المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌روضة الأطفال للأستاذ: رشاد الأسطواني كان الآباء والأمهات والمعلون والمعلمات - إلى - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٢

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌روضة الأطفال للأستاذ: رشاد الأسطواني كان الآباء والأمهات والمعلون والمعلمات - إلى

‌روضة الأطفال

للأستاذ: رشاد الأسطواني

كان الآباء والأمهات والمعلون والمعلمات - إلى عهد قريب - يعتقدون أن الغاية من تربية الأطفال هي شحن أدمغتهم بالحقائق التي يفرض عليهم خزنها واستظهارها.

مع أن السر في تقدم الأمم هو العناية بأمر تربية النشء تربية صحيحة مبنية على طبيعة الطفولة ومعرفة ما تحتاج إليه للوصول إلى نموها العقلي والخلقي والجسمي بطريق التشويق كي يتمكن الطفل في المستقبل أن ينمو ويعيش ويحيا حياة كاملة.

إن هذه الحقيقة دعت المربين روسو وباستالوتزي وفروبل وغيرهم أن يتطلبوا إتباع الحكمة في معاملة الأطفال وتعليمهم بطرق ترغيبية لا ترهيبية كيلا يسأموا العلم من أول نشأتهم ويحاولوا الابتعاد عن المدرسة والتجافي عن المعلمين. وعلى هذه المبادئ أسست رياض الأطفال في العالم المتمدين.

كانت سورية مفتقرة إلى رياض الأطفال وخالية منها تقريباً، إلا أن وزارة المعارف وجدت الحاجة ملحة إلى أن تعنى بهذا النوع من المدارس لأن الطفل اليوم غير طفل الأمس ولأن مطالبه ورغباته، فأحدثت منذ سنتين في دمشق روضة سمتها بـ زهرة الأطفال.

وإليك لمحة بسيطة عن روضة الأطفال بعد زيارة قصيرة قمت بها مع مفتشة المعارف الآنسة صبرية يحيى التي نشكر لها وللقائمات على الروضة معونتهن الصادقة في إخراج هذا المقال.

دخلت بهو المدرسة، فأعجبت بالصور المعلقة على جدرانه والتي تمثل الطبيعة وما فيها من مظاهر ساحرة، من حيوان ونبات، تدل على الذوق السليم والفن الجميل.

وكان الأطفال وقتئذ معتصمين في البهو من شدة البرد، يلهون ويمرحون ويقفزون ومنهم من يحاكي القطار في مشيته، ومنهم من يحاكي الحصان وسائقه، ومنهم من يلتهم قطعة من الحلوى، أو الشوكولاته، ومنهم من يقلب دميته بين يديه. والمعلمة منخرطة في زمرتهم، تشاركهم في ألعابهم وأعمالهم، تشجع ضعيفهم، وتنشط قويهم برقة وعطف ورحابة صدر، فحياة الطفل هذه بين أقرانه ومعلمته تكسبه فوائد جمة، إذ تتربى فيه العواطف الاجتماعية، ويتعود ضبط النفس وإنكار الذات، وينشأ على احترام ما لغيره من حقوق. فهو ليس في

ص: 57

مدرسة؟ بل في حياة عامة نشيطة، موافقة لميوله.

ولما حان وقت الدرس، قرع الجرس، فاصطف الأطفال وبعد التفتيش على نظافة ثيابهم وأجسامهم وأسنانهم وأظافرهم، عزفت إحدى المعلمات على البيانو النشيد السوري ورافقها الأطفال في الإنشاد بأصوات ملائكية وألحان شجية أعقب بتحية الروضة فالدخول إلى الحجر الجميلة، الواسعة النظيفة التي يتخللها النور والهواء والشمس من كل جانب، ويتناسب لون أثاثها مع لون جدرانها وما فيها من صور ورسوم، ولا تخلو من أزهار جميلة بديعة التنسيق. فالروضة تربي في الطفل حب الجمال وتقديره والإعجاب به من حيث لا يشعر.

دخلت والمفتشة حجرة الأطفال الذين تتراوح أسنانهم بين الثالثة والرابعة، فوجدتهم جالسين على كراسيهم الصغيرة وراء مناضدهم المناسبة لقاماتهم. والمعلمة واقفة بينهم تستميل انتباههم لتلقي عليهم حكاية إطاعة الوالدين ولما تم لها الأمر بإلزامه السكوت، ابتدأت تقص عليهم بصوت متغير، ممزوج بالعذوبة، ومملوء بالروح والنشاط، مع مجاراة سويتهم بالحركات والأقوال، والاستعانة بالرسوم تسهيلاً لرسوخ الحكاية في دائرة مخيلتهم.

