 1/ 257، 260 ": "أن عبد الله بن كلاب قال: إن الوصف لله بأنه كريم ليس من صفات الفعل وإن الله لم يزل جوادًا، وأثبت الجود صفة لله، لا هي هو، ولا هي غيره.
يجب [عن صفة](1) الإحسان (2) وحدها بذلك.
وأما سائر أهل الإثبات من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام، من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم، فيقولون: إن الرب تقوم به الأفعال، فيتصف به طردًا لما (3) ذكر في الكلام، وأن الفاعل من قام به الفعل، فالعادل والمحسن من قام به العدل والإحسان، كما أشرنا إلى هذا فيما تقدم، وبهذا (4) أجاب القاضي (5) وأبو الحسن بن الزاغوني وغيرهم، فجواب (6) هؤلاء للمعتزلة جيد (7)، لكن تنازع هؤلاء هل ما يقوم به يمتنع تعلقه بمشيئته وقدرته؟ فالقاضي وابن الزاغوني وغيرهم، مشوا على أصلهم في امتناع قيام الحوادث به، ولكن تفسيرهم للصانع والكاتب بالعالم، ليس بمستقيم على هذا الأصل، فإنه إذا جاز أن تفسر (8) الأفعال بالعلم قيل مثل ذلك في الجميع فبطل الأصل، بل الكتابة والصنعة (9) فعل يقوم به وإن استلزم العلم، وهل يجب أن يكون قديمًا لا يتعلق بمشيئته وقدرته؟ أو يجوز أن يكون من ذلك ما يتعلق
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(2)
في الأصل: الإنسان. والمثبت من: س، ط.
(3)
في ط: لماء.
(4)
في الأصل، س: ولهذا. والمثبت من: ط.
(5)
لعله: القاضي أبو علي بن أبي موسى، وتقدم الكلام عليه.
(6)
في الأصل: وغيرهم مشوا على أصلهم في امتناع فجواب. . . وهو سهو من الناسخ.
أما عبارة "مشوا على أصلهم في امتناع" سوف ترد بعد سطر في مكانها المناسب.
(7)
في جميع النسخ: "هؤلاء المعتزلة جيد" ولعل الصواب ما أثبته. فالإشارة ترجع إلى القاضي وابن الزاغوني وغيرهم، لا إلى المعتزلة.
(8)
في الأصل: أن تفسير.
(9)
في س: الصفة.
بمشيئته وقدرته؟ على القولين في الكلام والأفعال (1).
وقد ظن من ذكر من هؤلاء كأبي علي وأبي الحسن بن الزغواني، أن الأمة قاطبة اتفقت على أنه لا تقوم به الحوادث، وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه، وهذا مبلغهم من العلم (2)، وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات (3) الباطلة المدعاة في الكلام وغيره (4) -وما أكثرها- فمن تدبر (5) وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلّا بإجماع مدعى أو قياس، وكلاهما عند التحقيق يكون باطلًا.
ثم إن من العجب أن بعض متكلمة أهل الحديث، من أصحاب أحمد وغيرهم (6)، يدعون مثل هذا الإجماع، مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك، بل عن إمامهم وغيره (7) من الأئمة، حتى في لفظ الحركة والانتقال بينهم في ذلك نزاع مشهور، وقد أثبت ذلك [طوائف](8) مثل ابن حامد (9) وغيره، وقد ذكر إجماع أهل السنة على
(1) سوف يذكرهما الشيخ رحمه الله في ص: 499.
وانظرهما في درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/ 18 - 20، 256، 257.
(2)
ذكر الشيخ رحمه الله حكاية ابن الزاغوني والقاضي وغيرهما للإجماع على امتناع قيام الحوادث به في درء تعارض العقل والنقل 8/ 98، ثم قال:"وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه وهذا لأن هذه أقوال مجملة، قد يفهم منها ما هو باطل بالإجماع والمطلقون لها أدرجوا فيها معاني كثيرة، لا يفهمها إلا خواص الناس".
(3)
في الأصل: الإجماع. والمثبت من: س، ط.
(4)
في س، ط: ونحوه.
(5)
في س، ط، تدبرها.
(6)
غيرهم: مكررة في: س.
(7)
في الأصل: وغيرهم. والمثبت من: س، ط.
(8)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(9)
هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي الوراق، أبو عبد الله، شيخ =
ذلك حرب الكرماني (1)، وعثمان بن سعيد الدارمي (2) وغيرهما من علماء السنة المشهورين.
