الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فن الكذب
للأستاذ: عزة النص
قال الناس قديما وما زالوا يقولون: أعذب الأدب أكذبه: وكان الناس قديما وما انفكوا إلى اليوم يحرمون الكذب في الحياة ويستسيغونه في الأدب.
فالأديب الذي يكشف طوايا النفوس ويستحلي خفاياها ويعرض الأمور كما هي ويصور الوقائع كما يراها، قلما يجد أدبه رواجا ونفاقا، أما ذلك الذي يصدف الناس عن واقعهم الذميم وينسيهم وجودهم الحقيقي فهو الأديب المبدع الرائع.
فكأن الناس تواضعوا على تسمية الأدب بفن الكذب.
وليس في نيتي أن أزعم العكس وأدافع عن النقيض، وإنما أود أن ألفت الأنظار إلى علم قد لا يقل عن الأدب صدقا. . . والناس يطمئنون إليه ويثقون به ويؤمنون بصحته ويركنون إلى نصحه وموعظته، وهم يحسبون أنه سفر الحقيقة وسجل الواقع. . إلا وهو علم التاريخ، فإذا كان الأدب فن الكذب السافر فالتاريخ فن الكذب المستتر. . .
على أني لم آت بشيء جديد: ولم ألهم هذه الحقيقة كما ألهم (أرخميدس)، فللتاريخ منذ وجد التاريخ مشايعون مناصرون كما له مناوئون مندودن، وهؤلاء وأولئك كثر.
ولعل من الخير أن لا أفجاك بادئ بدء بأقوال الجادين الوقورين من خصوم التاريخ والغامزين فيه، وأن أبدأك بجد يشبه الهزل وهزل يشبه الجد حتى تتهيأ نفسك لما أريد أن أهيئها له.
لقد عرف الكاتب الأمريكي (مارك تواين) بأسلوبه العابث المستملح في جميع ما يتناوله من مواضيع، وهو في دعابته الناعمة المرحة وهزئه الساخر الضاحك يبلغ في قوة النقد ما لا يبلغه أولئك الذين يتصنعون الجد والوقار فيجمعون إلى جفوة النقد خشونة الأسلوب. والكلمات التالية مقتبسة عن محاضرة عنوانها:(فن الكذب في انحطاط)، يزعم الكاتب إنه ألقاها على جمع مهيب من شيوخ المؤرخين وهو - على رأي الكثيرين - حملة لواء الكذب الفني المرتب المشروع. . . وإنك مستنتج من هذه الكلمات أمرين جوهريين:
1 -
أن الناس جميعا يكذبون في أعمالهم وأقوالهم.
2 -
أن المؤرخين يدونون أعمال الناس وأقوالهم فهم لا يدونون إلا كذبا. . . ثم ليتهم
يصدقون في التسجيل والتدوين!. . . إنهم يجمعون أفكا على إفك ومينا على مين.
يقول مارك تواين:
لست أزعم أن عادة الكذب تعاني ضعفا أو تشكو انحطاطا، فالكذب هو مبدأ خالد وفضيلة أزلية. وفي الكذب تسلية للمكروب وعزاء للعاني وملجأ أمين للبائس. إن الكذب صديق الإنسان الأول ورفيقه الأمثل.
ولا خوف على الكذب من الزوال وأنتم في الوجود، معشر المؤرخين. . وإن كنت أشكو فما أشكو سوى انحطاط فن الكذب، وأي إنسان رزق الكياسة في التفكير والصدق في العاطفة يرى الكذب السمج يروج في عصرنا هذا ولا تأخذه سورة الغضب وتثور به النخوة والمروءة؟!. أي عاقل مهذب لا يسوءه هذا الفن الرفيع أن يتبذل؟!.
وإذا عالجت أمامكم هذا الموضوع، فأنا أعالجه على تهيب واستحياء، فأنتم معشر المؤرخين سادة هذا الفن وأشياخه. . . ومثلي معكم كمثل العانس لم تلا بس الحياة تتصدى لتدريب قهرمانة عركها الدهر من نبات إسرائيل. . .
ولست، أيها السادة، ممن يستبيح لنفسه التعرض لكم بنقد، وإذا تراءى لكم شيء من ذلك في بعض حديثي، فما النقد أو المعارضة أردت، وإنما أنا واثق بأني لم أقصد سوى التعبير عني الإعجاب والإكبار.
وفي الحق، لو كان لهذا الفن - أجمل الفنون الجميلة - أنصار مخلصون مثلكم كثيرون، يشجعونه ويرعونه ويغذونه ويمارسونه ممارسة دائبة صادقة. . . لو أتيح له أندية كثيرة كناديكم هذا، لما اعتراني الجزع وغلبني الدمع. . . ولا أقول ذلك ممألاة ونفاقا، وإنما هو الحرص على تقدير الناس حق قدرهم.
