المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه السادس عشر:أن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها - التسعينية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه]

- ‌ الذين قالوا: كلامه مخلوق أرادوا أنَّه لم يكن متكلمًا حتَّى خلق الكلام

- ‌ لفظ (الغير) مجمل

- ‌ قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة

- ‌الصواب الَّذي عليه سلف الأمة

- ‌ يكره تجريد الكلام في المداد الَّذي في المصحف وفي صوت العبد

- ‌ القول بحدوث حروف القرآن قول محدث

- ‌ قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات

- ‌ الألفاظ نوعان:

- ‌الوجه السابع:أنَّه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل

- ‌ النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحدة غير مستلزمة للأخرى

- ‌الوجه الخامس عشر:أن طوائف يقولون لهم: معنى الخبر لم لا يجوز أن يكون هو العلم

- ‌الوجه السادس عشر:أن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها

- ‌الوجه السابع عشر:إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله

- ‌ الَّذي انعقد عليه الإجماع، ونقله أهل التواتر عن المرسلين، هو الكلام الَّذي تسميه الخاصة والعامة كلامًا، دون هذا المعنى

- ‌الجهمية أعظم قدحًا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء

- ‌ كلام ابن فورك في مسألة الكلام

- ‌الوجه السابع والأربعون:أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولًا أو لا يكون

- ‌معنى كون الكلام ليس بمنقسم يراد به شيئان:

- ‌تحقيق الأمر: أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره

- ‌ الترتيب والتعاقب نوعان:

الفصل: ‌الوجه السادس عشر:أن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها

ولهذا لم يكن لهم حجة على ذلك إلَّا ما ادعوه (1) من إمكان وجود معنى خبر بدون العلم والاعتقاد والظن في حق المخلوق، وهو الخبر الكاذب، فقدروا أن الإنسان يخبر بخبر هو فيه كاذب، وذلك يكون مع علمه بخلاف المخبر، كما قدروا أن يأمر أمر امتحان (2) بما لا يريده، ثم ادعوا أن هذا الخبر له حكم ذهني في النَّفس غير الإرادة، وهذه الحجة قد نوزعوا في صحتها نزاعًا عظيمًا ليست هي مثل ما أمكن إثباته في حق الله من وجود آمر لم يرد وقوع مأموره.

‌الوجه السادس عشر:

أن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها

(3)، فإنَّه قد تقدم لفظ الرازي في هذه الحجة بقوله (4):

وأمَّا شبيه معنى الأمر والنهي بالإرادة والكراهة، ومعنى الخبر بالعلم، والأول: باطل لما ثبت في خلق الأفعال وإرادة الكائنات أن الله قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، فوجب أن يكون معنى "افعل" و "لا تفعل" في حق الله شيئًا سوى الإرادة، وذلك هو معنى الكلام.

والثاني: باطل لأنَّه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب.

وهذا هو الأصل الذي اعتمد عليه في محصوله -أيضًا- حيث جعل

(1) في س، ط: ادعاه.

(2)

في ط: آمر امتحانًا.

(3)

في س، ط: أيضًا بفسادها.

(4)

قول الرازي تقدم في ص: 603، وأورده الشَّيخ هنا بتصرف يسير واختلاف في بعض الألفاظ.

ص: 641

معنى الخبر هو الحكم الذهني، الذي انفردوا بإثباته دون سائر العقلاء (1).

وأمَّا أبو المعالي ونحوه، فلم يذكروا دليلًا على إثبات كلام النَّفس سوى ما دل على ثبوت الطّلب الذي ادعوا أنَّه مغاير (2) للإرادة، وذلك إن دل فإنَّما يدل على أن معنى الأمر غير الإرادة لا يدل (3) على أن معنى الخبر غير العلم، لكن استدل على ثبوت التصديق النفساني بأنه مدلول المعجزة، ولم يبين أنَّه غير العلم.

فيقال لهم: أنتم مصرحون بنقيض هذا، وهو أنَّه -يمتنع بثبوت الحكم الذهني على خلاف العلم وأنه إن جاز وجوده فليس هو كلامًا على التحقيق، وإذا نفيتم (4) وجود هذا الحكم الذهني المخالف للعلم أو كونه

(1) الرازي ذكر في المحصول في علم أصول الفقه 2/ 1 / 307 - 314 الأقوال في حد الخبر، وناقشها مناقشة توصل من خلالها إلى أنها تعريفات رديئة باطلة.

ثم قال في ص: 315، 316: "وإذا ثبت هذا فنقول: إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني، فلا شك أن تصوره -في الجملة- بديهي، مركوز في فطرة العقل.

وإن كان المراد منه اللفظة الدّالة على الماهية، فالإشكال غير وارد -أيضًا- لأنَّ مطلق اللفظ الدال على المعنى البديهي التصور يكون -أيضًا- بديهي التصور".

(2)

في س: ادعوه مغايرًا.

يقول أبو المعالي الجويني في كتابه "البرهان في أصول الفقه" 1/ 200، 201: "نقول: الآمر يجد في نفسه اقتضاء وطلبًا للمأمور به، والصيغة التي تتضمنها دالة عليه، وهذا المعني بكلام النَّفس.

فإن قيل: ذلك الذي سميتموه اقتضاء، هو إرادة امتثال الأمر.

قلنا: قد يأمر الآمر غيره، ويفهم المأمور منه الاقتضاء فهمًا ضروريًّا، مستندًا إلى قرائن الأحوال، والآمر يريد من المأمور أن يخالفه لغرض له".

(3)

في الأصل: لا دل.

(4)

في الأصل، س: تقسم.

ص: 642

كلامًا على التحقيق امتنع منكم حينئذ إثبات وجوده ودعوى أنَّه هو الكلام على التحقيق، وذلك أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأنَّ الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب (1) العلم لله وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتَّى الرازي ذكره، لكن قال: إنَّما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه، وإن (2) جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه بل يعلم خلافه امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم أو أنَّه -يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبًا، وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء ليس تناقضًا من جهة اللزوم، فإنهم لما أثبتوا أن معنى الخبر ليس هو العلم أثبتوا حكمًا نفسانيًّا ينافي العلم فيكون كذبًا ويكون مع عدم العلم، ولما أثبتوا الصدق قالوا: إن معنى الخبر الذي هو الحكم النفساني يمتنع أن يحقق (3) بدون العلم أو خلافه فيمتنع أن يكون كذبًا.

