المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ لفظ (الغير) مجمل - التسعينية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه]

- ‌ الذين قالوا: كلامه مخلوق أرادوا أنَّه لم يكن متكلمًا حتَّى خلق الكلام

- ‌ لفظ (الغير) مجمل

- ‌ قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة

- ‌الصواب الَّذي عليه سلف الأمة

- ‌ يكره تجريد الكلام في المداد الَّذي في المصحف وفي صوت العبد

- ‌ القول بحدوث حروف القرآن قول محدث

- ‌ قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات

- ‌ الألفاظ نوعان:

- ‌الوجه السابع:أنَّه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل

- ‌ النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحدة غير مستلزمة للأخرى

- ‌الوجه الخامس عشر:أن طوائف يقولون لهم: معنى الخبر لم لا يجوز أن يكون هو العلم

- ‌الوجه السادس عشر:أن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها

- ‌الوجه السابع عشر:إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله

- ‌ الَّذي انعقد عليه الإجماع، ونقله أهل التواتر عن المرسلين، هو الكلام الَّذي تسميه الخاصة والعامة كلامًا، دون هذا المعنى

- ‌الجهمية أعظم قدحًا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء

- ‌ كلام ابن فورك في مسألة الكلام

- ‌الوجه السابع والأربعون:أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولًا أو لا يكون

- ‌معنى كون الكلام ليس بمنقسم يراد به شيئان:

- ‌تحقيق الأمر: أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره

- ‌ الترتيب والتعاقب نوعان:

الفصل: ‌ لفظ (الغير) مجمل

فأحمد -رحمه الله تعالى- لم ينكر عليه إطلاق لفظ الغير على القرآن حتَّى يستفسره (1) ما أراد به، إذ‌

‌ لفظ (الغير) مجمل

(2) يراد به الَّذي يفارق الآخر، وهو قولهم: إنه مخلوق، ويراد به ما لا يكون هو إياه، وهذا يبين أن إطلاق القول على الصفة بأنها هي الموصوف أو غيره كلام مجمل، يقبل بوجه ويرد بوجه، فمتى أريد بالغير المباينة للرب كان المعنى فاسدًا، وإنما ذكر هذا لأن أهل البدع كما وصفهم به يتمسكون بالمتشابه من الكلام، ولفظ الغير من المتشابه، فإذا قال: هو غيره.

(1) في ط: استفسره.

(2)

شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" 1/ 508، أوضح اصطلاح المتكلمين في لفظ "الغير" وبين أن السلف رحمهم الله يمتنعون عن إطلاق اللفظ المجمل نفيًا وإثباتًا، فقال: "فلفظ الغير مجمل يراد بالغير المباين، فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود، وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة.

ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر، أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر، وهذا اصطلاح طوائف من المعتزلة والكرامية وغيرهم.

أما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا، ويراد به هذا، ولهذا لم يطلقوا القول بأن علم الله غيره، ولا أطلقوا القول بأنه ليس غيره، ولا يقولون هو هو، ولا هو غيره، بل يمتنعون عن إطلاق المجمل نفيًا وإثباتًا لما فيه من التلبيس، فإن الجهمية يقولون: ما سوى الله مخلوق وكلامه غيره فيكون مخلوقًا.

فقال أئمة السنة: إذا أريد بالغير والسوى ما هو مباين له فلا يدخل علمه وكلامه في لفظ "الغير" و"السوى" كما لم يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد أشرك".

وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته، كعزته، وعظمته، فعلم أنها لا تدخل في مسمى "الغير" عند الإطلاق.

وإذا أريد بـ "الغير" أنَّه ليس هو إياه، فلا ريب أن العلم ليس هو العالم والكلام ليس هو المتكلم".

ص: 505

فقيل له: نعم، لأنه ليس هو إياه.

قال: وما كان غير الله فهو مخلوق و (غير) في هذا الموضع الثاني إنما يصح، إذا أريد بها ما كان باينًا عن الله - تعالى - فهو مخلوق، فيستعمل لفظ (الغير) في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، لما فيها من الإجمال والاشتراك، فلهذا استفسره الإمام أحمد، فلما فسر مراده قال: فهذا هو القول الأول، متى قلت: هو مخلوق. فقد قلت: بأنه خلق شيئًا فعبر عنه، وأنه لا تكلم ولا يتكلم، ثم احتج عليهم بما دل عليه القرآن من تكلمه في الآخرة خطابه للرسل، فلما أقروا بنفي التكلم عنه أزلًا وأبدًا، ولم يفسروا ذلك إلا بخلق الكلام في غيره، قال:

قد أعظمتم الفرية على الله (1) حين زعمتم أن الله تعالى لا يتكلم (2)، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك (3) ولا تزول من مكان إلى مكان.

وهذه الحجة من باب قياس الأولى (4)، وهي من جنس الأمثال التي

(1) في الرد على الجهمية: "أعظمتم على الله الفرية".

(2)

في الرد على الجهمية: أنَّه لا يتكلم.

(3)

في جميع النسخ: لا تتكلم ولا تحرك. والمثبت من: الرد على الجهمية.

(4)

شيخ الإسلام رحمه الله بين في كتابه (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" 1/ 337، 338. ما لا يجوز في حق الله تعالى من الأقيسة فقال: "والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه، فإن الله - سبحانه - ليس مثلًا لغيره، ولا مساويًا له أصلًا، بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله. . ".

إلى أن قال: "وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوًا وندًّا وسميًّا، كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك.

