الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو وغيره -من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية- فيه ما يوجب أن يلزمهم قول أولئك الاتحادية، فإنه يقول: هو الوجود المطلق، ويصفونه (1) بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلّا على المعدوم كالوجود المطلق الكلي الذي لا جود له في الخارج، لكن لازم قول الناس ليس هو نفس قولهم الذي قصدوه.
و
تحقيق الأمر: أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره
، ولا يقرون بأنه وجود المخلوقات، وأما أولئك الاتحادية فمع تناقضهم صرحوا بأنه وجود المخلوقات.
والمقصود هنا: أن الباري تعالى وإن كانت هذه القسمة والتبعيض منتفية عنه، فقولهم: إنه واحد ليس بذي أبعاض معناه عندهم أنه واحد متميز عن غيره موجود لا بعض له، وإذا كان كذلك [كان كلامه معنىً واحدًا](2) ومن أصلهم أن كلام الله شيء موجود قائم بالمتكلم لا يتبعض ولا ينقسم، أي ليس منه ما هو أمر ومنه ما هو نهي، ومنه ما هو خبر بحيث يكون ليس هذا هو هذا، بل الذي هو الأمر هو (3) النهي وهو الخبر، والباري عندهم شيء واحد، أي: ليس بجسم ذي أبعاض، واحد هذين النوعين ليس من جنس الآخر؛ لأنه إنما يصلح أن يستدل (4) بنفي هذا التبعيض أن (5) لو كان بعض الكلام يقوم ببعض، وبعضه يقوم ببعض آخر، فيقال: يلزم من نفي تبعض الموصوف نفي تبعض الصفة القائمة به، بل إذا قيل: إن الكلام حقائق فكل حقيقة تقوم بالموصوف
(1) في ط: يصفه.
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة أثبتها لعل الكلام يستقيم بها. وهو بياض في: الأصل، س- بقدر كلمتين. والكلام متصل في: ط.
(3)
في الأصل: وهو. والمثبت من: س، ط.
(4)
في ط: يستدل.
(5)
في س: أنه.
قيامًا مطلقًا، كما تقوم به الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك قيامًا مطلقًا لكان هذا مقولًا (1) مقبولًا، فعلم أنه وإن عقل متكلم واحد ليس بذي أبعاض وأجزاء فإنه لا يلزم أن يعقل كلام هو معنى واحد هو الأمر والنهي، وأن هذا شيء غير هذا.
الوجه الخمسون:
أن ما ذكره من كون الموصوف شيئًا واحدًا ليس بذي أبعاض، يصلح أن يحتج به على إمكان أن تكون صفته واحدة ليست بذات أبعاض ولا أجزاء، فإذا قام به علم أو علوم أو قدرة أو قدر أو كلام أو كلمات أو غير ذلك، قيل في كل صفة تقوم به: إنها ليست ذات أجزاء وأبعاض، فإذا قام به أوامر وأخبار كان كل أمر وكل خبر غير متبعض ولا مجتزئ، أما أنه يصلح أن يحتج به أن هذا الصفة هي هذه الصفة، مثل أن يقال: إن الأمر هو الخبر والسمع هو البصر؛ فهذا باطل، ثم يقال:
الوجه الحادي والخمسون:
إن وجدته إما أن تصحح هذا بأن (2) يقال: هذه الصفة هي هذه الصفة، أو لا تصحح ذلك، فإن صححته صح أن يقال: السمع هو البصر، وهما جميعًا العلم وهو القدرة وهي الحياة، وإن لم يصح ذلك لم يصح أن يقال: الأمر بالصلاة هو الأمر بالزكاة فضلًا عن أن يقال: الأمر بالصلاة هو الخبر عن سجود الملائكة لآدم.
الوجه الثاني والخمسون:
أن يقال: ما تعني (3) بقولك كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس
(1) في س، ط: معقولًا.
