المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه السابع عشر:إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله - التسعينية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه]

- ‌ الذين قالوا: كلامه مخلوق أرادوا أنَّه لم يكن متكلمًا حتَّى خلق الكلام

- ‌ لفظ (الغير) مجمل

- ‌ قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة

- ‌الصواب الَّذي عليه سلف الأمة

- ‌ يكره تجريد الكلام في المداد الَّذي في المصحف وفي صوت العبد

- ‌ القول بحدوث حروف القرآن قول محدث

- ‌ قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات

- ‌ الألفاظ نوعان:

- ‌الوجه السابع:أنَّه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل

- ‌ النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحدة غير مستلزمة للأخرى

- ‌الوجه الخامس عشر:أن طوائف يقولون لهم: معنى الخبر لم لا يجوز أن يكون هو العلم

- ‌الوجه السادس عشر:أن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها

- ‌الوجه السابع عشر:إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله

- ‌ الَّذي انعقد عليه الإجماع، ونقله أهل التواتر عن المرسلين، هو الكلام الَّذي تسميه الخاصة والعامة كلامًا، دون هذا المعنى

- ‌الجهمية أعظم قدحًا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء

- ‌ كلام ابن فورك في مسألة الكلام

- ‌الوجه السابع والأربعون:أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولًا أو لا يكون

- ‌معنى كون الكلام ليس بمنقسم يراد به شيئان:

- ‌تحقيق الأمر: أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره

- ‌ الترتيب والتعاقب نوعان:

الفصل: ‌الوجه السابع عشر:إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله

غير معين، فقد يكون الباطل ما ادعوه من استلزام العلم للصدق النفساني ومنافاته للكذب، دون ما ذكروه من إمكان اجتماعهما وعدم استلزامه للصدق.

قيل: نقول في الجواب عن هذا وهو:

‌الوجه السابع عشر:

إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله

، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقًا أو كذبًا، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلّا وهو كذب، فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذبًا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرًا باطلًا خلاف مقصودهم، وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لم (1) يثبت لله كلامًا لازمًا لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفساني صدق (2) غير العلم ونحوه لا شاهدًا ولا غائبًا، فإن خبر الله لا ينفك عن العلم، وإذا امتنع إثبات ما ادعوه (3) من الخبر امتنع حينئذ وصفه بكونه صدقًا، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف محال، فعلم أن الطريقة التي سلكوها في إثبات صدق الخبر تبطل (4) عليهم إثبات أصل الخبر النفساني، فلا يثبت حينئذ لا خبر نفساني ولا صدقه، والطريقة التي سلكوها في إثبات الكلام النفساني، إنما يثبت بها -لو قدر صحتها- خبر هو كذب، وذلك ممتنع

(1) في س، ط: لا.

(2)

في ط: نفسانيًّا صدقًا.

(3)

في الأصل: ما دعوه. والمثبت من: س، ط.

(4)

في جميع النسخ: يبطل. وأثبت المناسب للسياق.

ص: 664

في حقه (1)، فعلم أنهم مع التناقض لم يثبتوا لا (2) الكلام النفساني ولا صدقه، فلم يثبتوا واحدًا من المتناقضين.

فإن قيل: كيف يخلو الأمر عن النقيضين ويمكن رفعهما جميعًا؟

قيل: هذا لا يمكن في الحقائق الثابتة (3)، ولكن يمكن في المقدرات الممتنعة، فإن من فرض تقديرًا ممتنعًا لزمه اجتماع النقيضين وانتفاؤهما (4)، وذلك محال، لأنه لازم للمحال الَّذي قدره، وهذا دليل آخر وهو:

الوجه الثامن عشر:

وهو أنهم أثبتوا للخبر معنى ليس هو العلم وبابه، فهذا إثبات أمر ممتنع، وإذا كان ممتنعًا من صفة بأنه صدق أو كذب ممتنع - أيضًا إذ (5) لا حقيقة له، فقولهم بعد هذا: العلم يستلزم الصدق منه وينافي الكذب، وإن كان يناقض قولهم: العلم لا يستلزم الصدق ولا ينافي الكذب، فهذان النقيضان كلاهما منتف، لأن كليهما (6) إنما يلزم على تقدير ثبوت معنى للخبر ليس هو العلم وبابه، فإذا كان ذلك تقديرًا باطلًا ممتنعًا كان ما يلزمه من نفي أو إثبات قد يكون باطلًا، إذ حاصله لزوم [اجتماع](7) النقيضين، ولزوم (8) الخلو عن النقيضين على هذا التقدير وهذه اللوازم تدل على فساد الملزوم الَّذي هو معنى للخبر ليس هو العلم ونحوه،

(1) في الأصل، س: حق. والمثبت من: ط.

(2)

في الأصل: إلا. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(3)

في س: الثانية. وهو خطأ.

(4)

في س: وانتفائهما. وفي ط: وانتفاؤها.

(5)

إذ: ساقطة من: س، ط.

(6)

في جميع النسخ: كلاهما. وهو خطأ على القياس.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(8)

في س، ط: لزم.

ص: 665

ولهذا يجعل فساد اللوازم دليلًا على فساد الملزوم، وإذا أريد تحرير الدليل بهذا الوجه قيل:

لو كان للخبر معنى ليس هو العلم ونحوه، فإما أن يكون العلم مستلزمًا لصدقه أو لا يكون، فإن كان مستلزمًا لصدقه لم يعلم حينئذ أنَّه غير العلم، إذ لا دليل على ذلك إلا إمكان تقدير الكذب مع العلم، إذا كان العلم مستلزمًا للصدق النفساني منافيًا للكذب النفساني كان هذا التقدير ممتنعًا، فلا يعلم حينئذ بثبوت معنى للخبر (1) غير العلم، لا في حق الخالق ولا في حق العباد، فيكون قائل ذلك قائلًا بلا علم ولا دليل أصلًا في باب كلام الله وخبره، وهذا محرم بالاتفاق، وهذا بعينه يبطل ببطلان قولهم - أي: أنهم قالوا بلا حجة أصلًا.