ص: 506

ضربها الله في كتابه، فإن الله تعالى علي الأصنام بأنها لا ترجع قولًا، وأنها لا تملك ضرًّا ولا نفعًا، وهذا من المعلوم ببدائه (1) العقول، أن كون الشيء لا يقدر على التكلم صفة نقص، وأن المتكلم أكمل من العاجز عن الكلام، وكل ما تنزه المخلوق عنه من صفة نقص فالله -تعالى- أحق بتنزيهه عنه، وكلما أثبت لشيء من صفة -كمال فالله تعالى أحق باتصافه بذلك، فالله أحق بتنزيهه عن كونه لا يتكلم من الأحياء الآدميين وأحق بالكلام منهم، وهو - سبحانه - منزه عن مماثلة الناقصين، المعدوم والموات.

= ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر بن هبيرة في كتاب "الإيضاح في شرح الصحاح" أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه، وتحرجوا من أن يقولوا: مشتركة، لأن الله تعالى لا شريك له، بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأخرى، فكل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه، لأنه أكمل منه، ولأنه هو الَّذي أعطاه ذلك الكمال، فالمعطي الكمال لغيره أولى أن يكون هو موصوفًا به، إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحق وجعله لغيره فإن ذلك لا يمكن، بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك، كالحياة والعلم والقدرة.

وكذلك ما كان منتفيًا عن المخلوق لكونه نقصًا وعيبًا، فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك".

ثم قال الشيخ رحمه الله مبينًا استعمال السلف لقياس الأولى: "فهذا أصل ينبغي معرفته، فإذا أثبت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريقة القياسية العقلية التي لله فيها المثل الأعلى، كان ذلك اعتبارًا صحيحًا".

وكذلك إذا نفى عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطريقة.

ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريقة في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية".

(1)

في ط: ببداية.

ص: 507

وأما قول أحمد (1): فلما ظهرت عليه الحجة قال: إنه قد يتكلم (2) ولكن كلامه مخلوق.

فقلنا (3): وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبّهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتَّى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتَّى خلق لهم كلامًا، فقد (4) جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله - جل ثناؤه - عن هذه الصفة، بل نقول: إن الله - جل ثناؤه - لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه كان (5) ولا يتكلم حتَّى خلق [الكلام](6) ولا نقول: إنه كان (7) لا يعلم حتَّى خلق فعلم، ولا نقول: إنه كان (8) ولا قدرة حتَّى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه كان (9) ولا نور له حتَّى خلق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه كان (10) ولا عظمة حتَّى خلق لنفسه عظمة.

فهذا يدل على أن هذا القول أراد به الجهمي أنَّه قد يتكلم بعد أن لم يكن متكلمًا بكلام مخلوق، يخلق لنفسه في ذاته، أو يخلقه قائمًا بنفسه، ليكون هذا القول غير الأول الذي قال: إنه يخلق شيئًا فيعبر عن الله تعالى.

وقال: إنكم شبهتموه بالأصنام التي لا تتكلم، ولا تتحرك،

(1) الرد على الجهمية والزنادقة - ص: 132.

(2)

في الرد على الجهمية والزنادقة: إن الله يتكلم.

(3)

في الرد على الجهمية والزنادقة: قلنا.

(4)

في الرد على الجهمية والزنادقة: وقد.

(5)

في س، ط: إنه قد كان.

(6)

ما بين المعقوفتين زيادة من: الرد على الجهمية والزنادقة.

(7)

في س، ط، والرد على الجهمية والزنادقة: إنه قد كان.

(8)

في س، ط، والرد على الجهمية والزنادقة: إنه قد كان.

(9)

في س، ط، والرد على الجهمية: إنه قد كان.

(10)

في س، ط، والرد على الجهمية: إنه قد كان.

ص: 508

ولا تزول من مكان إلى مكان، ثم انتقل الجهمي عن ذلك القول (1) إلى هذا القول.

وقال أحمد (2) في الجواب: (فقلنا: كذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله - تعالى - بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتَّى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم لا يتكلمون (3) حتَّى خلق لهم كلامًا، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه) إلى آخر كلامه.

ففي هذا كله دليل على أنَّه أنكر عليهم كونه كان لا يتكلم حتَّى خلق لنفسه كلامًا في نفسه، فصار حينئذ متكلمًا بعد أن لم يكن متكلمًا، وبين أن ذلك يستلزم أنَّه كان ناقصًا فصار كاملًا، لأن عدم التكلم صفة نقص، وهذا هو الكفر، فإن وصف الله بالنقص كفر، وفيه تشبيه له بمن كان ناقصًا عاجزًا عن الكلام حتَّى خلق له الكلام، ولهذا قال:

(بل نقول: إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء).

فبين أن كونه موصوفًا بالتكلم إذا شاء، أمر لم يزل، لا يجوز أن يكون ذلك محدثًا، لأنه يستلزم لكماله (4) بعد نقصه، وفيه تشبيه له بالآدميين، كما أن منع تكلمه بالكلية تشبيه له بالجمادات من الأصنام التي تعبد من دون الله - تعالى - وغيره، ثم إنه بين أن ثبوت هذه الصفة له فيما لم يزل كثبوت العلم والقدرة والنور والعظمة، لم يزل موصوفًا بها لا يقال: إنه كان بدون هذه الصفات حتَّى أحدثها، لأن ذلك يستلزم أنَّه كان ناقصًا فكمل بعد نقصه سبحانه وتعالى (5) - عن ذلك.

(1) القول: ساقطة من: س.

(2)

الرد على الجهمية والزنادقة - ص: 132.

(3)

في الرد على الجهمية: كانوا لا يتكلمون.

(4)

في ط: كماله.

(5)

في ط: وتعالى الله.