قال أبو القاسم الأنصاري (4): شيخ الشهرستاني، وتلميذ أبي المعالي في شرح الإرشاد:

فصل: كلام الله صدق، والدليل عليه إجماع المسلمين والكذب

= وقد صححها ناسخها في الهامش كما أثبته.

وفي ط: انقسم.

(1)

في الأصل: لوجود. وأئبت ما رأيته مناسبًا من: س، ط.

(2)

في س، ط: إذا.

(3)

في ط: يتحقق.

(4)

هو: أبو القاسم سليمان بن ناصر بن عمران الأنصاري الجويني الشَّافعي من أهل نيسابور، توفي سنة 512 هـ. من مؤلفاته: شرح الإرشاد -لأستاذه إمام الحرمين في علم الكلام، ولم تذكر الكتب التي عرفت به شيئًا عن هذا الكتاب.

راجع: طبقات الشَّافعية -للسبكي- 7/ 96 - 99. ومعجم المؤلفين -لكحالة - 4/ 240. والإعلام -للزركلي- 3/ 200. وكشف الظنون -لحاجي خليفة - 1/ 68. وهداية العارفين -للبغدادي- 1/ 398.

ص: 643

نقص:

قال (1): ومما تمسك به الأستاذ أبو إسحاق والقاضي أبو بكر (2) وغيرهما: أن قالوا: الكلام القديم هو القول الذي لو كان كذبًا لنافى العلم به من حيث أن العالم بالشيء من حقه أن يقوم (3) به إخبار عن المعلوم على الوجه الذي هو معلوم له، وهكذا القول في الكلام القائم بالنفس شاهدًا و (4) هو الذي يسمى التدبير أو حديث النَّفس، وهو ما يلازم العلم.

قال (5): فإن قيل: لو كان العلم ينافي (6) الكذب، لم يصح من الواحد منا كذب على طريق الجحد، وليس كذلك فإن ذلك متصور (7) موهوم.

قلنا: الجحد إنما يتصور من العالم بالشيء في العبارة (8) باللسان دون القلب، وصاحب الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب، فلا يصح منه الجحد بالقلب.

فإن قالوا: لا يمتنع تصور الجحد بالقلب، وتصور (9) العلم في النَّفس جميعًا.

قلنا: إن قدر ذلك على ما تصورونه فلم يكن ذلك كلامًا على

(1) القائل: أبو القاسم الأنصاري.

(2)

أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني، والقاضي أبو بكر الباقلاني. وقد تقدمت ترجمتهما.

(3)

في الأصل: تقوم. والمثبت من: س، ط.

(4)

في ط: شاهد أو. . .

(5)

أي: أبو القاسم النصاري.

(6)

في الأصل: من. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(7)

في س: مقصور.

(8)

في س: العبادة.

(9)

في الأصل: س: تصوير. والمثبت من: ط.

ص: 644

التحقيق وإنَّما هو تقدير كلام، كما أن العالم بوحدانيته قد يقدر في نفسه مذهب الثنوية (1)، ثم لا يكون ذلك منافيًا لعلمه بالوحدانية، ولو كان ذلك اعتقادًا حقيقيًّا لنافاه، فإذا ثبت أن العلم يدل على الخبر الصدق، فإذا تعلق الخبر بالمخبر على وجه الصدق فتقدير خبر خلف مستحيل مع الخبر القديم، إذ لا يتجدد الكلام.

قال (2): فإن قيل: فإذا جاز أن يكون الكلام أمرًا من وجه نهيًا من وجه، فكذلك يجوز أن يكون صدقًا من وجه كذبًا من وجه.

قلنا: الأمر في حقيقته (3) هو النَّهي، لأنَّ الأمر بالشيء نهي عن ضده، والآمر بالشيء ناه عن ضده ولا تناقض فيه، ولا يجوز أن يكون الصدق كذبًا بوجه، وتعلق الخبر بالمخبر بمثابة تعلق العلم بالمعلوم وإذا تعلق العلم بوجود الشيء فلا يكون علمًا بعدمه في حال وجوده.

وقال أبو المعالي في إرشاده (4) المشهور الذي هو زبور المستأخرين من أتباعه، كما أن الغرر، وتصفح الأدلة لأبي الحسين (5) زبور

(1) الثنوية: هم القائلون بأصلين -للعالم- أزليين قديمين هما (النور والظلمة) وهما متساويان في القدم، وإن كانا مختلفين في الجوهر والطبع والفعل والمكان والأبدان والأرواح، وغير ذلك، وعنهما كان كل الموجودات، فهم بخلاف المجوس الذين قالوا بحدوث الظلمة.

وهم فرق: المانوية، الديصانية، المرقونية، المزدكية.

راجع في شأنها: الملل والنحل -للشهرستاني 1/ 244 - 253. اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي، ومعه المرشد الأمين إلى اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، تأليف: طه عبد الرؤوف سعد، ومصطفى الهواري - ص: 138 - 142.

(2)

القائل: أبو القاسم الأنصاري.

(3)

في ط: الحقيقة.

(4)

الإرشاد -لأبي المعالي الجويني- ص: 396، 397.

(5)

هو: أبو الحسين البصري المعتزلي -تقدمت ترجمته- له كتاب "غرر الأدلة" يقع في مجلد كبير، وله "تصفح الأدلة في أصول الدين" في مجلدين ولم أجد =

ص: 645

المستأخرين من المعتزلة، وكما أن الإشارات لابن سينا (1) زبور المستأخرين من الفلاسفة، تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، وإن كانت طائفة أبي المعالي أمثل وأولى بالإسلام، قال: فصل: في الأسماء والأحكام:

اعلموا أن غرضنا من هذا الفصل يستدعي ذكر (2) حقيقة الإيمان، وهذا ممَّا تباينت فيه مذاهب الإسلاميين.

= أي معلومات عن هذين الكتابين سوى ما ذكرته في المراجع التي تهتم بالتراث مثل: كشف الظنون -لحاجي خليفة- 1/ 413، 2/ 1200. وهدية العارفين -للبغدادي- 2/ 69. والأعلام -للزركلي- 7/ 161. ومعجم المؤلفين -لكحالة - 11/ 20. ولم يذكرهما فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي عندما تحدث عن أبي الحسين وآثاره في 1/ 4 / 86، 87.

