الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومراد الإمام أحمد والأصحاب أن يحمي حمى القرآن فلا تتسلق إليه الألسنة -خصوصًا ألسنة المبتدعة بما لعله يصير سلمًا للوصول إلى القول بخلقه- وإلا فلا يرتاب أن ألفاظ العباد كأصواتهم وسائر ما هو منهم مخلوق بلا شك ضرورة كون الألفاظ من المتلفظ وهي لا تزيد على ما هي منه.
وحينئذٍ فالصواب أن يقال: القرآن قديم (1) ولفظي مخلوق (2) وهذا بين وللَّه الحمد.
تنبيهات:
الأول: ثبت الصوت بالنص
صريحًا مع ما يفهم من قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] و {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 16] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية مما لا يحصى إلا بكلفة.
وموسى عليه السلام مع الكلام بحرف وصوت من الملك السلام، وإذا ثبت سماع موسى من اللَّه تعالى لم يجز أن يكون الكلام الذي سمعه إلا صوتًا وحرفًا.
فإنه لو كان معنى في النفس وفكرة ورؤية لم يكن ذلك تكليمًا لموسى ولا هو بشيء يسمع والفكر لا يسمى مناداة.
فإن قيل نحن لا نسميه صوتًا وإن كان مسموعًا، قلنا هذا مخالفة في اللفظ مع موافقة المعنى فإنه لا يعني بالصوت إلا ما كان مسموعًا فإن قيل إنما سمع موسى
= لعبد اللَّه (1/ 163 - 165، 179)
(1)
انظر ما تقدم (1/ 208 - 209).
(2)
انظر ما تقدم (2/ 232) حول مسألة اللفظ بالقرآن.
الكلام من الشجرة. قلنا هذا مع مصادمته للنص ومكابرة في غير طائل يلزم أن يكون موسى كليم الشجرة لا كليم اللَّه تعالى ويلزم أن يكون بنو إسرائيل أفضل في ذلك منه لأنهم سمعوا من أفضل ممن سمع منه موسى على زعمكم، إنما سمع من الشجرة، ولا يرتاب مؤمن أن موسى أفضل وأجل وأعظم من الشجرة (1).
ثم إن لفظ الصوت صحت به الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ بن حجر (2) في شرح البخاري: (3) "من نفى الصوت يلزمه أن اللَّه تعالى لم يسمع أحدًا من ملائكته ولا رسله كلامه، بل ألهمهم إياه إلهامًا، قال: وحاصل الإحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عهدت ذات مخارج ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير انفصال أشعة، ولئن سلم فيمنع القياس المذكور لأن صفة الخالق تعالى لا تقاس على صفة المخلوقين.
وحيث ثبت ذكر الصوت بالأحاديث الصحيحة، وجب الإيمان به ثم إما التفويض وإما التأويل" (4).
(1) هذا الكلام ذكره المؤلف في اللوامع (1/ 140) من كلام ابن قدامة.
(2)
ابن حجر تقدم (1/ 119).
(3)
فتح الباري (13/ 466).
(4)
الصحيح أن التاويل والتفويض ليس من مذهب السلف وإن مذهبهم الإيمان باللَّه وبأسمائه وصفاته وإثباتها للَّه على الوجه اللائق به كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وإنما نفوا علم الصفة والكيفية، فهذا هو الذي لا يعلمه إلا اللَّه كما أجاب الإمام مالك بن أنس لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول" انتهى.
وسيأتى في كلام الشارح مزيد بيان وتفصيل لمذهب السلف.
وقال في موضع آخر من شرح البخاري أيضًا: "قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب" حمله بعض الأئمة على مجاز الحذف -أي يأمر من ينادي فأستبعده بعض من أثبت الصوت بأن في قوله: "يسمعه من بعد" إشارة إلى أنه ليس من المخلوق لأنه لم يعهد مثل هذا فيهم. وبأن الملائكة إذا سمعوه صعقوا، وإذا سمع بعضهم بعضًا لم يصعقوا.
قال: فعلى هذا فصوته صفة من صفات ذاته، لا يشبه صوت غيره إذ ليس يوجد شيء من صفاته في صفات المخلوقين.
قال: وهكذا قرره المصنف يعني الإمام البخاري ما في كتاب خلق أفعال العباد (1).
فمن أحاديث اثبات الصوت ما روى جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: خرجت إلى الشام إلى عبد اللَّه بن أنيس الأنصاري رضي الله عنه فقال عبد اللَّه بن أنيس: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر اللَّه العباد أو قال الناس وأوما بيده إلى الشام عراة غرلا (2) بهما قال قلت ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل النار وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة قلنا كيف وإنما نأتي اللَّه حفاة عراة غرلا، قال بالحسنات والسيئات" أخرج أصله البخاري فى صحيحه تعليقا مستشهدًا به إلى قوله: "أنا الملك أنا الديان"(3).
(1) فتح الباري (13/ 465 - 466)، ولوامع الأنوار (1/ 140 - 141)؛ وشرح الكوكب المنير (2/ 54 - 55)، وكلام الحافظ ابن حجر في نفس الحديث.
(2)
غرلا: جمع أغرل: الأقلف: وهو الذي لم يختن. النهاية (3/ 362).
(3)
الحديث رواه أحمد في المسند (3/ 495)؛ والبخاري في خلق أفعال العباد رقم (463)؛ =
وأخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي (1)، والطبراني (2).
وأخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي (3) بسنده إلى جابر رضي الله عنه قال: بلغني أن للنبي صلى الله عليه وسلم حديثا في القصاص قال وكان صاحب الحديث بمصر فاشتريت بعيرًا فشددت عليه رحلا، وسرت حتى وردت مصر فمضيت إلى باب الرجل الذي بلغني عنه الحديث، فقرعت بابه فخرج إليه مملوكه فنظر في وجهي ولم يكلمني، فدخل إلى سيده، فقال أعرابي، فقال سله من أنت؟
= وفي الأدب المفرد رقم (970)(ص 337)؛ وفي الصحيح مختصرًا ومعلقًا في التوحيد في باب قول اللَّه: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (13/ 465). وأخرجه الحاكم في موضعين (2/ 437، 4/ 574 - 575)؛ والبيهقي في الأسماء (ص 346)؛ والخطيب في الرحلة في طلب الحديث (ص 31 - 32)؛ وفي الجامع لأخلاق الراوي (2/ 223)، والطبراني في الكبير؛ وفي الأوسط كما في مجمع الزوائد (1/ 133)(10/ 345 - 346، 351)؛ وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 93). وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في الموضعين وحسنه المنذري في الترغيب (4/ 373)، وكذا الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 351) وابن القيم في الصواعق المرسلة المختصر (2/ 280).
(1)
أبو يعلى الموصلي: أحمد بن علي بن المثنى بن يحيى التميمي الموصلي أبو يعلى من علماء الحديث الحفاظ الثقات له كتب منها: المعجم في شيوخه طبع، والمسند الكبير والصغير طغ في ثلاث عشر مجلدا، مات سنة سبع وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء (14/ 174)؛ والأعلام (1/ 171).
(2)
الطبراني تقدم (1/ 146).
(3)
ضياء الدين المقدسي: محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن ابن اسماعيل ضياء الدين أبو عبد اللَّه السعدي المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي محدث حافظ ورع صاحب تصانيف ورحلة واسعة في طلب العلم، توفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
ذيل طبقات الحنابلة (2/ 236)، وسير أعلام النبلاء (23/ 126).
فقال جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، فخرج إلى مولاه، فلما ترائينا اعتنق أحدنا صاحبه فقال: يا جابر ما جئت تعرف فقلت حديث بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم في القصاص ولا أظن أحدًا ممن مضى وممن بقي أحفظ له منك قال: نعم يا جابر سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إن اللَّه تعالى يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة غرلا بهما ثم ينادي بصوت رفيع غير فظيع يسمعه من بعد كمن قرب أنا الديان لا تظالم اليوم أما وعزتي لا يجاورني اليوم ظالم، ولو لطمة بكف أو يد على يد ألا وأنَّ أشد ما أتخوف على أمتي من بعدى عمل قوم لوط فلترتقب أمتي العذاب إذا تكافأ النساء بالنساء والرجال بالرجال" (1) ورواه عبد الحق الأشبيلي (2) من طريق الحارث (3) ابن أبي أسامه ومن مسنده نقله وخرجه علي بن معبد البغوي (4) المالكي وغيره.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه تعالى
(1) رواه عبد الحق الأشبيلي في العاقبة فى ذكر الموت والآخرة (ص 306)؛ من مسند الحارث بن أبي أسامة بالرواية الأولى التي سبقت قبل قليل، وهذه الرواية أخرجها الضياء المقدسى في "المختارة" كما في شرح الكوكب المنير (2/ 64 - 65)؛ وانظر فتح الباري (1/ 209)؛ ولوامع الأنوار (1/ 141 - 142).
