الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه فالحق ليس له مثل ولا شبيه وباللَّه التوفيق (1).
(وقد ينكر الجهمي) أي أتباع جهم بن صفوان، وتقدم أنه أخذ مقاله التعطيل، ونفي الصفات عن الجعد بن درهم (2)، لكن الجهم أظهر المقالة فنسبت إليه وأخذها الجهم -أيضًا- فيما ذكره سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه عن غيره من أهل الضلال.
قال الجلال السيوطي (3) في الأوائل: أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد يعني في هذه الملة: الجعد بن درهم مؤدب مروان (الحمار)(4) آخر ملوك بني أمية فقال: بأن اللَّه تعالى لا يتكلم (5).
قال شيخ الإسلام قدس اللَّه سره في الرسالة الحموية: أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة وإن كان قد نبع (6) أصلها في أواخر عصر التابعين.
قال: ثم
أصل مقالة التعطيل
للصفات إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت اليه (7) كما قدمنا ذلك عند قول الناظم:(كما قال أتباع لجهم)(8).
(1) في "ظ" بلغ مقابلة.
(2)
انظر (1/ 220).
(3)
السيوطي تقدم (1/ 110).
(4)
في الأصل: الجبار وهو تحريف.
(5)
انظر: الأوئل للسيوطي (131 - 132).
(6)
في "ظ" نفي والمثبت من الأصل.
(7)
الرسالة الحموية (ص 98) ضمن النفائس.
(8)
انظر (1/ 219).
وقول الناظم: (هذا) هاء حرف تنبيه وذا إسم إشارة محله النصب على المفعولية والمشار إليه التجلي (وعندنا) معشر أهل السنة والجماعة - (بمصداق).
قال في القاموس: مصداق الشيء ما يصدقه (ما) يحتمل أن يكون موصولًا حرفيًا أي بمصداق قولنا، ويحتمل أن يكون موصولًا اسميًا أي بمصداق الذي قلناه، (حديث مصحح) (1): مبتدأ خبره متعلق الظرف على الأصح أو الظرف (2) نفسه والجملة حالية (رواه) أي روى ذلك الحديث الصحيح (جرير) بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه وهو الحديث الذي قدمناه (3)، رواه البخاري ومسلم وغيرهما (عن مقال) أي من قول (محمد) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
(فقل) أيها المسترشد وطالب النجاة ومتبع السنة وأهل الحق (مثل ما قد قال) أي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم (4)(في ذلك) أي في التجلى ورؤية المؤمنين لرب العالمين في جنات النعيم (وكذا)(5) في الموقف.
و (قل)(6) أيضًا مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من نحو ذلك من سائر الصفات الذاتية والخبرية والفعلية.
(تنجح): أي تظفر بموافقة الصواب ومتابعة السنة والكتاب والنجاح بالفتح
(1) جاء النص في الأصل حدث مصحح، وما أثبته من "ظ" ولعله الصحيح.
وقد جاء النص في مصادر القصيدة "حديث مصرح".
(2)
في "ظ": أو الظرفيه، وسقطت عبارة الجملة حالية.
(3)
انظر (1/ 275).
(4)
في هامش المخطوطتين: (أو مثل الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
(5)
في "ظ"(وكفى).
(6)
ساقطة من "ظ".
والنجح بالضم الظفر بالشيء، يقال: نجحت الحاجة كمنع وانجحت وأنجحها اللَّه وأنجح زيد إذا صار ذا نجح وهو منجح والنجح الصواب من الرأي، ونجح أمره تيسر، وسهل وتناجحت أحلامه تتابعت بصدق والنجاحة الصبر ونفس نجيحة صابرة (1).
و (جرير) هذا الذي ذكره الناظم رحمه اللَّه تعالى هو: أبو عمرو وقيل: أبو عبد اللَّه جرير بن عبد اللَّه بن جابر البجلي (2) الأحمسي رضي الله عنه، أسلم في السنة التي توفى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال جرير: أسلمت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يومًا فيما يقال (3) والصحيح أنه أسلم قبل ذلك، نزل الكوفة وسكنها زمانًا طويلًا ثم انتقل إلى قرقيسيا (4)، ومات بها سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة أربع وخمسين، روى عنه أنس بن مالك، وقيس بن أبي حازم، والشعبي، وبنوه: عبيد اللَّه، والمنذر، وإبراهيم.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جرير رضي الله عنه قال:
ما حجبني رسول اللَّه منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي (5).
(1) القاموس (1/ 260 - 261)(نجح).
(2)
ترجمة جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه في: الاستيعاب رقم (323)؛ وأسد الغابة (1/ 333)؛ والإصابة (2/ 76) رقم (1132).
(3)
ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، وصحح الحافظ ابن حجر أنه أسلم قبل ذلك، أي في السنة التي توفى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(4)
قرقيسيا: بالفتح ثم السكون، وقاف أخرى وياء ساكنة، وسين مكسورة، وياء أخرى وألف ممدوده، بلد على نهر الفرات بالعراق.
معجم البلدان (4/ 328).
(5)
رواه البخاري (7/ 164) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب ذكر جرير رضي الله عنه ومسلم رقم (2475) في فضائل الصحابة، باب في فضائل جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه. ورواه الترمذي رقم (3820) في المناقب، باب مناقب جرير بن عبد اللَّه.
وفى رواية ولقد شكوت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري، وقال: اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديا (1).
تتمة (2): رؤية المؤمنين لرب العالمين (في الآخرة) ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من أهل السنة والجماعة، وهى الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون.
فإن أهل الجنة إذا نالوها نسوا ما هم فيه من النعيم وحرمانها، والحجاب إنما هو لأهل الجحيم، وهو أشد عليهم من العذاب الأليم.
وقد اتفق على ثبوتها الأنبياء والمرسلون والصحابة والتابعون وأئمة أهل السنة على تتابع القرون.
وأنكرها أهل البدع والمارقون والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل اللَّه منقطعون، وعلى مسبة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عاكفون.
وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو للَّه ورسوله مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، فهم حزب الضلالة، وشيعة إبليس اللعين، ويعسوب الجهالة، وقدوة المخالفين.
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن أعلم خلقه به في زمانه، وهو كليمه عليه السلام،
(1) الرواية لمسلم.
(2)
انظر: هذا المبحث في حادي الأرواح (ص 277).
أنه سأل ربه تعالى النظر إليه، فقال له تعالى:{لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143].
فلا يظن بكليم المولى الجليل أن يسأل ربه المستحيل، ولو كانت رؤيته تعالى لا تجوز لأنكر على موسى ذلك وحاشاه من الجهل بذلك، وإنما أخبره بأنه لا يثبت لرؤيته، ثم أعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجليه له في هذه الدار فكيف بالبشر الضعيف الذي خلق من ضعف، وقد علق رؤيته له على جائز غير ممتنع الاستقرار، بل استقراره ممكن، ولو كانت محالًا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته، ثم إنه سبحانه تجلى للجبل، وهذا مشعر بجواز رؤيته فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له، ولا عقاب عليه، فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته ويريهم نفسه، وقد زال عنهم الضعف وخلفه القوة المستمر أبد الآبدين.
وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223].
وقال: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23].
فهذا من دلالة الكتاب على رؤية رب الأرباب في دار الجزاء والثواب.
ومن أدلة الكتاب على ذلك قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
قال أهل العلم الحسنى: الجنة، والزيادة هي: النطر إلى وجهه الكريم.
كذلك فسرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه من حديث (صهيب) رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} إذا دخل أهل الجنة الجنة،
وأهل النار النار، نادي مناد يا أهل الجنة إن لكم عند اللَّه موعدًا، ويريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر (1) وهى الزيادة.
وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق يفيد مجموعها العلم القطعي.
ومنها قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15].
ووجه الاستدلال بها أنه سبحانه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته، وسماع كلامه فلو لم يره المؤمنون ولم يسمعوا كلامه كانوا أيضًا محجوبين عنه.
وقد احتج هذه الحجة الإمام الشافعي رضي الله عنه واحتج بها غيره من أئمة الإسلام رضي الله عنهم.
(1) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان: باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (1/ 163) رقم (181).
وقد وقع في المخطوطتين أنه من حديث سهل، والصواب صهيب كما أثبتنا من صحيح مسلم وغيره.
كما رواه أبو داود الطيالسي رقم (1315)(ص 186)، وهناد بن السري في الزهد رقم (171)؛ وأحمد في المسند (4/ 333)؛ والترمذي في التفسير سورة يونس رقم (3105) والآجري في الشريعة (261)؛ وابن منده في الرد على الجهمية رقم (175)؛ والحسن بن عرفة في جزئه رقم (240)؛ وأبو نعيم في الحلية (1/ 155)؛ وابن ماجة رقم (187)، وابن خزيمة رقم (258)؛ وابن جرير في تفسيره (11/ 106). وانظر: الدر المنثور (4/ 356) وما بعدها؛ وتفسير ابن كثير (4/ 297) وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم (ص 281 - 283).
قال الحاكم أبو عبد اللَّه النيسابوري (1): حدثنا الأصم (2)، حدثنا الربيع (3) بن سليمان الجيزى قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول اللَّه عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فقال الشافعي: لما انحجب عن هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا، قال الربيع قلت: يا أبا عبد اللَّه وبه تقول، قال: نعم وبه أدين اللَّه لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى اللَّه لما عبد اللَّه عز وجل (4) ورواه الطبراني في شرح السنة من طريق الأصم أيضًا.
ومنها قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35].
(1) تقدم (ص 1/ 143).
(2)
الأصم: محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان: الإمام المحدث مسند العصر أبو العباس الأموي مولاهم السناني المعقلي النيسابوري الأصم، رحل إلى الآفاق وسمع الكتب الكبار، وطال عمره وبعد صيته، وتزاحم عليه الطلبة وصارت إليه الرحلة، توفى سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء (15/ 452).
(3)
في المخطوطتين: الربيع عن سليمان، والصحيح ما أثبته، وهو موافق لسند الخبر في مصادره الآتية:
ثم إن فيه سليمان الجبري كذا في المخطوطتين، والظاهر أنه: الجيزى تحرف إلى الجبري فهو: الربيع بن سليمان بن داود الجيزي أبو محمد الأزدى مولاهم المصرى الأعرج، توفى سنة ست وخمسين ومائتين.
طبقات الشافعية (2/ 132).
(4)
الحبر رواه اللالكائي في شرح السنة رقم (833)، والحاكم كما في حادي الأرواح (ص 284)؛ ورواه البيهقي في مناقب الشافعي بسند آخر عن الربيع بن سليمان (1/ 419)؛ ورواه من طريقه السبكي في طبقات الشافعية (2/ 81)؛ وانظر تفسير ابن كثير (9/ 143 - 144)، وكذا البغوي أيضًا معه.
قال الطبراني: (1) قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك رضي الله عنهما: هو النظر إلى وجه اللَّه عز وجل (2)، وقاله من التابعين: زيد بن وهب وغيره (3).
ومنها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]. فهذه الآية إذا حررت (4) من تحريفها عن مواضعها، والكذب على المتكلم بها سبحانه فيما أراد منها وجدتها منادية نداء صريحًا أن اللَّه سبحانه يرى عيانًا بالأبصار يوم القيامة في دار القرار.
وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون تأويلًا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والصراط والحساب أسهل على أرباب التأويل من تأويلها، وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك، فلا يشأ مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص، وهذا هو الذي أفسد الدين والدنيا.
وأضاف سبحانه النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية الكريمة، وتعديته
(1) الطبراني: تقدم (1/ 146).
(2)
رواه عن علي يعقوب البسوي في السنة ضمن كتابه المعرفة (3/ 395)، وعنه اللآلكائي في السنة رقم (852) مرفوعًا وسنده ضعيف ورواه عن أنس كل من البزار كما في كشف الأستار (3/ 69) رقم (2258)؛ واللآلكائي في السنة رقم (813)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (1226)؛ والدارمي في الرد على الجهمية رقم (198)؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 112): رواه البزار وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف.
(3)
انظر: حادي الأرواح (ص 285).
(4)
كذا في النسختين، وفي حادي الأرواح (ص 287): ومنه ينقل الشارح "وأنت إذا أجرت هذه الآية. . . إلخ".
بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدى بإلى خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أنه سبحانه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه فإن عدى بنفسه فمعناه التوقف والإنتظار كقوله تعالى:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]. وإن عدى بفي فمعناه التفكر والإعتبار كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185].
وإن عدى، بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار كقوله:{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99].
فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر.
قال يزيد بن هارون (1) أخبرنا مبارك (2) عن الحسن (3) قال: نظرت إلى ربها تبارك وتعالى فنضرت بنوره. رواه الآجري والبيهقي في كتاب الرؤية واللآلكائي في السنة (4).
(1) يزيد بن هارون بن زاذان السلمي: مولاهم أبو خالد الواسطي أحد الأعلام الحفاظ، ثقة متقن عابد، مات سنة ست ومائتين وقد قارب التسعين.
تقريب (ص 385).
(2)
مبارك بن فضالة -بفتح الفاء وتخفيف المعجمة- أبو فضالة البصري: صدوق يدلس ويسوى، مات سنة ست وستين ومائة على الصحيح.
تقريب (ص 328).
(3)
الحسن هو البصري: تقدم (1/ 193).
(4)
رواه الآجري في الشريعة (ص 256)؛ واللآلكائي في السنة رقم (800)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (479)؛ وابن خزيمة في التوحيد (1/ 456)؛ وابن جرير في التفسير (29/ 192).
وروى ابن مردويه (1) في تفسيره عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما [قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] قال] (2) من البهاء والحسن، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] قال: في وجه اللَّه عز وجل (3)(4).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل (5).
وقال عكرمة (6){وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال من النعيم {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
(1) ابن مردوية: أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك الأصبهاني أبو بكر، محدث حافظ مفسر مؤرخ من تصايفه: التفسير الكبير، في سبع مجلدات، توفى سنة 410 هـ.
سير أعلام النبلاء (17/ 308)؛ ومعجم المؤلفين (2/ 190).
(2)
ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل واستدرك في هامش (ظ) وكتب عليه صح.
(3)
ما بين القوسين ساقط من المخطوطتين وأكملته من حادي الأرواح لابن القيم (ص 288)، ومنه ينقل المؤلف.
