الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفسيّة مراهق
للدكتور: جميل محفوظ
تجتاح البلاد أزمات كثيرة، مختلفة الأسباب، متباينة الجوهر، يحاول المخلصون من أبناء هذه الأمة على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم حلها كل حسب مهنته واختصاصه ونشاطه، ومن المشاكل التي استعصى حلها هي مشكلة - المراهقة - ونحن في دراستنا هذه نحاول معالجة المظاهر المختلفة لهذه الفترة من الحياة بصورة موضوعية، مبتعدين عن استحسان أو نقد، وغايتنا من هذه الدراسة:
1 -
معرفة طبيعة ونفسية من يمر بهذه المرحلة الصعبة من الحياة كي نتقدم إليه بتربية حكيمة، نتلاءم وروحه الثائرة، وتساعده في نموه الطبيعي عوضا عن معاكسته وقتل مواهبه إذا جهلنا ما انطوت عليه نفسه.
2 -
توجيه أنظار المربين، والآباء، وقادة فرق الشباب، إلى ضرورة المراهقين والعناية بهم عناية خاصة.
لقد كثرت دراسة نفسيات المراهقين منذ الحرب العالمية الأولى وبصورة خاصة قبيل الحرب الأخيرة، لن الشباب هو ركن متين في تشييد كيان الأمم. وعلى سواعده تبنى سيادتها وقواتها، أما المماليك التي ساهمت في هذه الدراسات وكثرت عنايتها بمنظمات الشباب فهي: أمريكا وفرنسا وايطاليا وسويسرا وألمانيا وإنكلترا ولا شك بأن عظمة الأمم وحيوتها تتجلى بروح النظام السائدة والاندفاع الموجه نحو غايات سليمة.
إن كثرة هذه الدراسات في البلاد الغربية أتت بنتائج طيبة، وعلى أساسها نظمت البرامج الدراسية، وعولجت الأمراض، وقام أولو الأمر بتشكيلات تتماشى مع روح الشباب فساعدتهم في نموهم الجسمي والعقلي، وبالمقابل فقد استفادت من قواهم الكامنة واستخدامها في الأعمال العامة.
أما نحن فإننا لا نزال في طور التجارب والتخمين إذ لم يتقدم علماؤنا بدراسة من هذا النوع، ولم يستند المسؤلون في تنظيم شبابنا حينما حاولوا ذلك على المبادئ العلمية التي عرفت وأصبحت نورا يقتبس منه من يرغب في الإصلاح وإن لم تكن ثابتة نهائيا.
وسأحاول فيما يأتي معالجة نفسية الشباب وإظهار مدى الفوائد تجنيها البلاد إذا اهتمت بهم
الاهتمام اللازم، ولا داعي وصف نفسية المراهق، في هذا البحث بصورة دقيقة، ومعرفة خفاياها، إنما أرغب على الأقل أظهار بعض صفات بارزة خاصة بهذه المرحلة من النمو.
ولنحدد قبل البدء بالبحث سن المراهقة: لقد اختلفت آراء العلماء في تحديدها كماً ولم يختلفوا في تحديدها كيفياً. فهي فترة الأزمة في الميل إلى الغريب - تبدأ هذه الأزمة منذ البلوغ أي بعد انتهاء سن الطفولة وتضمحل حوالي الثامنة عشرة إلى الحادي والعشرين أي مع ابتداء سن الرشد، وهي اضطرابات نفسية تنتج عن تغير عميق في الحيلة العقلية، تزول حينما يتمكن المراهق من التكيف مع المحيط.
تطول مدتها أو تقصر بالنظر للأشخاص وطرز حياتهم، تقصر مدتها لدى الفتيان الذين يدخلون معترك تدفعهم الحياة بصورة مبكرة، تدفعهم إلى ذلك حاجة ماسة (كسب الرزق مثلاً). وتطول مدتها حينما يمدد الطالب أيام دراسته. ومع ذلك فإن كل اضطراب يزول منهما امتدت الأزمة.