(2)
في الأصل، س: أن. وأثبت المناسب لسياق الكلام من: ط.
(3)
في الأصل: يعني. وأثبت المناسب للسياق من: س، ط.
بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات؟ أتعني بذلك أنه لا يتفرق ولا ينفصل منه شيء عن شيء، بل هو صمد سبحانه وتعالى؟ أم تعني به أنه لا يتميز منه في العلم شيء من شيء؟.
فإن عنيت الأول فهو حق، لكن لا يفيدك ذلك، فإن هذا لا يستلزم أن لا يكون له كلام متعدد.
وإن عنيت الثاني قيل لك: لا ريب أنك تسلم أنه يمكن العلم ببعض صفاته دون بعض، كما تعلم قدرته ولا تعلم (1) علمه، وتعلم وجوده ولا تعلم وجوبه، ولا ريب أن المعلوم ليس هو هذا الذي ليس بمعلوم، فهذا إقرار منك بثبوت التبعيض والتجزيء بهذا الاعتبار، ثم العلم إن لم يكن مطابقًا للمعلوم كان جهلًا، فلا بد أن تكون هذه الحقائق متميزة في ذواتها، وهذا صريح فيما أنكرته، ولا بد لكل موجود من مثل هذا، فإنه ما من موجود إلّا ويمكن أن يعلم منه شيء دون شيء وذلك يستلزم ثبوت حقائق ليست هذه هي هذه، وهذا لازم لكل أحد، حتى نفاة الصفات يقرون بثبوت المعاني التي هي هذه، وإن (2) كان التبعيض (3) بهذا الاعتبار ثابتًا لم يمكنك إنكار التبعيض مطلقًا، بل علم بالضرورة والاتفاق أن منه شيئًا ليس هو الشيء الآخر.
أما الصفاتية فيقرون بذلك لفظًا ومعنى وهو الحق، والكلابية والأشعرية منهم، وأما نفاة الصفات فإنهم -أيضًا- مضطرون إلى الإقرار بذلك، فإن أخذوا يقولون بل هذا هو هذا، كما يقوله المتفلسفة في العاقل والمعقول والعقل (4) وفي الوجود والوجوب، وكما يقول المعتزلة
(1) في س: يعلم.
(2)
في س، ط: وإذا.
(3)
في ط: والتبعيض.
(4)
نقل الشهرستاني في "الملل والنحل" 2/ 184 - أن ابن سينا يقول: إن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول، وأنه يعقل ذاته والأشياء، وصفاته الإيجابية =
كما يقوله أبو الهذيل (1): إن العلم والقدرة هو الله ونحو ذلك، فمن المعلوم أن فساد هذا من أظهر البديهيات (2) في العقول، ثم إذا التزموا ذلك كان لكل من نازع أن يقول فيما أنكروه كما قالوه فيما أقروا به، فيقول المجسم: أنا أقول إن هذا الجانب هو هذا (3) الجانب، كما يقوله من يقول مثل ذلك في الجوهر الفرد (4)، ويقول الصفاتية
= والسلبية لا توجب كثرة في ذاته، وكيفية صدور الأفعال عنه، ثم ذكر فلسفة ابن سينا في العقل والعاقل والمعقول في ص: 184، 185.
وانظر ما قاله ابن سينا في واجب الوجود في المصدر السابق، نفس الجزء ص: 181 - 184.
(1)
هو: أبو الهذيل محمَّد بن الهذيل العلاف -تقدم التعريف به، تفرد بأشياء منها- كما يقوله أبو القاسم البلخي:". . . والذي تفرد به تجويز فناء القدرة على العقل في حاله، وأن أهل الجنة مضطرون إلى أفعالهم، وأن العمل قد يكون طاعة، وأن العامل لا يريد الله به، وأن علم الله هو الله، وكذلك قدرة الله هي الله".
طبقات المعتزلة -باب ذكر المعتزلة من مقالات الإِسلاميين- للبلخي - ص: 65.