(1)

هو: أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، صاحب التَّصانيف في الفلسفة والطب والمنطق، مات سنة 428 هـ.

قال عنه الشَّيخ رحمه الله: "وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، ولم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنَّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي الذي كان هو وأهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض".

ومن مصنفاته الكثيرة كتاب "الإشارات والتبيهات" في المنطق والحكمة، وهو كتاب صغير الحجم، أورد فيه المنطق في عشرة مناهج، والحكمة في عشرة أنماط والكتاب مطبوع، وله عدة شروح منها شرح فخر الدين الرازي، ونصير الدين الطُّوسي، وسراج الدين الأموي، وغيرهم.

راجع: وفيات الأعيان -لابن خلكان- 2/ 157 - 162. والرد على المنطقيين -لابن تيمية- ص: 141، 142. وسير أعلام النبلاء -للذهبي- 17/ 531 - 536. وكشف الظنون -لحاجي خليفة- 1/ 94، 95.

(2)

في الإرشاد: يستدعي تقديم ذكر. . .

ص: 646

فذهب الخوارج (1) إلى أن الإيمان هو الطاعة، ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة (2)، واختلفت مذاهبهم في تسمية النوافل إيمانًا، وصار أصحاب الحديث (3) إلى أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعلم بالأركان، وذهب بعض القدماء (4) إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار بها، وذهبت الكرامية (5) إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان

(1) راجع رأيهم هذا في: أصول الدين -للبغدادي- ص: 249. والفصل في الملل والأهواء والنحل 3/ 188. والإيمان -لابن تيمية- ص: 186.

(2)

اختلفت المعتزلة في حقيقة الإيمان، وتباينت أقوال علمائهم في معرفته، وللوقوف على ذلك تراجع المصادر التالية: شرح الأصول الخمسة -للقاضي عبد الجبار- ص: 707. ومقالات الإسلاميين -للأشعري- 1/ 329 - 331. والفصل في الملل والأهواء والنحل -لابن حزم- 3/ 188. وأصول الدين -للبغدادي- ص: 249.

(3)

راجع قول السلف رحمهم الله في الإيمان، وأنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية في: السنة -لعبد الله بن أحمد بن حنبل- ص: 81 - 119. والشرح والإبانة على أصول السنة والديانة -لابن بطة- ص: 176 - 179. وهناك كتب أوضحت حقيقة الإيمان عند السلف مع الرد على المخالف لا يمكن تحديد صفحات معينة منها، مثل:

كتاب الإيمان لابن مندة، والإيمان لابن أبي شيبة، والإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام، والإيمان لابن تيمية -رحمهم الله تعالى.

وراجع قولهم في: مجموع فتاوى الشَّيخ رحمه الله 7/ 170، 171. وشرح الطحاوية -لصدر الدين الحنفي- ص: 373 فما بعدها.

(4)

أي: بعض المتقدمين من أصحابه، والإيمان بهذا المفهوم هو رأي المرجئة وهم أصناف، وقد اختلفوا في حقيقته، ولكن الرأي الذي يجمع أغلب فرقهم القول بأنه تصديق بالقلب، وإقرار باللسان.

وراجع رأيهم في: فتح الباري -لابن حجر- 1/ 94. ومجموع فتاوى شيخ الإسلام- 7/ 195. وممّا لأنَّه الإسلاميين -للأشعري- 1/ 213 - 223. والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع -للملطي- ص: 146 - 156.

(5)

الكرامية يذهبون إلى أن الإيمان هو الإقرار دون التصديق، والأعمال غير داخلة في مسماه.

وللاطلاع على رأيهم، تراجع الكتب التالية: الملل والنحل -للشهرستاني =

ص: 647

فحسب، ومضمر الكفر إذا أظهر الإيمان مؤمن حقًّا عندهم، غير أنَّه يستوجب الخلود في النَّار، ولو أضمر الإيمان ولم يتيقن (1) منه إظهاره فهو ليس بمؤمن، وله الخلود في الجنة.

قال (2): والمرضي عندنا (3) أن حقيقة الإيمان التصديق بالله، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على الحقيقة (4) كلام النَّفس، ولا يثبت كلام النَّفس كذلك إلّا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النَّفس يثبت على حسب الاعتقاد، والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة، وأصل (5) العربية، وهو (6) لا ينكر فيحتاج إلى إثباته ومن (7) التنزيل:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (8) معناه: ما أنت (9) بمصدق لنا.

ثم الغرض من هذا الفصل (10) أن من خالف أهل الحق لم يصف

= - 1/ 113. ومقالات الإسلاميين للأشعري- 1/ 223. والفصل في الملل والأهواء والنحل -لابن حزم- 3/ 188.

(1)

في الإرشاد: ولم يتفق.

(2)

القائل: الجويني في الإرشاد، والكلام متصل بما قبله.

(3)

هذا هو مذهب الأشاعرة في حقيقة الإيمان، وأنه تصديق فقط. وراجع رأيهم في الكتب التالية:

اللمع -لأبي الحسن الأشعري- ص: 123. وأصول الدين -لعبد القاهر البغدادي- ص: 248. والتمهيد -للبقلاني- ص: 346، 347. والمواقف -للإيجي- ص: 384 - 388.

(4)

في الإرشاد: التحقيق.

(5)

في الأصل: وأهل. وأثبت المناسب من: س، ط، والإرشاد.

(6)

في الإرشاد: وهذا.

(7)

في الإرشاد: وفي.

(8)

سورة يوسف، الآية:17.

(9)

في الإرشاد: وما أنت.

(10)

في س: الفضل. وهو تصحيف.

ص: 648

الفاسق بكونه مؤمنًا.

فقد صرح بأنَّ كلام النَّفس لا يثبت إلّا مع العلم، وأنه إنَّما يثبت على حسب الاعتقاد، وهذا تصريح بأنه لا يكون مع [عدم](1) العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النَّفس وادعوا أنَّه مغاير للعلم.

وقال (2) صاحبه أبو القاسم الأنصاري -شيخ الشهرستاني- في شرح الإرشاد- بعد أن ذكر شرح قول الخوراج والمعتزلة والكرامية:

قال: "وأمَّا مذهب (3) أصحابنا، فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق، وبه قال شيخنا أبو الحسن، واختلف جوابه في معنى التصديق، فقال مرَّة: هو المعرفة بوجوده وقدمه وإلاهيته (4)، وقال مرَّة: التصديق قوله في النَّفس غير أنَّه يتضمن المعرفة ولا يوجد دونها، وهذا ممَّا ارتضاه القاضي، فإن الصدق والكذب والتصديق والتكذيب وبالأقوال أجدر، فالتصديق إذا قول في النَّفس، ويعبر عنه باللسان فتوصف العبارة بأنها تصديق، لأنها عبارة عن التصديق هذا ما حكاه شيخنا الإمام.