وإن لم يكن العلم مستلزمًا للصدق النفساني ولا منافيًا للكذب النفساني لم يكن لهم طريق إلى إثبات كلام نفساني هو الصدق (2)، لأن العلم لا يستلزمه ولا ينافي ضده، فلا يستدل عليه بالعلم وسائر ما يذكر غير العلم فيدل على أن الله صادق في الجملة وأن الكذب ممتنع عليه، وهذا مما لا نزاع بين الناس فيه، لكنهم (3) لا يمكنهم إثبات كلام نفساني هو صدق، وقيام دليل على أن الله صادق كقيام دليل على أن الله متكلم، وهذا لا ينفعهم في إثبات (4) الكلام النفساني الَّذي ادعوه منفردين به، فكذلك هذا لا ينفعهم في إثبات معنى الخبر النفساني الصادق، الَّذي انفردوا بإثباته من بين فرق الأمة وابتدعوه، وفارقوا به جماعة المسلمين كما أقروا هم بهذا الشذوذ والانفراد، كما ذكره في المحصول (5).

(1) في الأصل: الخبر. والمثبت من: س، ط.

(2)

في س، ط: صدق.

(3)

في س، ط: ولكنهم.

(4)

في الأصل: الإثبات. وأثبت المناسب لسياق الكلام من: س، ط.

(5)

المحصول في علم أصول الفقه - 2/ 1 / 314، 315.

ص: 666

الوجه التاسع عشر:

هو متضمن للجواب عما ذكرناه من السؤال عن أن المتناقضين لا يعين (1) الصادق، وهو أن نقول (2): لا ريب أن قولهم: إن العلم ينافي الكذب النفساني هو الصواب، دون قولهم: إنه قد يجامع الكذب النفساني، وإن لم يكن العلم مستلزمًا لخبر نفساني صدق، وهذا أمر يجده المرء من نفسه ويعلمه بالضرورة أن ما (3) علمه لم (4) يمكن أن يقوم بنفسه خبر ينافي ذلك، بل لو كلف ذلك كلف الجمع بين النقيضين، ولهذا لم يتنازع الناس في أنَّه يمتنع تكليف الإنسان أن يعتقد خلاف ما يعلمه، ولو كان في الإمكان خبر نفساني ينافي العلم لأمكن أن يطلب ذلك من الإنسان، فإنه يمكن أن يطلب منه كل ما يقدر عليه (5) سواء قيل إن ذلك جائز في الشريعة أو لم يمكن، كما أن طلب الكذب ممكن والتكليف به ممكن (6)، وأما طلب كذب نفساني يخالف العلم، فهذا مما

(1) في الأصل، س: لا معين. والمثبت من: ط. وبه يتضح المعنى.

(2)

في الأصل: الصادق أن يقولوا. وفي س: الصادق أن يقول. والمثبت من: ط. وبه يتضح المعنى.

(3)

في س: أما.

(4)

في س، ط: لا وهو الصواب.

(5)

عليه: ساقطة من: س.

(6)

طلب الكذب يكون ممكنًا كأن يؤمر الإنسان به في بعض الحالات، كالصلح بين المتخاصمين، أو التخذيل في الحرب، كما ورد في الحديث عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس بالكاذب من أصلح بين الناس، فقال خيرًا، أو نمى خيرًا".

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

سنن الترمذي 4/ 331 - كتاب البر والصلة - باب ما جاء في إصلاح ذات البين - الحديث / 1938.

وقد ورد في قصة طويلة أن نعيم بن مسعود الأشجعي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم =

ص: 667

لا يمكن طلبه والتكليف به، إذ (1) هو أمر لا حقيقة له.

فتبين أن قولهم: إن الجحد إنما يتصور من العالم (2) بالشيء في العبارة باللسان دون [القلب. وصاحب](3) الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب، فلا يصح الجحد بالقلب، هو أصدق من قولهم: العالم بالشيء قد يقوم بقلبه كذب نفساني ينافي علمه، وإذا كان كذلك بطل ما احتجوا به على إثبات الخبر النفساني الَّذي ادعوه وراء العلم، وهو المقصود.

الوجه العشرون:

أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يخبر بما لا يعلمه ولا يظنه، وبما يعلم أو يظن خلافه، ولا ريب أن هذا الخبر له معنى يقوم بنفسه وراء العلم، ولهذا يمكن تقدير هذا المعنى قبل تقدير العبارة عنه، فضلًا عن وجود التعبير عنه، فإن من يريد أن يخبر بخلاف علمه ويعتقد ذلك، يقدره ويصوره في نفسه قبل التعبير عنه، ويدل على ذلك أن الكذب لفظ

= فقال: يا رسول الله إني أسلمت، ولم يعلم بي أحد من قومي، فمرني بما

شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإنما الحرب خدعة".

انظر القصة بكاملها في: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم -لابن هشام- 3/ 247 - 250. ودلائل النبوة - للبيهقي - 3/ 445 - 447. والبداية والنهاية -لابن كثير - 4/ 126 - 128.

وانظر حديث "الحرب خدعة" بدون ذكر لقصة نعيم في: صحيح البخاري 4/ 24 - كتاب الجهاد - باب الحرب خدعة. وصحيح مسلم 3/ 1361 كتاب الجهاد - باب جواز الخداع في الحرب، الحديثان / 17، 18.

(1)

في س: إذا.