وقد أورد البغدادي في "الفرق بين الفرق" ما تفرد به أبو الهذيل من أقوال وناقشها ورد عليها. ص: 122 - 130.
(2)
في س: البديهات.
(3)
في س: هذ.
(4)
الجوهر الفرد: هو الجزء الذي لا يتجزأ.
يقول الآمدي في كتابه المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص: 109، 110، "وأما الجوهر: فعلى أصول الحكماء ما وجوده لا في موضوع، والمراد بالموضوع: المحل المقوم بذاته، المقوم لما يحل فيه، وينقسم إلى بسيط ومركب، أما البسيط: فهو العقل والنفس والمادة والصورة.
وأما المركب: فهو الجسم، وهو عبارة عن جوهر قابل للتجزئة في ثلاث جهات متقاطعة تقاطعا تامًّا. . .
وأما على أصول المتكلمين: فالجوهر عبارة عن المتحيز، وهو ينقسم إلى بسيط ويعبر عنه بالجوهر الفرد، وإلى مركب وهو الجسم.
فأما الجوهر الفرد: فعبارة عن جوهر لا يقبل التجزيء لا بالفعل ولا بالقوة. =
[كلهم](1) نحن نقول: العلم هو القدرة، والقدرة هي السمع والبصر، ويقول الأشعري للمعتزلة: نحن نقول: الأمر هو النهي، ويقول القائلون بالحرف (2) والصوت نحن نقول: الياء هي السين وأمثال ذلك كثير.
وإن قالوا: بل لا نقول (3) في هذين إن أحدهما هو الآخر ولا غيره، أو هما متغايران باعتبار دون اعتبار أو نحو ذلك، كان القول فيما نوزعوا فيه من التبعيض نظير القول فيما أقروا به، وهذا كلام متين لا انفصال عنه بحال، وقد بسطناه في الكلام على تأسيس الرازي (4).
الوجه الثالث والخمسون:
قوله: كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض، والذي أوجب كونه كذلك (5) قدمه.
= وأما الجسم: فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين فصاعدا".
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإِسلاميين" 2/ 8 - 13 اختلاف الناس في الجوهر ومعناه، وهل هو جسم؟ وهل الجواهر جنس واحد؟ وما يجوز على بعضها هل يجوز على جميعها؟ وهل يجوز وجودها ولا أعراض فيها أم يستحيل ذلك؟
يقول شيخ الإِسلام رحمه الله "وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد، حتى الطوائف الكبار من أهل الكلام كالنجارية والضرارية الهشامية والكلابية وكثير من الكرامية مع أكثر الفلاسفة".
انظر: درء تعارض العقل والنقل- 3/ 355.
وراجع: نفس المصدر- 4/ 201. وبيان تلبيس الجهمية- 1/ 280 - 286.
(1)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.
(2)
في ط: الحروف.
(3)
في الأصل: تقول. وأثبت المناسب للسياق من: س، ط.
(4)
انظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية -لابن تيمية 1/ 378، 2/ 238 - 239.
(5)
في س، ط: ذلك.
يقال: لكن من أين في قدمه أن يكون كذلك وأنت لم تذكر ذلك؟ وقد تكلمنا في تلخيص التلبيس (1) على جميع ما احتجوا به في هذا الباب وبينا لكل من له أدنى فهم أن جميع حججهم داحضة، وتكلمنا على طريقهم المشهور الذي أثبتوا به حدوث الأجسام وبينا اتفاق السلف على فسادها، فإنها فاسدة في العقل أيضًا.
الوجه الرابع والخمسون:
إن حجتهم على إنكار تكلم الله بالحرف نقيض (2) ما احتجوا به على هذا الكلام النفساني، فيلزمهم أحد الأمرين: إما إنكار ما أثبتوه من الكلام النفساني، أو الإقرار بما أنكروه من التكلم بالحروف.