ص: 509

ولهذا كان كلام أحمد وغيره من الأئمة مع الجهمية في هذه المسألة، فيه بيان الفصل بين كلام الله - تعالى - وقوله، وبين خلقه، وأن هذا ليس هذا، ويذكرون هذا الفرق في المواضع التي أخبر الله ورسوله بأنه تكلم بالوحي، وأنه إذا تكلم بالوحي كان (1) هذا من أعظم الحجج لهم، فإن من يقول: القرآن مخلوق. يقول: إن الله خلقه منفصلًا عنه كسائر المخلوقات، وليس يعود إليه من خلق حكم من الأحكام أصلًا، بل ذلك بمنزلة خلق السماء والأرض، وكلام الذراع المسموم (2)، ونطق الأيدي والأرجل (3) وغير ذلك، مما خلقه الله تعالى من الموصوفات والأفعال والصفات، ومما يعلم باضطرار أن ما كان كذلك فلا بد أن يصفه الله - تعالى - بالخلق كما وصف غيره من المخلوقات، ولا يجوز -أيضًا- أن يضاف إلى الله - تعالى - إضافة اختصاص يتميز بها عن غيره من المخلوقات إذ لا اختصاص له أصلًا، فلا يكون كلامًا لله - تعالى - ولا قولًا أصلًا.

والقرآن كله يثبت له صفة الاختصاص بالقول والكلام، ولم يثبت قط له الصفة المشتركة بينه وبين سائر المخلوقات من صفة الخلق، فالقرآن دل على الفرق بين القول والمقول، وبين المخلوق المفعول.

قال الإمام أحمد (4): (وقد ذكر الله - تعالى - كلامه في غير موضع

(1) في الأصل، س: وكان. والمثبت من: ط.

(2)

إشارة إلى ما ورد في حديث جابر رضي الله عنه في قصة خيبر، وأن الذراع أخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم أنها مسمومة.

وقد تقدم الكلام على هذا الحديث ص: 280.

(3)

كما دل على ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].

(4)

الرد على الجهمية والزنادقة - ص: 117، 118.

ص: 510

من القرآن، فسماه كلامًا ولم يسمه خلقًا، قال (1){فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (2)، وقال:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} (3)، وقال:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (4) وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (5)، وقال:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (6) وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (7).

فأخبرنا (8) الله عز وجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بالله، وبكلام الله، وقال:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (9)، وقال:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} (10)، وقال:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (11) ولم يقل حتَّى يسمع خلق الله، فهذا المنصوص (12) بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير، هو بين والحمد لله (13)).

قلت: وقد تضمن هذا أن الله (14) سماه كلامًا في مواضع كثيرة،

(1) في الأصل، س، والرد على الجهمية: قوله. والمثبت من: ط.

(2)

سورة البقرة، الآية:37.

(3)

سورة البقرة، الآية:75.

(4)

سورة الأعراف، الآية:143.

(5)

سورة الأعراف، الآية:144.

(6)

سورة النساء، الآية:164.

(7)

سورة الأعراف، الآية:158.

(8)

في س، ط: أخبر.

(9)

سورة الفتح، الآية:15.

(10)

سورة الكهف، الآية:109.

وفي الرد على الجهمية: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} .

(11)

سورة التوبة، الآية:6.

(12)

في الرد على الجهمية: فهذه نصوص.

(13)

في الرد على الجهمية: بحمد الله.

(14)

في س، ط: الله إذا.

ص: 511

ولم يسمه خلقًا، ومن المعلوم المستقر في الفطر أن الكلام هو ما تكلم به المتكلم لا يكون منفصلًا، ولهذا قال:(فهذا المنصوص (1) بلسان عربي [مبين](2) لا يحتاج إلى تفسير هو بين). يعني: أن بيان الله مما ذكره من كلامه (3)، وأنه (4) كلامه، هو بين لكل أحد، ليس من الخفي ولا من المتشابه الَّذي يحتاج إلى تفسير، بل (5) الجهمي الَّذي يجعله مخلوقًا منفصلًا عنه كسائر المخلوقات، حرف هذا الكلم عن مواضعه، وألحد في آيات الله، تحريفًا وإلحادًا يعلمه كل ذي فطرة سليمة.

ولهذا تجد ذوي الفطر السليمة إذا ذكر لهم هذا المذهب يقولون: هذا يقول: إن القرآن ليس كلام الله، حتَّى إنهم يقولون ذلك عمن يقول: حروف القرآن مخلوقة، هذا يقول: القرآن ليس كلام الله، لا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، لما استقر في فطرهم أن ما يكون مخلوقًا منفصلًا عن الله لا يكون كلام الله، فمن قال: إن الله لم يتكلم بحروف القرآن، بل جعله خالقًا لها في جسم من الأجسام، فهو عندهم يقول: إن القرآن ليس بكلام الله، سواء (6) جعل تلك الحروف هي القرآن أو ادعى أن [ثم](7) معنى قديمًا هو كلام الله دون سائر الحروف.

فإن المستقر في فطر الناس الَّذي تلقته الأمة خلفًا عن سلف عن نبيها أن القرآن [جميعه](8) كلام الله، وكلهم فهم هذا المعنى المنصوص

(1) في الرد على الجهمية: فهذه نصوص.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والرد على الجهمية.

(3)

في س: كلام الله.

(4)

في الأصل، ط: أن. والمثبت من: س.

(5)

بل: ساقطة من: س، ط.

(6)

في س: وسواء.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

ص: 512

بلسان عربي مبين، كما ذكر أحمد أنَّه تكلم به، لا أنَّه خلقه في بعض المخلوقات.