(2)

في ط: العلم.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

ص: 668

له معنى، كما أن الصدق لفظ له معنى، ولو (1) كان لفظًا لا معنى له في النفس لكان بمنزلة الأصوات والألفاظ المهملة، وليس الأمر كذلك، لكن يقال: هذا لا يخرجه عن أن يكون من جنس الاعتقاد الَّذي يكون من جنس العلم والجهل المركب، فإن المعتقد بالشيء (2) بخلاف ما هو به، لا ريب أن هذا (3) ليس بعالم به وإن اعتقد أنَّه عالم به، فالكذب من هذا الجنس، لكن الكذب يعلم صاحبه أنَّه باطل، والجهل المركب لا يعلم صاحبه أنَّه باطل، ومعلوم أن الاعتقادات في كونها (4) حقًّا أو باطلًا أو معلومة أو مجهولة، لا يخرج عن الاشتراك في مسمى الاعتقاد والخبر النفساني، كما لا تخرج العبارة عنها بكونها حقًّا أو باطلًا أو معلومة أو مجهولة، من أن تكون (5) لفظًا وعبارة وكلامًا، فإذا كانت العبارات على اختلاف أنواعها يجمعها النطق اللساني، فالمعنى الَّذي هو الاعتقاد على اختلاف أنواعه يجمعه النطق النفساني، والخبر النفساني، وهذا كما أن الإرادة أو الطلب سواء كانت إرادة خير أو إرادة (6) شر، أو كان صاحبها عالمًا بحقيقة مراده وعاقبته (7)، أو كان جاهلًا بعاقبته (6)، فإن ذلك لا يخرجها عن الاشتراك في مسمى الإرادة أو الطلب.

(1) في الأصل: وإن. وأثبت المناسب للكلام من: س، ط.

(2)

في س، ط: للشيء.

(3)

في س، ط: أنَّه ليس.

(4)

في الأصل: كونه. وأثبت ما يناسب السياق من: س، ط.

(5)

في س: يكون.

(6)

في الأصل: وإرادة. وفي س: وارادت. وأثبت ما رأيته مناسبًا من: ط.

(7)

في س: عاقبة.

ص: 669

الوجه الحادي والعشرون:

أنَّه تعالى قال: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1)، فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيًا عنهم، فعلم أنَّه نفى عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد لِمَا عَلِمَه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفى عنهم تكذيب القلوب، علم أن الجحود الَّذي هو ضرب من الكذب والتكذيب بالحق المعلوم، ليس هو كذبًا في النفس ولا تكذيبًا فيها وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به، ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه.

فإن قيل: العالم بالشيء العارف به قد يؤمن بذلك وقد يكفر، كما (2) قال الله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتهَا أَنْفُسُهُمْ} (3) وذلك مثل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب، وليس كفرهم لمجرد لفظهم، فإنهم

(1) سورة الأنعام، الآية:33.

(2)

من هنا وقع في الأصل تمزق، وألصقت الورقة ببعضها، ولم يكن اللاصق محترفًا مما يجعل بعض الكلمات في الورقة اللاحقة تظهر بين كلمتين في الورقة المصورة، فمثلًا ظهر بين كلمة "كما قال" و"تعالى" كلمة غير واضحة، وسقط لفظ الجلالة وكذا كلمة "المشركين" التي توازيها في السطر التالي ظهر بينها وبين كلمة "أهل" حرف "كا" من الورقة اللاحقة، وهكذا يستمر التمزق تقريبًا في ورقة من: الأصل.

أي: زاد أو نقص في كل سطر منها كلمة أو كلمتان تقريبًا، وباقي الورق سليم وسوف أشير إلى نهايته.

وقد حاولت الوقوف على الأصل، لكن المسؤولين في دار الكتب الوطنية بالقاهرة لم يمكنوني -مع الأسف- من الوقوف عليه رغم محاولاتي الكثيرة معهم التي لم تفلح إلَّا في الوقوف على الميكروفلم الَّذي يوافق ما بين يدي من صور.

وقد أكملت بعض الكلمات الناقصة، وأخرجت النص بصورة سليمة من باقي النسخ.

(3)

سورة النمل، الآية:14.

ص: 670

-أيضًا- قد يقولون بألسنتهم ما يعلمونه، ولا يكونون مؤمنين، مثل ما كان يقوله أبو طالب (1) من الإخبار بأن محمدًا رسول الله، ومثله إخبار كثير من اليهود والنصارى بعضهم لبعض برسالته (2)، ومع هذا فليسوا

(1) هو: أبو طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، والد علي رضي الله عنه وعم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله ومربيه ومناصره، وقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وسافر معه إلى الشام في صغره، دعاه النبي عليه السلام إلى الإسلام فامتغ خوفًا من أن تعيره العرب بتركه دين آبائه. توفي سنة 3 ق. هـ.

انظر: الطبقات الكبرى -لابن سعد- 1/ 119 - 125. الكامل -لابن الأثير- 2/ 37، 38، 90، 91. الأعلام -للزركلي- 4/ 315.

ومما قاله أبو طالب:

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي

فلقد صدقت وكنت قدم أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه

من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سبة

لوجدتني سمحًا بذلك مبينا

راجع: البداية والنهاية -لابن كثير- 3/ 47.

(2)

يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره 2/ 251: "وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم".

ونقل ابن إسحاق في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 196، 197 أن راهبًا يقال له بحيرى -وكان إليه علم أهل النصرانية- لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في بصرى من أرض الشام، وكان أبو طالب قد خرج في ركب تاجرًا إلى الشام - قال لأبي طالب: ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه من اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرًّا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شان عظيم، فأسرع به إلى بلاده.

ونقل -أيضًا- أن نفرًا من أهل الكتاب لما رأوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما رآه بحيرى =

ص: 671

مؤمنين ولا مصدقين، ومنهم اليهود الَّذي جاوروه، وقالوا: نشهد أنك رسول الله.

