الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ولما (1) قالوا: ولا تقول (2): إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته.
قلت إخبارًا عما وقع مني قبل ذلك: ليس في كلامي هذا -أيضًا- بل
قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة
، لم يقله (3) أحد من السلف، لا هذا، ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا كلام صحيح، فلم أقل: إن الحروف ليست من كلام الله، وإن المعاني ليست من كلام الله، ولا إن الله -تعالى- لم يتكلم بالحروف والأصوات ومعاني قائمة في نفسه، ولكن بينت أن من جعل القرآن مجرد حرف وصوت قائم بالله فإنه مبتدع، وقوله يتضمن أن المعاني ليست من القرآن، ولا من كلام الله، ومن جعل القرآن مجرد معنى قائم به مبتدع، وقوله يتضمن أن حروف (4) القرآن ليست من (5) القرآن، ولم يتكلم الله بها وأن جميع كلام الله ليس إلّا معنى واحدًا (6)، وقد قلت قبل هذا في جواب الفتيا المصرية (7)، وقد قيل فيها:
(1) في س، ط: فلما.
(2)
في الأصل: نقول، وفي س: تقولوا. والمثبت من: ط.
(3)
في س، ط: يقل.
(4)
في الأصل: الحروف. والمثبت من: س، ط.
(5)
من: غير واضحة في: الأصل. وأثبتها من: س، ط.
(6)
في الأصل، س: واحد. والمثبت من: ط.
(7)
تقدم الكلام عليها ص: 299 وانظر السؤال والإجابة عليه في مجموع الفتاوى =
المسؤول (1) بيان ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلمًا بأوضح عبارة وأبينها من أن ما في المصاحف هو كلام الله القديم؟ أم هو عبارة عنه لا نفسه، وأنه حادث أو قديم؟ وأن كلام الله حرف وصوت؟ أم كلامه صفة قائمة به لا تفارقه؟ وأن قوله تعالى (2):{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)، حقيقة أم لا؟ وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول شيئًا منه، ويقول (4) أؤمن به كما أنزل هل يكفيه ذلك [في](5) الاعتقاد؟ أم يجب عليه التأويل؟
فقلت في الجواب: الَّذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره، ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه سلف المؤمنين، الذين أثنى الله -تعالى- على من اتبعهم، وذم من اتبع غير سبيلهم (6)، وهو أن القرآن الَّذي أنزله على عبده ورسوله كلام الله - تعالى - وأنه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلّا المطهرون، وأنه قرآن مجيد في لوح محفوظ، وأنه كما قال:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (7)، وأنه في الصدور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استذكروا القرآن فلهو أشد (8) تفصيًا (9)
= 12/ 235 - 245.
(1)
في س: المسؤول فيها.
(2)
تعالى: كررت في: س.
(3)
سورة طه، الآية:5.
(4)
في الأصل، س، ونقول. والمثبت من: ط والمجموع.
(5)
ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والمجموع.
(6)
في الأصل، س: سبيله. والمثبت من: ط والمجموع.
(7)
سورة الزخرف، الآية:4.
(8)
في س: اشتد. وهو خطأ.
(9)
تفصيًا: أي: تخلصًا وخروجًا.
انظر: النهاية -لابن الأثير- 3/ 452.
من صدُور الرجال من النعم من عقلها" (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجوف الَّذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب"(2).
وإن ما بين لوحي المصحف الَّذي كتبته الصحابة رضي الله عنهم كلام الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم"(3).
فهذه الجملة تكفي المسلم في هذا الباب.
وأما تفصيل ما وقع في ذلك من النزاع، فكثير منه يكون كلا الإطلاقين (4) خطأ، ويكون الحق في التفصيل، ومنه ما يكون مع كل من
(1) الحديث بهذا اللفظ رواه مسلم في صحيحه 1/ 544 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضائل القرآن وما يتعلق به. الحديث / 28، وقد ورد فيه:"من النعم بعقلها".
وأول الحديث: عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئسما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسيّ استذكروا القرآن. . ".
ورواه البخاري 6/ 109 كتاب فضائل القرآن - باب استذكار القرآن وتعاهده مع اختلاف يسير في اللفظ.
(2)
رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الَّذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب". وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وسنن الترمذي 5/ 177 كتاب فضائل القرآن - الباب رقم 18 - الحديث / 2913.
ورواه الدارمي وأحمد رضي الله عنهما عن ابن عباس بلفظ: "إن الرجل الَّذي. . . " الحديث.
سنن الدارمي 2/ 308 - كتاب فضائل القرآن - باب فضل من قرأ القرآن الحديث / 3309.
ورواه الإمام أحمد في مسنده 1/ 223.
(3)
سبق تخريجه ص: 440.