فليتدبر العاقل ما وقع في هذه الأصول من الاضطراب، وليحمد الله على الهداية، وليقل: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا للإيمان
= الحنابلة ومفتيهم في زمانه، وهو أكبر تلامذة أبو بكر غلام الخلال، له مصنفات منها "الجامع" في الفقه الحنبلي، وشرح أصول الدين، توفي سنة 403 هـ.
راجع: سير أعلام النبلاء -للذهبي- 17/ 203، 204. والمنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد 2/ 98 - 101. والأعلام -للزركلي- 2/ 201.
(1)
تقدم التعريف به.
(2)
تقدم التعريف به.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 7، ما نصه:"وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين - يشير رحمه الله إلى القولين في الكلام والأفعال، وقد أشار إليهما الشيخ رحمه الله قبل قليل-، وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كحرب الكرماني، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وإن ذكر هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني: أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور".
"وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم".
"وطائفة أخرى من السلفية، كنعيم بن حماد الخزاعي، والبخاري صاحب الصحيح، وأبي بكر بن خزيمة، وغيرهم كأبي عمر بن عبد البر وأمثاله يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلًا ونحوه". ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة، لكونه غير مأثور. وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء كأبي عبد العزيز، وأبي عبد الله بن بطة، وأمثالهما".
"ومنهم من يوافق الأولين، كأبي عبد الله بن حامد، وأمثاله". ومنهم طائفة ثالثة -كالتميميين وابن الزاغوني وغيرهم- يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم".
ولا تجعل في قلوبنا غِلًا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ولكن نعرف أن هذه الحجة تبين فساد قول الجهمية من المعتزلة (1) الذين يقولون: خلق الله كلامه في محل، فما ذكروه يبين فساد هذا القول، الذي اتفق (2) سلف الأمة وأئمتها على ضلالة قائله، بل ذلك عند من يعرف ما جاء به الرسول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، ولكن هذا يسلم ويطرد لمن جعل الأفعال قائمة به، وجعل صفة التكوين قائمة به، ولهذا انتقضت على الأشعرية دون الجهمية (3)، ويبين أن كلام الله قائم به، وهذا حق.
وأما كونه لا يتكلم إذا شاء، ولا يقدر أن يتكلم بما شاء، فهذا لا يصح إلّا بما ابتدعته الجهمية من قولهم: لا يتحرك، ولا تحل به الحوادث، وبذلك نفوا أن يكون استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا، وأن يجيء يوم القيامة، وغير ذلك مما وصف به نفسه في الكتاب والسنة.
وأما قول هؤلاء (4): لو خلقه في نفسه لكانت ذاته محلًا للحوادث، فالذين يقولون: إنه يتكلم إذا شاء لا يقولون: إنه يخلق في نفسه شيئًا، إذ (5) الخلق هو فعل -أيضًا- قائم به عندهم بمشيئته، فلا يكون للخلق خلق آخر، وإلّا لزم الدور والتسلسل، ولهذا لم يقل أحد
(1) في س، ط: المعتزلة وغيرهم.
(2)
في جميع النسخ: اتفقت. ولعل ما أثبت يناسب السياق.
(3)
في ش، ط: الجمهور.
لأن الأشعرية تقول: المتكلم من قام به الكلام، والجهمية والمعتزلة يقولون: المتكلم من فعل الكلام.
(4)
القاضي أبو علي وابن الزاغوني وغيرهم.
(5)
في س: إذا.
ممن قال بذلك: إن كلامه مخلوق، بل كل من قال: إن (1) كلامه مخلوق، فإنما مراده أنه يخلقه منفصلًا عنه، والسلف علموا أن هذا مرادهم، فجعلوا يبينون فساد (2) ذلك، كقول مالك وأحمد وغيرهما: كلام الله من الله، ولا يكون من الله شيء مخلوق (3)، وقولهم: كلام الله من الله ليس ببائن عنه، وقول أحمد لمن سأله: أليس كلامك (4) منك؟ قال: بلى، قال: فكلام الله من الله (5)، ومثل هذا كثير في كلامهم، فلو أن المحتج قال: اتفق المسلمون على أنه لا يخلق في ذاته شيئًا،
(1) في س: إنه.
(2)
في س: فساد قول.
(3)
انظر: السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل- ص: 25. وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- للالكائي- 2/ 272.
(4)
في الأصل: كلامنا. والمثبت من: س، ط. والمعنى: أن ابتداء كلامك منك، وأنت مخلوق، فكلامك إذًا مخلوق.
(5)
أخرجه الخلال في السنة (المسند من مسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل)، اللوحة:160.