قيل (1): الجواب عن هذا هو:

الوجه الثاني والعشرون:

وهو أن ما أخبرت به الرسل من الحق، ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك، فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق، وكان مبغضًا له وللرسول الَّذي جاء به ولمن أرسله، معاديًا لذلك، مستكبرًا عليهم، ممتنعًا عن الانقياد لذلك الحق، لم يكن هذا مؤمنًا مثابًا في الآخرة باتفاق المسلمين، مع تنازعهم الكثير في مسمى الإيمان ولهذا لم يختلفوا في كفر إبليس مع أنَّه كان عالمًا عارفًا، بل لا بد في الإيمان من علم في القلب، وعمل في القلب - أيضًا، ولهذا كان عامة أئمة المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد ما في القلب، أو ما في القلب واللسان، يدخلون في ذلك محبة القلب وخضوعه للحق، لا يجعلون ذلك مجرد علم القلب، ولفظ التصديق يتناول العلم الَّذي في القلب، ويتناول -أيضًا- ذلك العمل في القلب الَّذي هو موجب العلم ومقتضاه، فإنه يقال: صدق

= -في ذلك السفر الَّذي كان فيه مع عمه- فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم بما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته.

ولصفية بنت حيي بن أخطب النضرية رضي الله عنها قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم قصة، فقد رأت في منامها، كان قمر السماء قد سقط في حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها -زوجها- فلطم وجهها، وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك؟ فما كان إلَّا مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصاره إياهم، فكانت صفية في جملة السبي، وزوجها في جملة القتلى، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

انظر بتصرف: المغازي -للواقدي- 2/ 674، 675. والبداية والنهاية -لابن كثير- 4/ 219.

(1)

في س: قبل.

ص: 672

علمه بعمله، وذلك لأن وجود العلم مستلزم لوجود هذا العمل الَّذي في القلب، الَّذي هو إسلام القلب بمحبته وخشوعه، فإذا عدم مقتضى العلم فإنه قد يزول العلم (1) من القلب بالكلية، ويطبع على القلب حتَّى يصير منكرًا لما عرفه، جاهلًا بما كان يعلمه، وهذا العلم وهذا العمل (2) كلاهما يكون من معاني الألفاظ.

فلفظ الشهادة والإقرار والإيمان والتصديق ينتظم (3) هذا (4) كله، لكن لفظ الخبر والنبأ ونحو ذلك هو العلم، وإن استلزم هذا الأعمال فهو كما يستلزم العلم لذلك، فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا بمؤمنين: محمد (5) رسول الله، كقول (6) أولئك اليهود وغيرهم، فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الَّذي قال الله فيه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (7) لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لا بد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الَّذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنَّه لا بد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد وأصل الطاعة (8)، فهؤلاء الذين يعلمون الحق الَّذي بعث الله به رسوله - ولا يؤمنون به ويقرون به، يوصفون بأنهم كفار وبأنهم جاحدون، ويوصفون بأنهم مكذبون بألسنتهم، وأنهم يقولون بألسنتهم

(1) فإنه قد يزول العلم: كررت في: س.

وقد علق عليها الناسخ بكلمة: كذا.

(2)

في الأصل: العلم. وأثبت المناسب من: س، ط.

(3)

في ط: ينظم.

(4)

هذا: ساقطة من: س.

(5)

في الأصل: محمدًا. والمثبت من: س، ط.

(6)

في س: كقوله.

(7)

سورة البقرة، الآية:146.

(8)

في س، ط: وأهل الطاعة.

ص: 673

خلاف ما في قلوبهم، وقد أخبر الله في كتابه أنهم ليسوا بمكذبين بما علموه، أي: مكذبين بقلوبهم وإن لم يكونوا مؤمنين مقرين مصدقين إذ (1) العبد يخلو في الشيء الواحد عن التصديق والتكذيب، والكفر أعم من التكذيب، فكل من كذب الرسول كافر وليس كل كافر مكذبًا، بل من يعلم (2) صدقه ويقر به، وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر (3)، ومن (4) أعرض فليس (5) يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر، وليس بمكذب، وكذلك العالم بالشيء قد يخلو عن التكذيب به (6) عن التصديق به الَّذي هو مستلزم لعمل القلب، وإن لم يخل (7) عن التصديق الَّذي هو مجرد علم القلب. فأما أن يقوم بالقلب تصديق قولي غير العلم فهذا الَّذي ادعاه هؤلاء الشذاذ عن الجماعة، وهو مورد النزاع.

ولهذا قال الجنيد بن محمد (8): "التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب"(9).

(1) في س: إذا.

(2)

في الأصل، س: تعلم. وأثبت المناسب لسياق الكلام من: ط. وهو نهاية التمزق المشار إليه في ص: 670، فقد سقط ما بين كلمة "كل كافر" وكلمة "يعلم"، وظهرت كلمات مقلوبة من الورقة اللاحقة.

(3)

في س: كافرًا.

(4)

في ط: أو من.

(5)

في س، ط: فلم.

(6)

به: ساقطة من: س، ط.

(7)

في الأصل، س: وأن لا يخلوا. وأثبت ما يصير به الكلام مفهوما من: ط.

(8)

هو: أبو القاسم الجنيد بن محمد بن جنيد الخزاز، ويقال: القواريري، شيخ الصوفية، أصله من نهاوند وولد ونشأ ببغداد، وسمع بها الحديث وتفقه على أبي ثور، واشتهر بصحبة الحارث المحاسبي، توفي سنة 298 هـ.

انظر: تاريخ بغداد -للبغدادي- 7/ 241 - 249. والمنتظم -لابن الجوزي- 6/ 105، 106. والبداية والنهاية -لابن كثير- 11/ 128، 129.