(4)
في جميع النسخ "كالإطلاقين" ولعل الصواب ما أثبته من المجموع.
المتنازعين نوع من الحق، ويكون كل منهما ينكر (1) حق صاحبه، وهذا من التفرق والاختلاف الَّذي ذمه الله تعالى، ونهى عنه فقال:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (2)، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3)، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (4)، وقال:{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (5).
فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل، وإلَّا استمسك بالجمل (6) الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى.
وقد بسطت القول في جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الَّذي اتفق عليه العقل والسمع، وبيان ما يدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة (7)، ولكن نذكر منها جملة
(1) في الأصل: ولا يكون كل منهما يذكر. والمثبت من: س، ط والمجموع.
(2)
سورة البقرة، الآية:176.
(3)
سورة آل عمران، الآية:105.
في س: (جاءتهم) وهو خطأ.
(4)
سورة آل عمران، الآية:103.
(5)
سورة البقرة، الآية:213.
(6)
في الأصل: الجملة. والمثبت من: س، ط والمجموع.
(7)
شيخ الإسلام رحمه الله بسط القول في هذا في كتابه القيم "درء تعارض العقل والنقل 1/ 256 - 257 " وأوضح افتراق أهل الحديث في هذه المسألة وما سببه هذا الافتراق. فليراجع.
مختصرة، بحسب حال السائل (1)، بعد الجواب بالجمل (2) الثابتة بالنص والإجماع، ومنعهم من الخوض في التفصيل الَّذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله.
والتفصيل المختصر (3) أن نقول: من اعتقد أن المداد الَّذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهو ضال مخطئ، مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأولين وسائر علماء المسلمين (4)، ولم يقل أحد قط من علماء المسلمين أن ذلك قديم، لا من أصحاب (5) أحمد ولا من غيرهم، ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد، فهو مخطئ في النقل، أو متعمد للكذب، بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع (6) من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهموا من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق (7).
(1) في الأصل: المسائل. والمثبت من: س، ط والمجموع.
(2)
في الأصل: الجملة. والمثبت من: س، ط والمجموع وقد جاء فيه: والواجب أمر العامة بالجمل. . .
(3)
في س: المختص.
(4)
في س، ط: الإسلام.
(5)
في س، ط: أصحاب الإمام.
(6)
في س: بتبديع.
(7)
نقل اللالكائي في كتابه "شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/ 355 " عن محمد بن جرير الطبري قال:
"وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلَّا عن من في قوله الشفا والغناء، وفي اتباعه الرشد والهدى ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية، قال الله تعالى:{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامُ اللهِ} ممن يسمع؟ قال ابن جرير: وسمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنَّه كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق =
وقد صنف أبو بكر المروذي أخص أصحاب الإمام أحمد به في ذلك رسالة كبيرة (1) مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب "السنة" الَّذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمة المسلمين في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحديث (2) إذ ذاك أطلق القول: بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر (3) ذلك إنكارًا شديدًا، وبدع من. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فهو مبتدع. قال ابن جرير: ولا قول عندنا في ذلك يجوز أن نقوله غير قوله إذا لم يكن لنا إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع".
وقد نقل عبد الله عن أبيه الإمام أحمد رحمه الله بعض أقواله في اللفظية في كتاب "السنة ص: 28، 29 " كما أثبت الخلال في كتابه "السنة" مخطوط - اللوحة: 187 فما بعدها بعض أقوال الإمام أحمد رحمه الله وأنه جهم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وبدع من قال: غير مخلوق.
(1)
تقدم الكلام على هذه الرسالة.
(2)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في "درء تعارض العقل والنقل 1/ 262 ": "وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك. فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مرادهم صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي، ومحمد بن داود المصيصي، وطوائف غير هؤلاء.
وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه. ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة ردًّا لهؤلاء، كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة.
وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة، وأهواء للنفوس، حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة".
وذكر ابن قتيبة في كتابه "اختلاف اللفظ" ضمن مجموعة عقائد السلف جمع علي سامي النشار وعمار الطالبي ص: 245 فما بعدها" اختلاف أهل الحديث في هذ المسألة.
(3)
إنكار الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السنة على هؤلاء وتبديعهم ذكره شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل 1/ 260، 261 ".
قال (1) ذلك (2)، وأخبر أن أحدًا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم؟ وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء أن المداد الَّذي في المصحف قديم، وجميع أئمة أصحاب الإمام وغيرهم أنكروا ذلك، وما علمت أن عالمًا يقول ذلك، إلّا ما يبلغنا عن بعض الجهال، وقد ميز الله في كتابه بين الكلام والمداد (3) فقال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (4)، فهذا خطأ من هذا الجانب.