قلت: فقد ذكر عن أبي الحسن الأشعري قولين:

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

راجع هذا النقل مع اختلاف في الألفاظ -في كتاب "الإيمان" لابن تيمية رحمه الله ص: 122، 123.

وقد نسب هذا القول فيه إلى أبي المعالي الجويني، وهو خطأ، والصّواب كما أورده الشَّيخ رحمه الله هنا ونسبه إلى تلميذه أبي القاسم الأنصاري ولم أجد هذا النقل في: الإرشاد -لأبي المعالي- باب: في الأسماء والأحكام، فصل في معنى الإيمان ص: 396 - 400.

(3)

في س، ط: مذاهب.

(4)

في س: والإلهية. وفي ط: وآلهيته.

ص: 649

أحدهما: إن التصديق هو المعرفة (1)، وهذا قول جهم.

(1) الأشاعرة يفرقون بين المعرفة والتصديق، لكي لا يفهم من رأيهم في حقيقة الإيمان -وهو التصديق- أنه رأي الجهمية والدليل على ذلك ما يقوله سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد 2/ 250، 251:

". . والمذهب أنَّه (يعني التصديق) غير العلم والمعرفة، لأنَّ من الكفار من كان يعرف الحق ولا يصدق به عنادًا واستكبارًا، قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 146 / البقرة. وقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 144 / البقرة. وقال {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. . .} 14 / النمل. وقال حكاية عن موسى عليه السلام لفرعون {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} 102 / الإسراء.

فاحتيج إلى الفرق بين العلم بما جاء به النَّبيُّ عليه السلام وهو معرفته وبين التصديق ليصبح كون الأول حاصلًا للمعاندين دون الثَّاني، وكون الثَّاني إيمانًا دون الأول، فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار والتكذيب، وضد المعرفة النكارة والجهالة، وإليه أشار الإمام الغزالي رحمه الله حيث فسر التصديق بالتسليم، فإنَّه لا يكون مع الإنكار والاستكبار بخلاف العلم والمعرفة".

وفصل بعضهم زيادة تفصيل وقال: التصديق عبارة عن ربط القلب بما علم من إخبار المخبر، وهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق، ولهذا يؤمر ويثاب عليه، بل يجعل رأس العبادات، بخلاف المعرفة فإنَّها ربما تحصل بلا كسب، كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنَّه جدار أو حجر".

فالأشاعرة يفرقون بينهما -كما تقدم- فإنهم يجعلون المعرفة ضد النكارة والجهل وهي حاصلة للمعاندين كإبليس وفرعون، وهي تقع ضرورة وبلا كسب واختيار بخلاف التصديق فهو ضد الإنكار والتكذيب، وهو غير حاصل للمعاندين، ويقع بالكسب والاختيار.

وشيخ الإسلام رحمه الله فيما أظن -لا يميل إلى التَّفريق بينهما، ويصف الفرق بينهما بأنه أمر دقيق وأكثر العقلاء ينكره فيقول رحمه الله في كتابه "الإيمان" ص: 340:

". . والفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر النَّاس =

ص: 650

والثاني: أن التصديق قول في النفس يتضمن المعرفة، هو اختيار ابن الباقلاني وابن الجويني، وهؤلاء قد صرحوا بأنه يتضمن المعرفة، ولا يتصور أن يقوم في النفس تصديق مخالف لمعرفة كما (1) ذكروه، ولو جاز أن يصدق بنفسه بخلاف علمه واعتقاده لانتقض (2) أصلهم في الإيمان إذا (3) كان التصديق لا ينافي اعتقاد خلاف ما صدق به، فلا يجب أن يكون مؤمنًا بمجرد تصديق النفس على هذا التقدير، وكل من القولين ينقض ما استدل به على أن التصديق غير العلم.

قال النيسابوري (4): "وحكى الإمام أبو القاسم الإسفرائيني اختلافًا عن أصحاب أبي الحسن (5) في التصديق"، ثم قال (6) والصحيح

= لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له".

وفي نظري: أنَّه لا فرق بين المعرفة والتصديق، ذلك أنَّه لا يمكن لأحد أن يصدق بشيء ما لم يعرفه.

وهناك فرق بين رأي الأشاعرة والجهمية في الإيمان:

فرأي الجهمية: والذي هو أقبح قول قيل في الإيمان وأفسده: تصديق بالقلب فقط، ولم يجعلوا أعمال القلوب -من محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، والتوكل على الله وخشيته، وغير ذلك من أعمال القلوب- من الإيمان.

ورأي الأشاعرة هو تصديق بالقلب فقط، ولكن أعمال القلوب داخلة فيه، ومن هنا يظهر الفرق بين الرأيين، وأن رأي الجهمية أشنع وأفسد.

(1)

في الأصل: ما. وأثبت ما رأيته مناسبًا لسياق الكلام من: س، ط.

(2)

في الأصل: لا ينتقض. وأثبت المناسب للكلام من: س، ط.

(3)

في الأصل: إذ. والمثبت من: س، ط.

(4)

هو: أبو القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري النيسابوري، شارح الإرشاد للجويني وقد تقدم الكلام عليه وعلى شرحه ص:643.

(5)

في الأصل: الحسين. والمثبت من: س، ط. وهو الصحيح في كنيته. وتقدم التعريف به ص:167.

(6)

القائل: الإسفرائيني.

ص: 651

من الأقاويل في معنى التصديق ما يوافق اللغة، لأن التكليف بالإيمان ورد بما يوافق اللغة، والإيمان بالله ورسوله على موافقة اللغة هو العلم بأن الله ورسوله صادقان في جميع ما أخبرا به، والإيمان في اللغة مطلقًا هو اعتقاد صدق المخبر في خبره، إلّا أن الشرع جعل هذا التصديق علمًا، ولا يكفي أن يكون اعتقادًا من غير أن يكون علمًا، لأن من صدق الكاذب واعتقد صدقه فقد آمن به، ولهذا قال في صفة اليهود:{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} (1) يعني: يعتقدون صدقهما".