(2)
عبد الحق الأشبيلي: عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن الحسين بن سعيد الأزدي الأندلسي الأشبيلي أبو محمد المعروف في زمانه بابن الخراط، كان فقيهًا حافظًا عالمًا بالحديث وعلله عارفًا بالرجال موصوفًا بالخير والصلاح والزهد والورع ولزوم السنة، صنف التصانيف منها: الأحكام الكبرى، والصغرى وغيرها، مات سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
سير أعلام النبلاء (21/ 198)؛ وبغية المتلمس للضبي (ص 391).
(3)
الحارث بن محمد بن أبي أسامة واسم أبي أسامة داهر محدث حافظ صدوق، صاحب المسند المشهور، مات سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
سير أعلام النبلاء (13/ 388).
(4)
علي بن معبد البغوي لم أجده.
إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل: ماذا قال ربك؟ "يقول" الحق. فينادون الحق الحق".
أخرجه أبو داود (1) ورواته ثقات.
ونحوه من حديث أبي هريرة رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة (2).
وكذا رواه الإمام أحمد ورواه ابنه عبد اللَّه قال: وسألت أبي فقلت يا أبي الجهمية يزعمون أن اللَّه لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا إنما يدورون على التعطيل.
ثم روى الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا تكلم اللَّه بالوحي سمع صوته أهل السماء (3).
(1) رواه أبو داود في السنة رقم (4738)؛ وابن خزيمة في التوحيد (1/ 350)، والبيهقي في الأسماء والصفات (262 - 263)، وقال الألباني في الصحيحة رقم (1293) إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2)
رواه البخاري في المسير (8/ 398) في تفسير سورة سبأ، باب "حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير"؛ وفي تفسير سورة الحجر باب قوله:"إلا من استرق السمع"(8/ 231)؛ وفي التوحيد رقم (7481) باب قول اللَّه تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ؛ والترمذي في التفسير رقم (3223) باب ومن سورة سبأ؛ وابن ماجة في المقدمة (1/ 69 - 70) رقم (194).
(3)
أخرجه أحمد رواه عنه ابنه عبد اللَّه في السنة رقم (536) موقوفًا على ابن مسعود وإسناده صحيح.
قال السجزي: (1) وما في رواة هذا الخبر إلا إمام مقبول انتهى.
وتتمة الخبر: فيخرون سجدًا حتى إذا فزع عن قلوبهم قال سكن عن قلوبهم قال أهل السماء: ماذا قال ربكم، قالوا الحق قال كذا وكذا.
قال الإمام القاضي أبو الحسين (2) وغيره ومثل هذا لا يقوله ابن مسعود رضي الله عنه إلا توقيفًا لأنه إثبات صفة للذات (3).
وقد روي في إثبات الحرف والصوت ما يزيد على أربعين حديثًا بعضها صحاح وبعضها حسان يحتج بها (4) أخرجها الإمام الحافظ ضياء الدين المقدسي (5) وغيره.
وأخرج سيدنا الإمام أحمد غالبها، واحتج به وذكر الحافظ بن حجر غالبها في شرح البخاري، واحتج بها البخاري وغيره من أئمة أهل السنة والحديث على أن اللَّه تعالى وتقدس يتكلم بحرف وصوت.
(1) السجزي: جاء في المخطوطتين السنجري والمثبت من المصادر فهو عبيد اللَّه بن سعيد "أبو نصر السجزي" تقدمت ترجمته (1/ 217).
(2)
هو: محمد بن محمد بن الحسين القاضي الشهيد أبو الحسين صاحب طبقات الحنابلة ابن القاضي أبي يعلى الفراء كان عارفًا بالمذهب متشددًا في السنة، وكان فقيهًا مناظرًا له تصانيف كثيرة، توفى سنة 526 هـ.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة (1/ 176)؛ وشذرات الذهب (4/ 179).
(3)
انظر: هذه النصوص في شرح الكوكب المنير (2/ 68 - 69)؛ وفي لوامع الأنوار للمؤلف (1/ 142 - 143)؛ وفي شرح الكافية الشافية لابن عيسى (1/ 228 - 229)، وفي البرهان في بيان القرآن لابن قدامة (ص 270 - 272).
(4)
انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 79).
(5)
تقدم (1/ 242).
وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه واعتمدوه مع تنزيههم للَّه تعالى عما لا يليق بعظمة جلاله من شبهات الحدوث وسمات النقص كما قالوا في سائر الصفات إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل فالمشبه يعبد صنما، والمعطل يعبد عدمًا، والمسلم يعبد إله الأرض والسماء.
فإذا رأينا أحدًا من الناس مما لا يقدر عشر معشار هؤلاء يقول لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد أنه تكلم بحرف وصوت، ورأينا هؤلاء الأئمة قد دونوا هذه الأخبار، وعملوا بها ودانوا اللَّه تعالى بها وصرحوا بأن اللَّه تعالى تكلم بحرف وصوت لا يشبهان صوت مخلوق ولا حرفه بوجه ألبتة، معتمدين على ما صح عندهم عن صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله الذي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
مع اعتقادهم الجازم الذي لا ريب فيه ولا شك يعتريه نفي التمثيل والتكييف والتشبيه، بل يقولون في صفة الكلام كما يقولون في غيرها من سائر الصفات الذاتية، والفعلية، والخبرية: نؤمن بما جاءة بها الأخبار وصحت الآثار، لا كما يخص بالبال أو يتوهمه الخيال.
إذ ليس كمثل اللَّه شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله (1) واللَّه تعالى الموفق.
الثاني: القرآن العظيم كلام اللَّه القديم (2) ونوره المبين وحبله المتين وفيه الحجة
(1) انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 79 - 80)، ولوامع الأنوار للمؤلف (1/ 143)؛ وشرح الكافية (1/ 229).
(2)
انظر ما تقدم (2/ 207 - 208) حول نسية كلام اللَّه القديم.
والدعوة، فله اختصاص بذلك على غيره من سائر الكتب الإلهية كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه اللَّه إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"(1).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: يعني أن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل عليّ وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، قال: وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه.
بل المراد أنه المعجزة العظمى والآية الكبرى التي اختص بها دون غيره صلى الله عليه وسلم من الاُنبياء عليهم السلام (2). انتهى.
ولا يخفى أن كون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي شريعته المبعوث بها فيها معجزته التي تحدى الخلق بها من أعظم الآيات وأبهر المعجزات، وأظهر الدلالات، ولهذا استمرت معجزته العظمى باستمرار شريعته الغراء. وفيه إشارة، وتنبيه، وبشارة، وتنويه بأن هذا النبي الأمين خاتم النبيين والمرسلين، فشريعته دائمة ما دام الملوان (3) ومعجزته باقية ما
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي أول ما نزل (8/ 619)؛ وفي الإعتصام باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بجوامع الكلم (13/ 261) رقم (7274)؛ وأخرجه مسلم في الإيمان رقم (152) باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: فتح الباري (8/ 623).
(3)
الملوان: الليل والنهار وطرفاهما وهما في المثنى الذي لا يفرد واحده.
كر الجديدان (1) واللَّه ولي الإحسان. . . (2).
الثالث: قال سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه: من قال القرآن مقدور على مثله، ولكن اللَّه منع قدرتهم من ذلك كفر، بل هو معجزة بنفسه -كما في نهاية المبتدئين (3) - يعني ليس في وسع الخلق ولا قدرتهم مضاهات القرآن ولا شيئا منه (4).
قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (5) الحنبلي في كتابه "الوفاء": "وكان المرتضى (6) العلوي يقول بالصرفة -يعني أن اللَّه تعالى صرف العرب عن الإتيان بمثله لا أنهم عجزوا"(7).
قال الإمام أبو الوفاء (8) ابن عقيل الحنبلي شيخ ابن الجوزي:
(1) الجديدان: الليل والنهار، أو الغدوة والعشي.
جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين (ص 33، 108).