أن أحمد بن الحسن الترمذي قال: سألت أحمد، فقلت: يا أبا عبد الله قد وقع من أمر القرآن ما قد وقع، فإن سئلت عنه ماذا أقول؟
فقال لي: ألست مخلوقًا؟
قلت: نعم.
فقال: أليس كل شيء منك مخلوق؟
قلت: نعم.
قال: فكلامك أليس هو منك وهو مخلوق؟
قلت: نعم.
قال: وكلام الله عز وجل أليس هو منه؟
قلت: نعم.
قال: فيكون من الله شيء مخلوق؟!
انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- للالكائي- 1/ 263، 264.
لكان هذا كلامًا صحيحًا، فإن أحدًا لم يطلق عليه أنه يخلق في نفسه شيئًا -فيما أعلم- بخلاف اللفظ الذي ادعاه، فإن النزاع فيه [من](1) أشهر الأمور، والذين أثبتوا ذلك أكثر من الذين نفوه من أهل الحديث وأهل الكلام جميعًا، ولكن اتفاق الأمة -فيما أعلم- على (2) أنه لا يخلق في نفسه شيئًا يبطل مذهب المعتزلة، ولا يدل على أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولعل هذه هي (3) حجة عبد العزيز الكناني (4).
ولهذا النزاع العظيم بين الذين يقولون (5): هو مخلوق أو محدث، بمعنى أنه أحدثه في غيره، والذين يقولون (6): هو قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته، إذا تدبره اللبيب، وجد كل طائفة أنما تقيم الحجج على إبطال
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(2)
على: ساقطة من: س، ط.
(3)
هي: ساقطة من: ط.
(4)
احتج عبد العزيز الكناني على بشر بحجتين عقليتين هما:
إحداهما: "أنه لو كان كلام الله مخلوقًا، ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائمًا بنفسه: لزم أن يكون مخلوقًا في نفس الله، وهذا باطل.
وثانيهما: أن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات: إما القدرة -كما أقر به بشر- وإما فعله وأمره وإرادته -كما قال عبد العزيز.
وعلى التقديرين: ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق، فبطل أصل قول بشر والجهمية: إنه ليس لله صفة، وإن كل ما سوى الذات المجردة فهو مخلوق، وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة، وهذه حجة مثبتة الصفات القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات وقال بخلق القرآن، فإن كل من قال بنفي الصفات لزمه القول بخلق القرآن".
راجع: درء تعارض العقل والنقل -لابن تيمية- 2/ 256. وانظر: إلزام عبد العزيز الكناني لبشر أمام المأمون في كتابه "الحيدة" ص: 126 - 131.
(5)
وهم: الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم.
(6)
وهم: الأشاعرة والكلابية ومن وافقهم.
قول خصمها، لا على صحة قولها.
أما الذين ينفون الخلق عنه (1)، فأدلتهم عامتها مبنية على أنه لا بد من قيام الكلام به، وأنه يمتنع أن يكون متكلمًا بكلام لا يقوم إلا بغيره وهذا أصل صحيح وهو من أصول السلف الذين بينوا [به](2) فساد قول الجهمية.
وأما الذين قالوا: مخلوق فليس لهم حجة إلّا ما يتضمن أنه متعلق بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يمنع كونه قديمًا، وذلك كقوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} (3){وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} (4)، {أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} (5)، لا يكون إلّا بعد وجود المخبر عنه وإلّا كان كذابًا، لأنه إخبار عن الماضي، وكذلك إخباره عن أقوال الأمم المتقدمة، ومخاطبة (6) بعضهم بعضًا بقوله: قالوا، وقالوا كذلك، فهذا لا يكون إلّا بعد وجود المخبر عنه.
وقولهم (7): إنه موصوف بأنه مجعول عربيًّا، وإنه أحكمت آياته ثم فصلت، وهذا إخبار بفعل منه تعلق به، وذلك يوجب تعلقه بمشيئته وقدرته، وقد نص أحمد على أن (الجعل) فعل من الله غير (الخلق) كما تقدم ذكر لفظه (8).
وقد حققوا (9) ذلك بأن الله ذكر أنه جعله عربيًّا على وجه الامتنان علينا به، والامتنان إنما يكون بفعله المتعلق بمشيئته وقدرته، لا بالأمور
(1) في س، ط: عنهم.
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(3)
سورة نوح، الآية:1.
(4)
سورة النساء، الآية:163.
(5)
سورة يونس، الآية:13.
(6)
في س: مخاطبتهم.
(7)
في س: قوله.
(8)
راجع: ص: 303. وانظر: الرد على الجهمية للإمام أحمد ص: 108، 109.
(9)
في س: حقوا.