وكذلك من زعم أن القرآن محفوظ في الصدور، كما أن الله معلوم بالقلوب، وأنه متلو بالألسن، كما أن الله مذكور بالألسن، وأنه مكتوب في المصحف، كما أن الله مكتوب، وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسن والمصاحف مثل ثبوت ذات الله تعالى في هذه المواضع، فهذا -أيضًا- مخطئ في ذلك، فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بين واضح، فإن الموجودات (5) لها أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في البنان، فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ.
فإذا قيل: إن العين في الكتاب كما في (6) قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ
= وتقدمت الإشارة إلى كتابي: "السنة" لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبي بكر الخلال وما ذكراه من أقوال الإمام أحمد وتبديعه لمن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق.
(1)
في ط: قاله.
(2)
ذلك: ساقطة من: س، ط.
(3)
فكلامه - سبحانه - غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه مخلوق.
(4)
سورة الكهف، الآية:109.
(5)
في هامش الأصل: بيان أن الموجودات لها أربع مراتب. . .
(6)
في: مكررة في: س.
فَعَلُوهُ فِي الْزُّبُرِ} (1) فقد علم أن الَّذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للعلم، فبين الأعيان وبين المصحف (2) مرتبتان، وهما (3): اللفظ والخط.
وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة، بل نفس الكلام يجعل في الكتاب، وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجه آخر، إلَّا إذا أريد أن الَّذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه مثل قوله:{إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، إلى قوله:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (4).
فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله صلى الله عليه وسلم ولكن في زبر الأولين ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وخبره، كما أن أفعال العباد في الزبر، كما قال تعالى:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} (5)، فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزبر، وبين كون الكلام نفسه في الزبر، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (6)، وقال تعالى:{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (7).
فمن قال: إن المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الَّذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن
(1) سورة القمر، الآية:52.
(2)
في الأصل: الصحف. والمثبت من: س، ط.
(3)
في جميع النسخ: وهي. ولعل ما أثبته يستقيم به الكلام.
(4)
سورة الشعراء، الآيات: 192 - 196.
في س، ط:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ. . .} .
(5)
سورة القمر، الآية:52.
(6)
سورة الواقعة، الآيتان: 77، 78.
(7)
سورة البينة، الآيتان: 2، 3.
في المصحف، كما أن سائر الكلام في الورق، كما عليه الأمة مجمعة، وكما هو في قطر المسلمين، فإن كل مرتبة لها حكم يخصها وليس (1) وجود الكلام في الكتاب كوجود الصفة بالموصوف، مثل وجود العلم والحياة [في](2) محلها (3)، حتَّى يقال: إن صفة الله حلت بغيره، أو فارقته، ولا وجود (4) فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على الباري تعالى: حتَّى يقال: ليس فيه إلّا ما هو علامة على كلام الله عز وجل، بل هو قسم آخر، ومن لم يعط كل مرتبة مما يستعمل فيها أداة الظرف حقها، فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان، ووجود العرض للجسم، ووجود الصورة بالمرأة، ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة، وبين رؤيته بالقلب يقظة ومنامًا، ونحو ذلك، وإلا اضطربت عليه الأمور.
وكذلك سؤال السائل عما في المصحف هل هو حادث أو قديم؟ سؤال مجمل، فإن لفظ القديم (5) أولًا ليس مأثورًا عن السلف، وإنما
(1) في س: ولئن.
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة من: ط والمجموع.
(3)
في الأصل: مثل وجود العلم بالحياة محلها. والمثبت من: س، ط والمجموع.
(4)
في س، ط: ولا وجوده.
(5)
السلف -رحمهم الله تعالى- لم يؤثر عنهم إطلاق لفظ "القديم" على الكلام المعين نفسه، ولا على القرآن، مرادًا به المداد الَّذي كتب به القرآن والأوراق والجلد المحفوظ، بأنه قديم، ولذا نجد شيخ الإسلام رحمه الله يقول:"إن السلف قالوا: كلام منزل غير مخلوق، وقالوا: لم يزل متكلمًا إذا شاء فبينوا أن كلام الله: قديم لم يزل -أي: جنسه قديم- ولم يقل أحد منهم: إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم: القرآن قديم، بل قالوا: إن كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلًا منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزليًّا قديمًا بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلمًا إذا شاء فجنس كلامه قديم". . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . =
الَّذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تلي وحيث كتب، وهو قرآن واحد، وكلام واحد، وإن تنوعت الصور التي يتلى فيها ويكتب، من أصوات العباد ومدادهم، فإن الكلام (1) كلام من قاله مبتدئًا لا كلام من بلغه مؤديًا.