قلت: ليس الغرض هنا ذكر تناقضهم في مسمى الإيمان، وفي التصديق هل هو التصديق بوجود الله وقدمه وإلاهيته، كما قاله الأشعري؟ أو [هو] (2) تصديق (3) فيما أخبر به كما ذكره غيره؟ أو التناقض كما في كلام صاحب الإرشاد؟ حيث قال: الإيمان هو التصديق بالله، فالمؤمن بالله من صدقه، فجعل التصديق بوجوده هو تصديقه في خبره مع تباين الحقيقتين (4) فإنه فرق بين التصديق بوجود الشيء وتصديقه، ولهذا يفرق القرآن بين الإيمان بالله ورسوله، وبين الإيمان للرسول، إذ الأول هو الإقرار بذلك والثاني هو الإقرار له، كما في قوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤمِنٍ لَنَا} (5) وفي قوله {يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤمِنُ لِلْمُؤمِنِيْنَ} (6)، وفي قوله:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} (7)، وقد قال:

(1) سورة النساء، الآية:51.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(3)

في الأصل، س: تصديقه، والمثبت من: ط. وهو المناسب للسياق.

(4)

في الأصل: الحقيقين. والمثبت من: س، ط.

(5)

سورة يوسف، الآية:17.

(6)

سورة التوبة، الآية:61.

(7)

سورة التوبة، الآية:94.

ص: 652

{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (1)، فميز الإيمان به من الإيمان بكلماته وكذلك قوله:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (2) الآية، وقوله:{كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (3) فليس الغرض أنهم (لم)(4) يهتدوا لمثل هذا في مثل هذا الأصل (5) الَّذي لم يعرفوا فيه لا الإيمان ولا القرآن، وهما نور الله الَّذي بعث به رسوله كما قال:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (6).

وإنما الغرض أن التصديق قد صرح هؤلاء بأنه هو العلم، أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علمًا، وأنهم مضطرون إلى أن يقولوا ذلك، وهو أبلغ من قول بعضهم: إنه مستلزم للعلم في تمام ما ذكره عن أبي القاسم الإسفراييني.

وقال (7): "حكى الإمام أبو بكر بن فورك عن أبي الحسن أنَّه قال: الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به، ثم من الاعتقاد ما هو علم، ومنه ما هو ليس بعلم، فالإيمان بالله هو اعتقاد صدقه، إنما يصح إذا كان عالمًا بصدقه في إخباره، وإنما يكون كذلك إذا كان عالمًا بأنه

(1) سورة الأعراف، الآية:158.

(2)

سورة البقرة، الآية:136.

(3)

سورة البقرة، الآية:285.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(5)

في س، ط: الأصلي.

(6)

سورة الشورى، الآيتان: 52، 53.

(7)

القائل: النيسابوري أبو القاسم.

وراجع حكاية ابن فورك عن أبي الحسن الأشعري في كتاب الإيمان -لابن تيمية ص: 125 مع اختلاف في الألفاظ.

ص: 653

متكلم، والعلم بأنه متكلم بعد العلم [بأنه](1) حي، والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل بعد (2) العلم بالفعل وكون العالم فعلًا له، وذلك يتضمن العلم بكونه قادرًا [وله قدرة (3)، وعالمًا وله علم، ومريدًا وله (4) إرادة، وسائر ما لا يصح العلم بالله تعالى إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان (5) ".

قال (6): "ثم السمع قد ورد بضم شرائط أخر إليه، وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلًا وتركًا، وهو أن الشرع أمره (7) بترك السجود والعبادة للصنم، فلو أتى به دل على كفره، وكذلك لو قتل نبيًّا أو استخف به دل على كفره، وكذلك لو ترك تعظيم المصحف والكعبة دل على كفره، وكذلك لو خالف إجماع الخاص والعام في شيء أجمعوا عليه دل خلافه إياهم على كفره، فأي واحد مما استدللنا به على كفره مما منع الشرع أن يقرنه بالإيمان إذا وجب ضمه إلى الإيمان -لو وجد- دلنا ذلك على [أن](8) التصديق الَّذي هو الإيمان مفقود من قلبه،

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والإيمان لابن تيمية.

(2)

في ط: وبعد.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: الإيمان.

(4)

في س: ومريدًا له وله. وهو تصحيف.

(5)

بعد كلمة "الإيمان" علق شيخ الإسلام رحمه الله على كلام أبي الحسن الأشعري المتقدم في كتاب "الإيمان" ص: 125، بقوله:

"قلت: هذا مما اختلف فيه قول الأشعري، وهو أن الجهل ببعض الصفات هل يكون جهلًا بالموصوف، أم لا؟ على قولين، والصحيح الَّذي عليه الجمهور وهو آخر قوليه، أنَّه لا يستلزم الجهل بالموصوف، وجعل إثبات الصفات من الإيمان مما خالف فيه الأشعري جهمًا، فإن جهمًا غالى في نفي الصفات، بل وفي الأسماء".

(6)

القائل: أبو الحسن الأشعري. الإيمان ص: 125.

(7)

في الأصل: أمر. وأثبت المناسب من: س، ط، والإيمان.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة يستقيم بها الكلام من كتاب الإيمان.

ص: 654

فكذلك كلما كفرنا به المخالف من طريق التأويل، فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه، لاستحالة أن يقضي (1) السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه".

قال (2): "ومن أصحابنا من قال بالموافاة (3)، فيشترط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به، ويختم عليه، ومنهم من لم يجعل ذلك شرطًا فيه في الحال، وهل يشترط في الإيمان الإقرار؟ اختلفوا فيه بعد (4) أن لم

(1) في الأصل: يغض. ولا معنى لها. والمثبت من: س، ط.

(2)

القائل: أبو القاسم الأنصاري.

(3)

الموافاة عند الأشاعرة يبينها التفتازاني بقوله: "ومعنى الموافاة: الإتيان والوصول إلى آخر الحياة، وأول منازل الآخرة، ولا خفاء في أن الإيمان المنجي، والكفر المهلك هو ما يكون في تلك الحال، وإن كان مسبوقًا بالضد، لا ما ثبت أولًا وتغير إلى الضد، فلهذا يرى الكثير من الأشاعرة القول بأن العبرة بإيمان الموافاة وسعادتها، بمعنى أن ذلك هو المنجي، لا بمعنى أن إيمان الحال ليس بإيمان وكفره ليس بكفر، وكذا السعادة والشقاوة، والولاية والعداوة. . ".