(4)
الحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن مردويه في تفسيره؛ كما في حادي الأرواح (ص 288)؛ ورواه بلفظ آخر أحمد في المسند (2/ 13، 64)؛ وابن أبي شيبة في المصنف (13/ 111)؛ والترمذي في جامعه في تفسير سورة القيامة (5/ 431) رقم (3330)؛ والآجري في الشريعة (ص 269)، واللآلكائي في السنة رقم (840، 841)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (461 - 462)؛ والحاكم (2/ 509 - 510) وابن جرير في التفسير (29/ 193) عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا عند بعضهم.
قال الألباني: إسناده ضعيف. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (1985).
(5)
رواه اللآلكائي في السنة رقم (799)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (485)؛ والآجري في الشريعة (256)؛ وانظر حادي الأرواح (ص 288)، والدر المنثور (8/ 349)
(6)
عكرمة بن عبد اللَّه: مولى ابن عباس أصله بربري ثقة ثبت عالم بالتفسير، مات سنة سبع ومائة، وقيل بعد ذلك.
تقريب (ص 242 - 243).
قال تنظر إلى ربها نظرًا (1).
ثم حكى عن ابن عباس رضي الله عنه مثله.
وهذا قول كل مفسر من أهل السنة (2).
وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان اللَّه عليهم الدالة على الرؤية فمتواترة (فرويت)(3) عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورويت عن الصديق الأعظم أبي بكر خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجرير بن عبد اللَّه البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد اللَّه بن مسعود الهذلي، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبى رزين العقيلي، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وأبي أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وأم المؤمنين عائشة الصديقة، وعبد اللَّه بن عمر، وسلمان الفارسي، وحذيقة بن اليمان، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وغيرهم رضوان اللَّه عليهم أجمعين، رواها (4) أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، وتلقاها الناس بالقبول والتسليم، وانشراح الصدور لا بالتحريف والتبديل وضيق العطن، والتأويل على خلاف المشهور ولا التكذيب، بها فمن كذب بها لم يكن إلى وجه
(1) رواه الآجري في الشريعة (256 - 257)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (481)؛ وابن جرير في التفسير (29/ 192)؛ واللآلكائي في السنة رقم (803)؛ والدارمي في الرد على الجهمية رقم (200).
(2)
انظر حادي الأرواح (288)؛ وتفسير ابن كثير (9/ 62 - 63).
(3)
كذا في المخطوطتين ولعلها زائدة.
(4)
في "ظ": رواه.
ربه الكريم ناظرًا وربما كان من المحجوبين فيخشى أن يكون كافرًا، ولا حاجة إلى سرد جميعها (1).
وحديث جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه الذي ذكره الناظم رواه البخاري، ومسلم، وأكثر من خمسين إمامًا منهم: إسماعيل بن أبي خالد (2)، ويحيى بن سعيد القطان (3)، وهشيم بن بشير (4)، وعلي بن عاصم (5)، وسفيان بن عيينة (6)، ومروان بن معاوية (7)، ووكيع
(1) ذكرها بأسانيدها ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح (ص 289 - 322).
(2)
إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم البجلي ثقة ثبت روى له الجماعة، مات سنة ست وأربعين ومائة.
تقريب (ص 33).
(3)
يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي أبو سعيد القطان البصري: ثقة متقن حافظ إمام قدوة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة.
تقريب (ص 75).
(4)
هشيم بالتصغير ابن بشير بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي حازم بمعجمتين الواسطي، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة.
تقريب (ص 365).
(5)
علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التميمي: مولاهم صدرق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع، مات سنة إحدى ومائتين.
تقريب (ص 247).
(6)
سفيان بن عيينة: تقدم (1/ 191).
(7)
مروان بن معاوية: بن الحارث بن أسماء الفزاري أبو عبد اللَّه الكوفي، نزيل مكة ثم دمشق، ثقة حافظ وكان يدلس أسماء الشيوخ، روى له الجماعة، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة.
تقريب (ص 333).
ابن الجراح (1)، ويزيد بن هارون (2)، وشعبة بن الحجاج (3)، وعبد اللَّه بن المبارك (4)، وحماد بن أبي حنيفة (5)، وأبو حنيفه النعمان بن ثابت الإمام (6)، وزيد بن أبي أنيسه (7)، وجوَّده فقال: ستعاينون ربكم عز وجل كما تعاينون هذا القمر.
وأبو شهاب الحناط (8) وقال: سترون ربكم عيانا. وغير هؤلاء ممن يطول
(1) وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي بضم الراء وهمزة، ثم مهملة أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، مات سنة ست أو سبع وتسعين ومائة.
تقريب (ص 369).
(2)
يزيد بن هارون: تقدم (1/ 287).
(3)
شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي: مولاهم أبو بسطام الواسطي ثم البصري، ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدًا، مات سنة وستين ومائة.
تقريب (ص 145).
(4)
عبد اللَّه بن المبارك: تقدم (1/ 184).
(5)
حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي: تفقه على أبيه وأفتى في زمنه، وكان الغالب عليه الورع، وقد ضعف في الحديث من قبل حفظه.
ميزان الإعتدال (1/ 590)؛ والجواهر المضيئة (2/ 153).
(6)
أبو حنيفة: تقدم (1/ 189).
(7)
في المخطوطتين زيد بن أنيسه، والتصويب من المصادر، فهو زيد ابن أبي أنيسه الجزري أبو أسامة أصله من الكوفة ثم سكن الرها، ثقه له أفراد، مات سنة تسع عشرة ومائة.
تقريب (ص 112).
(8)
في المخطوطتين: ابن شهاب الخياط والمثبت من المصادر: فهو عبد ربه بن نافع الكناني أبو شهاب الحناط بمهملة ونون الكوفي نزيل المدائن -أبو شهاب- الأصغر، صدوق في حفظه شيء، مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومائة.
ميزان الإعتدال (2/ 544)؛ وتهذيب التهذيب (6/ 128 - 129)؛ وتقريب (ص 198).
ذكرهم كلهم يرويه عن قيس بن أبي حازم عن جرير.
وكل هؤلاء شهدوا على إسماعيل بن خالد، وشهد إسماعيل بن خالد على قيس ابن أبي حازم (1)، وشهد قيس بن أبي حازم على جرير بن عبد اللَّه، وشهد جرير على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فكأنك تسمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)(2) وهو يقوله ويبلغه لأمته، ولا شيء أقر لأعينهم منه على رغم أنوف الجهمية والفرعرنية والرافضة والقرامطة والباطنية وفروخ الصابئة والمجوس واليونان ونحوهم من أعداء السنة وأهلها (3).
وروى ابن بطة (4) في السنة، والإمام ابن المبارك (5)، والبزار (6)، والأصبهاني (7) في الترغيب من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها وإذا في
(1) قيس بن أبي حازم البجلي أبو عبد اللَّه الكوفي: ثقة مخضرم، ويقال له رؤية وهو الذي يقال إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها.
تقريب ص 283.
(2)
ما بين القوسين استدرك في هامش المخطوطتين وكتب عليه صح.
(3)
هذا الكلام لابن القيم. انظر حادي الأرواح (ص 295 - 296).
(4)
ابن بطة: تقدم (1/ 105).
(5)
ابن المبارك: تقدم (1/ 184).
(6)
البزار: تقدم (1/ 200).
(7)
الأصبهاني: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي التميمي ثم الطحي، الأصبهاني أبو القاسم، كان إمامًا في الحديث والفقه والتفسير واللغة، حافظًا متقنًا، وكان يلقب بقوام السنة، من تصانيفه: التفسير الكبير، في ثلاثين مجلد؛ وكتاب الترغيب والترهيب؛ وشرح صحيح البخاري، وغيرها، توفى سنة 535 هـ.
سير أعلام النبلاء (20/ 80)؛ والبداية (12/ 217)؛ وطبقات الشافيعة لابن قاضي شهبة (1/ 337).
وسطها نكتة سوداء، قال قلت يا جبريل: ما هذه؟ قال: هذه الدنيا صفاؤها وحسنها، قال: قلت وما هذه اللمعة في وسطها؟ قال هذه الجمعة، قلت: ما الجمعة؟ قال: يوم من أيام ربك عظيم". . . وفيه وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة، فإن اللَّه تعالى إذا صير أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وجرت عليهم أيامهما وساعاتهما ليس بها ليل ولا نهار إلا قد علم اللَّه مقدار ذلك وساعاته، فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي (يبرز أو يخرج فيه أهل الجمعة إلى جمعهم) (1) نادى منادٍ يا أهل الجنة أخرجوا إلى دار المزيد لا يعلم (سعتها وعرضها وطولها) (2) إلا اللَّه عز وجل في كثبان المسك قال: فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت قال: فإذا وضعت لهم وأخذ القوم مجالسهم بعث اللَّه تبارك وتعالى عليهم ريحًا تدعى المثيرة تثير عليهم المسك الأبيض فتدخله من تحت ثيابهم وتخرجه في وجوههم وأشعارهم وفيه. . . ثم يوحي اللَّه سبحانه إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الجنة وبينه وبينهم الحجاب، فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة، رب رضينا عنك فارض عنا، قال: فيرجع اللَّه تعالى إليهم في قولهم أن يا أهل الجنة لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة رب وجهك، رب وجهك أرنا ننظر إليه، قال:
(1) جاءت العبارة التي بين القوسين في المخطوطتين هكذا: (الذين يبرزون ويخرج أهل الجنة إلى جمعهم) والتصحيح من كتاب الترغيب للمنذري (4/ 1029).
(2)
في المخطوطتين: لا يعلم سعته وعرضه وطوله، والتصحيح من كتاب الترغيب (4/ 1029).
فيكشف اللَّه تبارك وتعالى تلك الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره شيء لولا أنه قضى عليهم أن لا يحرقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره، قال: ثم يقال ارجعوا إلى منازلكم، قال فيرجعون إلى منازلهم، وقد خفوا على أزواجهم وخفين عليهم مما غشيهم من نوره تعالى، فإذا صاروا إلى منازلهم تراد النور حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها، قال: فتقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها، قال: فيقولون ذلك بأن اللَّه تبارك وتعالى تجلى لنا فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم، قال: فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه.
وفي لفظ البزار: فهم يتقلبون في مسك الجنة ونعيمها في كل سبعة أيام، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذلك قوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] " (1).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة واللَّه أعلم (2).
تنبيه: وقع في كلام بعض العلماء منهم: الحافظ عماد الدين ابن كثير (3) أن
(1) الحديث أخرجه البزار كما في كشف الأستار (4/ 193) رقم (3518)؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 422) فيه القاسم بن مطيب وهو متروك؛ وأورده المنذري في الترغيب (4/ 1029) صدره بقوله وروى إشارة إلى ضعفه.
(2)
في هامش "ظ" بلغ مقابلة.
(3)
ابن كثير: إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصروي الدمشقي، عماد الدين أبو الفداء الإمام الفقيه المحدث المفسر، صاحب التصانيف المفيدة منها: التفسير والتاريخ وغيرها، توفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
المعجم المختص للذهبي (ص 74) رقم (86)؛ وذيل طبقات الحفاظ للحسيني (57)؛ وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 113).
رؤية اللَّه تعالى مختصة في الجنة بمؤمني البشر من الذكور دون النساء فإنهن لا يرينه تعالى (1).
وخصها العز بن عبد السلام (2) بالبشر دون الملائكة، واحتج لاختصاص البشر بقوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فإنه عام خص بالآية
(1) ذكر ابن كثير رحمه الله في النهاية (12/ 184) ما يلي: "وقد حكى بعض العلماء خلافًا في النساء، هل يرين اللَّه عز وجل في الجنة كما يراه الرجال؟ فقل لا، لأنهن مقصورات في الخيام، وقيل بلى لأنه لا مانع من رؤيته تعالى في الخيام وغيرها.
وقد قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} .
وقال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} .
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستررن ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن إستطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا".
وهذا عام في الرجال والنساء واللَّه أعلم.
وقال بعض العلماء قولًا ثالثًا وهو: أنهن يرين اللَّه في مثل أيام الأعياد فإنه يتجلى في مثل أيام الأعياد لأهل الجنة تجليًا عامًا فيرينه في مثل هذه الحال دون غيرها. وهذا القول يحتاج إلى دليل خاص عليه واللَّه أعلم انتهى.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رؤية النساء لربهن لعموم الأدلة الواردة في ذلك، ولورود أدلة خاصة أيضًا في ذلك. مثل حديث أنس وغيره، وقد صرح في بعض طرقه بأن النساء يرينه في الأعياد، ثم جمع بين الأحاديث العامة في ذلك والأحاديث الخاصة، وأنه لا تنافي بينها وأن الزيادة في هذه الأحاديث، أي رؤية النساء هي بمنزلة خبر مستقل. انتهى، وقد أطال رحمه الله في الإستدلال على ذلك.
راجع مجموع الفتاوي (6/ 401) وما بعدها.
(2)
العز بن عبد السلام: عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذب السلمي -العز بن عبد السلام- أبو محمد فقيه أصولي مفسر مشارك في كثير من العلوم، له مصنفات كثيرة، توفى سنة ستين وستمائة.
انظر: طبقات الشافعية الكبرى (8/ 209)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 137)؛ ومعجم المؤلفين (5/ 249).
والأحاديث في المؤمنين فيبقى على عمومه في الملائكة" (1) كذا قال وقد نص البيهقي على خلافه فقال في كتاب الرؤية: باب ما جاء في رؤية الملائكة ربهم فروى عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: خلق اللَّه الملائكة لعبادته أصنافًا، وإن منهم لملائكة قيامًا صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعًا وخشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجودًا منذ خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم تبارك وتعالى فينظرون إلى وجهه الكريم، فإذا نظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك (2).
وأخرج نحوه أيضًا عن عدي بن أرطأة عن رجل من الصحابة، مرفوعًا وفيه: فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم فينظرون إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك (3).
وفى الدارقطني مرفوعًا: إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل،
(1) انظر: القواعد الصغرى للعز بن عبد السلام (ص 130 - 131)؛ ونقل ذلك عنه السيوطي في إسبال الكساء على النساء (ص 13)؛ وفى تحفة الجلساء (ص 59).
وقد أشار إلى ذلك في القواعد الكبرى (2/ 222)؛ وانظر آكام المرجان (ص 60 - 61).
(2)
أخرجه البيهقي في الرؤية وابن عساكر كما في "الحبائك في أخبار الملائك" للسيوطي (ص 147)؛ وكما في إسبال الكساء على النساء (ص 14 - 15)؛ وفى تحفة الجلساء أيضًا (ص 60 - 61).