ثم ذكر أحمد ما أمر الله به من القول، وما نهى عنه من القول، وأنه (1) لم يذكر من المأمور به: قولوا عن القرآن: إنه مخلوق، ولا من المنهي عنه: لا تقولوا: إنه كلامي. قال أحمد (2): (وقد سألت الجهمية أليس إنما قال الله - جل ثناؤه -: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} (3)، {وَقُولُوا للِنَّاسِ حُسْنًا} (4)، {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} (5)، {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (6)، {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (7)، وقال:{وَقُلِ الْحَقُّ} (8)، وقال:{فَقُلْ سَلَامٌ} (9).

ولم نسمع الله يقول: قولوا: إن كلامي خلق.

وقال: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا} (10)، وقال:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (11) وقال: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا

(1) في س: واأن.

(2)

الرد على الجهمية والزنادقة - ص: 118، 119.

(3)

سورة البقرة، الآية:136.

(4)

سورة البقرة، الآية:83.

(5)

سورة العنكبوت، الآية:46.

(6)

سورة الأحزاب، الآية:70.

(7)

سورة آل عمران، الآية:64.

(8)

سورة الكهف، الآية:29.

(9)

سورة الأنعام، الآية:54. في جميع النسخ: (وقل) وهو خطأ.

(10)

سورة النساء، الآية:171.

(11)

سورة النساء، الآية:94. ولم ترد الآية في: س، ط.

ص: 513

انْظُرْنَا} (1)، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} (2)، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (3)، وقال (4):{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} (5) وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (6)، {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (7)، وقال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (8)، وقال (9):{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} [الإسراء: 29]{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (10)، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} (11)، {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (12)، {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (13)، ومثله في القرآن كثير.

فهذا ما نهى الله عنه، ولم يقل لنا: لا تقولوا: إن القرآن كلامي.

قلت: وهذه حجة قوية، وذلك أن القرآن لو كان كما يزعمه الجهمية مخلوقًا منفصلًا، كالسماء والأرض وكلام الذراع والأيدي

(1) سورة البقرة، الآية:104.

ولم ترد الآية في: س، ط.

(2)

سورة البقرة، الآية:154.

(3)

سورة الكهف، الآية:23.

وقد ورد في الرد على الجهمية: {. . إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} الآية.

(4)

وقال: كررت في الأصل. وهو سهو من الناسخ.

(5)

سورة الإسراء، الآية:23.

(6)

سورة الإسراء، الآية:36.

ولم ترد في الرد على الجهمية.

(7)

سورة القصص، الآية:88.

(8)

سورة الأنعام، الآية:151.

(9)

قال: ساقطة من: س، ط، والرد على الجهمية.

(10)

سورة الإسراء، الآية:29.

(11)

سورة الأنعام، الآية:151.

(12)

سورة الأنعام، الآية:152.

(13)

سورة لقمان، الآية:18.

ص: 514

والأرجل؛ لكان معرفة ذلك واجبًا، لا سيما وعند الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن معرفة ذلك من أصول الإيمان الَّذي لا يتم إلا به.

وقد يقولون: إن (1) معرفة ذلك واجبة قبل (2) معرفة الرسالة، وأن معرفة الرسالة لا تتم إلا بتنزيه الله عن كلام يقوم به، لأن الكلام لا يقوم إلَّا بجسم متحيز (3)، ونفي ذلك عندهم واجب قبل الإقرار بالرسول، فإن (4) الجسم يستلزم أن يكون محدثًا مخلوقًا يجوز عليه الحاجة، وذلك يمنع ما بنوا عليه العلم بصدق الرسول، وقد صرحوا بذلك في كتبهم (5)، فإن كان الأمر كذلك كان بيان ذلك من الواجبات، فإذا لم يأمر الله به قط مع حاجة المكلفين إليه، ومع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ علم أنَّه ليس مأمورُا به ولا واجبًا (6)، وذلك يبطل قولهم.

-وأيضًا- فلم ينه العباد عن أن يسموه كلامه، مع العلم بأن هذه التسمية ظاهرة في أنَّه هو المتكلم به، ليس هو الَّذي خلقه في جسم غيره.

(1) في س: إنه.

(2)

معرفة ذلك واجبة قبل: مكررة في: س. وهو سهو من الناسخ.

(3)

في الأصل: إلَّا عن متحيز. والمثبت من: س، ط.

(4)

في س، ط: فإذا.

(5)

انظر مثلًا: شرح الأصول الخمسة -للقاضي عبد الجبار- ص: 112.

وقد أجمعت المعتزلة على نفي الجهة والتحيز عن الله - تعالى - لأنهم اعتقدوا أن إثباتها يوجب إثبات المكان والجسمية.

وقد نقل إجماعهم على نفي الجسم: أبو الحسن الأشعري في المقالات 1/ 235.

وانظر: مختصر الصواعق المرسلة -لابن القيم اختصار الموصلي- 1/ 200.

وفيه: أن حقيقة النبوة والرسالة إنباء الله لرسوله وأمره تبليغ كلامه إلى عباده، وعند المعطلة أن الله لا يتكلم ولا يقوم به كلام.

(6)

في س: وجاجبًا. وهو تصحيف.

ص: 515

والجهمي وإن زعم أن الكلام يقال لمن فعله بغيره (1)، كما مثله من تكلم الجني على لسان المصروع، فهو لا ينازع في أن غالب الناس لا يفهمون (2) من الكلام إلّا ما يقوم بالمتكلم، بل لا يعرفون كلامًا منفصلًا عن متكلمه قط، وأمر الجني فيه من الإشكال والنزاع (3)، بل بطلان قول المستدل به ما (4) يمنع أن يكون ذلك ظاهرًا لعموم الناس.