(2)
لوامع الأنوار (1/ 177).
(3)
نهاية المبتدئين في أصول الدين لأحمد بن حمدان تقدم التعريف به (1/ 153).
(4)
انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 115).
(5)
ابن الجوزي تقدم التعريف به (1/ 146).
(6)
المرتضى العلوي: علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم أبو القاسم من أحفاد الحسين بن علي بن أبي طالب نقيب الطالبين وأحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر يقول بالإعتزال، مولده ووفاته ببغداد، له تصانيف كثيرة، توفى سنة 436.
ميزان الإعتدال (3/ 124)؛ والأعلام (4/ 278).
(7)
وهذا رأي النظام من المعتزلة.
انظر: الإتقان في علوم القرآن (4/ 6 - 7)، والبرهان في علوم القرآن (2/ 93 - 94).
(8)
أبو الوفاء ابن عقيل: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد اللَّه البغدادي الظفري أبو الوفاء ابن عقيل شيخ الحنابلة في عصره وعالم العراق، كان قوي الحجة يتوقد ذكاء، =
الصرف عن الإتيان بمثله دال على أن له قدرة حاصلة قال، وإن كان في الصرفة نوع إعجاز إلا أن كون القرآن في نفسه ممتنعًا عن الإتيان بمثله لمعنى يعود عليه آكد في الدلالة وأعظم لفضيلة القرآن، قال وما قول من قال بالصرفة إلا بمثابة من قال بأن عيون الناظرين إلى عصا موسى عليه السلام خيل لهم أنها حية وثعبان، لا أنها في نفسها انقلبت، قال: فالتحدي للمصروف عن الشيء لا يحس كما لا يتحدى العجم بالعربية.
قال ابن الجوزي وأنا أقول: إنما يصرفون عن النبي بتغير طباعهم عند نزوله أن يقدروا على مثله، فهل وجد لأحد منهم قبل الصرفة منذ وجدت العرب كلام يقاربه مع اعتمادهم على الفصاحة (1).
فالقول بالصرفة ليس بشيء (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه سره في كتابه: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"(3): "كلما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن حجة على إعجازه، ولا تناقض في ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.
ثم قال: ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام أنه معجز بصرف
= وكان بحر معارف اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته، ثم تاب ورجع عنه، له تصانيف كثيرة منها: كتاب الفنون في أربعمائة مجلد، توفى سنة 513.
سير أعلام النبلاء (19/ 443) وما بعدها، والأعلام (4/ 313).
(1)
انظر: الوفاء بأحوال المصطفى لابن الجوزي (1/ 268 - 269)، وانظر الرد على من يقول بالصرفة البرهان في علوم القرآن (2/ 93 - 94)؛ والإتقان في علوم القرآن (4/ 6 - 7).
(2)
انظر لوامع الأنوار (1/ 174).
(3)
انظر الجواب الصحيح (4/ 75 - 76)؛ ولوامع الأنوار (1/ 174).
الدواعي مع قيام الموجب لها، أو سلب القدرة الجازمة وهو أن اللَّه صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضى التام أو سلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبًا عامًا شل قوله تعالى لزكريا:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10].
فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ الآيات الخارقة للعادة بمنزلة من يقول: "إني آخذ جميع أموال أهل الأرض، أو أهل هذه البلد العظيم، وأضربهم جميعهم وأجوعهم، وهم قادرون على أن يشتكوا إلى اللَّه، وإلى ولي الأمر، وليس فيهم مع ذلك من يشتكي فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة، ولو قدر أن أحدًا صنف كتابًا يقدر أمثاله على تصنيف مثله، أو قال شعرًا يقدر أمثاله على أن يقولوا مثله وتحداهم كلهم فقال: عارضوني، وإن لم تعارضون فأنتم كفار مأواكم النار ودماؤكم حلال امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد فإذا لم يعارضوه كان هذا من العجائب الخارقة للعادة.
والذي جاء بالقرآن العظيم صلى الله عليه وسلم قال للخلق كلهم أنا رسول اللَّه إليكم جميعا، ومن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أبيح لي قتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم وغنيمة أموالهم، ووجب عليهم كلهم طاعتي ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق.
ومن آياتي هذا القرآن فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله وأنا أخبركم أن أحدًا لا يأتي بمثله فإنه لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة، أو عاجزين فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه، بل صرف اللَّه دواعى قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه،
فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل: معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام، ولا على الأكل والشرب، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المتعاد فهذا من أبلغ الخوارق.
وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة فثبت خرق العادة على تقدير النقيضين النفي والإثبات.
فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر، قال شيخ الإسلام قدس اللَّه روحه (1): فهذا غاية التنزل وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك. قال: بل ولا يقدر محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما أخبر تعالى فى قوله:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88].
قلت: وفى شفاء القاضي عياض (2) ميل للقول بالصرفة (3).
(1) الجواب الصحيح (4/ 76)؛ ولوامع الأنوار (1/ 175).
(2)
القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي أبو الفضل، عالم المغرب، إمام أهل الحديث في وقته، كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، مولده بمدينة سبته وتولى القضاء فيها، ثم قضاء غرناطة، ثم توفى بمراكش مسمومًا وقيل: سمه يهودي سنة 544 هـ، وقد جمع المقرئ سيرته وأخباره في كتاب "أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" ط. ولولده أبي عبد اللَّه محمد التعريف بالقاضي عياض طبع أيضًا.
أنظر: سير أعلام النبلاء (20/ 212)؛ والأعلام (5/ 99).
(3)
انظر: الشفا للقاضي عياض (1/ 373) وذكر أن الأشعري أيضًا ممن يقول بالصرفة.
وقال القاري: وهو -القول بالصرفة- قول مرجوح عند أكابر الأئمة.
شرح الشفاء للقاري (2/ 781، 806).
وذكر الحافظ ابن الجوزي في كتابه الوفاء عن الإمام أبي الوفاء ابن عقيل أنه قال: حكى لي أبو محمد بن مسلم النحوي قال: كنا نتذاكر إعجاز القرآن، وكان ثم شيخ كثير الفضل، فقال: ما فيه ما يعجز العقلاء عنه، ثم ارتقى إلى غرفة ومعه صحيفة ومحبرة ووعد أنه سيباديهم بعد ثلاثة أيام بما يعمله مما يضاهي القرآن، فلما انقضت الأيام الثلاثة صعد واحد فوجده مستندا يابسًا وفد جفت يده على القلم (1).
قلت: وبمثل هذه الحكاية يتعلق القائلون بالصرفة، وليس لهم في ذلك حجة لعدم حصر الهلاك فيها، بل لما عجز أهلكه اللَّه كمدًا، ولتجريه على ما ليس في وسعه وقدرته (2) واللَّه أعلم.
الرابع: كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأتون بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة لأقوامهم الكافرة، وأممهم الفاجرة، فكان كل نبي تقع معجزتة مناسبة لحال قومه (3).
كما كان السحر فاشيًا عند فرعون وقومه، فجاء موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا فبسوا (4)، وانصدعوا واحتاروا وانقمعوا
(1) انظر: الوفاء (1/ 268).
(2)
انظر: لوامع الأنوار (1/ 176).
(3)
ممن ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ. . .} [آل عمران: 49](2/ 142)؛ وذكره ابن عطية في مقدمة تفسيره (1/ 40)؛ والزركشي في البرهان (2/ 97 - 98)؛ والسيوطي في الإتقان (4/ 9).
(4)
بسوا: كذا في الأصل؛ وفي اللوامع للمؤلف (1/ 177).
وفي "ظ" بئسوا، ومعنى بسوا. =
وعلموا أن ما جاء به موسى الأمين هو الحق اليقين فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
ولم يقع ذلك بعينه لغير موسى من الأنبياء عليهم السلام.
ولما كان الزمن الذي بعث فيه عيسى بن مريم عليه السلام كان قد فشى فيها الأطباء والحكماء بين الأنام، وكان أمرهم في غاية من الظهور والاعتناء بصناعتهم ظاهر مشهور، جاء السيد المسيح بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص من الداء العضال القبيح، وخلق من الطين كهيئة الطير بإذن اللَّه فطاشت قلوب الحكماء وأذعنوا بأنه من عند اللَّه.
