المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التربية الروحية للأستاذ: محمد المبارك إن وظيفة التربية أن تخدم المجتمع بأن - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٢

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌التربية الروحية للأستاذ: محمد المبارك إن وظيفة التربية أن تخدم المجتمع بأن

‌التربية الروحية

للأستاذ: محمد المبارك

إن وظيفة التربية أن تخدم المجتمع بأن تهيئ له الأفراد القادرين بتعاونهم المنسجم أن ينتجوا أكبر إنتاج معنوي (خلقي، فكري) ومادي.

يدأب المربي على تهيئة هذه المادة الأولية الحية للمجتمع فيعمل على تنمية ما غرس الله في الإنسان من ملكات ومواهب ويعنى بها جميعا ويعمل على تقوية الميول والاستعدادات الصالحة وتوجيهها وجهة نافعة.

1) فهو يعنى بالناحية الجسمية من تلاميذه ويراقب نموهم الطبيعي ثم يسعى بالتعاون مع الأسرة لتقوية أجسامهم وتنشيطها وتهيئتها - قدر استطاعتها الأصلية، الموروثة - لخدمة العملية القوية ولتحمل أنواع النشاط العقلي الذي يكون الجسم إطارا له وركيزة يستند إليها.

2) وهو يعنى بعد هذا بسائر ملكات التلميذ فيقوي فيه الملاحظة الدقيقة والذاكرة والخيال حتى يصل به إلى قوة الاستنتاج والاستنباط ثم إلى القدرة على الإبداع الفكري والفني.

3) ويتوجه المربي في الوقت نفسه بهمة قوية دقيقة إلى تكوين شخصية تلمذة الخلقية وتنمية الاستعدادات الطيبة والميول الصالحة، بل وبعثها وإيجادها فيوجد فيه مثلا روح التعاون مع الجماعة بأن يشرك عددا من التلاميذ في عمل واحد يشعر كل واحد منهم إنه قام بجزء منه كالاشتراك في لعبة رياضية أو حل مسألة حسابية أو صنع أداة من الأدوات أو تحليل رحلة جغرافية يتناول كل منهم جانبا منها وكذلك الشعور بالتبعة أو المسؤولية فإن المربي يستطيع أن يوجد هذا الشعور أو بعثه في النفس فيعمل على إن يشعر التلميذ بمسائل متعددة كالمدح والترغيب والزجر والتأنيب والإشارة والتنبيه وغيرها إنه مكلف أن يقوم بهذا العمل أو ذاك أو ممنوع أن يقوم بذلك العمل الآخر لأنه ليس من شأنه أو لأنه عمل لا يليق به، ولا يجوز فعله. وهكذا الشأن في سائر الميول والعواطف الأخلاقية كمحبة الغير ومواساة الرفيق المجاور ومساعدة الضعيف ودفع الرغبة غير المحقة بالإدارة القوية وحب النظام ولا شك أن هذا العمل دقيق يحتاج إلى معرفة نفسية عميقة وإلى لباقة في التصرف ورحابة صدر ووسعة تفكير وهو كذلك خطير جداً عظيم النتائج فخطيئة مرب تكفي أحيانا ولاسيما إذا تكررت أن توجد لك من الولد المستعد بطبعه - بما أوتي من قوة

ص: 15

- لأن يكون نابغة ينفع المجتمع ويبذل راحته في سبيل خدمته رجلاُ ناقما على المجتمع حاقدا عليه تكمن في نفسه عواطف الحقد والبغض. نعم إن الولد نفسه قادر على أن يكون هذا أو ذاك والحكم الفاصل للموضوع يكون في كثير من الأحيان سلوك المربي - بوجه عام سواء أكان أباً أو أماً أو معلماً.