قال (3) القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب "النقض"(4) وهو في
(1) وهو كتاب نقض تأسيس الجهمية، ويسمى بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية.
وقد أورده البزار بالاسم الذي ذكره الشيخ رحمه الله هنا، فقال مبتدئًا بيان بعض مؤلفات الشيخ:". . فمنها ما يبلغ الاثني عشر مجلدًا كتلخيص التلبيس على أساس التقديس. . ".
راجع: الأعلام العلية في مناقب شيخ الإِسلام ابن تيمية -للبزار- ص: 26.
وانظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية لابن تيمية -تعليق محمَّد بن عبد الرحمن بن قاسم 1/ 24 - المقدمة- ت: 4.
وقد تقدم في ص: 389 أن الشيخ أحال عليه ونص على هذه التسمية فقال: "كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ويسمى أيضًا تلخيص التلبيس من كتاب التأسيس.
(2)
في س، ط: ينقض.
(3)
في هامش س: كلام القاضي أبي بكر بن الباقلاني في الكلام النفسي".
(4)
أبو بكر الباقلاني تقدم التعريف به وكتابه "النقض" الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله لم أقف عليه في المصادر التي رجعت إليها، ولم يذكره بروكلمان وسزكين في كلامهما على آثار الباقلاني، وما ذكراه "مناقب الأئمة ونقض المطاعن عن سلف الأمة" -مخطوط في الظاهرية بدمشق، ومن المحتمل أن يكون هو كتاب =
أربعين سفرًا، وقد تكلم في مسألة القرآن في ثلاث مجلدات، وتكلم على القائلين بقدم الحروف، وقال (1):
"من زعم أن السين (2) من بسم بعد الباء، والميم بعد السين، والسين الواقعة بعد الباء لا أول (3) له، فقد خرج عن المعقول إلى جحد الضرورة، فإن من اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوليته، فإن ادعى أنه لا أول لما له أول (4) سقطت مكالمته.
وأما من زعم أن الرب -سبحانه- تكلم بالحروف دفعة واحدة من غير ترتيب ولا تعاقب فيها، فيقال لهم:
الحروف أصوات (5) مختلفة لا شك في اختلافها، وقد اعترف خصومنا (6) باختلافها، وزعموا أن لله ضروبًا من الكلام متغايرة مختلفة
= النقض الذي ذكره الشيخ.
وقد ذكر البغدادي في "الفرق بين الفرق" ص: 133 أن للباقلاني كتابًا كبيرًا في نقض أصول النظام.
وانظر قريبًا مما نقله الشيخ رحمه الله من النقض في الإنصاف للباقلاني - ص: 99 - 101.
وأورد هذا النقل عن القاضي أبي بكر أبو عبد الله القرطبي في كتابه الأسنى في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى -مخطوط- اللوحة 245، فقال:"قال القاضي في كتاب النقض -وهو في أربعين سفرًا، وتكلم في مسألة القرآن في ثلاث مجلدات، وتكلم على القائلين بقدم الحروف في ثلاثة أسطر وقال: "من زعم. .
(1)
في هامش س: رد ابن الباقلاني على الاقترانية. . .
(2)
السين: ساقطة من: الأسنى.
(3)
في الأصل: لأول. والمثبت من: س، ط، والأسنى.
(4)
في الأسنى: ادعى لا أول بما له أول.
(5)
في الأسنى: أصول.
(6)
في س، ط: خصوصًا.
على اختلاف اللغات والمقاصد في العبارات، وكل (1) صوتين مختلفين من الأصوات متضادان (2) يستحيل اجتماعها في المحل الواحد وقتًا واحدًا، كما يستحيل اجتماع كل مختلفين من الألوان.