(9)

قول الجنيد ذكره أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء =

ص: 674

وقال الحسن البصري (1): "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقه العمل"(2).

وقال الحسن -أيضًا-: "ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر (3)، ويناطقون القلوب حتَّى نطقت، فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالحكمة، وأورثت العلم"(4).

الوجه الثالث والعشرون:

أن يقال: لاريب أن النفس الَّذي هو القلب يوصف بالنطق والقول، كما يوصف بذلك اللسان، وإن كان القول والنطق عند الإطلاق يتناول مجموع الأمرين، ولهذا كان من جعل النطق والقول هولما في اللسان فقط بمنزلة من جعله (5) لما في القلب فقط، ومن جعل اللفظ مشتركا بينهما فقد جمع البعيدين، بل أثبت النقيضين، فإنه يجعل اللفظ الشامل لهما مانعًا من كل منهما، فإنه إذا قال: أريد به هذا وحده، أو هذا وحده، مع أن اللفظ أريد به كلاهما كان نافيًا لكل منهما في حال

= 10/ 256 بلفظ: ". . . فالتوكل عمل القلب، والتوحيد قول العبد، فإذا عرف القلب التوحيد وفعل ما عرف فقد تم. . . ".

(1)

هو: أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، من التابعين، إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمانه، وثقه العجلي وغيره، وقال عنه الذهبي: كان ثقة في نفسه حجة رأسًا في العلم والعمل عظيم القدر. . " توفي سنة 110 هـ.

انظر: وفيات الأعيان -لابن خلكان- 2/ 69 - 73. وميزان الاعتدال -للذهبي- 1/ 527. وتهذيب التهذيب -لابن حجر- 2/ 263 - 270.

(2)

راجع قول الحسن في: "الشريعة" للآجري - ص: 130 ز وكتاب "الزهد" للإمام أحمد بن حنبل - ص: 263. مع اختلاف يسير في اللفظ.

(3)

في س: وبالتذكر على التفكر.

(4)

لم أقف عليه.

(5)

من هنا يبدأ التمزق في الأصل في نصف صفحة تقريبًا، وأشرنا إلى نظيره في ص: 670 وسوف أشير إلى نهايته.

ص: 675

إثبات اللفظ له، وإنما اللفظ المطلق من القول والنطق والكلام ونحو ذلك يتناولهما جميعًا، كما أن لفظ الإنسان يتناول الروح والبدن جميعًا، وإن كان أحدهما قد يسمى بالاسم مفردًا، ومن لم يسلك هذا المسلك انهالت (1) عليه الحجج لما نفاه من الحق، فإن دلالة الأدلة الشرعية واللغوية والعرفية على شمول الاسم لهما، وعلى تسمية أحدهما به أكثر من أن تحصر.

لكن هذا النطق والكلام الَّذي هو معنى الخبر القائم بالنفس هل هو شيء مخالف للعلم (2) ممكن أن يكون ضدًّا له؟ أو هو هو؟ أو هو مستلزم (3) له؟ فدعوى إمكان مضادته للعلم (4) مما يحس الإنسان بنفسه (5) خلافه، ودعوى مغايرته للعلم -أيضًا- فإن الإنسان لا يحس من نفسه بنسبتين جازمتين كل منهما يتناول المفردين أحدهما علم والأخرى غير العلم (6).

ولهذا لم يتنازع في ذلك لا المسلمون (7) ولا من قبلهم من الأمم، حتَّى أهل المنطق الذين يثبتون نطق النفس ويسمونها النفس الناطقة هم عند التحقيق يردون ذلك إلى العلم والتمييز (8).

ولهذا لما أراد حاذق الأشعرية المستأخرين أبو الحسن الآمدي (9)

(1) في جميع النسخ: وإلا انهالت. والكلام يفهم بدون: وإلا.

(2)

في الأصل: للعالم. وهو تصحيف. والمثبث من: س، ط.

(3)

نهاية التمزق الَّذي أشرنا إلى بدايته في الحاشية (5) من الصفحة السابقة.

(4)

في الأصل: العالم. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(5)

في الأصل: لنفسه. وأثبت المناسب للسياق من: س، ط.

(6)

في ط: علم.

(7)

في ط: المسلمين.

(8)

راجع رأيهم في النفس الناطقة، وحججهم في المواقف -للآيجي- ص: 258، 259.

(9)

هو: أبو الحسن علي بن أبي علي محمد بن سالم الثعلبي الآمدي، الملقب =

ص: 676

أن يحد العلم بعد أن تعقب حدود الناس بالإبطال (1)، ورد قول من زعم أنَّه غني عن الحد (2)، وأنه (3) يعرف بالتقسيم والتمثيل.

قال (4): هو صفة جازمة قائمة بالنفس يوجب لمن قام به

= بسيف الدين، الأصولي المتكلم أحد أئمة الأشاعرة وصاحب التصانيف في المذهب الأشعري، توفي سنة 631 هـ.

راجع: طبقات الشافعية -للسبكي- 8/ 306، 307. وشذرات الذهب -لابن العماد- 5/ 144، 145. والأعلام -للزركلي- 5/ 153.

(1)

راجع تعقب الآمدي لحدود الناس للعلم في كتابه "أبكار الأفكار" - مخطوط في دار الكتب المصرية تحت رقم 1603 - علم الكلام - الجزء الأول - اللوحات 1 - 16.

والكتاب حقق الجزء الأول منه د. أحمد المهدي محمد المهدي للحصول به على درجة الدكتوراة. ولم أقف على الكتاب بعد تحقيقه إلّا على الجزء المتعلق بالدراسة.