4) لست أريد في هذا الكلمة أن أبحث عن مدى تحقيق مدارسنا سواء منها الابتدائية أو الثانوية لهذه النواحي المتقدمة ولا عن مبلغ التقصير فيها وأسبابه وعلاجه وإن كانت كل واحدة من النواحي التي ذكرتها في حاجة إلى مثل هذا البحث. ولكنني أريد أن أتعرض لناحية أخرى مهملة كل الإهمال ولموهبة من المواهب المغفلة المتروكة دون أن تنمى مطلقا ولجانب هو أسمى جوانب النشاط الإنساني إلى جانب النشاط الجسمي والعقلي والخلقي وبذلك يكون في تربيتنا ثلمة كبيرة وفعالية معطلة نعمل على إعدامها بدلا من تنميتها وتوجيهها وهي بالنسبة للفعاليات الأخرى كالنسغ للنبات والأثير للمادة والكهرباء للآلات المتحركة وهذه الفعالية هي الفعالية الروحية.

يقول (ألكسيس كارل) في كتابه الذي كان له في عالم الفكر الحديث صدى كبير الرجل ذلك المجهول إن المدينة الحاضرة أهملت في نظمها هذه الناحية الهامة من نواحي النشاط الإنساني وقد عقد في كتابه فصلا جليل القيمة عالج فيه هذه الناحية بعد أن عالج في الكتاب نفسه نواحي النشاط الفيزيولوجي والفكري والبديعي والخلقي مبينا خطورة هذه المرحلة وآثارها ونتائجها.

ولئن كانت المدينة الحاضرة في العالم الحديث ناقصة كل النقص من هذه الناحية ومقصرة في ذلك تقصيراً له أثره في فساد الوجهة التي تتجه إليها وفساد التكوين الذي تبنى عليه فإننا نحن بوجه خاص أشد تقصيراً ونقصاً حتى ليبدو بنائنا التربوي مثلوماً متداعياً متهدما من ناحية يبني على صلاحها صلاح بقية الجوانب والآفاق وعلى فسادها وضعفها ضعف البناء كله.

أليس من الممكن أن نشعر الطالب بجمال الطبيعة والكون فننمي في نفسه الشعور بالجمال ثم ننتقل به إلى الشعر بمصدر الجمال وخالقه والإعجاب بمخلوقاته ومن النظر في منافع الطبيعة والكون إلى مصدر النفع ومبدعه ومن النظر في الأخلاق الاجتماعية إلى مصدر

ص: 16

الرقابة الأخلاقية الأعظم ومن التفكير في مظاهر الطبيعة المتنوعة الزائلة إلى الحقيقة الواحدة الخالدة. . . وبالجملة أليس من الممكن أن نجعل من قلب الإنسان الصغير صورة مصغرة لعالم الكون الأكبر وخالق هذا العالم وأن نعمل على انبثاق هذه العواطف الروحية العميقة بالتدريج وإشعاره بالصلة بينه وبين العالم وخالقه كما يشعر بالصلة بينه وبين الأسرة والمدرسة وكما نحاول أن نشعره بالصلة بينه وبين المجتمع.

قد يبدو أن الوصول إلى هذه الغاية عسير ولاسيما بالنسبة لصغار التلاميذ ولكن الحقيقة أن الوصول إليها على صعوبته ممكن كإمكان الوصول إلى تنمية الملاحظة والاستنتاج والتفكير إذا استعملت الوسائل والطرق التربوية الناجعة.

إن تنمية هذه الموهبة الروحية كما سميناها لا تختص بدرس دون درس شأنها في ذلك شأن الأخلاق ممكن أن يستفيد الأستاذ من شتى المناسبات في الدروس المختلفة خارج الدرس لخلق هذا الجو ولكن الدرس الذي يمكن أن يكون لمس هذه الناحية هو درس الدين وهو الآن درس مهمل إهمالا كبيرا وهناك أسباب كثيرا لإهماله أبرزها أن كثيرين من المعلمين يجهلون قيمته التربوية والجانب الذي يشغله ويقومه ويغذيه من الحياة الإنسانية وتلتبس في أنفسهم حقيقته ووظيفته التربوية الأساسية بطرائقه القديمة البالية التي لا تزال شائعة وهذا هو السبب في أن بعض المعلمين السطحيين والذين ليس لديهم ثقافة كافية أو الذين تولد لديهم رد فعل ضد هذه الطرائق القديمة العقيمة ظنوا أن لا فائدة من هذا الدرس بل حمل السخف بعضهم على أن يروا حذفه من المدرسة مطلقا. وقد أذاعت وزارة المعارف تعميما في هذه السنة على المدارس الابتدائية بضرورة العناية بهذا الدرس الذي يعد من الدروس الأساسية.

