المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الروح . . . في الفلسفة والآداب والفنون الإغريقية للدكتور سليم عادل الحق محافظ - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٢

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌الروح . . . في الفلسفة والآداب والفنون الإغريقية للدكتور سليم عادل الحق محافظ

‌الروح

. . .

في الفلسفة والآداب والفنون الإغريقية

للدكتور سليم عادل الحق

محافظ دار الآثار

ومدرس التاريخ القديم بكلية الآداب

لكلمة (بسيشه) في اللغة الإغريقية معنيان، يدل الأول منهما على الروح أو المبدأ الذي يسير حياة الإنسان والكائنات والعالم، ويشير الثاني إلى نوع من الفراشات التي يجذبها لمعان النور فتحرق أجنحتها على لهيبه. وقد امتزج هذان المفهومان في الفكر الإغريقي منذ أقدم عصور المدنية الهلنية، وهذا ما جعل هوميدوس والفلاسفة الذين عاشوا قبل القرن السادس قبل الميلاد، ينظرون إلى الروح ككائن حي يعيش في جسم الإنسان مدى الحياة. ثم ينفصل عنه بعد الموت ويظل يطوف هائما محلقا فوق مملكة الأحياء حتى تفتح أمامه مملكة الأموات وتضمه نهائيا إليها. ولا يكون ذلك إلا إذا تخلصت الروح من شرائط الحياة الدنيا وتطهرت من أدرانها، وعندها تصبح حرة وتعيش كالإله الذي تنحدر منه.

ولما أتى أفلاطون تمثل كل هذه الآراء وأوضح بمنطقه البارع وظيفة الروح المتوسطة وطبيعتها المركبة. فهي في نظره جني من الجان شبيهة بالحب، ومادتها علوية وآلهية ووظيفتها أن تكفل دوام الحياة وتؤمن سير الصيرورة، ولعرض هذه النظرية لجأ أفلاطون إلى طريقه الفلسفية التي تستخدم للتعبير عن غاياتها عناصر ميثولوجية قصصية فزعم أن الروح تهبط على الأرض وتحل في الجسم الإنساني فتفقد جناحيها اللذين كانا لها عندما كانت من طبيعة الآلهة وذلك لأنها لامست الجسم الفاني، فيتأمن من هذه الملامسة الاتصال بين المحسوس والمجرد وينشأ الحب من هذا الاتحاد وهو ضروري للروح لأنه التعبير الحي عن العاطفة الدينية، على أن طبيعة الروح الآلهية تأبى عليها أن ترضى بانحطاطها الموقت فتوجه أنظارها إلى السماء وتنزع إلى الانطلاق في الفضاء كأنها العصفور على أنها قبل خلاصها من سجنها الأرضي، وقبل استعادتها جناحيها يتحتم عليها أن تتطهر وتنقشف وتكفر عن الأخطاء التي ارتكبتها في حياة الدنيا، ويضيف أفلاطون إلى ذلك في كتابه (فيدر) أن الحب ضروري لها خلال تطهرها وتقشفها، فيجب أن تكتوي بنار الميول

ص: 27

والأهواء، ويلزم أن تتعذب بلذتها الطيبة قبل أن تعود إلى أصل الجمال الآلهي الذي انفصلت عنه، ثم يصفها في هذه المرحلة فيقول عنها أنها متأثرة وقلقة وفريسة لآلام تشبه آلام الطفل الذي يعانيها لدى ظهور أسنانه الأولى، وأخيرا تتحول آلامها إلى اختبارات وتجارب لها، وينقلب الحب البشرى إلى حب آلهي ولا تلبث أن تمتزج به، واجتماعهما هو السعادة التي يحلم بها الناس بعد الموت.

وقد انتشرت هذه الآراء الفلسفية انتشارا كبيرا منذ القرن الرابع ويضيق المقام عن ذكر جميع الإضافات التي أتتها من الفلاسفة ومن المذاهب الفلسفية المتأخرة، ونكتفي بذكر ما زعمه (أرسطو) في نظريته (العقل المفكر) بأن الروح تتصل بالفكر لطبيعتها الخالدة وبما لها من قرابة مع الآلهة، ولكنها تبقى مستقلة أبدا، ويضيف الفلاسفة الرواقيون: إنها تستمر على اتصالها بالقانون العالمي الذي هو الآلهة وأنها تبقى جنياً للحياة الإنسانية.