(2)

ذهب القاضي -أحد أئمة الأشاعرة- إلى أن الحد راجع إلى قول الحاد المبني عن حقيقة المحدود وصفته، معتمدًا في ذلك على أنَّه لو كان الحد هو الحقيقة لصدق إطلاق الحد على كل ما يصدق عليه إطلاق الحقيقة، وهو غير مطرد في حق الله تعالى حيث يقال له حقيقة ولا يقال له حد.

وقد رد عليه الآمدي في أبكار الأفكار -اللوحة 17 من الجزء الأول زعمه هذا واختار أن الحد لا يكون بنفس الحقيقة، بل بما هو خارج عنها، وهو دليل عليها.

(3)

في س، ط: أو أنَّه.

(4)

في الأصل، س: وقال. والمثبت من: ط. وهو المناسب للسياق.

وقد ورد في "أبكار الأفكار" الجزء الأول - اللوحة 2 - قوله: ". . والأشبه في تحديده أن يقال: العلم عبارة عن حصول صورة معنى في النفس لا يتطرّق إليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الَّذي حصل عليه، ونعني بحصول المعنى في النفس تميزه في النفس عما سواه، وتدخل فيه العلم بالإثبات والنفي والمفرد والمركب وتخرج عنه الاعتقادات والظنون. . ".

وذكر محقق الجزء الأول من "أبكار الأفكار" في القسم الخاص بالدراسة ص: 133، أن الآمدي بعد ذكره لتعريفات إمام الحرمين والغزالي والرازي ومناقشتها قال: "والأشبه في تحديده أن يقال: العلم عبارة عن صفة يحصل بها =

ص: 677

تمييزًا (1).

ومعلوم أنَّه إذا (2) كان في النفس معنى للخبر غير العلم فهذا الحد منطبق عليه، ولهذا لما قسم الأولون والآخرون العلم إلى تصور وتصديق (3) وجعلوا التصور هو العلم بالمفردات الَّذي هو مجرد تصورها، والتصديق العلم بالمركبات الخبرية من النفي والإثبات، فسموا العلم بذلك تصديقًا (4) وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق، ولو كان في النفس تصديق لتلك القضايا الخبرية ليس هو العلم، لوجب الفرق بين العلم بها وتصديقها ولا ريب أن هذا العلم والتصديق قد يعتقده الإنسان، فيعقله ويضبطه ويلتزم موجبه، وقد لا يعتقده ولا يعقله

= لنفس المتصف تمييز حقيقة ما غير محسوسة في النفس. . ".

(1)

في الأصل: بها ميزا. وفي س: به ميزا. وأثبت المناسب لسياق الكلام من: ط.

(2)

في س، ط: إن.

(3)

قال الآمدي في أبكار الأفكار الجزء الأول - الورقة رقم 3: "ومن قال بالفرق بين التصور والتصديق فقد احتج بحجج، وقد أبطلناها في دقائق الحقائق".

ومراده أنَّه أبطلها في كتابه "دقائق الحقائق".

وهذا الكتاب -مخطوط في مكتبة جامعة برنستون بأمريكا- ذكر ذلك د.

أحمد المهدي - محقق الجزء الأول من كتاب "أبكار الأفكار" - راجع القسم الأول- دراسة الكتاب - ص: 94.

(4)

يقول الآيجي في "المواقف" ص: 11:

"المرصد الثالث في أقسام العلم، وفيه مقاصد:

المقصد الأول: أنَّه إن خلا عن الحكم فتصور وإلا فتصديق، وهما نوعان متمايزان بالذات، وباعتبار اللازم المشهور، وهو احتمال الصدق والكذب وعدمه".

وقد بين الجرجاني في شرحه للمواقف - 1/ 87، 88: أن المتبادر أن التصديق هو الإدراك المقارن للحكم، كما تقتضيه عبارة المتأخرين لا نفس الحكم، كما هو مذهب الأوائل، ولا المجموع المركب منه ومن تصورات النسبة وطرفيها، كما اختاره أبو عبد الله الرازي.

ص: 678

و [لا](1) يضبطه و [لا](1) يلتزم موجبه، فالأول هو المؤمن، والثاني هو الكافر - إذا كان ذلك فيما جاءت به الرسل عن الله ليس كل من علم شيئًا عقله واعتقده، أي: ضبطه وأمسكه والتزم موجبه، كما أنَّه ليس كل من اعتقد شيئًا كان عالمًا به، فلفظ العقد والاعتقاد شبيه بلفظ العقل والاعتقال، ومعنى كل منهما يجامع (2) العلم تارة، ويفارقه أخرى، فمن هنا قد يتوهم أن في النفس خبرًا غير العلم، ولفظ العقد والعقل لما كان جاريًا على من يمسك العلم فيعيه (3)، ويحفظه تارة ويعمل بموجبه كان مشعرًا بأنه يوصف بذلك تارة، وبضده تارة، وهو الخروج عن العلم وعن موجبه، وقد يستعمل اللفظ فيمن يمسك بما ليس بعلم (4)، ومن هذين الوجهين امتنع أن يوصف الله بالاعتقاد، فإنه - سبحانه - عالم لا يجوز أن يفارقه علمه، ولا يعتقد ما ليس بعلم، فوصفه به يدل على جواز وصفه بضد العلم، ولفظ الفقه ولفظ الفهم كلاهما يستلزم علمًا مسبوقًا بعدمه، وهذا في حق الله ممتنع.

الوجه الرابع والعشرون:

أن ما ذكروه في إثبات أن معنى الأمر والخبر ليس هو العلم ولا الإرادة، وما يتبع ذلك من ضرب المثل بأمر الامتحان وخبر الكاذب.

يقال في ذلك: لا ريب أن الكاذب المخبر يقدر في نفسه الشيء على خلاف ما هو به، ويخبر به بلسانه، لكن ذلك المقدر هو تقدير العلم، فإن الخبر الصدق الَّذي يعلم صاحبه أنَّه صدق لما كان معناه العلم

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: ط. لتوضيح المعنى.