والذي يوضح ذلك ويكشفه: أنا كما نعلم استحالة قيام السواد والبياض بمحل واحد جميعًا [فكذلك نعلم استحالة صوت خفيض وصوت جهوري بمحل (3) واحد في وقت واحد جميعًا](4) وهذا واضح لا خفاء به (5) والمختلف من الأصوات تتضاد (6) كما أن (7) المختلف من الألوان تتضاد (8)، والرب -سبحانه- واحد ومتصف بالوحدانية (9) متقدس عن التجزئ والتبعيض (10) والتعدد والتركب (11) والتألف، وإذا تقرر ما قلناه استحال قيام أصوات متضادة بذات موصوفة بحقيقة الوحدانية، وهذا ما لا مخلص لهم منه.
فإن تعسف من المقلدين (12) متعسف، وأثبت الرب (13) -سبحانه- جسمًا مركبًا من أبعاض متألفًا من جوارح نقلنا (14) الكلام معه
(1) في الأصل: أوكل. وأثبت المناسب من: س، ط، والأسنى.
(2)
في الأصل: متضادين. وفي س: متضاران. والمثبت من: ط، والأسنى.
(3)
في س: عجل. وهو تصحيف.
(4)
ما بين المعقوفتين ساقط من: الأسنى.
(5)
في ط: فيه.
(6)
في ط: يتضاد. وفي الأسنى: يتضادان.
(7)
أن: ساقطة من: الأسنى.
(8)
في الأسنى: يتضاد.
(9)
في ط: الواحدانية.
(10)
في ط: التبعض.
(11)
في الأسنى: التركيب.
(12)
في الأصل: المتقلدين. والمثبت من: س، ط، والأسنى.
(13)
في الأسنى: للرب.
(14)
في الأصل: فقلنا. وأثبت ما يستقيم به الكلام من: س، ط، والأسنى.
إلى إبطال التجسيم (1)، وإيضاح تقدس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيب (2) ".
فيقال له: هذا (3) بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعنى (4) القائم بالذات، فإن الذي نعلمه (5) بالضرورة في الحروف يعلم (6) نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظًا ومعنى قبل (7) الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف، فيقال من اعترف بأن معنى (8) الرحمن الرحيم بعد معنى بسم الله وادعى (9) أن هذا المعنى لا أول (10) له فقد خرج عن المعقول إلى جحد (11) الضرورة.
وإن زعم أن الرب تكلم بمعاني الحروف دفعة واحدة من غير تعاقب ولا ترتيب قيل له:
معاني الحروف حقائق مختلفة لا شك في اختلافها فإن المعنى القائم بنفس المتكلم المفهوم من {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (12) ليس هو المعنى
(1) في س: التجسم.
(2)
في الأصل: في التركيب. وأثبت ما يستقيم به الكلام من: س، ط، والأسنى.
(3)
في س: لهذا.
(4)
في س: من المعاني المعنى. وفي ط: من المعاني وهو المعنى.
(5)
في س: يعلمه.
(6)
في ط: نعلم.
(7)
في الأصل: قيل. وأثبت المناسب للسياق من: س، ط.
(8)
في س، ط: معنى اسم.
(9)
في س: الدعي.
(10)
في س: لأول.
(11)
في س: أجحد.
(12)
سورة الفاتحة، الآية:1.
القائم بالنفس المفهوم من {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} " (1) ولا شك في أن المعنى في صيغ الأمر ليس هو المعنى (2) في صيغ الإخبار، فإما أن يسلم هذا أو يمنع، فإن سلم كما سلم بعضهم أن الكلام خمس حقائق تكلم معه حينئذ وإن لم يسلم قيل له:
العلم باختلاف هذه المعاني ضروري بديهي ليس هو بدون العلم بتعاقب الحروف والمعاني ولا بدون العلم باختلاف الأصوات، بل أصوات المصوت الواحد أقرب تشابهًا من المعاني القديمة بنفسه، وهذا أمر (3) محسوس، ومن أنكره سقطت مكالمته أبلغ مما تسقط مكالمة ذاك وحينئذ فيقال له:
هذه المعاني المختلفة متضادة في حقنا، فإنا نجد من نفوسنا أنها عند تصور معاني كلام لا يمكنها أن تتصور معاني كل كلام، كما نجد من أنفسنا (4) أنا عند التكلم (5) بصوت لا يمكننا أن نتكلم بصوت آخر، فإن كان هذا الامتناع لذات المعنيين والصوتين امتنع أن يقوم ذلك بمحل واحد، وإن كان لعجزنا عن ذلك كما نعجز عن استحضار علوم كثيرة لم يجب أن يكون ذلك ممتنعًا في حق الله، ولا ممتنعًا أن يخلق الله في ما شاء من المخلوقات معاني كثيرة مختلفة وأصواتًا كثيرة مختلفة.