راجع: شرح المقاصد -لسعد الدين التفتازاني- 2/ 263، 264.

فجمهور الأشاعرة يرون عدم جواز الاستثناء في الإيمان في الماضي والحاضر، لأن ذلك يعتبر عندهم شكًّا في الإيمان.

أما في المستقبل -أي: باعتبار الموافاة- فيرون جواز الاستثناء في الإيمان، وحجتهم في ذلك أن الإنسان لا يدري ما يوافي الله تعالى به من الإيمان فخاتمته مجهولة، فيستثنى في ذلك رجاء حسن العاقبة.

وشيخ الإسلام رحمه الله بين في كتابه "الإيمان" ص: 120، 121: أن القول بأن الإيمان هو ما يوافي به العبد ربه قول محدث لم يقله أحد من السلف رحمهم الله بل ليس في الشرع ما يدل عليه، لكن هؤلاء ظنوا أن الذين استثنوا في الإيمان من السلف كان هذا مأخذهم، لأن هؤلاء وأمثالهم لم يكونوا خبيرين بكلام السلف، بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقوه عن المتكلمين من الجهمية ونحوهم من أهل البدع.

(4)

في الأصل: بل. وأثبت ما رأيته مناسبًا من: س، ط.

ص: 655

يختلفوا في ترك العناد شرطًا (1)، وهو أن يعتقد أنَّه متى طولب بالإقرار أتى به، فأما قبل أن يطالب به، مثهم من قال: لا بد من الإتيان به حتَّى يكون مؤمنًا، وهذا القائل يقول: التصديق هو المعرفة والإقرار جميعًا، وهذا قول الحسين بن الفضل البجلي (2)، وهو مذهب أبي حنيفة

(1) كذا في جميع النسخ. ولعل الصواب "شرعًا".

وقد نقل شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه "الإيمان" ص: 123، عن أبي المعالي الجويني -كذا في كتاب الإيمان، ولعل الصواب عن أبي القاسم الأنصاري، وقد رجعت إلى كتاب الإرشاد لأبي المعالي باب في الأسماء والأحكام فصل في معنى الإيمان فلم أجد هذا النقل- ص: 396 - 400 وهذا النقل في كتاب الإيمان بعد النقل مباشرة عن أبي القاسم المتقدم في ص: 504 - قوله: "ومنهم من اكتفى بترك العناد، فلم يجعل الإقرار أحد ركني الإيمان فيقول: الإيمان هو التصديق بالقلب، وأوجب ترك العناد بالشرع، وعلى هذا الأصل يجوز أن يعرف الكافر الله، وإنما يكفر بالعناد، لا لأنه ترك ما هو الأهم في الإيمان.

وعلى هذا الأصل يقال: إن اليهود كانوا عالمين بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلّا أنهم كفروا عنادًا وبغيًا وحسدًا، وعلى قول شيخنا أبي الحسن: كل من حكمنا بكفره فنقول: إنه لا يعرف الله أصلًا، ولا عرف رسوله ولا دينه".

ثم قال الشيخ رحمه الله: "قال أبو القاسم الأنصاري تلميذه: كأن المعنى لا حكم لإيمانه ولا لمعرفته شرعًا".

وعلق على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في المصدر السابق ص: 123، 124 بقوله:"قلت: وليس الأمر على هذا القول كما قاله الأنصاري هذا، ولكن على قولهم: المعاند كافر شرعًا، فيجعل الكفر تارة بانتفاء الإيمان الَّذي في القلب وتارة بالعناد، ويجعل هذا كافرًا في الشرع وإن كان معه حقيقة الإيمان الَّذي هو التصديق، ويلزمه أن يكون كافرًا في الشرع، مع أن معه الإيمان الَّذي هو مثل إيمان الأنبياء والملائكة، والحذاق في هذا المذهب، كأبي الحسن، والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم، عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل، فقالوا: لا يكون واحد كافرًا إلَّا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق، والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره، فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله، ولهذا أنكر عليهم جماهير العقلاء، وقالوا: هذا مكابرة وسفسطة".

(2)

هو: أبو علي الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي، ثم النيسابوري الإمام =

ص: 656

وأصحابه، وبقريب (1) من هذا كان يقول (2) الإمام أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان (3) من متقدمي أصحابنا.

ونحن نقول: من أتى بالتصديق بالقلب واللسان فهو المؤمن باطنًا وظاهرًا، ومن صدق بقلبه وامتنع من الإقرار فهو معاند كافر، يكفر كفر عناد، ومن أقر بلسانه وجحد بقلبه فهو كافر عند الله وعند نفسه، ويجري عليه أحكام الإيمان لما أظهر (4) من علامات الإيمان.

ومن أصحابنا من جعل الممعارف مجموعة تصديقًا واحدًا، أو هو المعرفة بالله وصفاته ورسوله وبأن دين الإسلام حق.

قال (5): "وهذه الجملة تصديق واحد"، ثم قال:"هذا ما ذكره أبو القاسم الإسفرائيني".

قلت: ليس المقصود هنا بيان ما ذكروه من قول الجهمية والمرجئة في الإيمان، وما في ذلك من التناقض، حيث جَعْله التصديق الَّذي في القلب، ثم سلبه عمن ترك النطق عنادًا، وأن عنده كلما سمي كفرًا فلأنه مستلزم لعدم هذا التصديق، ولكن دلالته على العدم تعلم تارة بالعقل وتارة بالشرع، لأن ما يقوم بالقلب من الاستكبار على الله والبغض له ولرسوله (6) ونحو ذلك يكون هو في نفسه كفرًا وما ذكروه من التصديق

= المفسر. قال عنه الحاكم: إمام عصره في معاني القرآن. توفي سنة 282 هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء -للذهبي- 13/ 414 - 416. ولسان الميزان -لابن حجر- 1/ 307، 308. وطبقات المفسرين -للداودي- 1/ 159، 160.

(1)

في الأصل: تقريب. وفي ط: ويقرب. والمثبت من: س. وهو المناسب للسياق.

(2)

في س: كأنه يقول. وفي ط: ما كان يقوله.

(3)

وهو: ابن كلاب. وقد تقدم التعريف به ص: 169.

(4)

في الأصل، س: ظهر. وأثبت المناسب للكلام من: ط.