(3)
أخرجه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 267 - 268) رقم (260)؛ والبيهقي في الرؤية من طريقين كما في إسبال الكساء (15)؛ وفى تحفة الجلساء أيضًا (ص 60 - 61) وأبو الشيخ في العظمة رقم (515، 3/ 993 - 994)؛ والخطيب في تاريخ بغداد (12/ 307)؛ وابن عساكر في تاريخ دمشق كما في مختصره (16/ 290)؛ وذكره ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] وقال رواه محمد بن نصر المروزي وإسناده لا بأس به.
فأحدثهم عهدًا بالنظر إليه في كل جمعة. ويراه المؤمنات يوم الفطر ويوم الأضحى (1) -أي في مثل ذلك-.
وقد نص أبو الحسن الأشعري في الإبانة على أن الملائكة يرون ربهم يوم القيامة (2).
وجزم بهذا جمع محققون منهم الإمام المحقق ابن القيم، والجلال السيوطي، والبلقيني (3).
قال الحافظ السيوطي: وهو أرجح بلا شك (4).
ومال البلقيني إلى ثبوتها لمؤمنى الجن -أيضًا- وهو اللائق بكرمه تعالى (5).
قلت: التحقيق ثبوت رؤيته تعالى لكل من دخل الجنة.
وقد أخرج الآجري عن عكرمة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما كل من يدخل الجنة يرى اللَّه تعالى، قال: نعم (6).
(1) رواه الدارقطني في الرؤية كما في مجموع الفتاوى (6/ 410)؛ وكما في تحفة الجلساء (ص 59)؛ وفي الدر المنثور (8/ 355) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
انظر الإبانة (ص 44).
(3)
البلقيني: عبد الرحمن بن عمر بن رسلان بن نصير الكناني العسقلاني المصري الشافعي جلال الدبن أبو الفصل: من علماء الحديث بمصر، انتهت إليه رئاسة الفتوى بعد وفاة أبيه، وولي القضاء بالديار المصرية مرارًا إلى أن مات وهو متول، له كتب في التفسير والفقه وغيرها، توفى سنة 824 هـ.
لحظ الألحاظ لابن فهد (ص 282)؛ والأعلام (3/ 320).
(4)
انظر تحفة الجلساء برؤية اللَّه للنساء (ص 61).
(5)
نفس المرجع (ص 63)؛ وانظر إسبال الكساء (ص 51 - 53).
(6)
رواه الآجري من طريق ابن أبي داود في التصديق بالنظر إلى اللَّه تعالى في الآخرة رقم =
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال يا موسى إنه لن يراني حي (1) إلا مات، ولا يابس إلا تدهده (2) ولا رطب إلا تفرق، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسادهم (3).
وأما رؤية الباري في الموقف، فتحصل حتى لمنافقى هذه الأمة، بل زعم جماعة أنها تحصل في الموقف حتى للكافرين ثم يحجبون (4). وباللَّه التوفيق.
قال الناظم -روح اللَّه روحه- (وقد ينكر الجهمي) أي المعتقد اعتقاد جهم بن صفوان، ومن وافقهم من المعطلة، والقرامطة، والباطنية، والفلاسفة، وذويهم (أيضًا): مصدر آض يئيض أيضًا إذا رجع أي مع إنكاره لرؤيته تعالى وتجليه لعباده
= (18)(ص 52 - 53) ومن طريقه ابن القيم في حادي الأرواح (ص 322 - 323).
(1)
في النسختين: (أحد) والمثبت من الحلية ومن نوادر الأصول.
(2)
تدهده: أي تدحرج. النهاية (2/ 143).
(3)
رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص 316) ومن طريقة أبو نعيم في الحلية (10/ 235).
(4)
قال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح (ص 280): "وقد دلت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة، بل والكفار أيضًا كما في الصحيحين من حديث التجلي يوم القيامة وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة:
أحدها: أن لا يراه إلا المؤمنون.
والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك.
والثالث: يراه المنافقون دون الكفار. انتهى.
والصحيح أنه سبحانه يتجلى للخلق عامة في الموقف كما في الحديث الصحيح، وقد أشار إلى ذلك الشارح رحمه الله (1/ 270).
المؤمنين في دار كرامته ينكر يمينه تعالى وتقدس. وكلتا يديه تبارك وتعالى (الواو) ابتدائية وكلتا مبتدأ، ويديه مضاف (1) إليه و (بالفواضل): جمع فاضلة وهي النعم الجسيمة والأيادى الجميلة، وفواضل المال ما يأتيك من غلته ومرافقه.
ولذا قيل: إذا عزب المال قلت فواضله (2).
متعلق (3) بقوله: (تنضح) بفتح التاء المثناه فوق مبنيًا للفاعل من النضح، وهو الرش والسقي، يقال: نضح النخل إذا سقاها بالسانية ونضح الحلة نثر ما فيها والمراد تنعم وتعطي الكثير والقليل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة من عند قوله: وكلتا يديه حالية.
وينكر الجهمي أيضًا سائر صفاته الخبرية (4) من الوجه والعين واليد ونحوها مما أضيف إلى اللَّه تعالى مما وردت به الآيات والأحاديث، مما يوهم التشبيه والتجسيم (5) تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا، فإن اللَّه تعالى مخالف لجميع الحوادث فذاته لا تشبه الذوات، وصفاته لا تشبه الصفات، فلا يشبهه شيء من خلقه، ولا يشبه هو شيئًا من خلقه، بل هو منفرد عن جميع المخلوقات، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، له الوجود المطلق، فلا يتقيد بزمان، ولا
(1) في النسختين: ويديه مضاف إلى كلتا وهو خطأ.
(2)
أي إذا بعدت الصيغة قل المرفق منها، وكذلك الإبل إذا عزبت قل انتفاع ربها بدرها. النهاية (3/ 456).
(3)
أي الجار والمجرور (بالفواضل).
(4)
نقل الشارح هذا المبحث من أقاويل الثقات (ص 134 - 139) ببعض التصرف.
(5)
هذه شبهة يتعلق بها بعض أهل البدع ليتوصلوا بها إلى إنكار أو تأويل الصفات، والصحيح أنه ليس في كلام اللَّه وكلام رسوله ما يوهم تشبيها ولا تجسيمًا، فإن اللَّه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
يتخصص بمكان (1) فكل ما توهمه الخيال أو سنح بالبال من حسن أو بهاء، أو جمال، أو شبح، أو نور، أو ضباء، أو مثال، فهو بخلاف ذي العزة والعظمة والجلال، إذا توهمته الأوهام هلكت، وإذا تخيلته الأفهام والعقول أفكت. فطريق إثبات صفاته المقدسة السمع فنثبتها لورودها، ولا نعطلها، ولا نكيفها، ولا نمثلها، فمذهب السلف: إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل.
وهناك طائفة غلت في النفي فعطلته محتجين بأن الإشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الإشتباه حتى زعموا أنه سبحانه لا يوصف بالوجود، بل يقال إنه ليس بمعدوم، ولا يوصف بأنه حي، ولا قادر، ولا عالم، بل يقال: إنه ليس بميت، ولا عاجز، ولا جاهل.
وهذا مذهب أكثر الفلاسفة والباطنية ونحوهم.
وغلت طائفة أخرى في الإثبات فشبهته حتى أثبتوا له الصورة والجوارح حتى أن الهاشمية (2) من غلاة الرافضة زعموا -كما قال
(1) قوله ولا يتخصص بمكان فيه نظر: فقد ثبت بالأدلة من الكتاب والسنة علو اللَّه سبحانه على خلقه، وأنه سبحانه فوق سمواته مستو على عرشه، وقد ورد في الكتاب والسنة من الأدلة على علو اللَّه ما يطول ذكره، فمن ذلك، قوله تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقوله {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سبعة مواضع من كتاب اللَّه، ومن السنة، حديث الجارية المصرح بأن اللَّه في السماء وغيره. وقد أورد المؤلف في مبحث الإستواء بعض هذه الأدلة، انظر (1/ 352) وما بعدها. وانظر المزيد من الأدلة على علو اللَّه على خلقه كتاب العلو للذهبي؛ واثبات صفة العلو لابن قدامة؛ واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.
(2)
كذا في المخطوطتين ولعل الأصح: الهشامية: وهم أتباع هشام بن الحكم الرافضي. وتقدم التعريف بهذه الفرقة (1/ 138).
القرطبي- (1) أن معبودهم سبعة أشبار بشبر نفسه.
وقالت الكرامية (2): إنه جسم، وبالغ بعض هؤلاء، فزعم أنه على صورة الإنسان، فمنهم من زعم أنه على صورة شيخ أشمط الرأس واللحية، ومنهم من زعم أنه على صورة شاب أمرد جعد قطط، ومنهم من زعم أنه مركب من لحم ودم، ومنهم من زعم أنه على مقدار مسافة العرش لا يفضل أحدهما على الآخر شيء -تعالى اللَّه عن قول هولاء الفرق علوًا كبيرًا- فإن هذا غلو بارد، وقد نهى اللَّه تعالى عن مثل هذا بقوله:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171](3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه- أول من قال إن اللَّه جسم: هشام بن الحكم الرافضي (4) انتهى.
وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من غلاة الرافضة، قالوا: إن اللَّه تعالى وتقدس عن قولهم، طويل عريض عميق متساو كالسبيكة البيضاء يتلألأ من كل جانب، وله لون وطعم ورائحة وقالوا ويقوم ويقعد، ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه
(1) القرطبي: محمد بن أحمد بن أبي دكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي أبو عبد اللَّه القرطبي: من كبار المفسرين فقيه صالح متعبد من أهل قرطبة رحل إلى الشرق، واستقر بمنية ابن خصيب (في شمال أسيوط بمصر) وتوفى فيها سنة 671 هـ، من كتبه: الجامع لأحكام القرآن. ط. عشرون جزء يعرف بتفسير القرطبي؛ والتذكار في أفضل الأذكار؛ والتذكرة بأحوال الموتى والآخرة، وغيرها.
الديباج المذهب (2/ 308 - 309)؛ والأعلام (5/ 322).
(2)
الكرامية: تقدم التعريف بها (1/ 138).
(3)
انظر هذا المبحث في أقاويل الثقات (ص 134) وما بعدها.
(4)
انظر: منهاج السنة النبوية (1/ 72 - 73)، ومجموع الفتاوي (13/ 151).
إليه، قالوا إنه سبعة أشبار بشبر نفسه مماس للعرش بلا تفاوت وإرادته هي حركته لا عينه ولا غيره، وقالوا إنما يعلم الأشياء بعد كونها بعلم لا قديم ولا حادث وكلامه صفة له لا قديم ولا مخلوق (1) وهؤلاء كفار. وباللَّه التوفيق.
وفرقة أخرى أثبتت ما أثبته السمع من نحو سميع بصير عليم قدير وامتنعت من إطلاق السمع والبصر والعلم والقدرة، وهم المعتزلة فيثبتون الأسماء دون الصفات.
وفرقة أخرى أثبتت الصفات المعنوية من الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام، وهم الأشاعرة، والماتريدية ومن نحا منحاهم من أهل السنة (2) من أتباع الأربعة الأئمة وهؤلاء الصفاتية، ثم اختلفوا فيما ورد به السمع من لفظ اليد والعين والوجه ونحوها ففرفة أولتها وهم جمهور المتكلمين من الخلف.
وفرقة أثبتت ما أثبته اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك وأجروها على ظواهرها، ونفوا الكيفية والتشبية عنها قائلين: إن إثبات الباري سبحانه وتعالى، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد، وتكييف، فإذا قلنا يد ووجه وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها اللَّه تعالى لنفسه، فلا نقول إن معنى اليد القوة والنعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح.
(1) انظر مقالاتهم في: مقالات الإسلاميين (1/ 106)، والفرق بين الفرق (ص 65)؛ والملل والنحل (1/ 184 - 185).
(2)
سبق بيان أن أهل السنة فرقة واحدة، وأنهم يثبتون جميع الصفات الثابتة للَّه على الوجه اللائق به سبحانه. راجع (1/ 142).
وهذا هو مذهب السلف كما نقله الخطابي (1) وغيره، ومنهم الأئمة الأربعة، وبهذا المذهب قال الحنابلة والحنفية وكثير من الشافعية وغيرهم.
وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفى الكيفية والتشبيه عنها محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات اثبات وجود، لا إثبات تكييف، وقالوا: لا نلتفت في ذلك إلى تأويل، لأنا لسنا منه على ثقة ويقين لاحتمال عدم إرادته (أنه)(2) مأخوذ بطريق الظن والتجويز، لا على سبيل القطع والتحقيق، فلا ينبني الاعتقاد على مثل ذلك.
قال الإمام القاضي أبو يعلى (3) -قدس اللَّه روحه- في كتابه: "إبطال التأويل"(4) لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات اللَّه تعالى لا تشبه صفات الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها.
لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة رضي الله عنهم وذكر
(1) الخطابي: تقدم التعريف به (1/ 182).
وقد ذكر ذلك في معالم السنن (7/ 122)، وانظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص 124 - 125)؛ وأقاويل الثقات (ص 136 - 137)، والأسماء والصفات (568 - 569).
(2)
كذا في النسختين ولعله: لأنه.
(3)
تقدم: (1/ 137).
(4)
اسمه الكامل: "إبطال التأويلات "إبطال التأويلات لأخبار الصفات" طبع الجزء الأول منه في الكويت بتحقيق محمد بن حمد النجدي. وانظر النص فيه (ص 43).
بعض كلام الزهري (1)، ومكحول (2)، ومالك بن أنس (3)، والثوري (4)، والليث (5)، وحماد بن زيد (6)، وحماد بن سلمة (7)، وابن عيينة (8)، والفضيل بن عياض (9)، ووكيع (10)، وعبد الرحمن بن مهدي (11)، وإسحق بن راهويه (12)، وأبي عبيد (13)، ومحمد بن جرير الطبري (14)، وغيرهم في هذا الباب.
(1) الزهري: تقدم (1/ 156).
(2)
مكحول الشامي: عالم أهل أن الشام يكنى أبا عبد اللَّه الدمشقي الفقيه، مات سنة بضع عشرة ومائة.
سير أعلام النبلاء (5/ 155)؛ وتقريب (ص 347).
(3)
تقدم (1/ 109، 177).
(4)
تقدم (1/ 184).
(5)
الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري: ثقة ثبت فقيه، إمام مشهور، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة.