اللازمة لذاته، ومن خالف ذلك أجابوا بجواب ضعيف، كقول ابن الزاغوني: جعلناه: أي أظهرناه وأنزلناه.
فيقال لهم: يكفي في ذلك أن يقال: أنزلناه قرآنًا عربيًّا، فإنه عندكم لا يقدر على أن ينزله ويظهره غير عربي، ولا يمكن ذلك، فإذا كان ذلك ممتنعًا لذاته فكيف يمتن بترك فعله؟ وإنما الممكن أن ينزله أو لا ينزله، أما أن ينزله عربيًّا وغير عربي، فهذا ممتنع عندهم، وقد قال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (1) فعلم أن جعله عجميًّا كان ممكنًا، وعندهم ذلك غير ممكن، وهذا -أيضًا- حجة على من جعل العبارة مخلوقة منفصلة عن الله، لأنه جعل القرآن نفسه عربيًّا وعجميًّا، وعندهم لا يكون ذلك إلّا في العبارة المخلوقة، لا في نفس القرآن الذي هو غير مخلوق، وعندهم (2) المعنى الذي عبارته عربية هو الذي عبارته سريانية (3) وعبرانية (4)، فإن جاز أن يقال: هو عربي لكون عبارته كذلك، كان كلام الله هو عربي عجمي سرياني عبراني، لأن الموصوف بذلك شيء واحد عندهم (5).
وكتاب الله يدل على أن كلامه يقدر أن يجعله عربيًّا، وأن يجعله
(1) سورة فصلت، الآية:44.
(2)
في س: عند.
(3)
السريانية: إحدى اللغات السامية وأقرب اللغات إلى اللغة الآرامية، بل هي فرع عنها، ولمعرفة أصل هذه اللغة وتتطورها يراجع: السريانية -نحوها وصرفها - د. زاكية رشدي- ص: 9 - 27. تاريخ اللغات السامية- د. إسرائيل ولفنسون - ص: 145 - 160.
(4)
العبرانية: لغة اليهود والمتكلم بها يقال له: عبراني. وهي فرع من اللغات السامية. وعن هذه اللغة وتاريخها يراجع: تاج العروس -للزبيدي- 3/ 377 (عبر). واللغة العبرية -قواعد ونصوص- د. رمضان عبد التواب. ودائرة معارف القرن الرابع عشر (العشرين) -محمد فريد وجدي- 6/ 89.
(5)
في س، ط: عندهم شيء واحد.
عجميًّا، وهو متكلم به ليس مخلوقًا منفصلًا عنه.
وأما أئمة أهل الحديث والفقهاء والصوفية وطوائف أهل الكلام الذين خالفوا المعتزلة قديمًا من المرجئة والشيعة ثم الكرامية وغيرهم فيخالفون في ذلك، ويجعلون هذه الأفعال القائمة بذاته متعلقة بمشيئته وقدرته.
وأصحاب الإمام أحمد قد تنازعوا في ذلك (1) كما تنازع غيرهم، وذكر أبو بكر عبد العزيز عنهم في المقنع قولين (2).
وحكى الحارث المحاسبي (3) القولين (4) عن أهل السنة، ولكن المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة يوافق هذا
(1) أشار إلى هذا النزاع شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل: 2/ 18 ، 19.
(2)
القولان ذكرهما الشيخ رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل- 2/ 18 - وبين أن أبا بكر ذكرهما في كتاب "الشافي" فقال:
"وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي" عن أصحاب أحمد في معنى أن القرآن مخلوق قولين مبنيين على هذا الأصل:
أحدهما: أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته.
وثانيهما: أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء".
أقول: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر غلام الخلال له كتاب "المقنع" وتقدم الكلام عليه ص: 333، وله "الشافي "، ولعله ذكر فيهما القولين عن أصحاب الإمام أحمد رحمه الله.
(3)
هو: الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله، من كبار الصوفية، هجره الإمام أحمد وأمر أصحابه بهجره لأنه تكلم بشيء من الكلام. توفي ببغداد سنة 243 هـ.
راجع: تاريخ بغداد -للبغدادي- 8/ 211 - 216. وميزان الاعتدال -للذهبي - 1/ 430، 431. وشذارت الذهب -لابن العماد- 2/ 103.
(4)
ذكر الحارث في كتاب "فهم القرآن" ص: 245، عن أهل السنة في هذه المسألة قولين: ورجح قول ابن كلاب، وذكر ذلك في قوله تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 105 / التوبة.
القول، كما ذكرناه من كلامه في الرد على الجهمية (1)، فإن الجهمي لما قال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فنفى المستقبل كما نفى الماضي.