أيها السادة: ليس شيء أكد من الحقيقة التالية: هنالك ظروف يتحتم فيها الكذب، وبما أنه ضرورة محتمة فهو إذن فضيلة محمودة. . . والفضيلة لا تبلغ الكذب مرتبة الكمال إذا لم تزودها ثقافة دائبة، فلا حاجة إذن للقول بأن فضيلة الكذب يجب أن يرعاها ويتعدها المعلمون في المدارس والآباء في الأسر والمفكرون في الصحف والكتب، وأي حظ لكاذب جاهل مغفل تجاه كاذب مثقف محنك؟ إن ما يعوزنا أيها السادة، هو كذب حاذق. . . بل يخيل إلي أنه خير للإنسان أن لا يكذب مطلقا من أن يكذب كذبا غير موفق، إن كذبا أخرق
غير علمي هو غالبا شر من الصدق.
لنذكر المثل القديم السائر: الصبيان والمجانين يقولون الحقيقة دائما: والنتيجة المنطقية لذلك واضحة وهي: إن الكهول والعقلاء لا يقولون الحقيقة أبدا.
يقول المؤرخ (باركمان): من الحقائق الراسخة أن الحقيقة لا يحسن أن تقال دوما، وإن من يدفعهم ضميرهم المريض إلى مخالفة هذا المبدأ هم حمقاء خطرون، هذا هو الكلام المتزن المتين، فلا أحد يستطيع أن يعيش مع من اعتاد قول الصدق، والحمد لله على أن كائنا مثل هذا غير موجود، فالإنسان الذي يقول الصدق دائما هو مخلوق خيالي لم يوجد ولن يوجد، ولا شك أن هنالك أفرادا يعتقدون إنهم لا يكذبون قط، ولكنهم واهمون وإن جهلهم الفادح لما تخجل منه مدينتنا الحاضرة، كل الناس يكذب، في كل يوم وفي كل ساعة، نائما ومستيقظا، في الحزن وفي الفرح، وإذا لم ينطق اللسان فإن الأيدي والأرجل والعيون والوضع العام تحاول أن تخدع عن سابق تصميم وتعمد.
وبعد ماذا يأخذ النقاد الجادون الوقورون على التاريخ حتى تتنازعهم فيه الشكوك وتتجاذبهم فيه الظنون؟ إنهم يأخذون عليه أسسه التي يرتكز إليها ومادته التي يتكون منها وأسلوبه الذي يعتمد عليه ونتائجه التي يصل إليها. . . فهم إذن صناعا مهرة (يفبركون) الوثائق الأصلية. . . والمخطوطات النادرة. . . ويصفعون بها أنف التاريخ.
3 -
وما العمل إذا انعدمت الوثائق أو صمتت؟ ما الحيلة في معرفة تاريخ مالا تاريخ له؟. هنالك في سلسلة الحوادث التاريخية (حلقات مفقودة)، يعمد المؤرخون إلى إيجادها بالاجتهاد العقلي. فما هو نصيب هذا الاجتهاد الفرضي من الصحة؟ مثل المؤرخين في ذلك كمثل من لا يستطيع الوصول إلى مجاهل إفريقية الوسطى فيفرض أنها حلقة متممة لافريقية الشمالية والجنوبية ويتكهن عن أوصافها الطبيعية والبشرية بالاستناد إلى هذا الافتراض!. . وقد أثار الأستاذ حسن عثمان في كتابه (منهج البحث الاجتماعي) مسألة من هذا النوع وهي مسألة سكوت المصادر عن تنازل المتوكل العباسي عن الخلافة للسلطان العثماني سليم الأول عام 1517، وأقر بتعذر البت في هذا الأمر.
4 -
ولاختيار الحوادث في التاريخ مشكلة أشد إغفالا، ذلك إن المؤرخ يجد نفسه أمام حوادث لا حصر لها وكلها متشابكة متساندة، فلها جدير بالذكر؟ وما هي الأسس التي تفرق
بين الحادث الهام والحادث التافه؟ وإذا كان كلام نثرا فكل عمل تاريخ، فهل على المؤرخ أن يسجل كل عمل؟ إنه لا شك ملزم بالاصطفاء والانتقاء، والأمر يعود أولا وآخراً إلى تقديره الشخصي، وكم من مؤرخ أخذ بالعظيم من الأمور وأهمل ما ظن إنه جزئي لا وزن له وكان الذي ظنه جزئيا لا وزن له بالغ الأثر خطير النتائج! قد يكون لهيئة الأمير أو الحاكم أو لبزته وهندامه أو لابتسامته وطلاقة محياه أثر في سياسته لا يعدله أثر بلائه أو درايته أو دهائه!.