انظر تقريب (ص 287).
(6)
حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي أبو إسماعيل البصري: ثقه ثبت فقيه، مات ست تسع وسبعين ومائة.
انظر تقريب (ص 282).
(7)
تقدم (1/ 191).
(8)
سفيان بن عيينة تقدم (ص 1/ 191).
(9)
تقدم (1/ 185).
(10)
تقدم (1/ 291).
(11)
تقدم (1/ 177).
(12)
تقدم (1/ 112).
(13)
تقدم (1/ 213).
(14)
تقدم (1/ 189، 261).
إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان حملوها على ظواهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظواهرها، فلو كان التأويل سائغًا لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة غبار التشبيه ورفع الشبهة. انتهى (1).
قال القرطبي: قال الإمام الترمذي (2) بعد ذكره حديث: "ما تصدق أحد بصدقة إلا أخذها الرحمن في يمينه. . . "(3).
"وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما أشبهه من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا نثبت الروايات في هذا ونؤمن بها، ولا نتوهم، ولا يقال كيف، هكذا روى عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبد اللَّه بن المبارك، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالت هذا تشبيه.
وفد ذكر اللَّه تعالى في غير موضع من كتابه اليد ونحوها فتأولت الجهمية هذه الصفات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم فقالوا إن اللَّه لم يخلق آدم بيده، وقالوا معنى اليد هنا القدرة" (4).
وقال ابن عبد البر: (5) "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة
(1) انظر إبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 71) وقد نقل ذلك عن أبي يعلى ابن تيمية.
انظر: الحموية (ص 146).
(2)
الترمذي: تقدم (1/ 143).
(3)
الحديث رواه أحمد (2/ 268، 538)، والبخارى (1410)، (7430)؛ ومسلم (14/ 10)، والترمذي (661 - 662)، وابن ماجة (1842) كلهم من حديث أبي هريرة.
(4)
انظر: جامع الترمذي (3/ 41 - 42) رقم (661 - 662).
(5)
تقدم (1/ 119).
كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة، لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة مخصوصة. قال وأما الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه -وهم عند من أقرَّ بها نافون للمعبود- قال والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب اللَّه وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة (1) " إنتهى كلام ابن عبد البر إمام المغرب في عصره.
وقال القرطبي: قال إسحق بن إبراهيم (2) إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيدي أو مثل يدي، أو سمع كسمعي، أو مثل سمعي، فهذا الشبيه، وأما إذا قال للَّه سمع وبصر ولا يقول كيد ولا مثل سمع، ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيهًا وهو كما قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11](3).
وقد قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [آل عمران: 73].
قال أبو الحسن الأشعري: "اليد صفة ورد بها الشرع، قال والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص منها والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة فإن في اليد تشريفًا لازمًا"(4).
(1) التمهيد (7/ 145)؛ وانظر الحموية الكبرى (ص 145)؛ وأقاويل الثقات (ص 139).
(2)
هو إسحاق بن راهويه وقد تقدم (1/ 112)
وقد وقع في النسخة "ظ" إسحق بن راهويه.
(3)
النص في أقاويل الثقات (ص 139).
(4)
هذا النص أورده مرعي بن يوسف الكرمي في أقاويل الثقات (ص 149)، ونسبه إلى أبي الحسن؛ وذكره المؤلف في اللوامع (1/ 232) ولم أجده في الإبانه بل نص أبو الحسن في =
وقالت المعتزلة وطائفة من الأشعرية. . . (1) إن المراد باليدين في قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] يعني النعمتين.
وطائفة من الأشعرية أن المراد باليدين القدرة لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة كقول الشاعر (2):
فقمت ومالي بالأمور يدان.
قالوا: ويوضح هذا أن الخلق من جهة اللَّه إنما هو مضاف إلى قدرته لا إلى يده ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته ويستغني عن يد وآلة يفعل بها مع قدرته وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ثنى اليد مبالغة في الرد على اليهود، ونفى البخل عنه، وإثباتًا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذل السخي من ماله أن يعطيه بيده، وتنبيهًا على منح الدنيا والآخرة، والمراد بالتثنية باعتبار نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، أو باعتبار قوة الثواب وقوة العقاب (3).
= الإبانة على إثبات صفة اليدين ورد على من تأولها بالنعمة والقدرة.
قلت وقد نقل السيوطي في الإتقان (3/ 17) عن السهيلي في تفسير معنى اليد وقال إنها -يعني اليد- في الأصل عبارة عن صفة لموصوف، قال: ولهذا قال الأشعري إن اليد صفة ورد بها الشرع.
والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة. . . إلخ قلت فلعل قوله والذي يلوح من معنى هذه الصفة من كلام السهيلي واللَّه أعلم.
راجع الإبانة لأبي الحسن (ص 97 - 106).
(1)
في النسختين (إلى) ولا يستقيم بها الكلام.
(2)
لم أعرف قائله.
(3)
قال الشارح رحمه الله في كتاب اللوامع بعد ايراده لتأويل الأشعرية هذا: ولا يخفى ما في هذا من الإعراض والإنصراف والعدول عن الحق والإنصاف، بل الصواب إثبات ما أثبته =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= اللَّه لنفسه ووصفه به نبيه حسب ما ورد من غير إلحاد، ولا رد، فهو إثبات وجود بلا تكييف كما مر. انتهى
لوامع الأنوار (1/ 232).
وانظر تأويل الأشعرية هذا في أقاويل الثقات (ص 149 - 150).
وقال الشيخ عبد اللَّه الغنيمان في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 304) عند شرحه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يد اللَّه ملآى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغضى ما في يده، وقال: عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع": "وقد اضطرب أهل التأويل في تأويلهم اليد اضطرابًا يدل على أنهم على باطل، والعاقل المنصف يعجب إذا رأى ما كتبه ابن حجر في شرحه لهذا الباب، فإنه ذكر بعض أقوال أئمة الأشعرية، ثم قال: واليد في اللغة تطلق على معان كثيرة اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى.
والنصوص في هذا الباب جاءت معينة معنى واحدًا لا غير هو يدا اللَّه الكريمتين، وما عدا ذلك فهو بهتان عظيم.
ثم قال بعد ذلك (1/ 311) هذا وقد تنوعت النصوص في كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على إثبات اليدين للَّه تعالى، وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض بهما، وتثنيتهما، وأن إحداها يمين في نصوص كثيرة، والأخرى شمال كما في صحيح مسلم، وأنه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه فيربيها لصاحبها، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين وغير ذلك مما هو ثابت عن اللَّه ورسوله. . .".
ثم قال: "وهذا الذي أشرت إليه كله يمنع تأويل اليدين بالنعمة، أو القوة، أو الخزائن، أو القدرة، أو غير ذلك، ويجعل التأويل في حكم التحريف، بل هو تحريف.
وقد آمن المسلمون بهذه النصوص على ظاهرها، وقبلوها، ولم يتعرضوا لها بتأويل تبعًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة الهدى، بل وكل من قبل ما جاءت به الرسل، وآمن به". انتهى.
ومذهب سلف الأمة وكبار الأئمة والحنابلة ومن نحا نحوهم أن المراد إثبات صفتين ذاتيتين يسميان يدين يزيدان على النعمة والقدرة، محتجين بأن اللَّه تعالى أثبت لآدم عليه السلام من المزية والإختصاص ما لم يثبت مثله لأبليس بقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وإلا فكان إبليس يقول: وأنا أيضا خلقتني بيديك، فلا مزية لآدم ولا تشريف.
(فإن قيل)(1) إنما أضيف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفًا وتعظيمًا على إبليس، ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف كناقة اللَّه وبيت اللَّه فهذا كاف في التشريف، وإن كانت النوق والبيوت كلها للَّه.
فالجواب: ما قالوه إن التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة اقتضى مجرد التشريف، فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة، أوجب ذلك إثبات الصفة التي لولاها ما تمت النسبة.
فإن قولنا خلق اللَّه (الخلق)(2) بقدرته لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة اللَّه اقتضى ذلك إثبات الصفة، وكذلك أحاط الخلق بعلمه يقتضى إحاطته بصفة هي العلم، فكذلك هنا لما كان ذكر التخصيص مضافًا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة على وجه يليق به سبحانه لا بمعنى العضو والجارحة والجسمية والبعضية والكمية والكيفية تعالى اللَّه عن ذلك.
وأيضا لو أراد باليد النعمة لقال: لما خلقت ليدي لأنه خلق لنعمته، لا بنعمته، وأيضا فقدرة اللَّه واحدة، لا تدخلها التثنية والجمع.
(1) في النسختين (فقيل) والتصحيح من أقاويل الثقات (ص 150) ومنه ينقل الشارح.
(2)
ساقطة في "ظ".
قال الإمام البغوي (1) في قوله: بيدي: في تحقيق اللَّه التثنية في اليد دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة وأنهما صفتان من صفات ذاته (2).
ومن هذا النمط القبضة واليمين في قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
وفي الصحيحين وغيرهما يقبض اللَّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض (3).
وحديث مسلم: يطوي اللَّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى (4). . . الحديث (5).
وحديث مسلم أيضًا: "يأخذ اللَّه سمواته وأرضه (بيديه) (6) فيقول أنا اللَّه ويبسطها أنا الملك"(7).
(1) البغوي: الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي أبو محمد الإمام الجليل الفقيه المحدث المفسر صاحب التصانيف "كشرح السنة" ومعالم التنزيل: في التفسير، والمصابيح في الحديث، والتهذيب في الفقه وغيرها، توفى سنة ست عشرة وخمسمائة.
طبقات الشافعية للسبكي (7/ 75)؛ وسير أعلام النبلاء (19/ 439).
(2)
ذكره عن البغوي: السيوطي في الإتقان (3/ 17)، ومرعي بن يوسف في أقاويل الثقات (ص 151).
(3)
الحديث أخرجه البخاري (6519)، (7382) فتح الباري؛ ومسلم رقم (2787)؛ وأحمد في المسند (2/ 374)، وابن ماجة (192) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
في الأصل "اليمين" وفى "ظ" اليمنى وهو الموافق لرواية مسلم.
(5)
رواه مسلم (2788)؛ وأبو داود (4732)؛ وابن ماجة (198)؛ وابن أبي عاصم في السنة رقم (547) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنها.
(6)
في الأصل (بيده) وفى "ظ" بيديه وهو الموافق لرواية مسلم أيضًا.
(7)
هو في مسلم رقم (2788)(25) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما ولفظه: =
وأشار الناظم رحمه للَّه ورضي عنه بقوله: وكلتا يديه بالفواضل (تنضح إلى ما ورد في صحيح مسلم وغيره: "إن المقسطين عند اللَّه يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" (1).
قال النووي (2): "هو من أحاديث الصفات إما نؤمن بها، ولا نتكلم بتأويل، ونعتقد أن ظاهرها غير مراد، وأن لها معنى يليق باللَّه تعالى أو تأويل على أن المراد بكونهم على اليمين: على الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة.
وقوله: كلتا يديه يمين فيه تنبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة وأن يديه تعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما لأن الشمال تنقص عن اليمين (3).
وقال بعضهم قد تكون اليمين بمعنى التبجيل والتعظيم، يقال: فلان عندنا
= "يأخذ اللَّه عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول أنا اللَّه (ويقبض أصابعه ويبسطها) أنا الملك.
(1)
رواه مسلم رقم (1827)، وأحمد (12/ 160)؛ والنسائي (8/ 195 - 196) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنها.
(2)
النووي: يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين النووي، محيي الدين أبو زكريا الإمام الفقيه الحافظ الزاهد، أحد الأعلام صاحب التصانيف المفيدة منها: روضة الطالبين، والمنهاج، وشرح المهذب، وكلها في الفقه وشرح مسلم، والأذكار وكتاب رياض الصالحين وغيرها، توفى سنة سبع وسبعين وستمائة.
ترجمة النووي للسخاوي؛ وطبقات الشافعية للسبكي (8/ 395)؛ وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 194).
(3)
نقله الشارح من شرح صحيح مسلم للنووي (12/ 211 - 212) بتصرف وانظر: أقاويل الثقات (156)، ولوامع الأنوار للمؤلف (1/ 233).
باليمين، أي بالمحل الجليل ومنه قول الشاعر (1):
أقول لناقتي إذ بلغتنى
…
لقد أصبحت عندي باليمين
أي بالمحل الرفيع.
وكذلك (2) قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يمين اللَّه ملآى لا يغيضها نفقه سحاءَ الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض"(3).
وهذه أحاديث كلها صحيحة.
ولما خلق اللَّه تعالى آدم ويداه مقبوضتان قال له: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة (4).
قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة، فإنهم لم يفسروا هذه الآيات والأحاديث في هذا الباب (5).
(1) هو أبو نواس وهو في ديوانه (ص 32)؛ وانظر الأسماء والصفات (ص 419).
(2)
قوله: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم يوهم أن معنى اليمين في الحديث بمعنى التبجيل والتعظيم وليس كذلك. بل هي من صفات اللَّه اللائقة بجلاله وعظمته التي يجب الأيمان بها من غير تعرض لتأويل وتكييف وتشبيه كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} انظر التعليق على فقرة (2)(ص 308).
(3)
الحديث رواه البخاري (4684)، (5352)، (7411)، (7419)، (7496)، ومسلم رقم (993)، (36، 37)، والترمذي رقم (3045)، وابن ماجة (197)؛ وأحمد (2/ 242، 313) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه الترمذي (3368) من حديث أبي هريرة وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه؛ وأخرجه الحاكم (1/ 64) وصححه ووافقه الذهبي.
(5)
والمعنى أنهم لم يفسروها بالتفسيرات البعيدة والتأويلات الباطلة كما يفعله المعتزلة =
وكذلك قال في الإستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية مع أنه يحكى قول بعض المتاخرين (1).
وحكى الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه في الحموية الكبرى (2)؛ عن الإمام المحقق أبي بكر الباقلاني (3) المتكلم قال: وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي حسن الأشعري في كتابه: "الإبانه في أصول الديانة" فإن قال قائل: فما الدليل على أن للَّه وجهًا ويدًا؟ قيل له قوله قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وقوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].
فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا.
فإن قال قائل: فبما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحه إذا كنتم لا تعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة؟
= والأشاعرة، إنما يثبتون المعنى الصحيح الذي أثبته اللَّه ورسوله، مع نفي الكيف والتشبيه واللَّه أعلم.