قال أحمد (2): فكيف يصنعون بحديث عدي بن حاتم؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلّا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان"(3).
ثم قال أحمد: والجوارح إذا شهدت على الكافرين [فقالوا: لم شهدتم علينا](4){قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (5) أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كما شاء، فكذلك تكلم الله كيف شاء، من غير أن نقول: جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان.
فذكر أن الله يتكلم كيف [يشاء](6)، ومن يقول بالأول يقول: إن تكلمه لا يتعلق بالمشيئة، إذ لا يتعلق بالمشيئة عندهم إلّا المحدث، الذي هو مخلوق منفصل.
ثم قال (7) أحمد: (وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الكلام (8) الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك (9)، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت.
(1) الرد على الجهمية والزنادقة -للإمام أحمد- ص: 130، 131.
(2)
في الرد على الجهمية والزنادقة- ص: 131.
(3)
سبق تخريجه ص: 307.
(4)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والرد على الجهمية.
(5)
سورة فصلت، الآية:21.
(6)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(7)
الرد على الجهمية والزنادقة ص: 132.
(8)
الكلام: ساقطة من: الرد على الجهمية والزنادقة.
(9)
في ط: تطيق بذلك. وهو خطأ.
قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا (1): صف لنا كلام ربك، فقال: سبحان الله!! وهل أستطيع أن أصفه لكم؟. قالوا: فشبهه، قال: أسمعتم (2) الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله (3).
فقوله: إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، أي: لغة، ولي قوة الألسن كلها، أي: اللغات كلها، وأنا أقوى من ذلك (4).
فيه بيان أن الكلام يكون بقوة الله وقدرته، وأنه يقدر أن يتكلم بكلام أقوى من كلام، وهذا صريح في قول هؤلاء، كما هو صريح في أنَّه كلمه بصوت، وكان (5) يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت، وبدون ذلك الصوت.
وكذلك قول أحمد (6): وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة {يَا عِيسَى} (7).
وقلنا (8): فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (9).
(1) في الرد على الجهمية والزنادقة: قالوا له.
(2)
في الرد على الجهمية: قال: هل سمعتم أصوات الصواعق. . .
(3)
هذا الحديث تقدم.
(4)
بعد كلمة "ذلك" بياض بقدر كلمة في: الأصل، س، ونجمة في: ط. وهو فاصل بين بيانه لمفردات الحديث ووجه الاستشهاد منه.
(5)
في الأصل، س: وكأنه. والمثبت من: ط.
(6)
في الرد على الجهمية والزنادقة ص: 132.
(7)
سورة المائدة، الآية:116.
في الرد على الجهمية: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
(8)
في الرد على الجهمية: قلنا.
(9)
سورة الأعراف، الآية:6. =
فإنه دليل على أنَّه سألهم عن تكليمه في المستقبل [حيث أنكروا أن يكون منه تكليم في المستقبل](1).
ثم لما قالوا: يكون (2) شيئًا فيعبر عن الله قال (3):
قلنا: قد أعظمتم على الله الفرية، حيث (4) زعمتم أن الله لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك (5)، ولا تزول من مكان [إلى مكان](6).
فقد حكى عنهم منكرًا عليهم نفيهم عن الله تعالى أن يتكلم، أو يتحرك، أو يزول من مكان إلى مكان.
ثم إنه قال (7): فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد (8) يتكلم، ولكن كلامه مخلوق.
فقلنا (9): وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله تبارك وتعالى بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله تعالى [قد](10) كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتَّى خلق التكلم، وكذلك
= في الرد على الجهمية: أضاف من الآية (7){فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} . وبنهاية الآية انتهى ما نقله الشيخ عن الإمام أحمد -رحمهما الله.
(1)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(2)
في س، ط: إنما يكون.
(3)
أي: الإمام أحمد رحمه الله.
وهو بداية نقل الشيخ عنه من المصدر السابق ص: 132، 133.
(4)
في س، ط، والرد على الجهمية والزنادقة: حين.
(5)
في جميع النسخ: لا تكلم ولا تحرك. والمثبت من: الرد على الجهمية. .
(6)
ما بين المعقوفتين زيادة من: الرد على الجهمية.
وبياض بقدر كلمة في: الأصل، س. ونجمة في: ط.
(7)
الرد على الجهمية والزنادقة - ص: 133.
(8)
قد: ساقطة من: الرد على الجهمية. .
(9)
في الرد على الجهمية: قلنا.
(10)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والرد على الجهمية.