وإذا كان كذلك، كان (5) الواجب على قول الجهمي إما (6) نهي الناس عن أن يقولوا: القرآن كلام الله، حتَّى لا يقولوا (7) بالباطل، وإما البيان بأن قولهم: كلام الله أن الله خلق ذلك الكلام في جسم غيره، كما ذكره الجهمية من أنَّه خلق شيئًا فعبر عنه، فلما لم يؤمروا بهذا ولم ينهوا عن ذلك، مع الحاجة إلى هذا الأمر والنهي -على زعم الجهمي- علم أن قوله المستلزم لازم للأمر والنهي الَّذي لم يقع من الشارع باطل.

ولهذا كان أحمد يقول لهم فيما يقوله في المناظرة الخطابية: كيف أقول ما لم يُقل؟ أي هذا القول لم يقله أحد قبلنا، ولو كان من الدين لكان قوله واجبًا، فعدم قول أولئك له يدل على أنَّه ليس من الدين.

وكذلك احتجاج أبي عبد الرحمن الأذرمي (8)، وهو الشيخ

(1) في الأصل: بغير. والمثبت من: س، ط.

(2)

في س: يهتمون.

(3)

وللاطلاع عليه يراجع مقالات الإسلاميين - للأشعري - 2/ 122.

(4)

في س، ط: مما.

(5)

في جميع النسخ: وكان. ولعل ما أثبت مناسب سياق الكلام.

(6)

في س، ط: ما.

(7)

في س: يقوا.

(8)

في جميع النسخ: الأدرمي. والصحيح ما أثبته من الكتب التي ذكرت قصته مع الواثق وعرفت به.

وهو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي، روى عن ابن عيينة وغيره، وروى عنه أبو داود والنسائي وغيرهما. قال عنه أبو حاتم: كان =

ص: 516

الأذني (1) الَّذي قدمه ابن أبي دواد على الواثق فناظره أمامه كما حكاه ابنه المهتدي (2) وقطعه الأذني في المناظرة، والقصة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ثقة.

راجع في ترجمته وصحة اسمه: الجرح والتعديل -لابن أبي حاتم - 2/ 2 / 161 ت: 743. وتاريخ بغداد - للبغدادي - 10/ 74 - 89. واللباب -لابن الأثير - 1/ 38.

وقد علق محقق كتاب "درء تعارض العقل والنقل" -رحمه الله تعالى- في الحاشية رقم (1) 1/ 234 على ذلك بما يلي:

"في س: فقط أبو عبد الرحمن الأذرمي الأدنى، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب الأزدي من أمراء هذا البيت الأزدي. قتل بالموصل سنة 133 هـ ". وفيما علق عليه نظر، فالشيخ رحمه الله أوضح أن أبا عبد الرحمن ذكر هذا الاحتجاج قدام الواثق عندما ناظره ابن أبي دواد، وابن أبي دواد، ولد سنة 160 هـ -كما تقدم في التعريف به- وهذا يدل على أن المقصود غير ما ذكر المحقق، وهو ما أثبته وعرفت به.

(1)

في جميع النسخ "الأدنى" ولعل الصواب ما أثبته من: تاريخ بغداد 10/ 79، ومناقب الإمام أحمد -لابن الجوزي ص: 433، 434.

والأذني: نسبة إلى أذنة، وهي من مشاهير البلدان بساحل الشام عند طرسوس.

انظر: اللباب -لابن الأثير 1/ 39.

نقل ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص: 433، 434، وهو يروي قصة الأذرمي مع ابن أبي دواد، والمناظرة التي جرت بينهما أمام الواثق، أن صالح بن علي بن يعقوب الهاشمي قال:"ما زلت أقول: إن القرآن مخلوق صدرًا من أيام الواثق حتَّى أقدم أحمد بن أبي دواد علينا شيخًا من أهل الشام من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدًا. . . ".

(2)

هو: المهتدي بالله أبو عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم، أحد خلفاء الدولة العباسية، بويع بالخلافة سنة 255 هـ بعد خلع المعتز، ولد سنة 222 هـ، وتوفي سنة 256 هـ.

راجع: الكامل -لابن الأثير- 7/ 198 - 235. والبداية والنهاية -لابن كثير- 11/ 20 - 28. والأعلام - للزركلي - 7/ 351، 352.

ص: 517

مشهورة (1)، وقال لابن أبي دواد: يا أحمد أرأيت مقالتك هذه التي (2) تدعو الناس إليها، هل هي داخلة في عقد الدين لا يتم الدين إلّا بها؟ وهل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وهل أمر بها؟ وهل وسعه و (3) وسع خلفاءه السكوت عنها؟ فكانت هذه الحجج كلها تبين أن هذا القول لو كان من الدين لوجب بيانه، وعدم ذلك مع قيام المقتضى له دليل على أنَّه ليس من الدين وإذا لم يكن من الدين كان باطلًا، لأن الدين لا بد فيه من أحد (4) أمرين: إما أن يكون الله - تعالى - تكلم بالقرآن وبسائر (5) كلامه، وإما أن يكون خلقه في غيره لا يحتمل الأمر وجهًا ثالثًا (6)، فإذا بطل أن يكون خلقه في غيره من الدين، تعين (7) أن يكون القول الآخر من الدين، وهو أنَّه هو المتكلم به، فمنه بدأ، ومنه يعود، ومنه حق القول، ومن لدنه نزل ولو كان مخلوقًا (8) في جسم غيره، لكان بمثابة ما يخلق في الأيدي والأرجل والذراع والصخر [وغير ذلك من الأجسام](9) فإنه وإن كان منه، أي: من خلقه فليس من لدنه، ولا هو قولًا منه، ولا بدأ (10) منه.