انظر: الفتوى الحموية (5/ 50) من مجموع الفتاوي والصفات للدارقطني بتحقيق الشيخ عبد اللَّه الغنيمان (ص 40).
وانظر: النص عن البيهقي في كتابه الأسماء والصفات (ص 416، 423، 447، 514).
(1)
انظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص 146) ضمن النفائس.
(2)
انظر: الفتوى الحموية الكبرى (152) ضمن النفائس.
(3)
الباقلاني: تقدم التعريف به (1/ 224).
قلنا: لا يجب إذا لم نعقل حيًّا عالمًا قادرًا إلَّا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على اللَّه سبحانه، وكما لا يجب في كل شيء كان قائمًا بذاته أن يكون جوهرًا لأنا وإياكم لا نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، قال وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب أن يكون علمه وحياته وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضًا (1). انتهى.
قال شيخ الإسلام في التدمرية: (2) "إذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟
فالجواب أن لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلًا، واللَّه تعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وإضلال والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل.
(1) انظر: التمهيد للباقلاني (ص 295 - 298)؛ وانظر: الحموية الكبرى (ص 152 - 153).
(2)
التدمرية (ص 29)
كما قالوا في الحديث القدسي في قوله تعالى: (عبدي جعت فلم تطعمني. .)(1).
وفي الأثر الآخر: "الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض، فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح اللَّه وقبل يمينه"(2).
وقوله: "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن"(3).
فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق، فيقال لهم لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق.
أما الواحد فقوله: الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح اللَّه وقبل يمينه صريح في أن الحجر ليس هو صفة اللَّه ونفس يمينه لأنه قال: يمين اللَّه في الأرض، وقال: فمن قبله وصافحه فكأنما صافح اللَّه وقبل يمينه.
ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحًا للَّه، وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرًا، أو أنه محتاج إلى التأويل.
(1) الحديث رواه مسلم رقم (2569) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 336)؛ والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 328)؛ والديلمي رقم (2808) عن جابر بن عبد اللَّه مرفوعًا وإسناده ضعيف.
انظر: سسلة الأحاديث الضعيفة رقم (223).
وقد أخرجه ابن قتيبة في غريب الحديث، كما في الضعيفة موقوفًا على ابن عباس وإسناده ضعيف جدًا.
انظر: سسلة الأحاديث الضعيفة رقم 23.
(3)
رواه مسلم رقم (2654) في القدر، باب تصريف اللَّه تعالى القلوب كيف شاء من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وأخرجه الترمذي رقم (2140) من حديث أنس، وقال حديث حسن.
مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسرًا يقول اللَّه: "عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده".
وهذا صريح في أن اللَّه تعالى وتقدس لم يجع ولم يمرض، ولكن جاع عبده ومرض فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسرًا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل، وأما قوله:"قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالإصبع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل: هذا بين يدى ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل السحاب المسخر بين السماء والأرض لم يقتض أن يكون مماسًا للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة.
ومما يشبه هذا أن جعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله كما قيل في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. فقيل هو مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71].
فهذا ليس مثل مذا لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدى فصار شبيهًا بقوله: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79].
وهناك أضاف الفعل إليه فقال: {لِمَا خَلَقْتُ} ثم قال {بِيَدَيَّ} وأيضًا فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفى اليدين ذكر لفظ التثنية كما في قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64].
وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] في المفرد فاللَّه سبحانه يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهرًا أو مضمرًا، وتارة بصيغة الجمع كقوله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 11] وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظم الذي يستحقه وربما تدل على معانى أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك فلو قال:(ما منعك أن تسجد لما خلقت يدى)(1) كان (2) كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ولو قال خلقت (بيدي)(3) بصيغة الإفراد لكان. . . (4) مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "المقسطون عند اللَّه على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين"(5) كما تقدم وأمثال ذلك.
قال وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها والظاهر هو المراد في الجميع فإن اللَّه تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير.
واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد كان
(1) كذا في الأصل وفي "ظ" والتدمرية: (بيدي).
(2)
كذا في النسخين وفي التدمرية: لما كان كقوله.
(3)
ليست في التدمرية.
(4)
كذا في النسختين ويظهر أن فيه سقطا وتمامه كما في التدمرية (ص 31) مفارقا له فكيف إذا قال (خلقت بيدي) بصيغة التثنية هذا مع دلالة الأحاديث. . . إلخ.
(5)
تقدم تخريجه، انظر:(1/ 311).
من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير.
فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59] إنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق (1) ولا حبًا كحبه ولا رضًا كرضاه.
فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات يماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراد وإن كان يعتقد أن ظاهرها مما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مرادًا إلا بدليل يدل على النفي وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات.
فيكون الكلام في الجميع واحدًا.
وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام وهى أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهى قائمة بنا كالسمع والبصر والعلم والكلام والقدرة.
ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير لم يقل المسلمون إن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيده، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه تعالى كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه، فإذا كانت ذاته المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته تعالى كذاته ليست
(1) في "ظ" المخلوقات.
كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" فشبه الرؤية بالروية لا المرئي بالمرئي (1). انتهى.
ثم أشار الناظم رحمه اللَّه تعالى إلى صفة النزول اللائق بذات اللَّه المقدسة وعظمته المنزهة، فقال:(وقل) أي اعتقد أيها الأثري ودن أيها السني بالنزول الإلهي على حسب ما يليق بذاته العلية، وصفاته الخبرية، كما ثبتت بذلك الأخبار وصحت به الآثار، غير ملتفت لسفساف (2) يتشدق (3) ولا جهمي يتودق (4) ولا ملحد يتزندق.
(ينزل) الملك الجبار نزولًا يليق بذاته بلا تشبيه، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف.
و (الجبار): اسم من أسمائه الحسنى: وهو الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره (5) كذا قيل والحق أنه الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق،
(1) انظر: التدمرية (ص 32) وقد سبق تخريج أحاديث الرؤية انظر: (1/ 289 وما بعدها).
(2)
السفساف: الرديء من كل شيء. مختار الصحاح (ص 301). (سفف).
(3)
الشدق: جانب الفم وتشدق الرجل لوى شدقه للتفصح.
مختار الصحاح -شدق- القاموس شدق (3/ 257).
(4)
يتودق: -لعل أقرب المعاني لها هنا كما تبين لي من مراجعة مادة الكلمة في كتب اللغة أنها بمعنى الدنو والقرب والمعنى لا تلتفت إلى جهمي يحاول أن يدنو منك ويتقرب إليك ليوصل إليك مذهبه -واللَّه تعالى أعلم- راجع مادة (ودق) في لسان العرب (12/ 251)؛ وفى القاموس (3/ 297).
(5)
قاله من المفسرين قتادة والسدي ومقاتل.
انظر: تفسير ابن جرير (28/ 55)، والبغوي (8/ 308) بهامش تفسير ابن كثير.
ومنه قولهم: جبرت الكسر إذا أصلحته (1).
وقيل الجبار: العالي فوق خلقه من قولهم: تجبر النبات إذا طال وعلا (2). والجبار في صفة اللَّه تعالى صفة مدح، وفي الخلق صفة ذم، لأنهم تحت القهر والمشيئة فعلى العبد أن لا يتجبر على غيره من عباد اللَّه تعالى -كما في "تحفة العباد في أدلة الأوراد"- للعلامة أبي بكر بن أبي داود (3) الحنبلي تلميذ المحقق ابن القيم (4) رحمهم اللَّه تعالى، من أعيان المائة الثامنة.
وقال ابن الأثير (5) في النهاية في أسماء اللَّه تعالى: الجبار: ومعناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال: جبر الخلق وأجبرهم قال وأجبر أكثر، وقيل: هو العلي فوق خلقه وفعال من أبنية المبالغة ومنه قولهم: نخلة جبارة، وهي
(1) انظر: تفسير البغوي (8/ 308)، وتفسير القرطبي (18/ 47)؛ وزاد المسير (8/ 227)؛ وانظر شأن الدعاء للخطابي (ص 48).
(2)
شأن الدعاء (ص 48).
(3)
تقدم في (1/ 206).
(4)
تقدم في (1/ 161).
(5)
ابن الأثير: المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، ثم الموصلي، مجد الدين أبو السعادات، عالم أديب لغوي مشارك في تفسير القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، ولد بجزيرة ابن عمر، ونشأ بها ثم انتقل إلى الموصل وكتب لأمرائها وكانوا يحبونه ويحترمونه، وتوفى بها سنة 606 هـ، من تصانيفه: جامع الأصول في أحاديث الرسول؛ والنهاية في غريب الحديث؛ وشرح غريب الطوال؛ والإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف؛ تفسيري الثعلبي والزمخشري وغيرهما.
سير أعلام النبلاء (21/ 488)؛ وطبقات الشافعية للسبكي (8/ 366)، ومعجم المؤلفين (8/ 174).
العظيمة التي تفوت يد المتناول.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: يا أمة الجبار (1) وإنما أضافها إلى الجبار دون باقي أسماء اللَّه تعالى لاختصاص الحال التي كانت عليها من اظهار العطر والبخور والتباهي به والتبختر في المشى ومنه الحديث في ذكر النار: حتى يضع الجبار فيها قدمه (2).
قال ابن الأثير المشهور في تأويله أن المراد بالجبار اللَّه تعالى ويشهد له قوله في الحديث الآخر: حتى يضع فيها رب العزة قدمه (3).
وفي الحديث: "سبحان ذي الجبروت والملكوت"(4) هو فعلوت من الجبر أي القهر (5).
وقول الناظم (في كل ليلة) أي من الليالي فلا يختص بليلة دون أخرى (بلا كيف) فلا يتوهم أن لنزولة كيفًا.
(1) هو من قول أبي هريرة رضي الله عنه في حديث أخرجه أبو داود رقم (4174)؛ وابن ماجة رقم (4002).
عن عبيد مولي أبي رهم أن أبا هريرة لقى امرأة منطيبة تريد المسجد، فقال: يا أمة الجبار أين تريدين؟ قالت: المسجد، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم. قال: فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل".
(2)
و (3) جزء من حديث أخرجه البخاري (4848)، (6661)، (7449)، ومسلم رقم (2848)، والترمذي (3272) من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهم. والرواية الأولى أخرجها ابن خزيمة في التوحيد رقم (115)(1/ 207 - 208).
(4)
أخرجه أبو داود رقم (873)، والنسائي (2/ 177).
(5)
انظر: النهاية (1/ 235 - 236).
روى أبو بكر الأثرم (1) عن الغضيل بن عياض (2) رحمهما اللَّه تعالى قال: ليس لنا أن نتوهم في اللَّه كيف وكيف لأن اللَّه تعالى وصف فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2]. فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول والضحك والمباهات كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف، وإذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب ينزل، فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء (3).
وقال الإمام البخاري (4) في كتاب: "خلق أفعال العباد" من صحيحه: (5) قال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء (6).
(1) أبو بكر الأثرم: أحمد بن محمد بن هانى الأسكافي الطائي، وقيل الكلبي الأثرم أبو بكر أحد الأعلام ومصنف السنن وتلميذ الإمام أحمد، كان جليل القدر حافظًا إمامًا، تقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، توفي سنة 261 هـ تقريبًا.
طبقات الحنابلة (1/ 66)؛ وسير أعلام النبلاء (12/ 623).
(2)
تقدم (1/ 185).
(3)
رواه أبو بكر الأثرم في كتابه السنة كما في الحموية (ص 126)، في الأصفهانية (ص 28).
(4)
تقدم (1/ 187).
(5)
كذا في النسختين: من صحيحه وليس كذلك إنما هو في خلق أفعال العباد للبخاري في غير الصحيح.
(6)
رواه البخاري في خلق أفعال العباد رقم (61)؛ والهروي في كتابه الفاروق كما في الحموية (ص 127)، وذكره ابن تيمية في شرح حديث النزول (ص 41)، وفي الأصفهانية (ص 28)، وقال رواه الأثرم في السنة؛ ورواه اللالكائي في السنة رقم (775).
قال البخاري: وحدث (1) يزيد بن هارون (2) عن الجهمية فقال:
"من زعم أن (الرحمن على العرش استوى) على خلاف (ما يَقِر)(3) في قلوب العامة فهو جهمي (4).
(1) كذا في النسختين، وفي الأصفهانية: حدث، وفي خلق أفعال العباد للبخاري، وحذر ولعله الصواب.
(2)
يزيد بن هارون تقدم (1/ 287).
(3)
في النسختين (ما يقرر) وما أثبته من خلق أفعال العباد للبخاري رقم (63) وهو الصحيح.
(4)
الأثر أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد رقم (63)؛ وأبو داود في المسائل (ص 268 - 269)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (54)؛ والذهبي في العلو (117)؛ ومختصره (167)؛ وذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (214) من طريق عبد اللَّه بن أحمد في السنة؛ وأورده ابن تيمية في شرح الأصفهانية (ص 28).
قال الذهبي بعد إيراده هذا الأثر: "يقر" مخفف، و"العامة" مراده بهم جمهور الأمة، وأهل العلم، والذي وقر في قلوبهم من الآية هو ما قد دل عليه الخطاب مع يقينهم بأن المستوى ليس كمثله شيء هذا الذي وقر في فطرهم السليمة وأذهانهم الصحيحة، ولو كان له معنى وراء ذلك لتفوهوا به، ولما أهملوه، ولو تأول أحد منهم الاستواء لتوفرت الهمم على نقله، ولو نقل لاشتهر، فإن كان في بعض جهلة الأغبياء من يفهم من الإستواء ما يوجب نقصًا، أو قياسًا للشاهد على الغائب، وللمخلوق على الخالق، فهذا نادر، فمن نطق بذلك زجر، وعلم وما أظن أن أحدًا من العامة يقر في نفسه ذلك.
وقال ابن تيمية -كما في اجتماع الجيوش الإسلامية- والذي تقرر في قلوب العامة هو ما فطر اللَّه تعالى عليه الخليقة من توجهها إلى ربها تعالى عند النوازل والشدائد والدعاء والرغبة إليه تعالى نحو العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة من غير موقف وقفهم عليه، ولكن فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها وما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة حتى يجهمه وينقله إلى التعطيل من يقيض له" انتهى.
انظر: العلو (117)؛ ومختصره (167)؛ واجتماع الجيوش الإسلامية (214).