لقد وجد الأطفال لذة عظيمة في سماع هذه الحكاية، ودخل السرور قلوبهم وكادو يسحرون وينسون كل شيء، كما كدت أسحر معهم لأن وقع الحكايات في التربية لا يعرفها إلا من ذاق حلاوتها، وعاشر الأطفال أنفسهم ورأى ما يخامرهم من السرور والفرح عند سماع الحكاية. فالحكاية تضيف شيئاً من القوة الحيوية إلى روح الأطفال. وتكسبهم تمريناً مفيداً لقواهم النفسية، وتفتح أمامهم باباً لإحساساتهم الخيالية، وتقوي رابطة المحبة بينهم وبين معلماتهم، وتتخذ وسيلة للحصول على أغراض شتة في التربية قد لا يمكن الوصول إليها بغيرها.

ثم انتقلنا إلى حجرة ثانية، فيها أطفال بين الرابعة والخامسة، يتعلمون القراءة. ولكن كيف يتعلمونها؟

إن الطفل ميال إلى حب اللعب بالأشياء اللينة القابلة للتحول إلى أي شكل في وقت قصير مثل العجين، ويجد لذة عظيمة عندما يعمل بيديه. فقد وضعت المعلمة بين يدي كل طفل قطعة من المعجونة يشكل منها الصوت الحرف الذي تطلبه منه. وكان يزداد حب الطفل

ص: 58

إلى قطعة المعجونة كلما طلب إليه تحويلها وتغييرها، فهو يفكر أنه يلعب، ولكنه في الحقيقة يقرأ ويكتب ويرسم، ويتعود الطلاقة في التعبير، والاعتماد على النفس، والإقبال على العمل بهمة ونشاط أثناء اللعب.

ثم انتقلنا إلى غرفة علق الأطفال فيها معاطفهم، ومنها إلى حديقة مرتبة، منظمة، حاوية على أزهار مختلف الفصول وعلى أشجار منوعة يستطيع الأطفال أن يستظلوا بها ويلعبوا تحتها. . فالطفل يوجه نظرة إلى الجميل حتى في الحديقة كما يتعلم آداب المائدة في غرفة الطعام التي لم تقل العناية بها عن العناية ببقية الحجر من حيث الأثاث واللون والرسوم.

وفي الروضة أيضاً أصونة كثيرة تحوي ألعاباً تكوينية منوعة توضع بين أيدي الأطفال وقت الحاجة، وجميع الوسائل التي لها علاقة بتربية أعضاء الحواس عند الطفل حتى تكون أنواع الإحساس التي تصل إلى النفس صحيحة صالحة لأن تكون أساساً للمعلومات.

فروضة الأطفال هذه تربي الطفل جسمياً وعقليا وخلقيا واجتماعيا وجماليا بطريقة ظاهرها لهو ولعب وباطنها عمل وجد. رأيت فيها حركة مستمرة، تدل على عمل منتج مثمر، ونشاط دائب، وتعاون ظاهر، وتقدم محسوس، ونجاح باهر.

لقد ذكرتني بأيام طفولتي، وبالسجن (المدرسة) الذي كنت أدخله صباحاً مكرهاً وأخرج منه مساءً فرحاً، لأنه كان يحصر فيه عقلي، وتكبل يدي، ويقيد جسمي. ذكرتني بالظلم الذي كنت أقاسيه، والعصا الغليظة التي كانت تنهال علي، والكلمات النابية التي كنت أسمعها من معلمي، والحقائق من المعلومات التي كانت تملى علي. فتألمت! ولكن سرعان ما ذهب الألم لما تذكرت أن ابني في الروضة يرتع ويمرح وكأنه يثأر لطفولة أبيه التي قضاها في الظلام في مدرسة تسير سيراً مطرداً في سبيل النجاح، وتتقدم تقدماً مستمراً لبلوغ أسمى الغايات.

فعسى أن تهتم وزارة المعارف بتعميم رياض الأطفال وتغذيتها بالعناية وبالمال وبالأثاث وتهيئة الوسائل الحديثة التي تفتقر إليها هذه المؤسسات الحيوية النافعة، وتنشئ عدداً كبيراً منها في جميع أنحاء الوطن ليتمتع أبن الفقير بما يتمتع به أبن الغني.

فرياض الأطفال ترعى الأحداث الرعاية التامة، وتدير شؤونهم في السنوات الأولى من حياتهم، وتؤهلهم للحياة في المدارس الابتدائية، ولا سبيل إلى إصلاح المدارس إلا بتأسيس

ص: 59

رياض للأطفال وتربيتهم تربية تلائم طبائعهم وتوافق غرائزهم.

رشاد الاسطواني

ص: 60