(1) القصة ذكرها الخطيب البغدادي في تاريخه 4/ 151، 152، 10/ 75 - 79.

وابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص: 431 - 437.

(2)

في س، ط: الَّذي.

(3)

"و": ساقطة من: س.

(4)

في س: إحدى.

(5)

في س: وسائر.

(6)

في س: ثابتًا.

(7)

في س: يقين.

(8)

في س: مخلوق. وهو خطأ.

(9)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(10)

في الأصل: بداء.

ص: 518

قال (1) الإمام أحمد (2): وقد سمت الملائكة كلام الله كلامًا ولم تسمه خلقًا [في](3) قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (4).

وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي [ما](5) بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وبينهما ستمائة سنة (6).

فلما أوحى الله جل - ثناؤه - إلى محمد صلى الله عليه وسلم سمع الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفا، وظنوا (7) أنَّه أمر من أمر الساعة، ففزعوا وخرّوا لوجوههم سجدًا، فذلك قوله عز وجل {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (8)، يقول: حتَّى إذا تجلى الفزع عن قلوبهم رفع الملائكة رؤوسهم، فسأل بعضهم بعضًا فقالوا:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (2) ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم. فهذا بيان لمن أراد الله هداه.

(1) في هامش الأصل ورد: "قف على كلام الإمام أحمد".

(2)

الرد على الجهمية والزنادقة: ص: 119.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط.

(4)

سورة سبأ، الآية:23.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: الرد على الجهمية.

(6)

في الرد على الجهمية: وبينهما كذا وكذا سنة.

وقد اختلف فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ولكن ما ذكره الشيخ رحمه الله هو الأرجح، يؤيده ما رواه البخاري عن سلمان الفارسي قال:"فترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة".

صحيح البخاري 4/ 270 - كتاب المناقب - باب إسلام سلمان.

وقد نقل هذا الاختلاف ابن حجر رحمه الله في فتح الباري 15/ 139، فقال:"ونقل ابن الجوزي الاتفاق على ما اقتضاه حديث سلمان هذا، وتعقب بأن الخلاف في ذلك منقول، فعن قتادة خمسمائة وستين سنة، أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، وعن الكلبي خمسمائة وأربعين، وقيل: أربعمائة سنة".

(7)

في الرد على الجهمية: فظنوا.

(8)

سورة سبأ، الآية:23.

ص: 519

قلت: احتج أحمد بما سمعته الملائكة من الوحي إذا تكلم الله به، كما قد جاءت بذلك الآثار (1) المتعددة، وسمعوا صوت الوحي فقالوا:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (2)، ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم، فبين أن تكلم الله بالوحي الَّذي سمعوا صوته هو قوله، ليس هو خلقه، ومثل هذه العبارة ذكر البخاري الإمام صاحب الصحيح، إما تلقيًا له عن أحمد أو غيره، أو موافقة اتفاقية، وقد ذكر ذلك في كتاب (3) الصحيح، وفي كتاب خلق الأفعال (4)، فقال في الصحيح في آخره في كتاب الرد على الجهمية (5):

باب قول الله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (6)، ولم يقل: ماذا خلق ربكم (7)، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ} (8).

قال (9): وقال مسروق عن ابن مسعود (10): إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئًا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنَّه

(1) سوف يذكر الشيخ - بعد عدة أسطر - بعض هذه الآثار التي ذكرها البخاري في صحيحه.

(2)

سورة سبأ، الآية:23.

(3)

كتاب: ساقطة من: س.

(4)

خلق أفعال العباد ص: 40، 41، 98، 99.

(5)

صحيح البخاري 8/ 194، 195 - كتاب التوحيد -باب قول الله تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الْشَّفَاعَةُ. .} الآية.

(6)

سورة سبأ، الآية:23.

(7)

في ط: لكم. وهو تصحيف.

(8)

سورة البقرة، الآية:255.

(9)

القائل هو الإمام البخاري. وهي إضافة من الشيخ للإيضاح، والكلام متصل بما قبله في الصحيح.

(10)

في الأصل: عن ابن عباس مسعود. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط، وصحيح البخاري.

ص: 520

الحق من ربكم (1)، ونادوا:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (2).

قال (3): ويذكر عن جابر بن عبد الله (4)، عن عبد الله بن أنيس [قال] (5) سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان"(6).

ثم قال (7): حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان"، [قال علي] (8) وقال غيره: صفوان يَنْفُذُهُم [ذلك](9){حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم} (10)، للذي قال (11):{الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1).

قال علي (12): وثنا سفيان، ثنا عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة بهذا.

(1) في س: ربهم.

(2)

سورة سبأ، الآية:23.

(3)

صحيح البخاري 8/ 194، 195.

(4)

ابن عبد الله: ساقطة من: الصحيح.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: صحيح البخاري.

(6)

الحديث في صحيح البخاري 8/ 194، 195.

(7)

ثم قال: إضافة من الشيخ للبيان، والكلام متصل بما قبله في الصحيح.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة من صحيح البخاري، وفي: ط: قال: وقال غيره. . .

(9)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والصحيح.

وقد ورد في هامش صحيح البخاري: "قوله: ينْفُذُهُم ذلك ساقط في بعض الروايات كما في الشارح".

(10)

سورة سبأ، الآية:23.

(11)

للذي قال: ساقط من: صحيح البخاري.

(12)

علي: ساقطة من: س، ط.