وروى الخلال (1) عن سليمان بن حرب (2)(قال)(3) سأل بشر بن السري (4) حماد بن زيد (5) فقال: يا أبا إسماعيل الحديث ينزل اللَّه إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان فسكت حماد بن زيد ثم قال: هو على عرشه يقرب من خلقه كيف شاء (6).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه- في شرح العقيدة الأصفهانية: (7) وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب المقالات عن أهل السنة والحديث فقال: ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالكتاب والسنة (8).
وقال أبو عثمان النيسابوري (9) الملقب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة في
(1) تقدم (1/ 107).
(2)
تقدم (1/ 114).
(3)
في النسختين (أنه) ولعل الصواب (قال) كما أثبت.
(4)
بشر بن السري أبو عمرو الأفوه بصري، سكن مكة وكان واعظًا ثقة متقنًا طعن فيه برأي جهم ثم اعتذر وتاب، مات سنة خمس أو ست وتسعين ومائة.
تقريب (ص 44)؛ وتهذيب الكمال (4/ 122).
(5)
حماد بن زيد تقدم (1/ 304).
(6)
رواه الخلال في كتاب السنة وابن بطة في الإبانة كما في شرح حديث النزول (ص 40).
(7)
شرح العقيدة الأصفهانية (ص 28).
(8)
انظر مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 348).
(9)
أبو عثمان النيسابوري: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل النيسابوري الصابوني أبو عثمان الإمام العلامة القدوه المفسر المذكر المحدث شيخ الإسلام، ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وتوفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة، قال الذهبي: كان من أئمة الأثر، له مصنفات في السنة واعتقاد السلف، ما رآه منصف إلا واعترف له.
سير أعلام النبلاء (18/ 40 - 41).
السنة (1) "ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون علمه إلى اللَّه تعالى.
وكذلك يثبتون ما أنزل اللَّه في كتابه من ذكر المجيء (2) والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة (3).
وقال (4) سمعت الحاكم أبا عبد اللَّه (5) الحافظ يقول: سمعت أبا (زكريا)(6) يحيى بن (محمد)(7) العنبري يقول: سمعت إبراهيم
(1) وقد طبعت ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/ 105 - 135) باسم عقيدة السلف، أصحاب الحديث ثم طبعت في الكويت بتحقيق بدر البدر. والنص في الرسالة (ص 26 - 27).
(2)
كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].
(3)
كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210].
(4)
أي أبو إسماعيل الصابوني.
(5)
تقدم (1/ 143).
(6)
في النسخين (أبا رزين) وهو خطأ والصواب: أبا زكريا كما في مصادر ترجمته، وفى مصادر تخريج الأثر.
(7)
في النسختين (ابن عمر) وهو خطأ أيضًا، والصواب: يحيى بن محمد وهو يحيى بن محمد بن عبد اللَّه بن عنبر العنبري السلمي من نيسابور.
قال السمعاني: كان من المشاهير من علماء المحدثين سمع منه الحاكم أبو عبد اللَّه الحافظ.
وقال الذهبي الإمام الثقة المحدث الأديب العلامة، وقال: توفى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
الأنساب (9/ 388 - 389)؛ سير أعلام النبلاء (15/ 533).
ابن أبي طالب (1) سمعت أحمد بن سعيد الرباطي (2) يقول: حضرت مجلس الأمير عبد اللَّه بن طاهر (3) ذات يوم وحضر إسحاق بن إبراهيم (4) -يعني ابن راهويه- فسئل عن حديث النزول صحيح هو؟ فقال: نعم فقال بعض قواد عبد اللَّه: يا أبا يعقوب أتزعم أن اللَّه ينزل في كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ قال: أثبته فوق حتى أوصف لك النزول. فقال الرجل: أثبته فوق. فقال إسحق، قال اللَّه عز وجل:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] فقال له الأمير عبد اللَّه بن طاهر: يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة. فقال إسحق: أعز اللَّه الأمير من يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم (5).
وروى بإسناده عن إسحق أيضًا. قال: قال لي الأمير عبد اللَّه ابن طاهر: يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي تروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" كيف ينزل؟ قال: قلت أعز اللَّه الأمير لا يقال لأمر الرب كيف ينزل، إنما ينزل بلا كيف (6).
(1) إبراهيم بن أبي طالب محمد بن نوح بن عبد اللَّه بن خالد النيسابوري أبو إسحاق الإمام الحافظ المجود الزاهد شيخ نيسابور، وإمام المحدثين في زمانه ذكره الحاكم فقال: إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرجال، مات سنة خمس وتسعين ومائتين.
سير أعلام النبلاء (13/ 547).
(2)
أحمد بن سعيد بن إبراهيم الرباطى المروزي أبو عبد اللَّه الأشقر ثقة حافظ، مات سنة ست وأربعين ومائتين هـ.
تقريب (ص 12).
(3)
عبد اللَّه بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق الخزاعي بالولاء أبو العباس أمير خراسان، ومن أشهر الولاة في العصر العباسي، قال ابن الأثير: كان عبد اللَّه من أكثر الناس بذلًا للمال مع علم ومعرفة وتجربة وللشعراء فيه مرات كثيرة. وقال ابن خلكان: كان عبد اللَّه سيدًا نبيلًا عالي الهمة شهما، وكان المأمون كثير الاعتماد عليه، توفى سنة ثلاثين ومائتين.
الكامل لابن الأثير (5/ 271)، وفيات الأعيان (3/ 83)، والأعلام (4/ 93 - 94).
(4)
تقدم (1/ 112).
(5)
الأثر أخرجه الصابوني في عقيدة السلف رقم (44) وأورده الذهبي في العلو مختصره (ص 193) وصححه الألباني وذكره ابن تيمية في شرح حديث النزول (ص 51) وفي الأصفهانية (ص 28) والمؤلف في اللوامع (1/ 243)
(6)
أخرجه الصابوني في عقيدة السلف رقم (41)؛ وذكره الذهبي في العلو -مختصره (ص 193)؛ وابن تيمية في شرح حديث النزول (ص 51)؛ وفي الأصفهانية (ص 29)؛ =
وروى بإسناده عن عبد اللَّه بن المبارك (1) رضي الله عنه أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان (2) فقال عبد اللَّه: يا ضعيف ليلة النصف وحدها ينزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبد اللَّه بن المبارك: ينزل كيف شاء (3).
قال أبو عثمان النيسابوري: "فلما صح خبر النزول عن النبي صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الحديث، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه وعلموا وعرفوا واعتقدوا وتحققوا أن صفات الرب تعالى لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق. سبحانه وتعالى عما تقول المشبهة والمعطلة علوًا كبيرًا"(4).
وروى الإمام الحافظ البيهقي (5) بإسناده عن إسحاق بن راهويه، قال: جمعني أنا وهذا المبتدع -يعني ابن صالح- مجلس الأمير عبد اللَّه بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول (فسردتها)(6).
فقال إبراهيم بن صالح (7) كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء،
= وأورده الحافظ عبد الغني في عقيدته رقم (48)؛ وذكره الشارح في اللوامع (1/ 244).
(1)
تقدم (1/ 184).
(2)
سيأتي حديث النزول ليلة النصف من شعبان (انظر 1/ 337).
(3)
أخرجه الصابوني في عقيدة السلف رقم (42)؛ وذكره ابن تيمية في شرح حديث النزول (52)؛ وفى الأصفهانية (ص 29)؛ والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 569).
(4)
انظر عقيدة السلف (ص 48 - 49) وشرح العقيدة الأصفهانية (29 - 30) ولوامع الأنوار (1/ 244).
(5)
البيهقي: تقدم (1/ 202).
(6)
في النسختين فثبتها والمثبت من الأسماء والصفات ولعله الصحيح.
(7)
في الأسماء والصفات إبراهيم بن أبي صالح.
فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء، فرضى عبد اللَّه كلامي وأنكر على إبراهيم (1).
وقال حرب بن إسماعيل الكرماني (2) في كتابه المصنف في مسائل الإمام أحمد وإسحاق قال: مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر المعروفين المقتدى بهم في السنة قال: وأدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام عليها، فمن خالف شيئًا منها، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع، خارج عن الجماعة زائل عن سبيل السنة ومنهج الحق.
قال وهو مذهب الإمام أحمد (3)، وإسحق بن إبراهيم (4) وبقي بن مخلد (5)،
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص 568)؛ وذكره ابن تيمية في الأصفهانية (ص 30)، والمؤلف في كتابه لوامع الأنوار (1/ 244).
(2)
حرب بن إسماعيل الكرماني أبو محمد الفقيه تلميذ أحمد بن حنبل رحل، وطلب العلم أخذ عن أبي الوليد الطيالسي، وأبي بكر الحميدي، وأبى عبيد، وسعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، قال الخلال: كان رجلًا جليلًا حثني المروزي على الخروج إليه، وقال الذهبي: و"مسائل حرب" من أنفس كتب الحنابلة وهو كبير في مجلدين، توفى سنة سنة ثمانين ومائتين.
سير أعلام النبلاء (13/ 244 - 245)؛ وطبقات الحنابلة (1/ 145).
(3)
تقدم (1/ 111).
(4)
هو إسحاق بن راهويه تقدم (1/ 112).
(5)
بقى بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي الحافظ أحد الأعلام صاحب: التفسير؛ والمسند اللذين لا نظير لهما، ولد في حدود سنة مائتين أو قبلها بقليل، وكان إمامًا مجتهدًا صالحًا ربانيًا صادقًا مخلصًا رأسًا في العلم والعمل، توفى سنة ست وسبعين ومائتين.
سير أعلام النبلاء (13/ 285)، ونفح الطيب (2/ 47، 518).
وعبد اللَّه بن الزبير الحميدي (1)، وسعيد بن منصور (2) وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، فذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة وأمر البرزخ وغير ذلك. . إلى أن قال واللَّه تعالى يعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء متكلمًا عالمًا تبارك اللَّه أحسن الخالقين (3).
وقال شيخ الإسلام في التدمرية: "إذا قال لك كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا؟ قل كيف هو في ذاته؟ فإذا قال أنا لا أعلم كيفيته قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تقر بأن له ذاتًا حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه هو ثابت في نفس الأمر وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم قال وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات فإن من أثبت شيئًا ونفى شيئًا بالعقل إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته (ولو)(4) طولب بالفرق بين المحذور في هذا
(1) عبد اللَّه بن الزبير الحميدي بن عيسى القرشي الحميدي المكي أبو بكر ثقة حافظ فقيه، مات سنة تسع عشرة ومائتين وقيل بعدها.
تقريب (ص 173).
(2)
سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراساني: نزيل مكة إمام محدث ثقة مصنف السنن وغيرها، توفى سنة سبع وعشرين ومائتين وقيل بعدها.
سير أعلام النبلاء (10/ 586)؛ وتقريب (ص 126).
(3)
انظر شرح العقيدة الأصفهانية (ص 30).
(4)
(ولو) زيادة من التدمرية وبها يستقيم الكلام.
وهذا لم يجد بينهما فرقًا، ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض -الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم. فإذا قيل لهم لم تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد لم يكن لهم جواب صحيح، فهذا تناقضهم في النفي، وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني إلى يثبتها بأن صرفوا النص عن مقتضاه إلى معنى آخر لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه فمن تأول محبته ونحوها إلى الإرادة للثواب والعقاب كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في نحو الحب" (1).
(جل الواحد): أبي عظم في وحدانيته وفى الحديث: "ألظوا بياذا الجلال والإكرام"(2).
وفي الحديث الآخر: "أجلوا اللَّه يغفر لكم"(3) أي قولوا يا ذا الجلال والإكرام".
وقيل أراد عظموه.
وجاء تفسيره في بعض الروايات: أي أسلموا والجليل هو الموصوف بنعوت
(1) التدمرية (ص 20).
(2)
الحديث رواه الترمذي في الدعوات رقم (3524 - 3525) عن أنس بن مالك، وقال حديث غريب. ورواه عن ربيعة بن عامر كل من أحمد في مسندة (4/ 177)، والحاكم في المستدرك (1/ 498 - 499) وصححه ووافقه الذهبي؛ ووافقهما الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1536).
(3)
رواه أحمد في مسنده (5/ 199)؛ والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (1/ 31، 10/ 217) عن أبي الدرداء؛ وقال الهيثم في إسناده أبو العذراء وهو مجهول.
الجلال وهو راجع إلى كمال الصفات كما أن الكبير راجع إلى كمال الذات والعظيم راجع إلى كمال الذات والصفات (1).
والواحد: هو الفرد الذي لم يزل وحده، وقيل هو المعدوم الشريك والنظير، وليس هو كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة إذ كل شيء سواه يدعى واحدا فهو واحد من جهة غير واحد من جهات فإن اللَّه سبحانه الواحد الذي ليس كمثله شيء والواحد الذي لا يثنى من لفظه فلا يقال واحدان (2).
والفرق بين الواحد والأحد، أن الواحد هو المنفرد بالذات والأحد هو المنفرد بالمعنى لا يشاركه فيها أحد.
وإن الواحد في جنس المعدود يفتتح به العدد، وإن الأحد يصلح في الكلام في موضع الجحود، والواحد في موضع إثبات.
وأما الوحيد فإنما يوصف به في غالب العرف المنفرد عن أصحابه المنقطع عنهم، فلا ينبغي إطلاقه على اللَّه تعالى (3) -كما في تحفة العباد- (4).
(1) انظر: النهاية لابن الأثير (1/ 287 - 288).
(2)
انظر شأن الدعاء للخطابي (ص 82).
(3)
انظر: النهاية (5/ 159) وشأن الدعاء (ص 82 - 83).
وهذا هو الصحيح فإن أسماء اللَّه وصفاته تعالى توقيفية لا يجوز تسميته بما لم يرد به القرآن والسنة، وذلك أن أسماء اللَّه وصفاته من الأمور الغببية التي لا يمكن لنا أن نعرفها إلا عن طريق الرسل الذين يطلعهم اللَّه على ما شاء من الغيب ثم هم يبلغونه للناس ولا يجوز القياس فيها والإجتهاد. واللَّه أعلم.
القواعد المثلى في صفات اللَّه وأسمائه الحسنى (ص 13، 28).
(4)
تحفة العباد في أدلة الأوراد لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود الحنبلي تقدم التعريف به (1/ 207).
وقال أيضا في الجليل: المستحق لجميع نعوت الجلال والكمال ومعناه منصرف إلى جلال القدر وعظم الشأن وهو الجليل الذي يصغر دونه كل جليل ويتضع معه كل رفيع (1).