ولما كانت العرب هم أرباب البلاغة وجراثيم (1) الفصاحة وأس (2) البيان وأرومة (3) الوضاحة (4) وفرسان الكلام وأرباب النظام قد خصوا من البلاغة
= قال في التاج: البس زِجر للإبل ببس بس. . . والبس ارسال المال في البلاد وتفريقه فيها، وقد بسه في البلاد فانبس كبثه فأنبث، والبس الطرد: بسهم عنك: أي أطردهم. والمعنى واللَّه أعلم: انهم طردوا وتفرقوا.
تاج العروس (بسس)(15/ 449) وما بعدها.
(1)
جراثيم: جرثومة الشيء بالضم أصله.
والمعنى أنهم أصول الفصاحة.
القاموس المحيط (1405 جرثم).
(2)
وأس البيان كذا في المخطوطتين.
وفي اللوامع للمؤلف ورأس البيان، ومعنى اس البيان: أصل البناء كالأساس والأسس جمع أساس أصل كل شيء.
القاموس المحيط (ص 682).
(3)
في المخطوطتين ورومة، وفي اللوامع أرومة ولعله الصواب.
ومعنى أرومة الأصل -أيضًا-
القاموس المحيط (1389).
(4)
الوضاحة: البياض والوضوح والظهور، والمعنى أنهم أرباب البيان الواضح.
والحكم ما لم يخص به غيرهم من سائر الأمم، وقد أوترا من ذرابة (1) اللسان ما لم يؤت مثله إنسان.
ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، جعل إذنه تعالى لهم ذلك طبعا وسليقة، وفيهم غريزة وحقيقة يأتون منه على البديهة بالعجب العجاب، ويدلون به إلى كل سبب من الأسباب، فإذا مدحوا أعجبوا، وإذا وصفوا أغربوا، وإذا هجوا أبدعوا، وإذا ذموا أقذعوا، وإذا تغزلوا هيجوا النفوس، وهيموا البليد فضلًا عن المأنوس (2).
وعلى كل حال لهم من البلاغة البالغة والقوة الدامغة، والفنون البديعة والضروب الرفيعة ما يعجز عن وصفه الواصفون ويحجم عن إستقصائه العارفون فبينما هم في ذلك كذلك فما راعهم إلا والرسول الكريم قد أتى بهذا القرآن العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قد أحكمت آياته وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول وسمت فصاحته على كل معقول وتظافر إيجازه وإعجازه وتظاهرت حقيقته ومجازه.
وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا وأوسعه في اللغة والغريب مقالا.
والقرآن العظيم نزل بلغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون صارخًا بهم في كل حين ومفزعًا لهم بضعًا وعشرين من السنين وموبخًا لهم على رؤوس الخلائق أجمعين.
(1) ذرابة اللسان: حدة اللسان وسلاطته بحيث لا يبالي ما قال. القاموس (ص 109)؛ والنهاية (2/ 156).
(2)
المأنوس: الذي فيه أنس: أي في فرح وسرور. المعجم البسيط (1/ 29 - 30).
{قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقرعهم بالقرآن أشد التقريع، ويتحداهم ويوبخهم ويشنع عليهم غاية التشنيع، ويسفه أحلامهم، ويفرق نظامهم، ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح أرضهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم، وهم فى كل ذلك ناكصون عن معارضته، محجمون عن مناضلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب، بالتكذيب والإفتراء بالإفتراء، فتارة يقولون هذا سحر مفترى، وأخرى أساطير الأولين، وطورًا يقولون إذا سمعوا آيات الكتاب:{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5].
ومنهم من استحق وهذى فقال بضرب من الدعوى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31].
ومن تعاطى شيئًا من سخفائهم بدعوى المعارضة افتضح وانكشف عواره، وما نجح وظهر بواره.
ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى. . .} [النحل: 90] قال واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر (1).
(1) رواه البيهقي فى دلائل النبوة عن عكرمة مرسلا.
ورواه عن ابن عباس متصلا -لكن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه القرآن. . .
انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 198) وما بعدها؛ والبداية (3/ 60، 61، 62).
وذكر أبو عبيد (1) أن أعرابيًا سمع رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. فسجد فقيل له في ذلك، فقال: سجدت لفصاحته.
وسمع آخر رجلًا يتلو: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80].
فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام (2). وقد ذكرنا في شرح الدرة (3) طرفًا صالحًا من متعلقات ذلك وهو قليل من كثير.
واللَّه ولي التيسير وباللَّه التوفيق.
(1) أبو عبيد تقدم (1/ 213).
(2)
انظر: هذه النصوص في الشفاء (1/ 365)، وفي اللوامع للمؤلف (1/ 179).
(3)
الدرة المضيئة فى عقد الفرقة المرضية.
منظومة فى العقيدة للمؤلف عدتها مائتا بيت وبضعة عشر وشرحها المسمى "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية" وهو مطبوع، وقد تقدم الكلام عنه. انظر (1/ 47). وما بعدها.
فصل في الكلام على صفة التجلي الإلهي، ووجوب وحدانيته تعالى والكلام على بعض الصفات الخبرية والفعلية من النزول اللائق بذاته المقدسة، ونحو ذلك.
أعلم أولا أن التوحيد ثلاثة أقسام (1):
توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الصفات.
فتوحيد الربوبية: أن لا خالق، ولا رازق، ولا محيي، ولا مميت، ولا موجد، ولا معدم، ولا مغني، ولا مقني، ولا رافع، ولا خافض، إلا هو سبحانه وتعالى.
وتوحيد الإلهية: افراده تقدس وتعالى بالعبادة والتأله له، والخضوع والذل والحب والإفتقار والإقبال والتوجه إليه تعالى.
وتوحيد الصفات: أن يوصف اللَّه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (نفيًا وإثباتًا، فيثبت ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم)(2).
وقد علم أن طريقة السلف وأئمة الدين إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف، ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه (مع اثبات ما)(3) أثبته من الصفات من غير إلحاد في الأسماء، ولا في
(1) انظر هذا المبحث في اللوامع (1/ 128) وما بعدها.
(2)
ما بين القوسين من هامش المخطوطتين وكتب عليه صح.
(3)
جاء النص في المخطوطتين، وفي لوامع الأنوار للشارح كذا: وكذلك ينفون عنه ما نفاه =
الآيات فإنه تعالى: ذم الملحدين في أسمائه وآياته فقال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
فطريقة سلف الأمة وأئمتها: إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال اللَّه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فالحق جل شأنه بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يليق بذاته من التشبيه والتعطيل، فالإثبات المفصل من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255].
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. . .} [الإخلاص: 1].
وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8].
{اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28].
= عن نفسه مع ما أثبته من الصفات. . . إلخ والتصويب من الرسالة التدمرية لابن تيمية (ص 9) ضمن النفائس، وعنه ينقل الشارح.
وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93].
وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52].
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
إلى أمثال هذه الآيات.
وكذلك الأحاديث الثابتة في أسماء الرب سبحانه وصفاته فإن في ذلك من إثبات ذاته المقدسة وصفاته المنزهة على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته. بنفي التمثيل ما هدى اللَّه به عباده إلى سواء السبيل.
فهذه طريقة الرسل صلوات اللَّه عليهم أجمعين.
وأما من زاغ وألحد فهو على الضد من ذلك فيصفون اللَّه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجودًا مطلقًا، لا حقيقة له عند التأمل لكل محقق نبيل، وإنما يرجع ذلك إلى وجود في الأذهان، لا في الأعيان فقولهم يستلزم التعطيل والتمثيل فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطون الأسماء والصفات تعطيلًا يستلزم نفي الذات المقدسة تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا (1).
واعلم ثانيًا: أن صفات الباري جل وعلا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية.
(1) انظر هذا المبحث في الرسالة التدمرية (ص 6 - 9) ضمن النفائس، وفي لوامع الأنوار (1/ 128 - 130).
فالصفات الذاتية المتفق عليها عند أهل السنة من الأثريه والأشعريه والماتريدية (1)(2): الحياة والعلم والكلام والقدرة والإرادة والسمع والبصر، فللعالم خالق واجب الوجود لذاته، متصف بهذه الصفات وبغيرها مما وصف اللَّه تعالى به نفسه، ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، لكن الأشعرية ومن نحا نحوهم إنما يثبتون له تعالى الصفات (السبع) المتقدمة.