ص: 521

قال (1) سفيان، قال عمرو: سمعت (2) عكرمة، ثنا أبو هريرة، قال علي: قلت لسفيان، قال (3) [سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة، قال: نعم، قلت لسفيان] (4): إن إنسانًا روى عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة، يرفعه، أنَّه قرأ: فرّغ (5)، قال سفيان: هكذا قرأ عمرو، فلا أدري سمعه (6) هكذا أم لا؟ قال سفيان: وهي قراءتنا.

وما ذكره أحمد من الفترة، وتكلمه بالوحي بعدها، قاله طوائف من السلف، كما ذكره عبد الرزاق (7) في تفسيره (8)، أنبأنا معمر، عن

(1) في الأصل، س: فقال. والمثبت من: ط، والصحيح.

(2)

في الأصل، س: قال عمرو سمعت عمرو سمعت. . وهو خطأ. والمثبت من: ط، والصحيح.

(3)

في الأصل: قال عمرو. والمثبت من: س، ط، والصحيح.

(4)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س.

(5)

في جميع النسخ: فزع. والمثبت من: صحيح البخاري. وهو ما يدل عليه السياق. (وفرغ): قراءة ذكرها ابن جرير الطبري ونسبها إلى الحسن فقال: "وروى عن الحسن أنَّه قرأ ذلك {حَتَّى إِذَا فرغ عَنْ قُلُوْبِهمْ} بالراء والغين. . ". إلى أن قال: [والصواب من القراءة في ذلك القراءة بالزاء والعين لإجماع الحجة من القراء وأهل التأويل عليها".

انظر: تفسير الطبري - 22/ 39.

(6)

في الأصل: سمعته. والمثبت من: س، ط، والصحيح.

(7)

في ط عبد الرزاق. وهو خطأ، وتقدم التعريف به.

(8)

تفسير عبد الرزاق لا زال مخطوطًا، وللاطلاع على أماكن نسخه وأرقامها يراجع "تاريخ التراث العربي" لسزكين - 1/ 1 / 185 - علوم القرآن والحديث، وجاء فيه:"إن هذا الكتاب في جوهره صورة معدلة لكتاب معمر بن راشد".

وأخرجه السيوطي في الدر المنثور - 6/ 700 - عن عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة والكلبي في قوله: {حتَّى إذا فزع عن قلوبهم} قالا: لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم - فنزل الوحي مثل صوت الحديد، فأفزع الملائكة عليهم السلام ذلك {حتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوْبِهِمْ} قالوا: إذا جلي عن قلوبهم {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالَواْ الَحَقَّ وَهُوْ الْعَلِّي الْكَبِيْرِ} .

ص: 522

قتادة والكلبي في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (1) قالا (2): لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد، فنزل الوحي، قال قتادة: نزل مثل صوت الحديد على الصخر، فأفزع الملائكة ذلك، فقال:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (1)، يقول: إذا جلى (3) عن قلوبهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1).

وهذه الآية وما فيها من الأحاديث المتعددة في الصحاح والسنن والمساند والآثار المأثورة عن السلف في تفسيرها، فيها أصول من أصول الإيمان، يبين بها ضلال من خالف ذلك من المتفلسفة الصابئية (4) والجهمية ونحو هؤلاء.

ففيها ما دل عليه القرآن من أن الملائكة لا يشفعن إلّا من (5) بعد أن يأذن الله لهم، فضلًا عن أن يتصرفوا ابتداء، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ} (6) وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (7) وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلا مِنْ

(1) سورة سبأ. الآية 23.

(2)

في س: قال.

(3)

في جميع النسخ "خلى" والمثبت من تفسير الطبري، وابن كثير، والدر المنثور، عند تفسيرهم لقوله تعالى:{. . حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. . .} الآية 23 من سورة سبأ.

وسوف يذكر الشيخ رحمه الله معناها في الصفحة التالية.

(4)

في ط: الصابئة.

(5)

من: ساقطة من: س، ط.

(6)

سورة القرة، الآية:255.

(7)

سورة الأنبياء، الآيات: 26 - 28.

ص: 523

بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (1)، وقال:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (2)

فأخبر سبحانه أنهم لا يسبقونه بالقول، ولا يعملون إلّا بأمره، وأنهم لا يتكلمون بالشفاعة إلّا من (3) بعد أن يأذن (4) لهم، وأنهم مع ذلك لا يعلمون ما قال {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (5)، أي: جلى (6) عن قلوبهم فأزيل الفزع كما يقال: قردت البعير: إذا أزلت قراده، وتحوب (7) وتحرج وتأثم وتحنث إذا أزال (8) عن نفسه الحوب (9) والإثم والحرج والحنث، فإذا أزيل الفزع عن قلوبهم قالوا حينئذ:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوْا الْحَقَّ} (10)، وفي كل ذلك تكذيب للمتفلسفة من الصابئية (11) ونحوهم، ومن أتباعهم من أصناف المتكلمة والمتصوفة والمتفقهة (12) الذين خلطوا الحنيفية بالصابئية (13) فيما يزعمونه من تعظيم العقول والنفوس التي يزعمون أنها هي الملائكة، وأنها متولدة عن الله لازمة

(1) سورة النجم، الآية:26.

(2)

سورة النبأ، الآية:38.

(3)

من: ساقطة من: س، ط.

(4)

في س، ط: يأذن الله.

(5)

سورة سبأ، الآية:23.

(6)

في جميع النسخ: خلى. والمثبت من: تفسير الطبري، وابن كثير، والدر المنثور. وتقدمت اللفظة في الصفحة السابقة.

(7)

في ط: تحرب. والحوب: الإثم.

انظر: مختار الصحاح ص: 160، (حوب).

(8)

في الأصل: زال. والمثبت من: س، ط.

(9)

في ط: الحرب. وهو خطأ.

(10)

سورة سبأ، الآية:23.