قوله: وكل صوتين مختلفين من الأصوات متضادان يستحيل اجتماعهما في المحل الواحد وقتًا واحدًا.
فيقال له: أما الذي نجده فإنا لا يمكننا أن نجمع بين صوتين في محل واحد وقتًا واحدًا سواء كانا مختلفين أو متماثلين، فليس الامتناع في
(1) سورة المسد، الآية:1.
(2)
في الأصل: المعتر. ولا معنى لها.
(3)
في ط: الأمر.
(4)
في س، ط: نفوسنا.
(5)
في س، ط: المتكلم.
ذلك لأجل اختلاف الأصوات، وكذلك لا يمكننا أن نستحضر في قلوبنا المعاني الكثيرة في الوقت الواحد في الزمن الواحد، سواء كانت مختلفة أو متماثلة، وإن قدرنا أن نجمع من المعاني في قلوبنا ما لا نقدر على أن نجمع لفظه من الأصوات، فلا ريب أن القلب أوسع من الجسد لكن لا بد أن يجد كل أحد نفسه يمتنع أن يجتمع فيها معاني كثيرة في وقت واحد، كما يمتنع أن يجمع (1) بين صوتين في محل واحد، وقياس الأصوات بالمعاني وهي مطابقة لها وقوالب (2) لها أجود من قياسها بالألوان، وما ألزموه في -المعاني من أنها معنى واحد (3) هو الأمر والنهي والخبر ليس في مخالفته لبديهة العقول بدون أن يقال (4) يكون حرفًا واحد هو الباء والسين، وإذا لم يقل هذا وهو نظيره، فلا ريب أن القول بجواز اجتماعهما في المحل الواحد أقرب إلى المعقول من كون الأمر هو النهي وهما الخبر، فالقول باجتماع الصفتين المتضادتين في محل واحد أقرب من القول بأن إحداهما الأخرى، ومن قال الكلام هو الأمر والنهي والخبر وأنها كلها مجتمعة قائمة بمحل واحد، فكيف يمتنع أن يقول باجتماع حروفها (5) في محل واحد.
ومما يؤيد هذا أنه على أصل القاضي أبي بكر -وهو فحل الطائفة- أن النسخ رفع الحكم بعينه، وهذا اختيار الغزالي (6)، وهو قول ابن عقيل
(1) في الأصل: يجتمع. وأثبت ما يناسب السياق من: س، ط.
(2)
في الأصل: ثواب. ولا معنى لها. والمثبت من: س، ط.
(3)
في س: واحدًا.
(4)
في س: أيقال.
(5)
في الأصل: حرفهما. وأئبت المناسب للكلام من: س، ط.
(6)
هو: أبو حامد محمَّد بن محمَّد الغزالي الطوسي، فيلسوف متصوف.
يقول ابن كثير: "تفقه على إمام الحرمين، وبرع في علوم كثيرة، وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة". توفي سنة 505 هـ.