تبدأ الأزمة مع تكون الوظيفة التناسلية فتنقبض النفس انقباضا عذباً ويتطلع المراهق إلى المستقبل. تتفتح آفاق الثقافة والحياة الاجتماعية، وتزيد الحساسية التناسلية وتتكامل في سكون تأملي يرافقه تفكير ساذج. يتولد لديه ذوق في الأحلام، والحياة الشاعرة، التجرد، ويصبح إحساساً لدرجة مرضية.
ظهور الأزمة وتطورها
يمكن تحديد ظهور الأزمة في سن / 15 / عند الشباب و / 14 / عند الفتيات. ولقد دلت أجوبة الشباب وما سجلوه في مذكراتهم وذكريات الراشدين بعد مرورهم بمرحلة المراهقة على حقيقة ما ذكرناه. وهناك حالات شاذة، إذ تظهر الأزمة متأخرة حوالي (16 - 18) أو متقدمة حوالي (11) وتظهر إذن مع البلوغ ونطلق عليها اسم - البلوغ العقلي أو الروحي. فالمراهقة تبدو لنا على شكلين أولهما فيزيولوجي، أي تكامل الوظائف التناسلية والثاني نفسي وعناصره هي ظهور الشخصية، والميول الاجتماعية واكتشاف القيم الروحية.
ولا شك بأن البلوغ النفسي هي تكوين للإنسان، وليس للأزمة من ضرورة إذا لم تظهر الشخصية والشعور بالذات. إن احتكاك المتبادل بين الأفراد وملاحظة الواحد الآخر والحب والنفور، والخوف أو الرضى كلها عوامل في تكوين البلوغ الروحي، ولا تكون هذه
الأزمة، إلا صورة خاصة وضرورية لهذه المرحلة من الحياة.
أما انبثاق هذه الأزمة الفجائية فترجع إلى أسباب متباينة، منها المهم ومنها التافه:
موت شخص عزيز أو بعده أو تغير فجائي في الحياة أو خيبة أمل، أو إخفاق في فحص، أو حب مخذول، أو ملاحظة أستاذ، أو نزهة في الهواء الطلق والحقول.
إن تحديد ظهور الأزمة وإرجاعها إلى أسباب يفيدنا في معرفة الزمن الذي انفجرت به وأصبحت مرئية ظاهرة. غير أن الأسباب الجوهرية هي أعمق وأبعد من أن تكون ظاهرة عرضية، فهي اضطرابات نفسية سابقة وداخلية. وعندما تصادف المراهق صعوبة ما وصدمة تنفجر نفسه بصورة فجائية وعنيفة عن أزمة غريبة. .
كتب شاتوبريان في مذكراته بأن المرء ينام طفلاً ويستيقظ رجلاً. لا شك في ذلك، إذ أن الأزمة تنمو بصورة خفية قبل بزوغها يدعمها شعور ذاتي ضعيف يستولي بصورة تدريجية على ساحة الشعور، ويهز كوامن النفس العميقة والمستترة وحينذاك يسمح لنا بالكلام عن أزمة حقيقية. وما قول نيتش بأنها تتولد أنياً إلا محض وهم يتصوره تفكير الراشد الذي ابتعد عن حياة المراهقة.
ويمكننا أن نجمع الأشكال المختلفة التي تظهر بها الأزمة بفكرتين أساسيتين:
- الرغبة في إدهاش الغير - الشعور بالذات وتكوين الشخصية.
أما الميل إلى إدهاش الناس فإنه يظهر بين 14 و 16 سنة. يختلف المراهق في تفكيره عن غيره ويتكلم لغة خاصة فيها تعابير مصطنعة تعجب من حوله. وبعد انتهاء هذه المرحلة تبدأ مرحلة التثقيف الذاتي وهي سن الرجوع إلى النفس، والخلوة، حيث يكتشف المراهقون والمراهقات، وهم معجبون، تلك الثروة الفكرية الثمينة التي يملكونها.
تتلاشى الأزمة رويداً رويداً حوالي التاسعة عشرة حتى الواحدة والعشرين، ليحل محلها توازن جديد، ويرجع المراهق على الحال الطبيعي.