وأما المعتزلة (3) فنفوا الصفات والأفعال للَّه تعالى وسموا الصفات أعراضًا، والأفعال حوادث، ويقولون: لا تقوم به تعالى الأعراض، ولا الحوادث، فيتوهم من لا يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون اللَّه تعالى عن النقائص والعيوب والآفات، ولا ريب أن اللَّه تعالى يجب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة، فإنه القدوس السلام الصمد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالًا لا يدرك الخلق حقيقته، منزهًا عن كل نقص تنزيهًا لا يدرك الخلق كماله. وكل كمال يثبت لموجود من غير استلزام نقص فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه في كلامه على مسألة حسن إرادة اللَّه تعالى بخلق الخلق وإنشاء الأنام (5).
(1) أهل السنة فرقة واحدة، وهم متفقون جميعًا على إثبات جميع الصفات الثابتة للَّه عز وجل بالكتاب والسنة على الوجه اللائق باللَّه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وراجع ما تقدم (1/ 142).
(2)
تقدم التعريف بهذه الفرقة (1/ 142).
(3)
الكلام من هنا لابن تيمية. انظر مجموع الفتاوى (8/ 149).
(4)
كتب هنا في هامش "ظ" بلغ مقابلة.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 149 - 150)، ولوامع الأنوار (1/ 251 - 252).
روينا من طريق غير واحد من الأئمة كعثمان بن سعيد الدارمي (1)، وأبى جعفر الطبري (2)، والبيهقي (3)، وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة (4) عن ابن عباس رضي الله عنهما فى قوله تعالى {الصَّمَدُ} قال السيد الذي كمل فى سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو اللَّه عز وجل وهذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفوًا، وليس كمثله شيء سبحان اللَّه الواحد القهار.
قال: وهذا التفسير ثابت عن عبد اللَّه بن صالح (5) عن معاوية بن صالح عن
(1) عثمان بن سعيد الدارمي: تقدم (1/ 186).
(2)
أبو جعفر الطبري: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير أبو جعفر، قال الخطيب في تاريخ بغداد: استوطن الطبري بغداد وأقام بها إلى حين وفاته، وكان أحد الأئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب اللَّه، عارفًا بالقرآن بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها.
قلت وله مصنفات كثيرة مفيدة أعظمها كتابه في النفسير: "جامع البيان في تأويل القرآن" طبع في اثني عشر مجلدًا، توفى سنة 310 هـ.
تاريخ بغداد (2/ 163).
(3)
البيهقي: تقدم (1/ 202).
(4)
علي بن أبي طلحة سالم مولى بني العباس: سكن حمص، أرسل عن ابن عباس ولم يره، صدوق قد يخطئ، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة.
تقريب التهذيب (ص 246).
(5)
عبد اللَّه بن صالح في الأصل عبد اللَّه بن أبي صالح: وأثبتنا ما في "ظ" وهو موافق لما في اللوامع وفي إسناد الحديث عند ابن جرير والبيهقي قد وقع هنا عبد اللَّه بن صالح عن علي =
علي بن أبي طلحة الوالبي (1).
لكن يقال إنه لم يسمع التفسير عن ابن عباس.
قال: لكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف.
وقد روى عن سعيد بن جبير (2) -أيضًا- أنه قال الصمد الكامل في صفاته وأفعاله.
وثبت عن أبي وائل شقيق بن سلمة (3) أنه قال الصمد السيد الذي انتهى سؤدده.
وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف كسعيد بن المسيب (4)،
= ابن أبي طلحة، والصواب عبد اللَّه بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة كما في الفتاوى، وفي إسناد الحديث عند ابن جرير والبيهقي.
وهو عبد اللَّه بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني أبو صالح المصري كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، توفى سنة اثنتين وعشرين ومائتين.
تقريب التهذيب (ص 177).
(1)
الأثر عن ابن عباس، رواه ابن جرير في تفسيره (30/ 346)، والبيهقي في الأسماء (ص 78 - 79)، وابن تيمية كما في الفتاوى (8/ 149 - 150، 17/ 220)؛ وذكره المؤلف في اللوامع (1/ 251 - 252).
(2)
سعيد بن جبير: تقدم (1/ 157).
(3)
شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي: ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة.
تقريب (ص 147).
(4)
سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي: أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع منه علمًا، مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين.
تقريب التهذيب (ص 126).
وابن جبير (1)، ومجاهد (2)، والحسن (3)، والسُّدى (4)، والضحاك (5)، وغيرهم: من أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا منقول عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن عبد اللَّه بن بريده عن أبيه، موقوفًا، أو مرفوعًا، فإن كلا القولين حق (6).
ولفظ "الأعراض" لغة يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها.
وكذلك نفي الحوادث والمحدثات قد يفهم منه ما يحدثه الناس من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدث بالإنسان من نحو الأمراض.
واللَّه تعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص، ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم: منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته الذاتية وأفعاله الإختيارية فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضا ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجيء ولا تجلي ولا نزول
(1) ابن جبير سعيد بن جبير: تقدم قبل قليل.
(2)
مجاهد: تقدم (1/ 197).
(3)
الحسن هو البصري: تقدم (1/ 193).
(4)
السُّدي: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي بضم المهملة وتشديد الدال أبو محمد الكوفي مفسر محدث، مات سنة سبع وعشرين ومائة.
سير أعلام النبلاء (5/ 264).
(5)
الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد الخراساني: صاحب التفسير كان من أوعية العلم، مات بعد المائة.
سير أعلام النبلاء (4/ 598)؛ وتقريب التهذيب (ص 155).
(6)
انظر أقوال العلماء في تفسير "الصمد" ابن جرير (30/ 344 - 347)، وابن كثير (9/ 344 - 346)؛ ومجموع الفتاوى (8/ 149 - 150، 17/ 214) وما بعدها.
ولا استواء ولا غير ذلك من صفات ذاته وأفعاله.
وجمهور المسلمين يخالفهم في ذلك ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات (دون الأفعال ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات)(1) دون بعض، ومن الناس من ينازعهم في الفعل القديم فيقول: فعله تعالى قديم وإن كان المفعول محدثًا (2).
وقد علمت أن مذهب السلف إثبات الصفات الذاتية والفعلية والخبرية له وهو مذهب الماتريدية (3).
قال الوزنتي (4) من الحنفية في شرح المنظومة المعروفة بالجواهر ما ملخصه: "التخليق صفة اللَّه تعالى وهو فعله تعالى لاقتضاء المفعول فعلًا لاستحالة مفحول بلا فعل ففعله تعالى صفة له فاستحال دخوله تحت قدرت وإرادته".
ثم قال: "واعلم أن الأئمة الأربعة ونظائرهم من أئمة أهل السنة وأكثر رجال الصوفية الذين كانت كراماتهم ظاهرة مثل مالك (5) بن دينار، وإبراهيم بن
(1) ما بين القوسين سقط من "ظ" وعلق في هامش الأصل.
(2)
انظر هذا المبحث في الفتاوى (8/ 149 - 151)؛ وفي اللوامع (1/ 251 - 252).
(3)
انظر (1/ 142).
(4)
الشيخ حميد الدين حامد بن أيوب الوزنتي الحنفي له الجواهر المنظومة وله عليه شرح سماه مرقاة المبتدئين ونهاية المنتهين.
كشف الظنون (1/ 619)؛ وهدية العارفين (1/ 261).
(5)
مالك بن دينار البصري أبو يحيى: الزاهد العابد معدود في ثقات التابعين، مات سنة ثلاثين ومائة ونحوها.
سير أعلام النبلاء (5/ 362)؛ وتقريب التهذيب (ص 326).
أدهم (1)، والفضيل بن عياض (2)، وذي النون (3) المصري، والسري السقطي (4)، ومعروف الكرخي (5)، وسهل بن عبد اللَّه التستري (6).
ومن نشر علم الإشارة أبي القاسم الجنيد (7) البغدادي، وأبي بكر الشبلي (8) وغيرهم كانوا يصفون اللَّه بالفعل والكلام والرؤية والسمع كما يصفونه بالحياة
(1) إبراهيم بن أدهم بن منصور العجلي وقيل التميمي أبو إسحاق البلخي: العابد الزاهد، مات سنة اثنتين وستين ومائة.
سير أعلام النبلاء (7/ 387)؛ وتقريب التقريب (ص 18).
(2)
الفضيل بن عياض: تقدم (1/ 185).
(3)
ذو النون المصري: ثوبان بن إبراهيم وقيل فيض بن إبراهيم النوبي الأخميمي يكني أبا الفيض، ومال أبا الفياض من العباد الزهاد، توفى سنة 245 هـ.