وفي العصر الهلنستي أصبح شيوع هذا الاعتقاد يعادل شيوع المذاهب الدينية الكبرى ويدل على ذلك قصائد الشاعر (ماليا كر). وقد نشأت بعد ذلك بقليل أسطورة إيروس وبسيشه التي نجملها بما يأتي:

كانت بسيشه أميرة ذات جمال بارع لم لامرأة بشرية أن تمنح مثله فحسدتها أفروديت ربة الجمال وكلفت ابنها (إيروس) آلهة الحب أن يقتص منها. فأوحى إلى أبي بسيشه، وهو ملك، أن يقود ابنته إلى قمة جبل ليفترسها وحش كاسر، وإلا فتنصب على مملكته مصائب ليس له قبل بها. وكان أن نقل بسيشه إلى حيث طلب أن تكون، وجعلت تنتظر على صخرة، خائفة مذعورة، دنو أجلها، حتى شعرت بأن النسيم يحملها إلى قصر فخم البناء أقامت فيه حتى حان الليل، وعندما أوشكت أن تستسلم إلى الكرى، إذا بكائن غريب تلفه الظلمات الدامسة يظهر إليها ويخبرها أنه زوجها الذي قسمته لها الأقدار، ولم تستطع أن ترى وجهه غير أن صوته كان عذبا مكلماته مملوءة بالحنان، وقبل أن ينبلج الفجر اختفى الزائر العجيب بعد أن جعل بسيشه تقسم أنها لن تحاول أن ترى وجهه أبدا.

وتمر الأيام فتألف بسيشه الإقامة في هذا القصر الذي لا ينقصه إلا وجود الذي أصبح زوجها، لأنه لم يكن يأتي إليها إلا في الليالي السوداء الحالكة، وتوشك سعادتها أن تدوم لولا شقيقتها اللتين تريد الأسطورة أن تتصلا بها وتطلعا على حياتها، فيقولان لها إن زوجها

ص: 28

غول شنيع لأنه لا يريها وجهه وما زالتا بها بها حتى جعلتاها تقوم في إحدى الليالي وقد أوى زوجها إلى مضجعها فتشعل مصباحا دون صوت، وتقربه من وجهه، ويا لعجب ما رأت! إنه أجمل وجه في الدنيا وهو وجه إيروس بعينه الذي أغفى وقد ترك أقواسه وجعبته إلى جانب السرير، وعندها لم تعد تملك بسيشه نفسها من الفرح فسقطت من المصباح نقطة زيت على كتف الإله، فهب من نومه مرتاعا وقرّع بسيشه على حنثها بيمينها واختفى فلم تعد تراه.

وتوارى كذلك القصر عن عيني بسيشه ووجدت نفسها على الصخرة التي حملت منها، فلم تستطيع أن تعتاد عل فقدان ما فقدت فألقت نفسها في مياه نهر يجري بالقرب من الجبل، بيد أن المياه حملتها إلى الضفة الثانية برفق زائد، ولما أعيتها الحيل في الموت سارت هائمة على مجهها، وهنا تصبح عرضة لغضب إفروديت فتبلى بمصائب كثيرة كانت تتخلص منها بفضل معاونة (إيروس) السرية لها، وأخيرا توجب عليها الآلهة أن تنزل إلى الجحيم فتكفر عن ذنوبها، ويتأثر زوجها من ندمها لأنه لم يكف عن حبها، فيطير إلى (زوث) ويتضرع إليه أن يعفو عنها وأن يأذن له بالإتحاد بها، فيرضى رب الأرباب ويمنح بسيشه الخلود وننسى أفروديت حقدها ويزف إيروس إلى التي هام بها ويقيم وإياها في الأولمب.

وقد ساهم الفن الإغريقي في إيضاح مفهوم بسيشه وعبر عن كل الأفكار الفلسفية التي نشأت منها أسطورتها بأشكال وألوان جمعت فكانت من أجمل ما تخيلته العبقرية الهلنية، وأول ما مثل كانت النفخة غير المرئية التي تفارق الجسم الإنساني عند الموت فصورت على جذوع الآنية الفخارية المطلية بلون مقتول، ولم يكن شكلها هذا يختلف كثيرا عن أشكال بعض الكائنات الميثولوجية الثانوية كال (سيرين والهاربي) التي كانت تمثل على شكل عصافير لها رؤوس بشرية، ولم تعط بسيشه في الفن غير هذه الصورة حتى حان العهد الهلنسي فجعل الفنانون يمثلون حوادث الأسطورة على أشكال شتى، فكانوا يتصورون على شكل امرأة شاحبة حالمة قلقة، الروح التي نزلت من مستواها الإلهي وأصبحت فريسة للأهواء والنزوات النفسية. وقد افتنوا في التعبير عن هذا الموضوع بأشكال مختلفة، ففي أحد التماثيل الفخارية الصغيرة ترى امرأة شابة لها جمال رائع قد صففت شعرها ورفعته