ثم قوي، ولا تظهر الرغبة الأولية على شكل حب في الانفراد فحسب بل هي هوىّ ننتقل بعد إن تكلمنا عن الناحية الذاتية للازمة إلى ما يرافقها من ثورة ضد كل من يقف عثرة في سبيل تكوين الشخصية أي ضد البيئة وهذا ما نسميه الشكل الاجتماعي، يقابله الشكل الفردي.
إن دراسة الأزمة من الناحية الاجتماعية ضروري لاسيما وأن كثيرا من المراهقين يكبتون عواطفهم الفردية، ولولا ثورتهم ضد التقاليد الاجتماعية وحنقهم على المجتمع لظنَ بأنهم هادئون، رغم الأزمة التي تقض مضاجعهم.
ثورة الشباب
تظهر بعد علائم الثورة في نهاية مرحلة الطفولة وعلى عتبة مرحلة المراهقة.
فترى مظاهر الغضب تطغي على سلوك الولد الهادئ الساكن، يجيب بلهجة تهجمية قاسية على حديثنا مهما كان هادئا، ن وتثور حفيظته بدون سبب، ويتألم لأمر يتلقاه من أستاذه أو أهله، ويظن بأنها أمور لا يمكن تحملها، لا يرضى عن حديث والده المملوء بالحنوّ كي لا يعامل كطفل، بينما هو شاب ذو شخصية وكيان.
ينفرد بنفسه ويلتزم الصمت فيتخيل للراشد بأن المراهق كثير الاحترام بينما هو ساخر حانق على كل ما يتراءى له قوة وضغطا أي حانق على والديه وأساتذته.
ولا ينتبه إلى النصائح إلا بغية التخلص بسرعة ممن ينصحه، ويعكف على نفسه ضاربا بما سمع عرض الحائط.
إن الأشكال التي يظهر بها هذا العصيان هي: ثورة ضد العائلة، والمدرسة، والطقوس الدينية، والحكومة، والبلدة، والتقاليد، وبصورة خاصة ضد الحياة الاجتماعية، هي مقاومة سلبية. وتختلف حسب الأفراد وحسب أعمارهم. نجد إذن عند المراهق هذا الشعور الحانق ضد الضغط والميل نحو الحرية لدرجة المبالغة والسرور في مقاومة الراشد فهم غريبون عن هذا المجتمع الذي لا يعرفونه جيدا وهم ثائرون.
الثورة ضد العائلة
لقد بين العلماء - وكابو - شدة الثورة على العائلة بأمثلة نذكر منها ما يلي:
كتبت فتاة في مذكراتها: إن والدي قاسيان جداً، أشعر بخوف غريزي نحو والدي، وإنني لا أجرا على الاقتراب منه، أما والدتي فهي طيبة غير أنها لا تفهمني، تعاملني كطفلة.
وكتبت أخرى: كنت أشعر في سن / 12 إلى 15 سنة / بأنه لا يوجد شيء في العالم لا يمكني معرفته، أما محاكمتي فهي أفضل من محاكمة والدتي، كنت ثائرة، وقد تؤدي هذه المشاحنة بين الفتيان أو الفتيات وأهلهن إلى الهرب من الدار. .
ولقد لوحظ بأن الهرب يكون غالبا لدى المراهقين في سن الأزمة.
عدد لانكاستر أمثلة كثيرة عن الفتيان الأميركيين الذين كانوا يشعرون بنقص في الهواء في دورهم ويرون ضرورة تركها.
وهناك عوامل مختلفة تسبب هذا الهرب يمكن أن نذكر منها بعض الحالات، كهرب ناتج عن صدمة عاطفية ولدت هذا الميل إلى الابتعاد عن العائلة وعن الناس أجمع. وهذا ما يشاهد على أثر اختلاف بين الفرد وعائلته أو عن فضول قوي يدفعه إلى المخاطرة أو عن هيمان عنيف. ومهما كان السبب نرى بان العامل الأول هو رد فعل ناشئ عن ضغط غير محتمل. وهو بادرة يقصد منها الدفاع عن النفس أمام خطر مداهم، فالهرب يكون في سبيل التفتيش عن ملجأ هادئ ساكن.
ويظهر لنا من هذا التحليل السريع بأنه واسطة لبروز الشخصية التي تصمد للغير وتشعر باستقلال ذاتي.
جميل محفوظ