(2)

في الأصل: بجامع. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(3)

في الأصل: فيعيد. وفي س: فيعيبه. وهو خطأ. والمثبت من: ط.

(4)

في الأصل: يعلم. والمثبت من: س، ط.

ص: 679

المطابق للخارج، فالمخبر الكاذب الَّذي يعلم أنَّه كاذب قدر في نفسه تقديرًا مضاهيًا للعلم، فإن تقدير الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا في الأذهان واللسان أكثر من أن تحصر (1)، فمعنى خبره هو علم مقدر لا علم محقق أن (2) مخبر الخبر في الخارج وجود مقدر لا وجود محقق، والمقدر ليس بمحقق لا في الذهن ولا في الخارج، لكن لما قدر هو أنَّه عالم قدر -أيضًا- وجود المخبر في الخارج، والمستمع لما اعتقد صدقه وحسب أنَّه صادق (3) وأن لما قاله حقيقة، لم يظنه مقدرًا بل حسبه محققًا، وكل اعتقاد فاسد تقديرات (4) ذهنية لا حقيقة لها في الخارج، وهي أخبار واعتقادات وإن لم تكن علومًا (5)، لكن هي في الصورة من جنس المحقق، كما أن لفظ الكاذب من جنس لفظ الصادق، وخطه من جنس خطه، فهما متشابهان في الدلالة خطًا ولفظًا وعقدًا.

فكذلك أمر الممتحن، هو في الحقيقة ليس بطالب ولا مريدٍ أصلًا، بل هو مقدر لكونه طالبًا مريدًا، لأنه يظهر بتقدير ذلك من طاعة المأمور وامتثاله ما يظهر بتحقيقه، ثم إظهار ذلك هو من باب المعاريض قد يجوز ذلك، وقد لا يجوز، مثل أن يفهم المتكلم للمستمع معنى لم يرده المتكلم، واللفظ قد يدل عليه بوجه ولا يدل عليه بوجه، فمعناه في نفسه هو الَّذي لا يفهمه المستمع، ومفهوم المستمع شيء آخر، وكذلك الممتحن مدلول الصيغة في نفسه طلب مقدر (6) وإرادة مقدرة، وبالنسبة

(1) في ط: يحصر.

(2)

في ط: لأن.

(3)

في س، ط: وحسبانه صادق.

(4)

في س: تقريرات.

(5)

في الأصل: معلومًا. وأثبت ما رأيته مناسبًا للكلام من: س، ط.

(6)

في الأصل: طلبًا مقدرًا. والمثبث من: س، ط.

ص: 680

إلى المستمع طلب محقق وإرادة محققة، إذا لم يعلم باطن (1) الأمر، وكذلك مدلول الصيغة عند الكذاب هو ما اختلقه، والاختلاق: هو التقدير، وهو ما قدره في ذهنه مما ليس له حقيقة، وعند المستمع هو ما يجب أن يعنى باللفظ من المعاني المحققة.

الوجه الخامس والعشرون:

أن يقال لهم: أنتم قررتم في أصول الفقه (2) أن اللفظ المشهور الَّذي تتداوله الخاصة والعامة، لا يجوز أن يكون موضوعًا لمعنى دقيق لا يدركه إلّا خواص الناس، وهذا حق، وذلك لأن تكلم الناس باللفظ الَّذي له معنى يدل على اشتراكهم في فهم ذلك المعنى خطابًا وسماعًا، فإذا كان ذلك المعنى لا يفهمه إلّا بعض الناس بدقيق الفكرة، امتنع أن يكون ذلك المعنى هو المراد بذلك اللفظ، لأن معنى ذلك اللفظ يعرفه العامة والخاصة بدون فكرة دقيقة، وقد مثلوا ذلك بلفظ الحركة، هل هو (3) اسم لكون الجسم متحركًا؟ أو لمعنى يوجب كونه متحركًا؟ وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن أظهر الأسماء ومسمياتها هو اسم (4) القول والكلام والنطق، وما يتفرع من ذلك كالأمر والنهي والخبر والاستخبار، إذ أظهر صفات الإنسان هو النطق، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ

(1) في س: با. . . ثم بياض بقدر كلمة. ويبدو أنَّه سهو من الناسخ.

(2)

وقد عقد الرازي لذلك مبحثًا في كتابه "المحصول في علم أصول الفقه" 1/ 1 / 271 - 273 قال فيه:

"المبحث الرابع: في أن اللفظ المشهور المتداول بين الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعًا لمعنى خفي لا يعرفه إلَّا الخواص، مثاله ما يقوله مثبتوا الأحوال من المتكلمين: أن الحركة معنى يوجب للذات كونه متحركًا. . . ".

(3)

في الأصل: هو هل. وهو سهو من الناسخ والمثبت من: س وط.

(4)

في س: هذا سم.

ص: 681

مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (1)، والألفاظ الدالة على هذه المعاني من أشهر الألفاظ، ومعانيها من أظهر المعاني في قلوب العامة والخاصة.

والمعنى الَّذي يقولون: إنه هو الكلام (2)، إما أن يكون باطلًا لا حقيقة له وراء العلم والإرادة واللفظ الدال عليهما، أو يكون له حقيقة، فإن لم تكن له حقيقة بطل قولكم بالكلية، وإن كانت له حقيقة فلا ريب أنها حقيقة مشتبهة متنازع فيها نزاعًا عظيمًا (3)، وأكثر طوائف أهل القبلة وغيرهم لا يعرفونها، ولا يقرون (4) بها، وإذا أثبتموها إنما تثبتونها بأدلة خفية (5) بل قد يعترفون أن معرفة هذه الحقيقة في الشاهد غير ممكن، ولكن يدعون ثبوتها في الغائب، وإذا كان كذلك فمن الممتنع

(1) سورة الذاريات، الآية:23.