فإذا سمعنا محدثًا يحدث بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"(2). قلنا: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، مع علمنا أن الصوت صوت المبلغ، لا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نظم ونثر، ونحن إذا قلنا هذا كلام الله، لما نسمعه من القارئ ونرى في المصحف، فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو، مع قطع النظر عما اقترن به البلاع من صوت المبلغ ومداد الكاتب، فمن قال:
= راجع: مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية -كتاب مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة كتاب الله الكريم - 3/ 1 / 380، 381.
وشيخ الإسلام رحمه الله بين هذه المسألة غاية البيان في كتابه العظيم "درء تعارض العقل والنقل 2/ 310 - 323 ".
(1)
في س: الكلام.
(2)
أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال. . . " الحديث.
صحيح البخاري 1/ 2 باب كيف كان بدء الوحي.
ومسلم بلفظ: "إنما الأعمال بالنِّيَّة. . . " 3/ 1515 كتاب الإمارة - باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنِّيَّة" الحديث / 155.
وهذا الحديث اتفق العلماء على صحته، وتلقيه بالقبول، وهو أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها.
يقول الشافعي رحمه الله: "هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابًا من الفقه".
وعن الإمام أحمد رحمه الله قال: "أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث. . . " وذكر أن أحدها حديث عمر رضي الله عنه.
انظر: جامع العلوم والحكم -لابن رجب- ص: 5.
صوت القارئ، ومداد الكاتب، كلام الله الَّذي ليس بمخلوق، فقد أخطأ، وهذا الفرق الَّذي بينه الإمام أحمد لمن سأله، وقد قرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1)، فقال: هذا كلام الله غير مخلوق، فقال: نعم، فنقل السائل عنه أنَّه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فدعا به وزبره زبرًا (2) شديدًا، وطلب عقوبته وتعزيره، وقال أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: لا، ولكن قلت لي لما قرأت:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) هذا كلام الله غير مخلوق، قال: فلم تنقل عني ما لم أقله (4)؟.
(1) سورة الصمد، الآية:1.
(2)
زبره زبرًا شديدًا: أي: نهاه وانتهره.
والزبر: الزجر والمنع.
انظر: لسان العرب -لابن منظور - 4/ 315 (زبر).
(3)
سورة الصمد، الآية:1.
(4)
أورده نحوه أبو بكر الخلال في المسند من مسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل (السنة -مخطوط- اللوحة 196 - فقال: "أخبرني محمد بن علي الوراق، حدثنا صالح قال: تناهى إلى أبي أن أبا طالب يحكي عن أبي أنَّه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فأخبرت أبي بذلك.
فقال: من أخبرك؟
قلت: فلان.
قال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء، وجاء فوران.
فقال له أبي: أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق؟! وغضب وجعل يرعد فقال: قرأت عليك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فقلت لي: ليس هذا بمخلوق.
قال له: لم حكيت عني أني قلت اك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم، فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم أني لم أقل هذا، وغضب، وأقبل عليه فقال: تحكي عني ما لم أقل لك. فجعل فوران يعتذر إليه. . فعاد أبو طالب وذكر أنَّه حك ذلك من كتابه، وأنه كتب إلى القوم يخبرهم أنَّه وهم على أبي عبد الله".
يقول الذهبي -في سير أعلام النبلاء 11/ 288، 289 - بعد ذكره لما تقدم: =
فبين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين هذا كلام الله، فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها، وإن كنا إنما سمعناها (1) ببلاغ المبلغ وحركته وصوته، فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه أو صوته (2) أو فعله، وقال: هذا غير مخلوق، فقد ضل وأخطأ.
فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فالقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في المصحف ولا يقال: إن شيئًا من المداد والورق غير مخلوق، بل كل ورق ومداد في العالم فهو مخلوق.
ويقال -أيضًا-: القرآن الَّذي في المصحف كلام الله غير مخلوق، والقرآن الَّذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق.
ويتبين هذا بالجواب عن المسألة الثانية، وهو قوله: إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا؟
فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا خطأً، وهي من البدع المتولدة (3) الحادثة بعد المائة الثالثة، لما قال قوم من متكلمة الصفاتية (4): إن كلام الله الَّذي أنزله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والقرآن والذي لم ينزله، والكلمات التي كون بها الكائنات، والكلمات المشتملة على أمره وخبره، ليس إلَّا مجرد معنى واحد، هو صفة واحدة
= "الَّذي استقر الحال عليه أن أبا عبد الله كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع وأنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
فكان رحمه الله لا يقول هذا ولا هذا، وربما أوضح ذلك فقال:"من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي".
(1)
في س: سمعنا.
(2)
في الأصل: صورته. والمثبت من: س، ط والمجموع.
(3)
في س، ط: المولده.
(4)
مثل ابن كلاب والأشعري وغيرهما.