سير أعلام النبلاء (11/ 532).
(4)
السري السقطي: تقدم (1/ 237).
(5)
معروف بن فيروز وقيل فيرزان الكرخي: أحد العباد الزهاد، توفى سنة مائتين.
تاريخ بغداد (13/ 199)؛ وسير أعلام النبلاء (9/ 339).
(6)
سهل بن عبد اللَّه التستري أبو محمد الصوفي الزاهد: توفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
سير أعلام النبلاء (13/ 330).
(7)
الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي ثم البغدادي: شيخ الصوفية وأحد العباد الزهاد، توفى سنة ثمان وتسعين ومائتين.
تاريخ بغداد (7/ 241)؛ وسير أعلام النبلاء (14/ 66).
(8)
أبو بكر الشبلي البغدادي: قيل اسمه دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس، وقيل جعفر بن دلف من مشايخ الصوفية، كان فقيها عارفا بمذهب مالك وله شعر، توفى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
تاريخ بغداد (14/ 389)، وسير أعلام النبلاء (15/ 367).
والعلم والقدرة والإرادة وأخذ يحط على أبي حسن الأشعري (1) وأنه أتى بخلاف مذهب أهل السنة. انتهى (2).
وفي عقائد النسفي (3) المشهورة: والتكوين صفة اللَّه أزلية وهو تكوينه للعالم، ولكل جزء من أجزائه وهو غير المكون عندنا (4).
قال شارحها المحقق التفتازاني (5): "التكوين هو المعنى المعبر عنه بالفعل والخلق والتخليق والإيجاد والإحداث والإختراع ونحو ذلك، ويفسر بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود صفة اللَّه تعالى لإطباق العقل والنقل على أنه خالق للحالم مكون له.
(1) أبو الحسن الأشعري: تقدم التعريف به (1/ 142) عند التعريف بالأشعرية، وقد قلنا إن أبا الحسن رجع عن مذهب الإعتزال ووافق أهل السنة في إثبات الصفات وصرح بها في كتبه مثل: الإبانة والمقالات واللمع. لكن بقي أتباعه يخالفون منهجه في إثبات الصفات فيثبتون بعضها ويؤلون بقيتها.
(2)
انظر: لوامع الأنوار (1/ 252).
(3)
النسفي: عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي السمرقندي نجم الدين أبو حفص مفسر فقيه أصولي متكلم مؤرخ أديب له مصنفات كثيرة منها: مجمع العلوم، والتيسير في التفسير؛ والعقائد، يعرف بالعقائد النسفية، توفى سنة 537 هـ.
الجواهر المضيئة (2/ 657)؛ ومعجم المؤلفين (7/ 305).
(4)
العقائد النسفية (ص 29) ضمن مجموع المتون.
(5)
التفتازاني: مسعود بن عمر بن عبد اللَّه سعد الدين التفتازاني، ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) وأقام بسرخس ثم انتقل إلى سمرقند، فتوفى فيها كان من أئمة العربية والبيان والمنطق، متكلم أصولي له مصنفات كثيرة منها: تهذيب المنطق، والمطول في البلاغة؛ ومقاصد الطالبين في الكلام وشرحه، ط؛ وشرح العقائد النسفية، وغيرها كثير، توفى سنة 793 هـ.
الدرر الكامنة (5/ 119 - 120)؛ وبغية الوعاة (2/ 285)؛ والأعلام (7/ 219).
وامتناع إطلاق الإسم المشتق على الشيء من غير أن يكون مأخذ الاشتقاق وصفًا له قائمًا به أزلية لامتناع قيام الحوادث بذاته ولأنه سبحانه وصف ذاته في كلامه الأزلي باللَّه الخالق فلو لم يكن في الأزل خالقًا للزم الكذب، أو العدول إلى المجاز أي الخالق فيما يستقبل، أو القادر على الخلق من غير تعذر الحقيقة على أنه لو جاز إطلاق الخالق عليه بمعنى القادر لجاز إطلاق كل ما يقدر عليه من الأعراض.
وأيضًا لو كان فعله تعالى حادثًا، فإما بتكوين آخر فيلزم التسلسل، وهو محال ويلزم منه استحالة تكون مع أنه مشاهد، وإما بدونه فيستغني الحادث عن المحدث والإحداث، وفيه تعطيل الصانع تعالى، وأيضًا لو حدث فعله تعالى لحدث، إما في ذاته تعالى فيصير محلًا للحوادث (1)، أو في غيره كما ذهب إليه أبو الهذيل (2) المعتزلي: من أن تكوين كل جسم قائم به فيكون كل جسم قائم به فيكون كل جسم خالقًا ومكونًا لنفسه، ولا خفاء في استحالته.
ومبنى هذه الأدلة على أن التكوين صفة حقيقية كالعلم والقدرة.
(1) هذا من كلام أهل البدع من المعتزلة المخالفين لمذهب أهل السنة، فقد ذكر ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله أن مذهب السلف أن أفعال اللَّه سبحانه وتعالى قديمة النوع حادثة الآحاد وأن اللَّه سبحانه وتعالى فعال لما يريد، لم يزل متكلمًا إذا شاء ولم يزل فاعلًا إذا شاء، أو لم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئًا بعد شيء ونحو ذلك، ولا يلزم من ذلك حلول الحوادث كما يقول أهل البدع.
انظر: تعليق الشيخ عبد اللَّه بابطين، والشيخ ابن سحمان في لوامع الأنوار للمؤلف (1/ 130 - 131، 258 - 259).
(2)
أبو الهذيل: محمد بن الهذيل بن عبد اللَّه بن مكحول العبدي مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة، ولد في البصرة واشتهر بعلم الكلام، له مقالات في الإعتزال ومجالس ومناظرات، توفى بسامرا سنة 235 هـ.
تاريخ بغداد (3/ 366)، والأعلام (7/ 131).
قال التفتازاني والمحققون من المتكلمين على أنه من الإضافات والاعتبارات العقلية مثل كونه تعالى قبل كل شيء ومعه وبعده ومذكورًا بألسنتنا ومعبودًا لنا ومميتنا ومحيينا ونحو ذلك قال: والحاصل في الأزل هو مبدأ التخليق والترزيق والإماتة والإحياء وغير ذلك.
قال ولا دليل على كونه صفة أخرى سوى القدرة والإرادة، وإن كانت نسبتها إلى وجود الكون وعدمه على السواء لكن مع انضمام الإرادة بتخصيص أحد الجانبين ولما استدل القائلون بحدوث التكوين بأنه لا يتصور بدون المكون كالضرب بدون المضروب فلو كان التكوين قديمًا لزم قدم المكونات وهو محال.
أشار النسفي ومن يقول بقدمه من علماء السلف إلى الجواب عنه بقوله: وهو أي التكوين تكوينه تعالى للعالم، ولكل جزء من أجزائه، لا في الأزل، بل لوقت وجوده على حسب علمه وإرادته فالتكوين باق أزلًا، وأبدًا، والمكون حادث بحدوث التعليق، كما في العلم والقدرة وغيرهما من سائر الصفات القديمة التي لايلزم من قدمها قدم متعلقاتها لكون تعلقاتها حادثة.
وهذا تحقيق ما يقال إن وجود العالم إن لم يتعلق بذات اللَّه أو صفة من صفاته لزم تعطيل الصانع واستغناء الحوادث عن الموجد، وهو محال باطل أولًا، فليكن التكوين أيضًا قديمًا، مع حدوث المكون المتعلق به، وما يقال: بأن القول بتعلق وجود المكون بالتكوين قول بحدوثه إذ (1) القديم ما لا يتعلق وجوده بالغير، والحادث ما يتعلق به فمنظور فيه لأن هذا معنى القديم والحادث بالذات على ما تقول به الفلاسفة.
وأما المتكلمون فعندهم الحادث ما لوجوده بداية بأن يكون مسبوقًا بالعدم
(1) في الأصل: إذا والمثبت من "ظ" وهو الصواب.
والقديم بخلافه ومجرد تعلق وجوده بالغير لا يستلزم حدوثه بهذا المعنى لجواز أن يكون محتاجًا إلى الغير صادرًا عنه دائمًا بدوامه، كما ذهبت إليه الفلاسفة فيما ادعوا قدمه من الممكنات كالهيولا (1) -مثلا-.