(5)

القائل: أبو القاسم الأنصاري.

(6)

في س، ط: ولرسله.

ص: 657

الخاص الَّذي وصفوه وهو تصديق بأصول الكلام الَّذي وضعوه.

وإنما الغرض أنهم يجعلون التصديق هو نفس المعرفة كما في كلام هذا وغيره، وكما ذكروه عن أبي الحسن.

وغايتهم إذا لم يجعلوه مستلزمًا للمعرفة أن يجعلوه مستلزمًا لها.

قال النيسابوري: "وقال الأستاذ أبو إسحاق في المختصر (1): "الإيمان في اللغة والشريعة، التصديق ولا يتحقق ذلك إلّا بالمعرفة والإقرار، وتقوم الإشارة والانقياد مقام العبارة (2) ".

قال: "وتحقيق المعرفة تحصيل ما قدمناه من المسائل في هذا الكتاب وتحقيقه".

قال النيسابوري: "أراد بالكتاب هو المختصر وأشار بما قدمه فيه [إلى](3) جملة ما قدمه من قواعد العقائد.

قال: وقال في هذا الكتاب: "الإيمان هو المعرفة واعتقاد (4) الإقرار عند الحاجة أو ما يقوم مقام الإقرار".

[وقال](5) في كتاب الأسماء والصفات (6): "واتفقوا على أن

(1) لم يذكر هذا الكتاب ضمن مؤلفات أبي إسحاق في المصادر التي وقفت عليها، فلعل هذا الاسم اختصار لاسم كتاب لم أقف عليه.

راجع: كشف الظنون -لحاجي خليفة- 1/ 45، 2/ 51، 2/ 1157، 1257. وهدية العارفين -للبغدادي- 1/ 8. ومعجم المؤلفين -لكحالة- 1/ 83. بالإضافة إلى مصادر ترجمته المتقدمة في ص:483. وراجع هذا القول في "الإيمان" لابن تيمية - ص: 122.

(2)

في س: العبادة.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط. توضح المعنى.

(4)

في الأصل: والاعتقاد. والمثبت من: س، ط.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من كتاب الإيمان لابن تيمية يستقيم بها الكلام.

(6)

في كتاب "الإيمان" لابن تيمية - ص: 122: "وقال أيضًا أبو إسحاق في كتاب =

ص: 658

ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة، وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكرناه، واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها ترك قتل الرسول، وترك إيذائه (1)، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من المتروك، ومن الأفعال نصرة الرسول والذب عنه، فقالوا: إن جميعه مضاف (2) إلى التصديق شرعًا، وقال آخرون إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان.

قال النيسابوري (3): "هذه جملة كلام مشايخنا في ذلك، قال (4): وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضًا ونفلًا، والانتهاء عما نهى (5) عنه تحريمًا وإذنًا (6)، وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي (7)،

= الأسماء والصفات: اتفقوا. . . ".

وكتاب الأسماء والصفات لم تذكره المصادر التي عرفت بأبي إسحاق ومؤلفاته -وتقدم ذكر بعضها- وإنما أشارت إلى أن له مؤلفات كثيرة يصعب حصرها منها: الجامع في أصول الدين، والرد على الملحدين في خمس مجلدات.

ولعل هذا المصنف والذي قبله ذكرا ضمن هذا الجامع. والله أعلم.

(1)

في جميع النسخ: تعظيمه، والمثبت من الإيمان، ولعله المناسب للسياق.

(2)

في الإيمان: وقالوا: إن جميعه يضاف. .

(3)

في شرح الإرشاد -للجويني، وراجعه في كتاب "الإيمان" لابن تيمية- ص:121. مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(4)

القائل: النيسابوري.

(5)

نهى: ساقطة من: س.

(6)

كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب:"وأدبًا" كما وردت اللفظة في كتاب الإيمان لابن تيمية، وأشار ناشر الكتاب إلى أن الكلمة وردت بلفظ "إذنًا" في كتاب الإيمان طبع الهند سنة 1311 هـ، والتي اعتمد عليها في نشر الكتاب لمقابلتها على نسخة خطية في نجد.

(7)

هو: أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن الثقفي النيسابوري، الفقيه =

ص: 659

ومن (1) متقدمي أصحابنا أبو العباس القلانسي (2).

وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد (3)، وهو قول مالك بن أنس (4)، ومعظم أئمة السلف، وكانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان.

قلت: وذكر الكلام إلى آخره مما ليس هذا موضعه (5)، فإنه ليس الغرض هنا ذكر أقوال السلف والأئمة، واعتراف هؤلاء بما اجترؤوا عليه

= الواعظ، وأحد الأئمة، قال فيه الحاكم: الإمام المقتدى به في الفقه والكلام والوعظ والورع والعقل والدين. توفي سنة 328 هـ.

راجع: طبقات الشافعية -للسبكي- 3/ 192 - 194. والعبر -للذهبي- 2/ 31. وشذرات الذهب -لابن العماد- 2/ 315.

(1)

في س: من.

(2)

هو: أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي، من معاصري أبي الحسن الأشعري، واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات، ولم أقف على ترجمة له في كتب الرجال التي بين يدي.

راجع: "تبيين كذب المفتري" -لابن عساكر- ص: 398. وللوقوف على رأيه في الإيمان يراجع: الإرشاد -للجويني- ص: 399.

(3)

هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد، الطائي المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري، وهو من أهل البصرة، سكن بغداد وعليه درس القاضي أبو بكر الباقلاني الكلام، قال الخطيب البغدادي: له كتب حسان في الأصول.

راجع: تاريخ بغداد -للبغدادي- 1/ 343. وسير أعلام النبلاء -للذهبي- 16/ 305. وطبقات الشافعية -للسبكي- 3/ 368.

(4)

راجع قول مالك بن أنس وأئمة السلف في الإيمان، وأنه قول وعمل يزيد وينقص، في: كتاب السنة -لعبد الله بن الإمام أحمد- ص: 81 - 101. والشريعة -للآجري- ص: 116 - 120، 130 - 132. والشرح والإبانة على أصول السنة والديانة -لابن بطة- ص: 176 - 178. والإيمان -لابن أبي شيبة- ص: 21. وشرح الطحاوية -لصدر الدين الحنفي- ص: 373.

(5)

راجع بعضه مما لم يذكره الشيخ هنا في كتابه "الإيمان" ص: 121.