ص: 29

على صدغيها وجمعته في قمة رأسها، وفي تمثال آخر تشاهد وقد جلست على صخرة وأدارت رأسها ووضعت أحدى ساقيها على الأخرى وسترت جسمها بثوب فضفاض ينزلق قليلا عن كتفيها، وترى أيضا على شكل امرأة واقفة وممسكة بعنقود من العنب أو بثمرة أخرى، وتمثل كذلك بامرأة راكعة متضرعة تمديدها مسترحمة، ويمكن معرفتها في كل الحالات التي ذكرناها من أجنحة الفراشة التي تخرج من كتفيها، وقد صارت أجنحتها تخرج في التماثيل الصغيرة المتأخرة من صدغيها، ويوجد في متحف جنيف خمسة أحجار منقوشة تمثلها على هذا الشكل مع اختلافات بسيطة، كما يوجد حجر آخر منقوش في متحف برلين يمثلها وهي نصف عارية وقد أمسكت بيدها فراشة وألصقتها على يديها.

ولم تلبث هذه المواضيع أن أخذت تغري النحاتين الكبار، ففي متاحف اللوفر والكابتيول وفلورانس ونابولي وبرلين تماثيل كبيرة يرجع تاريخها إلى العهد الروماني تمثل بسيشه وهي حالمة أو متوسلة. وكلها دقيقة الصنع ذات جمال فني باهر يخيل للمتأمل فيها أن (برا كزتيل) المثال العظيم قد منحها كل ما في عبقريته من لطف ورشاقة وكل ما في يديه من افتنان وصنعة. فسماؤها رقيقة ناعمة يغشيها شيء من الكآبة، وأشكال جسمها الفني متناهية في الظروف كان الشباب الذي تطفح به أو شك أو قارب أن يبلغ الدرجة المثلى من إيناعه أضف إلى هذا كله أنها تجبرك على العجاب بلطفها الإلهي وعلى الرثاء لهذه الفتاة الممثلة فيها والتي حكم عليها أن تجتاز المصاعب وتمر في التجارب.

وقد عبر الفن الهلنسي عن انحطاط الروح المؤقت بأشكال وأوضاع تطفح بالنبل. فرمز إلى تجارب الروح بمشاهد تدل على كبر في النفس واقتصاد في التعبير وهدوء في إيضاح العواطف، فأحيانا يمسك (إيروس) بيده اليمنى فراشة ويضع يده اليسرى على صدره، وأحيانا يمثل كيف فتنت الروح بالحب، وليس من مشهد شعري يعدل المشهد الذي يمثله التمثال الصغير المعروف باسم تمثال (ميكار).

إذ يرى فيه (إيروس) وقد وضع على رأسه إكليلا من أوراق النبات وعقد شالا على كتفه الأيمن وأمسك مزمارا وبدا يعزف عليه وهو مستند على سارية إلى جانبها ركيزة فوقها بسيشه بجناحيها المبسوطين ويديها الموضوعتين على صدرها.

ويرمز هذا التمثال إلى عاطفة مركبة ويمثل التقاء الروح بالحب الذي بدأ يغويها بموسيقاه

ص: 30

فجعلت ترقص على نفحاتها الإلهية.

بيد إن التقاء الروح بالحب لا يجري على الأرض دوما على هذا الشكل الشعري فلدينا في متحف دمشق تمثال صغير من الفخار قد تحطم جزء منه، وهو يمثل بسيشه جالسة وشبه عارية وقد وقف (إيروس) إلى جانبها وهو يشد وثاق يديها خلف ظهرها، وقد أحب الفنانون كثيرا موضوع عذاب الروح بالحب فنوعوا فيه، وجعلوه أحيانا مشهدا فاجعا، فأحجار العصر الاسكندري المحفورة ترينا بسيشه موثقة وإيروس يقبض عليها من شعرها، أو أنه يحرقها على لهيب مشعلة، وترى أيضا موثقة إلى عربة يقودها معذبها أو مربوطة على عمود وتحوم حولها فراشة، وقد امسك إيروس بقضيب وهم بأن يجلدها.

ولم يلبث فن نحت التماثيل الكبيرة إن تأثر بهذه المواضيع فجعل يمثل عذاب الروح في أوضاع مسرحية تدل على عواطف العصر الزاخرة، ومتاحف اللوفر واللاتران والفاتيكان وطولوز تحوي نماذج رومانية ترينا بسيشه راكعة ومتوسلة وايروس يدوسها بكبرياء أو يقف بقربها صامتا لا يحير، وهو يخفي ما يجول في خلده ويختلف تعبير ملامحه بين القسوة والرحمة.