نعم إذا أثبتنا صدور العالم من الصانع بالإختيار دون الإيجاب بدليل لا يتوقف على حدوث العالم كان القول بتعليق وجوده بتكوين اللَّه تعالى قولًا بحدوثه.
ومن هنا (2) يقال: إن التنصيص على كل جزء من أجزاء العالم إشارة إلى الرد على من زعم قدم بعض الأجزاء كالهيولا.
وإلا فهم إنما يقولون بقدمها بمعنى عدم المسبوقية بالعدم لا بمعنى عدم تكون ذلك بالغير.
والحاصل أنا لا نسلم أنه لا يتصور التكوين بدون المكون وأن وزانه معه وزان الضرب مع المضروب، فإن الضرب صفة إضافية لا يتصور بدون المضافين أعنى الضارب والمضروب وقد بينا أن التكوين صفة حقيقية هي مبدأ الإضافة التي هي إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود لا عينها حتى لو كانت عينها على ما وقع في عبارة بعض المشايخ لكان القول بتحققها بدون المكون مكابرة وإنكارًا للضروري فلا يندفع بما يقال من أن الضرب مستحيل البقاء فلا بد لتعلقه بالمفعول ووصول الألم إليه من وجود المفعول معه إذ لو تأخر لانعدم كذا قيل.
(1) الهيولا: لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة.
وفي اصطلاح المتكلمين هو جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الإتصال والإنفصال محل للصورتين الجسمية والنوعية.
انظر: التعريفات (ص 257).
(2)
في "ظ" من ههنا.
وهذا بالنسبة لفعل المخلوق وهو بخلاف فعل الباري فإنه أزلي الدوام ييقى إلى وقت وجود المفعول (1).
فالتكوين غير المكون فسائر الصفات الذاتية من الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام وغيرها وسائر الصفات الخبرية من الوجه واليدين والقدم وغيرها.
وسائر صفات الفعلية من الإستواء والنزول والإتيان والمجيء والتكوين ونحوها قديمة (2) للَّه تعالى عند سلف الأمة وأئمتها ليس شيء من ذلك محدثًا.
إذا علمت هذا التمهيد فمن الصفات التي يثبتها سلف الأمة وأئمة الدين من أهل الأثر دون الخلف والمتحذلقين: "التجلي الإلهي ورؤية رب العالمين".
وقد أشار إليه الإمام أبو بكر بن أبي داود رضي الله عنهما بقوله: (وقل) أيها الأثري السلفي (يتجلى اللَّه) سبحانه وتعالى (للخلق) من المسلمين أما في الموقف فيتجلى للمسلمين عامة حتى منافقي هذه الأمة وعصاتها (3) كما في الصحيحين
(1) نهاية كلام التفتازاني. انظر شرح العقائد النسفية (ص 96 - 101).
(2)
المعروف بين أهل السنة أن صفات اللَّه تعالى قسمان:
1 -
صفات ذاتة كالحياة والعلم والقدرة والوجه واليدين ونحوهما، فهذه قديمة بلا ريب إذ أنها صفات لازمة للَّه تعالى.
2 -
صفات فعلية وهي التي تتعلق بمشيئته وحكمته فإن اقتضت حكمته فعلها فعلها وإن اقتضت حكمته أن لا يفعلها لم تكن وهذا مثل الخلق والرزق والإحياء والإماته والكلام والنزول والإستواء، وغير ذلك من صفات فعله فهذا يكون قديم النوع أو الحنس وإن كانت آحاده توجد شيئًا فشيئًا وحينًا وآخر.
انظر: تعليق الشيخ عبد اللَّه أبا بطين رحمه الله على لوامع الأنوار للمؤلف (1/ 112).
(3)
سيأتي التفصيل في هذا. انظر (1/ 298).
وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: "قال الناس يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه. قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك" يجمع اللَّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغبت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم اللَّه في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون نعوذ باللَّه منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم اللَّه في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه (1).
وفى حديث أبي موسى الأشعري عند الطبراني قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
"يحشر الناس فينادي مناد أليس عدلًا مني أن أولي كل قوم ما كانوا يعبدون ثم ترفع لهم آلهتهم فيتبعونها، حتى لا يبقى أحد غير هذه الأمة، فيقال لهم مالكم، قالوا: ما نرى إلهنا الذي كنا نعبد فيتجلى لهم تبارك وتعالى (2).
وعند اللالكائي (3) من حديث أبي موسى أيضًا رضي الله عنه: فيكشف لهم عن
(1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب فضل السجود (2/ 341)؛ وفي الرقاق باب الصراط جسر جهنم (11/ 453)؛ وفي التوحيد باب قول اللَّه تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (13/ 430)؛ ومسلم رقم (182) في الإيمان باب معرفة طريق الرؤية؛ والترمذي رقم (2557) في صفة الجنة، باب ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار.
(2)
رواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (10/ 343)؛ وفي الأوسط (1/ 90) رقم (81).
قال الهيثمي: وفيه فرات بن السائب وهو ضعيف.
(3)
اللالكائي: هبة اللَّه بن الحسن بن منصور الطبري الرازي الشافعي اللالكائي: محدث =
الحجاب فينظرون إلى اللَّه فيخرون له سجدًا ويبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر (1) فيريدون السجود فلا يستطيعون فيقول اللَّه تعالى: يا عبادى ارفعوا رؤوسكم. . . (2) الحديث.
وأخرج الإمام عبد اللَّه بن المبارك (3) والآجري (4) عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأقيم عليهم بالكرامة جاءتهم خيول من ياقوت أحمر لا تبول ولا تروث لها أجنحة فيقعدون عليها ثم يأتون الجبار عز وجل
= حافظ فقيه صنف كتاب شرح السنة طبع في أربعة مجلدات وغيره، مات سنة ثمان عشر وأربعمائة.
سير أعلام النبلاء (17/ 419)؛ وتاريخ بغداد (14/ 70 - 71).
(1)
في النسختين: مثل صياصي -أي قرون البقر-. وهي تفسير من المؤلف رحمه الله لكلمة صياصي. وكان المناسب أن يجعلها بعد نهاية الحديث وقد أثبت نص الحديث من مصادره وأثبت هنا ما أورده المؤلف.
(2)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 479 - 480) رقم (832) وأخرجه أحمد في المسند (4/ 407 - 408)؛ والدارمي في الرد على الجهمية رقم (180)؛ والآجري في الشريعة (ص 263 - 280)؛ وابن خزيمة رقم (339، 340)؛ وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، لكن له شاهد من رواية جابر بن عبد اللَّه. أخرجه أحمد (3/ 383 - 384)؛ ومسلم (1/ 177 - 178) رقم (191).
انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 394) رقم (755).
(3)
تقدم (1/ 184).
(4)
محمد بن الحسين بن عبد اللَّه البغدادي الآجري أبو بكر محدث حافظ فقيه وكان صدوقًا خيرًا عابدًا صاحب سنة واتباع له مصنفات كثيرة منها "الشريعة" في السنة، وكتاب الرؤية؛ وكتاب أخلاق العلماء الثلاثة مطبوعة وغيرها من المصنفات، مات سنة ستين وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء (16/ 133)؛ ووفيات الأعيان (4/ 292).
فإذا تجلى لهم خروا له سجدًا، فيقول الجبار يا أهل الجنة ارفعوا رؤوسكم فقد رضيت عنكم رضا لا سخط معه، يا أهل الجنة ارفعوا فإن هذه ليست بدار عمل إنما هي دار مقامة ودار نعيم، فيرفعون رؤوسهم فيمطر اللَّه عليهم طيبا ثم يرجعون إلى أهليهم فيمرون بكثبان المسك فيبعث اللَّه ريحًا على تلك الكثبان فتهيجها في وجوههم حتى أنهم ليرجعون إلى أهليهم وإنهم وخيولهم لشباع من المسك (1).
وفي رواية عند الآجري وإنهم لشعث غبر من المسك.
وأخرج ابن ماجة (2)، وابن أبي الدنيا (3)، والدارقطني (4) والآجري (5)، عن جابر -أيضًا- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور رفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول اللَّه:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى
(1) أخرجه عبد اللَّه بن المبارك في الزهد (ص 534) رقم (1523)؛ والآجري في الشريعة (ص 267 - 268) مرفوعًا وموقوفًا، وأبو نعيم في صفة الجنة (3/ 277) رقم (429). وفي إسناده الحكم بن أبي خالد (هو ابن ظهير) وهو متروك.