انظر: تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 291 - 306. وسير أعلام =
وغيره من المحققين (1)، فيكون -سبحانه- قد أمر بشيء ونهى عن نفس ما أمر به، كما في قصة الذبيح (2)، والأمر (3) بالشيء مضاد للنهي عنه في فطر العقول أعظم من مضادة السواد للبياض، فإذا كانوا يلتزمون مثل ذلك
= النبلاء -للذهبي- 19/ 322 - 346. والبداية والنهاية -لابن كثير- 12/ 187، 188.
والغزالي يرى: أن الله متكلم بكلام أزلي قديم قائم بذاته، لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق، وليس بحرف ولا صوت، وموسى عليه السلام سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف، فلا يثبت في حق الله تعالى إلَّا كلام النفس.
انظر: الأربعين في أصول الدين- ص: 17. والاقتصاد في الاعتقاد - ص: 139 - 149. وكلاهما للغزالي.
(1)
يقول الرازي في حد النسخ في "المحصول" 1/ 3 / 423: "الذي ذكره القاضي أبو بكر، واقتضاه الغزالي -رحمهما الله- أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه".
وانظر: رأي الغزالي في كتابه "المستصفى في علم الأصول" 1/ 107.
(2)
قصة الذبيح: ذكرها الله تعالى بقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} 102 - 107 / الصافات.
يقول ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات: 4/ 16: "وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل خلافًا لطائفة من المعتزلة، والدلالة من هذه ظاهرة، لأن الله شرع لإبراهيم عليه السلام ذبح ولده، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء".
وجواز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال وأدلة ذلك، ومناقشة أدلة المعتزلة وبيان تعسفهم في التأويل بينه ابن قدامة المقدسي في: روضة الناظر وجنة المناظر ص: 39 - 41.
(3)
في س: إلا أمر. وهو تصحيف.
حتى يجعلوا (1) الضدين شيئًا واحدًا، كيف يمنعون اجتماع حرفين أو صوتين (2) وذلك أقرب إلى المعقول، وهذا الكلام لازم لجماعتهم، فإنهم حكوا عن القائلين بقدم الحروف والأصوات، هل هي متعاقبة أو يتكلم بها دفعة واحدة؟ قولين:
كما قال أبو المعالي فيما ذكره أبو عبد الله القرطبي (3) أن كلام الله منزه عن الأصوات (4).
(1) في ط: يجعلون.
(2)
في س: صوت.
والأشاعرة يمنعون اجتماع حرفين أو كلمتين، ويعتبرون اجتماعهما مكابرة للعقل. يقول الشهرستاني في "الإقدام" ص: 310، 311: ". . فإن العاقل لا يشك أن الذي يسمعه من القاري حروف وكلمات تخرج عن مخارجها على اختياره وليس يقارنه أمثالها حتى يكون كل حرفين، وكل كلمة كلمتين وكل آية آيتين، وإن كان فما محلها. وقد اشتغلت المخارج بحروفها؟ ومن المحال اجتماع حرفين وكلمتين في محل واحد في حالة واحدة.
والحروف لا وجود لها إلا على التعاقب، واجتماع حرفين وكلمتين في محل واحد غير معقول ولا مسموع، ولا محسوس من جهة القاري فهو محال".
(3)
هو: أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، من كبار المفسرين، له في ذلك "الجامع لأحكام القرآن" توفي سنة 671 هـ.
انظر: الوافي بالوفيات -للصفدي- 2/ 122، 123. وطبقات المفسرين -للداودي- 2/ 609، 670. والأعلام -للزركلي- 6/ 217، 218.
وانظر نقله عن أبي المعالي الجويني، وأنه يقول: إن كلام الله منزه من الأصوات والحروف، في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى" - مخطوط اللوحة:244.
(4)
أبو المعالي الجويني يرى أن كلام الله تعالى معنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت. وقد صرح بهذا في كتابه "الإرشاد" فقال في ص: 127: ". . فإن الكلام عند أهل الحق معنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت، والكلام الأزلي يتعلق بجميع متعلقات الكلام على اتحاده، وهو أمر بالمأمورات، ونهي عن =