ولكن الحقيقة أن هذا الدرس لا بد له حتى يؤتي ثمرته من فهم وظيفته التربوية فهما عميقا ومن تحديد طرقه وتطبيق كثير من الأساليب الحديثة المطبقة في المواد الأخرى في هذه المادة أيضا.

إن لدرس الدين مشكلات تربوية خاصة لابد من حلها كما أن لكل مادة مشكلاتها الخاصة وإذا كانت هذه الناحية مهملة في دور المعلمين فلا تبحث بحثا كافيا في مادة التربية الخاصة فمن الضروري أن تعمد الوزارة إلى محاضرات دورية في مراكز المحافظات

ص: 17

تبين فيها الطريق التربوية المجدية لتدريس هذه المادة تدريسا نافعا مثمرا أو أن تذيع على المعلمين تعليمات مفصلة في هذا الموضوع.

ذلك إن الطرائق العامة المتبعة في التدريس من التدرج من المحسوس إلى المجرد ومن السهل إلى الصعب ومن الجزئي إلى الكلي والاعتماد على الطرق الجذابة كالقصص وعلى وسائل الإيضاح كالأشياء الطبيعية والصور الملونة والرسوم كل أولئك مما يمكن تطبيقه في تدريس الدين حتى يصبح درسا تتجلى فيه الحياة والحركة والنشاط ويشارك مجموعة الدروس في تنمية الملاحظة والخيال والذاكرة والاعتماد عليها في الوقت نفسه لفهم كثير من الاعتقادات والإيمان بها والشعور بالعواطف السامية المتصلة بها والتهيؤ لفهم أعمق وشعور أسمى في مراحل الدراسة التالية.

ونكتفي بضرب مثل واحد آملين العودة إلى التفصيل في هذا الموضوع الذي لا يزال بكراً ولم تتناوله كتب التربية في البلاد العربية.

يأتي المعلم بلوحة أو لوحات فيها صورة سفينة تمخر عباب البحر وفيها إن أمكن صورة صيد السمك أو استخراج اللؤلؤ صورة ملونة تذخر بالحياة وتفيض بنعم الكون يعلقها أمام الطلاب ثم يأخذ بطريقة الأسئلة الموجهة حتى يصل إلى ما يريد من نتائج عن طريق الطلاب أنفسهم:

1) إن في البحر - ثم ينتقل إلى سائر أجزاء الطبيعة - منافع ونعم كثيرة يستطيع الإنسان أن يستفيد منها أو أن يتخذ منها زينة له.

2) إن لهذا البحر بما فيه من منافع - ثم كذلك لسائر أجزاء الكون - خالقاً ومسخراً إليه يرجع الفضل في هذه المنافع والنعم التي تفيض على الإنسان.

3) إن هذه المنافع موجودة ومعروضة ولكن لا بد أيضا من عمل الإنسان وجهده حتى يحصل عليها.

وما أقوى تأثير هذه الآية التي يكتبها حينئذ بخط جميل وأحرف كبيرة ليحفظها التلاميذ بعد أن فهموها: وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا، وتستخرجوا حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون وما أرسخ عاطفة الشكر لله هذه التي تنشأ وتتولد بعد هذه الصور الجذابة الخصبة بالحياة ولا نشك أنها الأقوى أثرا بما

ص: 18

لا يقاس مما ينشأ عن طريق التقليد الجاف والمظاهر الخارجية.

نعتقد أنه إذا سلكت أمثال هذه الطريقة في تدريس الدين فسيكون هناك مجال خصب للاستفادة من أقوى وأعمق وأنبل العواطف الإنسانية واستمد التلميذ في حياته الفكرية والخلقية والبديعية بأقوى مادة وسيربط بينها برباط عام يشملها جميعا وستكون الحياة الإنسانية أخصب مادة وأسمى غاية.

محمد المبارك

عضو لجنة التربية والتعليم

ص: 19