وعندما تبلغ آلام الروح والحد الذي يجب أن تبلغه وتطهر على لهيب النار تظهر المعجزة، فيدير معذبها رأسه متألما ويمسح دموعه المنحدرة على خديه. ولا يلبث أن يحيطها بذراعيه فتستسلم إلى مداعباته وقبلاته السماوية.

وعندها تتوصل الروح إلى أن تتأمل الجمال السماوي وجهاً إلى وجه وأن تبلغ السعادة النهائية بامتزاجها مع أجمل وأنبل العواطف التي شعرت بها. ويعبر في الفن عن هذه اللحظة المثلى بشكلي أيروس وبسيشه وهما متعانقان، ويوجد لوحة برونزية عهدها من القرن الثالث قبل الميلاد محفوظة في متحف برلين تمثل (ايروس) على شكل شاب مستند إلى صخرة وإلى يمينه بسيشه وقد لفت ذراعها الأيمن حول عنقه، أما ذراعها الأيسر فتستند به على كشحها، وهي تدير رأسها الذي يحاول أن يمسكه ايروس بيده. فهي تتهرب هنا مما يعرضه عليها من حب وغرام. بيد أنه وجدت تماثيل فخارية في مدينة (ابفيز) القديمة وفي غيرها من مدن آسيا الصغرى يرجع تاريخها إلى القرن الثاني والأول قبل الميلاد، يشاهد فيها الحبيبان معتنقين وتكاد شفاههما تلتصق على الرغم من الحياء الذي ما

ص: 31

برح ينتاب بسيشه.

وسيأخذ هذا المشهد في التماثيل المتأخرة صفة عاطفية مهتاجة فترى بسيشه وهي تضم إليها ايروس وتمنحه القبلة المنتظرة والتي هي السعادة المثلى. ففي حنجور وجد في مدينة منفيس وفي أحجار منحوتة ولوحات وسلسلة من التماثيل المرمرية محفوظة في متاحف الكابيتول ودرسد وفلورنس ولندن ويمثل الحبيبان على شكل شابين أو مراهقين أو طفلين وهما يقبلان بعضهما بشغف لا يوصف.

ويعقب القبلة الزواج، فتري في آثار كثيرة من العصر الاسكندري مناظر حفلة زفافهما وأشهرها دست وجد في الفيوم يشاهد فيه ايروس وبسيشه وهما قائمان في عربة، تمشي أمامهما ربة النصر وهي تحمل طبلاً تضرب عليه، ويرفع الآلة باخوس كأسه الطافح بالخمر ويشرب متمنيا لهما السعادة. وعثر في الاسكندرية على حجر كريم منقوش يظهر فيه مشهد عرس حقيقي. فيظهر الاثنان على شكل طفلين مجنحين وقد لف رأس كل منهما بمنديل. وحملت يداهما زوجاً من الحمام ويمشي أمامهما جني صغير، وإلى طرف المشهد جني ثان يحمل سلة مليئة بالفواكه، وجني ثالث يهيأ سرير الزفاف.

وأختم هذا البحث لوحة حجرية منحوتة نحتا شديد البروز، فيها صنعة دقيقة وأسلوب واقعي ظريف، قد حملت من محافظة اللاذقية إلى متحف دمشق منذ عام ونيف. وهي من نوع اللوحات الحجرية التي كانت تنحت على المدافن القديمة كمدافن روما القديمة في العصر الروماني لتمثيل اتحاد الروح والحب الصوفي، وللرمز إلى خلودها وصعودها إلى السماء بواسطته. وتمثل أربعة مشاهد متعاقبة من أسطورة ايروس وبسيشه، فيرى فيها من اليمين إلى اليسار: أولاً ايروس حزينا قد اتكأ على مسند بذراعه الأيسر، وثانيا ايروس موثق اليدين خلف ظهره وخلفه بسيشه ومرتدية ثوبا ايونيا تنحدر ثنياته كأمواه الشلال، وثالثاً ايروس طليق اليدين وهو يقابل صورته المتقدمة ويكفكف دموعه بطرف رداءه الذي يستر نصفه العلوي فقط ووراءه بسيشه منحنية قليلا إلى الأمام تستعطفه وقد انكشف نصفها العلوي وتجمع ثوبها حول كشحيها، ورابعا ايروس وبسيشه واقفين جنبا إلى جنب كأنهما قد التقيا بعد طول فراق.

وهي مصنوعة من المرمر الذي استحال لونه الأبيض من لفح الشمس إلى لون وردي

ص: 32

جميل وهي ناقصة من الجهة اليسرى ومشوهة قليلا في بعض أجزائها، على أنها من أجمل الآثار التي وصلت إلينا من القرن الثاني أو الثالث الميلادي.

سليم عادل عبد الحق

ص: 33