(11)

في ط: الصابئة.

(12)

في ط: المتعمقة.

(13)

في س، ط: الصابئة.

ص: 524

لذاته، وهي المدبرة للعالم بطريق التولد والتعليل، لا بأمر من الله وإذن يكون إذا شاء، بل يجعلون الَّذي (1) يسمونه العقل الفعال هو المدبر لهذا العالم من غير أن يحدث الله نفسه شيئًا أصلًا، ولهذا عبد هؤلاء الملائكة والكواكب وعظموا ذلك جدًّا، وهذه النصوص المتواترة تكذبهم، وتبين بعدهم عن الحق بمراتب متعددة خمسة وأكثر.

فإن المرتبة الأولى: أن الملائكة هل تتصرف وتتكلم، كما يفعل ذلك سائر الأحياء بغير إذن من الله وأمر وقول؟ وإن كان الله خالق (2) أفعالهم، كما هو خالق أفعال الحيوان كله، فإن الحيوان من الجن والإنس والبهائم، وإن كان الله خالق أفعالهم فإن أفعالهم قد تكون معصية، وقد تكون غير مأمور بها ولا منهي عنها، بل يتصرفون بموجب إرادتهم، وإن كانت مخلوقة والملائكة ليسوا كذلك، بل لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، فلا يفعلون ما يكون من جنس المباحات والمنهيات، بل لا يفعلون إلّا ما هو من الطاعات.

والمرتبة الثانية: أنهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى، فلا يشفعون عنده لمن لا يحب الشفاعة له، كما قد يفعله بعض من يدعو الله بما لا يحبه.

والمرتبة الثالثة: أنهم (3) لا يبتدئون بالشفاعة، فلا يشفعون إلّا بعد أن يأذن لهم في الشفاعة.

والمرتبة الرابعة: أنهم لا يستأذنون في أن يشفعوا إذ هم لا يسبقونه بالقول، بل هو يأذن لهم في الشفاعة ابتداء، فيأمرهم بها فيفعلونها عبادة لله وطاعة.

(1) في س: الذين.

(2)

في الأصل: خلق. والمثبت من: س، ط.

(3)

في س، ط: أنهم أيضًا.

ص: 525

والمرتبة الخامسة: أنهم يسجدون إذا سمعوا كلامه وأمره وإذنه، لم يطيقوا فهمه ابتداء، بل خضعت وفزعت وضربت بأجنحتها وصعقت وسجدت، فإذا فزع عن قلوبهم فجلى عنهم الفزع {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1)، فهذا (2) حالهم عند (3) تكلمه بالوحي، وأما وحي كلامه الَّذي يبعث به رسله، كما أنزل القرآن، وأما أمره الَّذي يقضي به من أمر بكونه، فذلك حاصل في أمر التشريع وأمر التكوين، ولهذا قال سبحانه {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (2) و (حتَّى) حرف غاية يكون ما بعدها داخلًا فيما قبلها، ليست بمنزلة (إلى) التي قد يكون ما بعدها خارجًا عما قبلها، كما في قوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الْلَّيلِ} (4)، وهي سواء كانت حرف عطف أو حرف جر تتضمن (5) ذلك، وما بعدها يكون النهاية التي ينبه بها على ما قبلها فتقول: قدم الحجاج (6) حتَّى المشاة، فقدوم المشاة تنبيه على قدوم الركاب، وتقول: أكلت السمكة حتَّى رأسها، فأكل رأسها تنبيه على غيره، فإن أكل رؤوس السمك قد يبقى (7) في العادة.

وهذه الآية أخبر فيها - سبحانه - أنَّه ليس لغير ملك ولا شرك في الملك، ولا معاونة ولا شفاعة إلّا بعد إذنه، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ

(1) سورة سبأ، الآية:23.

(2)

في س، ط: فهذه.

(3)

في س: عن.

(4)

سورة البقرة، الآية:187.

(5)

في الأصل، س: يتضمن. والمثبت من: ط.

(6)

في س: الحاج.

(7)

في الأصل: ينفي. والمثبت من: س، ط.

ص: 526

أَذِنَ لَهُ} (1)، ثم قال:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (2)، والضمير في قوله (عن قلوبهم) يعود إلى ما دل عليه قوله (من أذن له)، فإن الملائكة يدخلون في قوله:(من أذن له)، ودل عليه قوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ} (3)، فإن الملائكة تدخل في ذلك، فسلبهم الملك والشركة والمعاونة والشفاعة إلّا بإذنه، ثم بين ذلك حتَّى إنه إذا تكلم لا يثبتون لكلامه ولا يستقرون بل يفزعون، ثم إذا (4) أزيل عنهم الفزع يقولون {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (5)، وذلك أن ما بعد (حتَّى) هنا جملة تامة، وقوله:{إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} والعامل في (إذا) هو قوله: (قالوا ماذا) وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان متضمن معنى الشرط، أي: لما زال الفزع عن قلوبهم، قالوا ماذا قال ربكم، والغاية بعد حتَّى يكون مفردًا كما تقدم، ويكون جملة، ومنه قوله:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} (6)، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (7).

(1) سورة سبأ، الآيتان: 22، 23.

(2)

سورة سبأ، الآية:23.

(3)

سورة سبأ، الآية:22.

(4)

في س: بل يفزعون ولا يفهمون بل هم يفزعون ثم إذا. . . وفي ط: بل يفزعون ولا يفهمون ثم إذا. . .

(5)

سورة سبأ. الآية: 23.

تكرر في الأصل كلمة (الحق) في الآية.

(6)

سورة الزخرف، الآيات: 36 - 38.

(7)

سورة يونس، الآية:22.

ص: 527