وقوله: (المتمدح) نعت للواحد وهو الذي يجب أن يمدح.
قال في القاموس: "مدحه كمنعه مدحًا، ومدحه أحسن الثناء عليه كمدحه، وامتدحه وتمدحه والمدبح والمدحة والأمدوحة ما يمدح به وممدح كمحمد ممدوح جدًا وتمدح تكلف أن يمدح وافتخر"(2).
والمراد أن اللَّه الواحد أسبغ على عباده من النعم ما يرجب المدح. وهو لغة الثناء باللسان على الجميل سواء كان اختياريًا أم اضطراريًا على جهة التعظيم والتبجيل.
وعرفًا ما يدل على اختصاص الممدوح بنوع من الفصائل فهو أعم من الحمد لأن الحمد مختص بكرنه على الجميل الاختياري، يقال: مدحت زيدًا لحسنه، ولا يقال حمدته لأن الحسن ليس باختياري لزيد.
قوله (إلى طبق الدنيا) متعلق بينزل الجبار تعالى وطبق الدنيا أي سماء الدنيا فإن الطبق بفتح الطاء المهملة والموحدة غطاء كل شيء (3).
وفي الحديث: "للَّه مائة رحمة كل رحمة منها كطباق الأرض"(4) -أي كغشائها- (5).
(1) انظر: شأن الدعاء للخطابي (ص 70).
(2)
القاموس (1/ 257)(مدح).
(3)
القاموس (3/ 264)(طبق).
(4)
رواه مسلم في التوبة باب في سعة رحمة اللَّه وأنها سبقت غضبه (4/ 2109)(21) عن سلمان رضي الله عنه بلفظ مختلف.
(5)
النهاية (3/ 113).
وفيه -أيضًا- "حجابه النور لو كشف طبقه لأحرق بسبحات وجهه كل شيء أدركه بصره"(1).
قال في النهاية "الطبق كل غطاء لازم على الشيء"(2) ولا شك أن السماء غطاء للأرض، وكل سماء فهي غطاء لما تحتها.
و (الدنيا): يعني القربية إلى الأرض، يقال دنى دنوا ودناؤه قرب كأدنى. والدنيا نقيض الآخرة.
(يمن) أي يعطي ويحسن إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه (3) ومن أسمائه تعالى المنان وهو المنعم المعطي من المن وهو العطاء لا من المئة وهو من أبنية المبالغة كالسفاك والوهاب.
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدُ أمنُّ علينا من ابن أبي قحافة"(4) يعني الصديق الأعظم رضي الله عنه، أي ما أحدٌ أجودُ بماله وذات يده.
(1) الحديث رواه مسلم في الإيمان رقم (179)، وابن ماجة في المقدمة رقم (195 - 196) عن أبي موسى لكن ليس فيه ذكر "طبقة"؛ وهذه الرواية ذكرها ابن الأثير في النهاية (3/ 113).
(2)
النهاية (3/ 113).
(3)
قال في النهاية (4/ 365): وكثيرًا ما يرد "المن" في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عيه، وكال الخطابي في شأن الدعاء (100 - 101)؛ والمن العطاء لمن لا تستثبه، ومنه قوله تعالى:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب} [ص: 39].
(4)
الحديث رواه البخاري في الصلاة: كتاب الخوخه والممر في المسجد رقم (466) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ورواه كذلك من رواية ابن عباس رضي الله عنهما رقم (467)
وقد يقع المنان على الذي لا يعطي شيئا إلا منة واعتد به على من أعطاه وهو مذموم لأن المنة تفسد الصنيعة (1) وليس هذا مرادًا هنا.
وقوله: (بفضله) متحلق بيمن والفضل ضد النقص وجمعه فضول وقد فضل كنصر وعلم والفضيلة الدرجة الرفيعة في الفضل، وفضله تفضيلًا مزاه وتفضل تمزى أو تطول كأفضل عليه (2).
(فتفرج) أي تكشف وتنشق وتنصدع.
(أبواب) جمع باب وهو فرجة في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج ومن خارج إلى داخل.
(السماء وتفتح) تلك الأبواب لنزول المنح منها والرحمة والمغفرة وصعود العمل والدعاء وإجابته.
وفيه رد على أهل الفلسفة القائلين بأن الأفلاك لا تقبل الخرق ولا الإلتئام، والقرآن مملؤ بخلاف زعمهم الباطل ونهجهم العاطل، فلا التفات لزعمهم، ولا اشتغال بافكهم.
(يقول) الملك الجبار في نزوله إلى سماء الدنيا وتجليه (3):
(ألا) أداة استفتاح أي للعرض والتحضيض، ومعناهما الطلب، لكن العرض طلب بلين كقوله تعالى:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وكذا هو هنا.
(1) النهابة لابن الأثير (4/ 365 - 366).
(2)
القاموس (4/ 31)(فضل).
(3)
في إطلاق الشارح رحمه الله لفظ التجلي هنا نظر فإن التجلي والرؤية، إنما تكون يوم القيامة، وفي الجنة عند رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى، وأما أحاديث النزول فلم يرد فيها لفظ التجلي. واللَّه أعلم.
(مستغفر) أي طالب غفران ذنوبه.
(يلق) مجزوم بحذف الألف في جواب الطب، وفيه ضمير يعود إلى المستغفر.
و (غافرًا) مفعول يلقى والجملة خبر المبتدأ الذي هو مستغفر.
وإلا (مستمنح) أي مستعط يقال منحه كمنعه وضربه أعطاه والاسم: المنحة بالكسر وهو اسم فاعل مبتدأ كمستغفر.
وقوله: (خيرًا) مفعول "مستمنح"(ورزقًا) معطوف عليه.
والخير معروف وجمعه خيور كالمال والخيل والكثير الخير كالخير ككيس والأنثى خيرة بهاء (1).
والرزق: ما ينتفع به المرتزق بحصوله اليه من حلال وهو ما انحلت عنه التبعات، أو حرام وهو ما منع منه شرعًا، إما لصفة في ذاته كالسميات والخمر ومذكى المجوس ونحوهم لأنه في حكم الميتة، وإما لخلل في تحصيله كالربا والغصب ونحو ذلك، فإن كل ذلك رزق لأن اللَّه تعالى يسرقه للحيوان فيتناوله ويتغذى به.
وقالت المعتزلة الحرام ليس برزق، وفسروه تارة بمملوك يأكله المالك، وتارة بما لا يمنع من الانتفاع به، وذلك لا يكون إلا حلالا، فيلزمهم على الأول أن ما تأكله الدواب ليس برزق مع ظاهر قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فيكون مصادمًا للقرآن، لأنه يقتضى أن كل دابة مرزوقة مع عدم ملكيتها، ولا ينفعهم زعمهم أن تسمية ما يأكله الدواب رزقًا مبني على تشبهه
(1) القاموس (2/ 26)(خيرا).
بما هو مملوك الإنسان فيأكله فيكون لفظ الرزق مجازًا عما تأكله الدواب فيلزم ألا تكون كل دابة مرزوقة على سبيل الحقيقة لأنا نقول هذا التأويل مخالفًا لظاهر القرآن وهو خلاف المتعارف في اللغة، فلا يرتكب من غير ضرورة، ثم إن تفسيرهم الرزق بذلك ليس بمطرد، ولا منعكس لدخول ملك اللَّه تعالى، وخروج رزق الدواب والعبيد والأماء، ويلزمهم أيضا على التأويلين أن من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه اللَّه تعالى أصلًا، وهو خلاف الإجماع الحاصل بين الأمة قبل ظهور المعتزلة أن لا رازق إلا اللَّه، وإن استحق العبد الذم واللوم على كل الحرام، والإضافة إلى اللَّه تعالى معتبرة في مفهوم الرزق، وكل أحد مستوف رزق نفسه حلالًا كان أو حرامًا، ولا يتصور أن لا يأكل الإنسان رزقه أو يأكل غير رزقه، لأن ما قدره اللَّه تعالى غذاء الشخص يجب أن يأكله ويمتنع أن يأكل غيره -فعلى كل حال ما ذهب إليه أهل الاعتزال ضرب من المحال (1) واللَّه أعلم.
(1) خلاصة ما ذكره المؤلف -هنا- أن الرزق يشمل الحلال والحرام خلافًا للمعتزلة.
ولابن تيمية رحمه الله تفصيل نفيس ونصه -كما في الفتاوى (8/ 541) وانظر ما بعدها: "والرزق يراد به شيئان: أحدهما بيان ما ينتفع به العبد. والثاني ما يملكه العبد: فالثاني هو المذكور في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} وهذا هو الحلال الذي ملكه اللَّه إياه.
وأما الأول فهو المذكور في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأن نفسا" والعبد قد يأكل الحلال والحرام فهو رزق باعتبار الأول لا الثاني. اتنهى.
وفي تعليق للشيخ عبد اللَّه بابطين ما لفظه: "لا ريب أن ما ذكره المؤلف رحمه الله أولى بالصواب، لكن ينبغي أن يعرف أن رزق اللَّه على نوعين:
أحدهما خاص وهو الرزق الحلال للمؤمنين، وهذا هو الرزق النافع الذي لا تبعة فيه كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
وجواب ألا مستمنح محذوف، دل عليه جواب ألا مستغفر تقديره "يلق ما نحا" وهو اللَّه، ولذا قال (فامنح) أي فمن كان بهذه المثابة وقام في سجف (1) الظلام وصف الأقدام وطلب المنح من الكريم الكلام، فأني أعطه ما طلب وأزيده عما فيه قد رغب.
(روى) مأخوذ من روى الحديث يرويه رواية وترواه بمعنى ذلك وهو راوية للمبالغة، وروى الحبل فتله فارتوى وروى من الماء واللبن ونحوهما بكسر الواو كرضي ريا وريا وروى وتروى وارتوا بمعنى (2).
(ذاك): اسم الإشارة في موضع نصب مفعول روى والمشار إليه النزول المفهوم من قوله، وقل ينزل الجبار.
و (قوم): فاعل روى وهم الجماعة من الرجال والنساء معًا أو الرجال خاصة أو يدخله النساء على التبعبة كذا في القاموس (3).
وقال في النهاية: (4) "القوم في الأصل مصدر قام فوصف به الإنسان ثم غلب على الرجال دون النساء.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن نساني الشيطان شيئًا من صلاتي فليسبح القوم،
= وأما النوع الثاني فهو رزق عام يكون فبه قوام البدن فقط، وإن كان قد يكون فيه تبعة، وهذه هو رزق البهائم، والرزق الحرام ومنه رزق الكفار. . . إلى آخر كلامه.
انظر: لوامع الأنوار (1/ 343).
(1)
السجف: الستر (القاموس. سجف).
(2)
القاموس (4/ 339)(روى).
(3)
القاموس (4/ 169 - 170)(قوم).
(4)
(4/ 124).
ولتصفق النساء" (1) فقابلهن بهم، وسموا بذلك لأنهم قوامون على النساء بالأمور التي ليس للنساء أن يقمن بها (2).
ثم وصف القوم الذين رووا أحاديث النزول بأنهم (لا يرد حديثهم) الذي رووه ولا يطعن في خبرهم الذي ذكروه، وذلك لثقتهم وعدالتهم وحفظهم وضبطهم.
(ألا) صدر كلامه بحرف التنبيه الدال على مضمون الكلام مما له خطر، وبه عنايه ومزيد تهديد وارتكاب ما فيه الوعيد وهو قوله:(خاب) أي خسر وحرم يقال خاب يخيب خيبة حرم وخيبه اللَّه خسر ولم ينل ما طلب وفي المثل: الهيبة خيبة، ويقال أيضًا: خاب خوبا افتقر والخوبة الجرع، وأرض لم تمطر بين ممطورتين، وأرض لا رعي بها (3).
وقوله (قوم) فاعل خاب موصوفون بأنهم (كذبوهم) أي كذبوا أولئك القوم الذين لا يرد حديثهم أي نسبوهم إلى الكذب، وهو ضد الصدق.
و (قبحوا) أي نسبوهم إلى القبح وهو ضد الحسن وقد قبح يقبح فهو قبيح، وإذا قيل قبحه اللَّه فمعناه أبعده ومنه حديث "لا تقبحوا الوجه"(4) أي لا تقولوا قبح اللَّه وجه فلان دكونه بمعنى الإبعاد وقيل لا تنسبوه للقبح ضد الحسن لأن اللَّه صوره وقد أحسن كل شيء خلقه (5).
ومنه قول سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه لمن ذكر أم المؤمنين عائشة الصديقة
(1) رواه أبو داود في سننه رقم (2174) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
النهاية (4/ 124).
(3)
القاموس (1/ 66)(خاب).
(4)
رواه أحمد في المسند (2/ 251، 434) من حديث أبي هريرة.
(5)
النهاية (3/ 4).
رضي اللَّه عنها بسوء "اسكت مقبوحًا مشقوحًا" منبوحًا (1) أي مبعدًا.
إذا علمت ذلك فاسمع الآن رواة حديث النزول فقد أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي وابن ماجة في سننهما عن عائشة الصديقة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب"(2).
وأخرج الإمام أحمد في المسند ومسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن اللَّه تعالى يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الأخير نزل إلى سماء الدنيا فينادي هل (من) مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داع، حتى ينفجر الفجر"(3).
ورواه البخاري ولفظه "ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا".
(1) رواه الترمذي في مناقب عائشة رضي الله عنها رقم (3888) وسيأتي في مناقب عائشة. انظر (2/ 72).
(2)
الحديث رواه أحمد في المسند (6/ 238)، والترمذي رقم (739)، وابن ماجة رقم (1389)، وقال الترمذي: حدبث عائشة لا نعرفه الا من هذا الوجه من حديث الحجاج وسمعت محمد -يعني البخاري يضعف هذا الحديث.
وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة والحجاج بن أرطاة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير. انتهى.
وقد ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1144) وذكر طرفه وشواهده وقال: وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب. . . " انتهى.
وانظر أيضًا حول ما ورد في ليلة النصف من شعبان: رسالة "اسعاف الخلان بما ورد في ليلة النصف من شعبان" للشيخ حماد الأنصاري.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 383)؛ ومسلم في صحيحه (1/ 523) صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (172).
وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فاستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له"(1).
وفي بعضها قال: "ينزل اللَّه عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فاستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر (2).
فوصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ومذهب السلف إجراء ذلك على ما ورد مؤمنين به على طريق الإجمال منزهين له عن الكيفية والمثال.