ص: 660

من مخالفة السلف والأئمة وأهل الحديث في الإيمان، مع علمهم بذلك لِما عَنَتَ (1) لهم من شبهة الجهمية المرجئة.

وإنما الغرض بيان ما ذكره الإسفراييني، من أن التصديق لا يتحقق إلّا بالمعرفة والإقرار، وإن كان أراد المعرفة كما قرره هو من قواعده، ولم يُحل ذلك على ما جاء به الرسول من أصول الإيمان، فإذا كان التصديق لا يتحقق [إلا](2) بالمعرفة وبالإقرار -أيضًا- باللسان، كان هذا من كلامهم دليلًا على امتناع وجود التصديق بالقلب وتحققه إلا مع الإقرار باللسان وهذا يناقض قولهم: إن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس، فهذه مناقضة ثابتة، فإن التصديق الَّذي في القلب إن تحقق بدون لفظ بطل هذا، وإن لم يتحقق إلَّا بلفظ أو ما يقوم مقامه بطل ذاك، فهذا كلامهم، وهو يقتضي أنهم لم يكتفوا بأن جعلوا العلم ينافي الكذب النفساني، حتَّى جعلوه يوجب الصدق النفساني، فيمتنع وجود العلم بدون الصدق، فصار هذا مبطلًا لما أثبتوا به الخبر النفساني، من أنَّه يمكن ثبوته بدون العلم وعلى خلاف العلم وهو الكذب، وهم كما احتجوا بالعلم على انتفاء الكذب النفساني وثبوت الصدق النفساني، فقد احتجوا به -أيضًا- على أصل ثبوت الكلام النفساني.

قال أبو القاسم النيسابوري: "ومما ذكره الأستاذ أبو إسحاق -يعني في إثبات كلام الله النفساني الَّذي أثبتوه- أن قال: الأحكام لا ترجع إلى صفات الأفعال، ولا إلى أنفسها، وإنما ترجع إلى قول الله، وهذا من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد، فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله، وجواز إرسال الرسل

(1) أي: وقع. والعنت: الوقوع في أمر شاق.

انظر: مختار الصحاح -لأبي بكر الرازي- ص: 456 (عنت).

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة أضفتها ليستقيم بها السياق.

ص: 661

وورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت الكلام الصدق أولًا، إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه، وذلك هو التدبير والخبر، وربما يعبر عن هذا بأنه لو لم يكن القديم - سبحانه - متكلمًا لاستحال منه التعريف والتنبيه على التكليف، لأن طرق التعريف معلومة، وذلك كالكتابة والعبارة والإشارة، وشيء من هذا لا يقع به التعريف دون أن يكون ترجمة عن الكلام القائم بالنفس، ومن لا كلام له استحال أن ينبه غيره على المعنى الَّذي يستند إلى الكلام.

قال: ومما يدل على ثبوت الكلام لله آيات الرسل عليهم السلام فإنها كانت أدلة، ولا تدل على الصدق لأنفسها، وإنما كانت دالة من حيث كانت نازلة منزلة، قوله لمدعي الرسالة: صدقت، والتصديق من قبل الأقوال، ولا يكون المصدق مصدقًا لغيره بفعله التصديق، وإنما يكون مصدقًا له لقيام التصديق بذاته بأمر الله وبنهيه (1) ".

قلت: أما استدلالهم على ثبوت كلام الله بالتكليف والأحكام، فهذا من باب الاستدلال على الشيء بنفسه، بل من باب الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه مع الاستغناء عنه، فإنه إذا كان التكليف والأحكام إنما ثبت (2) بالرسل، فالرسل كلهم مطبقون على تبليغ كلام الله ورسالته، وأن الله يقول وقال ويتكلم، ومن المعلوم أن نطق الرسل بإثبات كلام الله وقوله أكثر وأشهر وأظهر من نطقهم بلفظ تكليف وأحكام، فإذا كان هذا الدليل لا يثبت إلَّا بعد الإيمان بالرسل، وبما أخبروا (3) به، فإخبارهم بكلام الله وقوله لا يُحتاج فيه إلى دليل، ولهذا عدل غير هؤلاء عن هذا الدليل الغث، واحتجوا على ثبوت كلام الله

(1) في الأصل، س: ومنهيون بنهيه. وفي ط: منهيًا بنهيه. والكلام يستقيم بدون الزيادة.

(2)

في س: يثبت. وفي ط: تثبت.

(3)

في الأصل: أخبر. وأثبت المناسب من: س، ط.

ص: 662

بمجرد قول المرسلين.

وقوله: الأحكام من أول الدليل على ثبوت الأمر والنهي.

يقال له: فهل الأحكام عندك شيء غير الأمر والنهي حتَّى (1) يستدل بأحدهما على الآخر؟ أم اسم الأحكام هل هو أظهر في كلام الرسل والمؤمنين بهم من اسم الأمر والنهي؟.

وأعجب من ذلك قوله: فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله وجواز إرسال الرسل، فإن التكليف إذا كان عنده لم يثبت إلَّا بالرسل كان العلم بجواز إرسأل الرسل سابقًا للعلم (2) بالتكليف، فكيف يستدل بما يتأخر علمه على ما يتقدم علمه، ومن حق الدليل أن يكون العلم به قبل العلم بالمدلول حيث جعل دليلًا على العلم به، ولو قدر أنَّه ممن يسوغ التكليف العقلي فذاك عند القائلين به يرجع إلى صفات تقوم بالأفعال، فلا يفتقر إلى ثبوت الكلام.

وليس المقصود بيان هذا، وإنما المقصود قولهم: ورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت الصدق (3) إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه، وذلك هو التدبير والخبر، فقد جعلوا العلم مستلزمًا للكلام بنوعية الخبر الصدق (4) والتدبير الَّذي هو الطلب، وهذا إلى التحقيق أقرب من غيره، فإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور اجتماع العلم والكذب النفساني؟.

فإن قيل: لا ريب أن هذا تناقض منهم في الشيء الواحد المعين، بإثباته تارة وجعله كلامًا محققًا، ونفيه أخرى ونفي تسميته كلامًا محققًا -إذا قدر وجوده- لكن التناقض يدل على بطلان أحد القولين المتناقضين

(1) في س: حق. وهو خطأ.

(2)

في ط: على العلم.

(3)

في س، ط: المصدق.

(4)

في س، ط: والصدق. وهو خطأ.

ص: 663