كما في ترجمته في التقريب (ص 79).
(2)
ابن ماجه: تقدم (ص 1/ 198).
(3)
ابن أبي الدنيا: عبد اللَّه بن محمد بن عبد بن سفيان القرشي مولاهم البغدادي المؤدب صاحب التصانيف السائرة، محدت حافظ مكثر التصنيف، مات سنة إحدى وثمانين ومائتين.
سير أعلام النبلاء (13/ 397).
(4)
الدارقطني: تقدم (ص 1/ 104).
(5)
الآجري تقدم قبل قليل.
شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم (1).
إشرافه سبحانه وتعالى هو تجليه واطلاعه بالمعنى الذي يليق بذاته المقدسة.
ورواه البيهقي (2)، وأبو نعيم (3)، وفيه فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر أزمتها زبرجد أخضر وياقوت أحمر (فيحملون) عليها تضع حوافرها عند منتهى طرفها فيأمر اللَّه بأشجار عليها الثمار فتجيء جوار من الحور العين وهن يقلن نحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الخالدات فلا نموت أزواج قوم مؤمنين كرام ويأمر اللَّه بكثبان من مسك أبيض أذفر فيثير عليهم ريحًا يقال لها: المثيرة حتى تنتهى بهم إلى جنة عدن، وهي قصبة الجنة، فتقول الملائكة يا ربنا قد جاء القوم فيقول مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين، فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى اللَّه جهرة فيتمتعون بنور الرحمن حتى لا يبصر بعضهم بعضًا، ثم يقول ارجعوهم إلى القصور بالتحف، فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضا، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (4)
(1) أخرجه ابن ماجة رقم (184)؛ والآجري في الشريعة (267)، والبزار كما في كشف الأستار (3/ 67).
قال البوصيري في الزوائد (1/ 26): هذا إسناد ضعيف لضعف الفضل بن عيسى الرقاشي.
وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 98)؛ وذكره الألباني في ضعيف الجامع رقم (2362).
(2)
البيهقى: تقدم (ص 1/ 202).
(3)
أبو نعيم: أحمد بن عد اللَّه بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، محدث حافظ مؤرخ، له مصنفات كثيرة منها: حلية الأولياء؛ وتاريخ أصبهان وصفة الجنة؛ ودلائل النبوة، وغيرها، مات سنة ثلاثين وأربعمائة.
سير أعلام النبلاء (17/ 453)؛ ومعجم المؤلفين (1/ 282).
(4)
أخرجه البيهقي في البعث والنشور (ص 262 - 263) رقم (448)؛ وأبو نعيم في الحلية =
فذلك قول اللَّه تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 32].
وأخرج الشيخان (1) والدارقطني من حديث جرير البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها (2). -يعني العصر والفجر-.
وهذا الذي آشار إليه الناظم بقوله: (كما البدر) أي كالبدر والميم زائدة لا يخفى على أحد في إبداره مع الصحو (وربك) أيها المخاطب ورب الخلائق أجمعين (أوضح): أي أظهر وأبين من البدر لأن البدر من مخلوقاته.
قال الحافظ البيهقي والحافظ ابن الجوزي: التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي لا
= (6/ 208 - 209)؛ وفي صفة الجنة (1/ 128) رقم (91)؛ وفي إسناده الفضل بن يزيد الرقاشي، وهو ضعيف كما تقدم.
وانظر: تخريج الألباني للحديث في شرح الطحاوية (ص 182).
(1)
الشيخان: البخاري ومسلم، وتقدمت ترجمة البخاري (1/ 187). وأما مسلم فهو: مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، صاحب "الصحيح" إمام محدث فقيه حافظ عالم مصنف، مات سنة إحدى وستين ومائتين.
سير أعلام النبلاء (12/ 557)؛ وتقريب (ص 335).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة (2/ 40) رقم (554) باب فضل صلاة العصر، وفي باب فضل صلاة الفجر رقم (573)؛ وفي التفسير في تفسير سورة (ق) رقم (4851) وفي التوحيد باب قول اللَّه تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} رقم (7434 - 7436).
وأخرجه مسلم رقم (633) في المساجد، باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليها. وتمامه: فافعلوا ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا. . .} [ق: 39].
للمرئي- والمعنى ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك وتنتفي معها المرية كرؤيتكم القمر لا ترتابون ولا تمترون (1).
وقوله: لا تضامون روي بتخفيف الميم وضم أوله من الضيم أي لا يلحقكم في رؤيته ضيم ولا مشقة، وروي بتشديدها والفتح على حذف إحدى التائين والأصل لا تتضامون أي لا يضام بعضكم بعضا كما يفعل الناس في طلب الشيء الخفي الذي لا يسهل إدراكه فيتزاحمون عند ذلك ينظرون إلى جهته يضام بعضهم بعضا، يريد أنكم ترونه وكل واحد في مكانه لا ينازعه رؤيته أحد (2).
ولما كان ربما توهم متوهم من لازم التجلي والإنكشاف والرؤية الجسمية بالقياس على ما هو معاين من المخلوقين قياسًا للغائب على الشاهد دفع ذلك الوهم بقوله: (وليس) اللَّه تبارك وتعالى (بمولود) ولده والد (وليس) هو تقدس وتعالى (بوالد) لشئ من المولدات ولا الملائكة ولا عيسى بن مريم، ولا العزيز عليهما السلام، ولا غيرهم (وليس له) سبحانه (شبه) لا في ذاته المقدسة، ولا في صفاته المنزهة، ولا في أفعاله سبحانه (تعالى) ارتفع قدره وتقدس:(المسبح) أي المنزة عن أن يكون والد الشيء أو مولودًا في شيء، أو شبيهًا لشيء فإنه سبحانه وتعالى ليس له شبيه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
فال شيخ الإسلام قدس اللَّه روحه في شرح العقيدة الأصفهانية: "الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف اللَّه تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فإنه قد علم
(1) انظر: الاعتقاد للبيهقي (ص 130)؛ ومعالم السنن للخطابي (7/ 117 - 118)؛ وجامع الأصول (10/ 558).
(2)
انظر: المصادر السابقة ومجموع الفتاوى (6/ 84 - 85).
بالسمع مع العقل أن اللَّه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، كما قال:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
وقال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
وقد علم بالعقل أن المثلين، يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو كان المخلوق مثلًا للخالق وشبيهًا له للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع والخالق يجب وجوده وقدمه والمخلوق يستحيل وجوب وجوده وقدمه بل يجب حدوثه وإمكانه. انتهى (1).
وقد قال تعالى في محكم كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فرد على المشبهة بنفي المثلية ورد على المعطلة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
واعلم أن قدماء المعتزلة كأبي علي الجبائي (2)، وابنه أبي هاشم (3)، وأضرابهم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمرو عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط، لأنها أخص أوصاف الإنسان.
(1) شرح العقيدة الأصفهانية (ص 9 - 10).
(2)
أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي البصري: من أئمة المعتزلة بالبصرة، وإليه تنسب فرقة الجبائيه ونسبته إلى جبي من قرى البصرة، ولد سنة 235، وتوفى سنة 303 هـ.
لسان الميزان (5/ 271)، ووفيات الأعيان (4/ 267)، والأعلام (6/ 256).
(3)
أبو هاشم عبد السلام: تقدم (1/ 186).
وذهب الماتريدية إلى أن المماثلة هي الإشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو، قالوا: ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران:
أحدهما: الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع.
وثانيهما: أن يسد كل منهما مسد الآخر وينوب الآخر منابه، فمن ثم يقال: المثلان موجودان مشتركان فيما يجوز ويمتنع. وموجود أن يسد كل واحد منها مسد الآخر.
والمتماثلان وإن اشتركا في الصفات النفسية فلا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل وينسب إلى أبي حسن الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه.
واعترض بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلفا في كثير من الأوصاف.
وفي الحديث: "الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل"(1) أراد به الإستواء في الكيل دون الوزن، وعدد الحبات، وأوصافها، ولا يخفى أن من الممكن أن يقال: المراد بالمماثلة التساوي في الوجه الذي به التماثل فزيد وعمرو إذا اشتركا في الفقه، وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما عن الآخر، ويسد مسده، يصح القول: بأنهما مثلان فيه، وإلا فلا وكل هذا مغالطة وتمويه ليس شيء منه مما نحن
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه".
انظر: صحيح مسلم (3/ 1211) رقم (1588).