وقد نقله البيهقي (3) وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين (4)، والحمادين (5)، والأوزاعي (6)، والليث، وغيرهم.
(1) رواه البخاري (13/ 473) في التوحيد باب قول اللَّه {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} ؛ وفى التهجد (3/ 35) باب الدعاء والصلاة من آخر اليل؛ ومسلم رقم (858)؛ ومالك في الموطأ (1/ 214)؛ والترمذي رقم (3498)؛ وأبو داود رقم (1315)؛ وابن ماجة رقم (1366)؛ وأحمد في المسند (2/ 258، 264، 265، 267، 282، 383، 419، 433، 487، 504، 509، 521).
(2)
رواه مسلم رقم (759) عن أبي هريرة.
(3)
انظر الأسماء والصفات (ص 515، 537، 568 - 569) والاعتقاد (118)؛ والسنن الكبرى (3/ 2 - 3)، وانظر فتح الباري (3/ 37، 13/ 417، 418).
(4)
هما سفيان الثوري وسفيان بن عيينة.
(5)
هما حماد بن زيد وحماد بن سلمة.
(6)
الأوزاعي: محمد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي أبو عمرو إمام فقيه ثقة جليل، =
وقدمنا كلام حماد بن زيد لما سئل أيتحول من مكان إلى مكان، فقال: هو على عرشه يقرب من خلقه كيف شاء (1).
قال العلامة ابن حمدان (2) في نهاية المبتدئين: قال التميمي (3) في اعتقاد الإمام أحمد في حديث النزول، ولا يجوز عليه الانتقال، ولا الحلول في الأمكنة (4).
وقال ابن البناء (5) في اعتقاد الإمام أحمد -أيضًا- ولا يقال يعني نزوله تعالى بحركة ولا انتقال (6).
وكذا قال القاضي أبو يعلى (7) وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول إلى السماء الدنيا والعلو، لا على جهة الانتقال والحركة، كما جازت رؤيته وتجلى للجبل لا على وجه الحركة.
وكذا قال الإمام ابن عقيل (8) ليس بنزول زوال ولا انتقال ولا كنزولنا.
= مات سنة سبع وخمسين ومائة.
تقريب (ص 207).
(1)
(1/ 324).
(2)
أحمد بن حمدان بن شبيب تقدم (1/ 153).
(3)
التميمي: عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي: محدث فقيه واعظ مشارك في علوم كثيرة، توفى سنة عشر وأربعمائة.
طبقات الحنابلة رقم (641)، والمنهج الأحمد رقم (632).
(4)
انظر: اعتقاد الإمام أحمد رواية التميمي في طبقات الحنابلة (2/ 296 - 297) باختلاف في الرواية.
(5)
سيذكر له المصنف ترجمة وافية انظر (2/ 107).
(6)
انظر: لوامع الأنوار للشارح (1/ 250).
(7)
تقدم التعريف به (1/ 137).
(8)
تقدم التعريف به (1/ 248).
وقال القاضي أيضًا النزول صفة ذاتية فلا نقول نزوله بانتقال.
وقال سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه أحاديث الصفات تمر كما جاءت من غير بحث عن معانيها وتخالف ما خطر في المخاطر عند سماعها وننفي التشبيه عن اللَّه تعالى، عند ذكرها مع تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان بها، وكل ما يعقل ويتصور فهو تكييف وتشبيه وهو محال "انتهى"
كلام ابن حمدان في نهايته (1).
وذكر الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم في كتابه "الروح": "أن للروح شأنًا آخر غير شأن البدن، قال، وهذا جبريل صلوات اللَّه وسلامه عليه رآه النبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائة جناح منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب (2) وكان يدنوا من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع ركبتيه إلى ركبتيه ويديه على فخذيه (3) وما أظنك يتسع بطانك (4) أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو بمستقره، وقد دنا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له، وأهلت لمعرفته، ومن لم يتسع بطانه لهذا فهو ضيق أن يتسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى
(1) انظر: لوامع الأنوار (1/ 250) وانظر معتقد الإمام أحمد رواية التميمي في طبقات الحنابلة (2/ 307) مع اختلاف في الرواية.
(2)
رواه أحدد في المسند (1/ 39) والبخاري في صحيحه (6/ 360 - 361) رقم (3332) وفي (8/ 476 - 477) رقم (4856 - 4858)؛ ومسلم رقم (174) والنسائي في تفسيره (2/ 349 - 350) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم في الإيمان من صحيحه رقم (1) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4)
البطان: حزام يشد على البطن، ويقال فلان عريض البطان: أي رخي البال. المعجم الوسيط (1/ 62)(بطن) ومعناه يسع صدرك لمثل هذا الكلام. والمقصود المنكرين لأحاديت الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم.
سماء الدنيا كل ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه ليس نوقه شيء البته، بل هو العالي على كل شيء، وعلوه من لوازم ذاته، وكذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف (1).
وكذا مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه (2) واشراق الأرض بنوره (3).
وكذلك كلما ورد من هذا الباب فهو حق وصدق وهو فوق سمواته على عرشه" (4).
قال العلامة الطرفي (5) في "قواعد وجوب الاستقامة والاعتدال: والمشهور عند أصحاب الإمام أحمد رضي الله عنه أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة كالمجيء والأتيان والنزول والهبوط والدنو والتدلي كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف الصالح، وكلام السلف في هذا الباب يدل على أنبات المعنى المتنازع فيه.
(1) دنوه تعالى من أهل عرفة أخرجه مسلم في صحيحه في الحج (436)(13489) والنسائي في المناسك (5/ 202) وابن ماجة في المناسك رقم (56)(3014) كلهم عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].
(3)
كما قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69].
(4)
انظر: الروح لاين القيم (ص 140 - 141) وكتب هنا في هامش "ظ" لهذه المقالة قف وتأمل.
(5)
الطرفي: سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الصرصري الطرفي ثم البغدادي الفقيه الأصولي المتفش نجم الدين أبو الربيع ولد سنة 657 بطوف قرية ببغداد، قدم الشام فسكنها مدة ثم أقام بمصر مدة واشتغل في الفنون وشارك في العلوم.
وكان قوي الحافظة شديد الذكاء، وكان مقتصدًا ش لباسه وأحواله متقللًا من الدنيا، توفى سنة 716 هـ.
ذيل طبقات الحنابلة (2/ 366)؛ والدرر الكامنة (2/ 249)؛ وشذرات الذهب (6/ 39 - 40).
قال الأوزاعي (1) لما سئل عن حديث النزول (يفعل ما يشاء)(2) وحكى كلام حماد بن زيد المتقدم (3).
وذكر كلام إسحق بن راهويه وابن المبارك وغيرهم من السلف (4).
وقال أهل التأويل العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره بنفسه كما يقولون: كتب الأمير إلى فلان وقطع يد اللص وضربه وهو لم يباشر شيئًا من ذلك بنفسه ولهذا احتيج للتأكيد فيقولون جاء زيد نفسه، وفعل كذا بنفسه وتقول العرب: أنت ضربت زيدًا لمن لم يضربه ولم يأمر بضربه، إذا كان قد رضى بذلك، قال تعالى:{. . فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: 91] والمخاطبون بهذا لم كقتلوهم، لكنهم لما رضوا بذلك ووالوا القتلة نسب الفعل إليهم، والمعنى هنا -أن اللَّه تعالى يأمر ملكا بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره تعالى.
وقال بعضهم: إن قوله ينزل راجع إلى فعله، لا إلى ذاته المقدسة، فإن النزول كما يكون في الذوات يكون في المعانى والحاصل أن تأويله على وجهين، إما بأن المراد بنزل أمره، أو الملك بأمره، وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين، والإجابة لهم ونحو ذلك كما يقال، نزل البائع في سلعته إذا قارب المشتري بعد مباعدته وأمكنه منها بعد منعه، والمعنى هنا أن العبد في هذا الوقت أقرب إلى رحمة اللَّه منه في غيره من الأوقات، وأنه تعالى يقبل عليهم بالتحنن والعطف في هذا الوقت بما
(1) تقدم (1/ 340).
(2)
انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية (41 - 42)؛ وفتح الباري (3/ 37)(13/ 417 - 418).
(3)
(1/ 324).
(4)
انظر: أقاويل الثقات (ص 200)، ولوامع الأنوار (1/ 243).
يلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكر الباعثين لهم على الطاعة.
وقد حكى ابن فورك (1) أن بعض المشايخ ضبط رواية البخاري بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكًا (2).
ويقويه ما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى"(3).
(1) تقدم التعريف له (1/ 185).
(2)
في تأويل مشكل الحديث لابن فررك (ص 100)، ونقله في الفتح (3/ 37).
(3)
رواه النسائي في عمل اليوم والليلة رقم (482) من طريق إبراهيم بن يعقوب عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي مسلم الأغر، قال: سمعت أبا هريرة، وأبا سعيد يقولان. . . وذكر الحديث.
قال الشيخ شعيب الأرناؤط في تخريجه لهذا الحديث في أقاويل الثقات (ص 205): "ورجال هذا السند ثقات رجال الشيخين خلا إبراهيم بن يعقوب وهو ثقة حافظ إلا أنه منكر بهذا السياق ويغلب على الظن أن الخطأ فيه جاء من حفص بن غياث فإنه قد تغير حفظه قليلا بآخره (كما في التقريب) وخالفه غير واحد من الثقات مثل شعبة بن الحجاج ومنصور بن المعتمر، وفضيل بن غزوان الكوفي، ومعمر راشد فرووه بلفظ، "إن اللَّه عز رجل يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر، قال: وقد فصل القول الشيخ ناصر الألباني في توهية رواية حفص بن غياث وتخريج رواية الذين خالفوه "في ضعيفته" برقم (3897) انتهى.
قلت: وقال الألباني في تخريج أصل الحديث في (الإرواء رقم 450) رواه النسائي بلفظ منكر ليس فيه ذكر النزول، ولا نسبة للقول المذكور إلى اللَّه تعالى، كما بينه في الضعيفة رقم (3897).
قال القرطبي: صححه أبو محمد عبد الحق (1) قال: وهذا يدفع الإشكال ويزيل كل احتمال، والسنة يفسر بعضها بعضا وكذلك الآيات قال: ولا سبيل إلى حمله على صفات الذات المقدسة فإن الحديث فيه التصريح بتجدد النزول واختصاصه ببعض الأوقات والساعات وصفات الرب يجب اتصافها بالقدم وتنزيهها عن الحدوث والتجدد بالزمان وقد قيل كلما لم يكن فكان أو لم يثبت فثبت من أوصافه تعالى فهو من قبيل صفة الأفعال.
فعلى هذا النزول والاستواء من صفات الأفعال (2) -واللَّه تعالى أعلم.
(1) عبد الحق: تقدم (1/ 243).
وانظر التذكرة للقرطبي (1/ 328).
(2)
أشار الحافظ في الفتح (3/ 37) إلى هذه التأويلات باختصار، وذكرها مرعي بن يوسف الكرمي في أقاويل الثقات (ص 203 - 205) والشارح في لوامع الأنوار (1/ 248 - 249).
قلت: ولا يخفى ما في هذه التأويلات من البعد مع مصادمتها للنصوص الصريحة والأخبار الواضحة في نزول الرب تبارك وتعالى، والتي لا تقبل التأويل.
قال ابن تيمية رحمه الله في شرح حديث النزول ما ملخصه:
"نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا في كل لية استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق سلف الأمة وأئمتها وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول والنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك علانية وبلغه الأمة تبليغًا عامًا لم يخص به أحد دون أحد، وكانت الصحابة والتابعون تذكره وتأثره وتبلغه وترويه في المجالس الخاصة والعامة وهو في جميع كتب أهل الإسلام كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود، وأمثال ذلك من كتب المسلمين. . . إلى أن قال: فإن قلت الذي ينزل ملك قبل هذا باطل من وجوه: منها أن الملائكة. لا تزال تنزل بالليل والنهار إلى الأرض -وذكر أحاديث متضمنة لذلك.
ثم قال الوجه الثاني أنه قال: "من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له، وهذه العبارة لا يجوز أن يقولها ملك غير اللَّه، فالملك إذا نادى عن اللَّه لا يتكلم بصيغة المخاطب، بل يقول =
وقد علم مذهب السلف، وأنه الإيمان بما ورد من غير تكييف ولا حد -واللَّه الموفق (1).
=: إن اللَّه أمر بكذا وقال كذا. . . إلى أن قال: ولا يمكن أن يقول الملك بـ "لا أسأل عن عبادي غيري".
كما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما وسنده صحيح.
وأما الحديث الذي احتجوا به "ثم يأمر مناديا. . . إلخ فقال إن كان هذا ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرب يقول ذلك ويأمر مناديًا بذلك لا أن المنادي يقول من يدعوني فأستجيب له، ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنه مع أنه خلاف اللفظ المستفيض المتواتر الذي نقلته الأمة خلفًا عن سلف فاسد في المعقول. يعلم أنه من كذب بعض المبتدعين كما روى بعضهم (ينزل) بالضم) وكما قرأ بعضهم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، ونحو ذلك من تحريفهما للفظ والمعنى. انتهى.
انظر شرح حديث النزول (5، 35، 37، 46)، وانظر تعليق الشيخ عبد اللَّه بابطين في حاشية لوامع الأنوار للشارح (1/ 248 - 250) وانظر هذه التأويلات والجواب عنها في "أبطال التأويلات لأخبار الصفات" لأبي يعلى (1/ 262) وما بعدها.
وقال ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود: "فإن قيل كيف تصنعون بما رواه النسائي -وساق رواية النسائي هذه؟ قلنا: وأي منافاة بين هذا وبين قوله "ينزل ربنا فيقول" وهل يسوغ أن يقال إن المنادي يقول: أنا الملك" ويقول: "لا أسأل عن عبادي غيري" ويقول: "من يستغفرني فأغفر له؟ " وأي بعد في أن يأمر مناديًا ينادي" هل من سائل فيستجاب له"، ثم يقول هو سبحانه:"من يسألني فاستجب له؟ " وهل هذا إلا أبلغ في الكرم والإحسان: أن يأمر مناديه يقول: ذلك ويقوله سبحانه بنفسه؟ وتتصادق الروايات كلها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا نصدق بعضها ونكذب ما هو أصح منه وباللَّه التوفيق.
تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (7/ 126 - 127).
(1)
كتب هنا في هامش "ظ" بلغ مقابلة.