(2)

الأشاعرة يقولون: إن الله ليس بمتكلم بالكلام الَّذي هو الحروف والأصوات، بل زعموا أنَّه متكلم بكلام النفس - أي المعنى القائم بالنفس.

يقول الرازي في كتابه "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" ص: 174: ". . وأما المعنى الَّذي يقول أصحابنا فهو غير مجمع عليه، بل لم يقل به أحد إلا أصحابنا".

ورأي الأشاعرة في مسألة الكلام مفصل في الدراسة لمسائل الكتاب.

والشيخ رحمه الله سوف يناقشهم في هذا المعنى الَّذي أثبتوه، ويبين أنَّه قول لم يعرف قبل ابن كلاب، وبعد الأشعري، وهم أثبتوا كلام الله بالأمر والنهي والخبر بالإجماع والنقل عن الأنبياء، وما ثبت بالإجماع والنقل هو الكلام الَّذي تسميه العامة والخاصة كلامًا دون هذا المعنى، وأنه تكلم بالقرآن كله حروفه ومعانيه، وهذا يدل على فساد قولهم وبطلانه.

(3)

وممن نازع في ذلك المعتزلة، فهم يقولون: إن معنى كونه متكلمًا، بيان له كلامًا بيانه فاعل للكلام، وذلك صفة فعليه لا صفة نفسية فانكروا الكلام النفسي ولهم أدلة على ذلك ناقشهم فيها الأشاعرة، وذكرها كل من: الآمدي -في غاية المرام في علم الكلام- ص: 94 - 101. والرازي -في المحصل- ص: 173. والجويني -في الإرشاد- ص: 104.

(4)

في س: يقرن.

(5)

في الأصل: خفيفة. ولعل ما أثبت من: س، ط يناسب السياق.

ص: 682

أن يكون ذلك هو المراد من لفظ الكلام والقول والأمر والنهي، الَّذي لفظه ومعناه من أشهر المعارف عند العامة والخاصة، فعلم أن الَّذي قلتموه باطل بلا ريب.

الوجه السادس والعشرون:

أن ثبوت الكلام لله بالأمر والنهي والخبر أثبتموه (1) بالإجماع، والنقل المتواتر (2) عن الأنبياء عليهم السلام ومن المعلوم أن هذا المعنى الَّذي (3) ادعيتم أنَّه معنى كلام الله، لم يظهر في الأمة إلّا من حين حدوث ابن كلاب ثم الأشعري بعده، إذ قبل (4)[قول](5) ابن كلاب لا (6) يعرف في الأمة أحد فسر كلام الله بهذا.

ولهذا لما ذكر الأشعري اختلاف الناس في القرآن، وذكر أقوالًا كثيرة (7) فلم يذكر هذا القول إلّا عن ابن كلاب، وجعل له ترجمة فقال (8): هذا قول عبد الله بن كلاب.

قال عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلمًا، وإن كلام الله صفة

(1) في الأصل: أثبتوه. وأثبت ما رأيته مناسبًا لسياق الكلام من: س، ط.

(2)

ذكر الإجماع والنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام الآيجي في كتابه "المواقف في علم الكلام" ص: 293.

ونص على الإجماع -أيضًا- عبد القاهر البغدادي في كتابه "أصول الدين" ص: 106، والباقلاني في "التمهيد" ص: 238، 239.

وانظر: نهاية العقول - مخطوط - للرازي - اللوحة رقم 798.

(3)

في س: والذي.

(4)

في الأصل: إذا قيل. وفي س: إذ قيل.

وهو تصحيف فيهما. والمثبت من: ط.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط.

(6)

في ط: ولا.

(7)

راجع هذه الأقوال في "مقالات الإسلاميين" للأشعري - 2/ 256 - 259.

(8)

الأشعري في المقالات - 2/ 257، 258.

ص: 683

له قائمة به، وإنه قديم بكلامه، وإن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحرف (1) ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وإنه معنى واحد (2) بالله تعالى، وإن الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القارئ (3)، وإنه خطأ (4) أن يقال: إن كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير [وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله مختلف ومتغاير](5) والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيًّا، لأن الرسم الَّذي هو العبارة عنه -وهو قراءته- عربي فسمي عربيًّا لعلة، وكذلك سمي عبرانيًّا لعلة (6)، وكذلك سمي أمرًا لعلة، وسمي نهيًا لعلة، وخبرًا لعلة، ولم يزل الله متكلمًا قبل أن يسمي كلامه أمرًا، وقبل وجود العلة التي بها (7) سمى الله (8) كلامه أمرًا، وكذلك القول في تسميته نهيًا (9) وخبرًا، وأنكر أن يكون البارئ لم يزل مخبرًا ولم يزل ناهيًا".

ثم يقال: ولو قدر أنَّه لم يحدثه، فلا ريب أنَّه (10) معنى خفي مشكل متنازع في وجوده، وإنما يتصور وجوده بالأدلة الخفية، وإذا كان

(1) في المقالات: بحروف.

(2)

في ط: واحد قائم.

(3)

في المقالات: القرآن.

(4)

في س: خط. وهو تصحيف.

(5)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س.

وقد ورد في المقالات:. . . ذكرنا لله يختلف ويتغاير.

(6)

في المقالات:. . . لعلة وهي أن الرسم الَّذي هو عبارة عنه عبراني. . .

(7)

في المقالات: لها.

(8)

لفظ الجلالة: لم يرد في: س، ط، والمقالات.

(9)

في المقالات: تسمية كلامه نهيًا.

(10)

في الأصل: أن. وأثبت ما يستقيم به الكلام من: س، ط.

ص: 684