وطالما في الأمر اصطفاه فقد خرج التاريخ عن أن يكون صورة للواقع واضحي تجريدا مصطنعا يضلل ولا يرشد ويشوه ولا ينور، وجميع الكتب المدرسية في التاريخ هي من هذا القبيل.
وشبيه بهذا تلك التقسيمات (الاعتباطية) التي جرى عليها المؤرخون والتي تجعل التاريخ مقسما مبوبا مرتبا كأن الحوادث وضعت للتاريخ لا التاريخ للحوادث، فنحن نقول مثلا: السياسة الاقتصادية للمأمون والتنظيمات الإدارية للمنصور كأن مثل هذه الأمور يمكن التفريق بينها، ونحن نقول: العصور الوسطى والعصور القديمة والعصور الحديثة فيظن القارئ إن جداراً حاجزاً حقيقا يفصل بينها، مع إن التاريخ تسلسل لا انقطاع فيه، ولو سلمنا جدلا بصحة هذه التقاسيم بالنسبة إلى أمة ما فهل يجوز أن تعمم على سائر الأمم؟ والاعتراض نفسه يرد عندما نقول مثلا تاريخ سورية أو مصر في عهد الأمويين أو تاريخ ألمانيا أو بلجيكا في القرون الأولى فهل كان لسورية ومصر أو ألمانيا أو بلجيكا كيان بارز مستقل حتى يمكن تمييزه وتحديده؟ وهل لا يتوهم القارئ عندما يقرأ اشتباه ذلك أن سورية اليوم هي سورية الأمس عينها؟.
ومثل هذا أيضا تلك التعابير الاصطلاحية التي نستعملها اليوم وندرك مدلولها الحقيقي دون عناء، ونستعيرها للماضي أيضا كان المفاهيم لا تتبدل، وكان ألفاظ الحكومة والوزارة والأمة والموازنة والموظف الخ. . . هي اصطلاحات أزلية الوجود! والأمر أغرب إذا لم يراع المؤرخ المصطلحات المجازية الخاصة بكل زمن فأخذ بحرفية النصوص وتقيد المدلول الحالي للألفاظ! وهل بوسعه دائما أن يراعي؟
5 -
ولعل قاصمة الحجج للطاعنين في التاريخ هي اعتماد المؤرخ على الأسباب القاهرة
المعلنة وتعذر وصوله للسباب الوجدانية العميقة! فالحادث التاريخي هو في جوهره حادث نفساني يصدر عن إرادة وعاطفة، ولكن الإرادة والعاطفة تظل مقنعة محجبة بينما تبرز عوامل غيرها يراد إبرازها وإظهارها وهي التي يقبض عليها المؤرخ ويتعلق بها ويجعل منها عماد بنيانه.
تسقط اليوم وزارة وتخلفها أخرى ويتساءل الناس عن الدوافع ويختلفون بين مهاجم ومدافع، وتنشر الصحف الوثائق الرسمية فإذا فيها. . . أسباب صحيةّ أما الأحقاد والمنافع وما يختلج في النفوس من حب وكره وتعاطف ونفور فهي لا تدخل في حساب التاريخ لأنها عناصر هوائية غير مرئية، لا واضحة ولا مصرحة.
بيد أنها - كما تعلم - لب الباب من سياسة بلادنا الداخلية.
وتتعالن الدول عن رغبتها الأكيدة في العدل والحرية والمساواة وتعقد المؤتمرات على هذه الأسس وتوقع الوثائق والمواثيق فيتقبلها المؤرخون نهمين شرهين. . . ويلهم من مغفلين! أو ليس باسم الحرية والعدل والمساواة تتحكم اليوم فرنسا برقاب أبناء عمومتنا في المغرب الدامي؟! قد يقول لك المؤرخون: نحن يعنينا الحادث نفسه، فهل سقطت الوزارة أو لم تسقط؟ أما الأسباب فليس من شأننا الخوض فيها ما قيمة الحادث في ذاته أيها السادة؟ وما التاريخ إذا لم يكن أسبابا ونتائج؟
هؤلاء النقاد الجادون الوقورون لا شك أنهم مغالون بعض الشيء فليست الركائز التي يستند إليها التاريخ متأرجِجة غير موطدة إلى هذا الحد، على أن الحيطة في تقبل كل ما يسطره التاريخ واجبة، والحذر ضروري. وإن كان لهؤلاء النقاد من فضل فهو في إقامتهم الدليل على أن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً ثابتاً يمكن صوغه في قوانين ومعادلات. على أن (الطعن في التاريخ أسهل من الاستغناء عنه) - كما يقول هالفن - وسيظل التاريخ (ذاكرة البشرية) تستمد من تجربته وتستنير بسوابقه، لك عظته لا يصح أن تؤخذ دستورا لا يخطئ بل لعل دستور التاريخ الوحيد هو إن ليس له دستور وإن الحادث الواحد لا يتكرر أبدا.
وجل ما قصدت إليه في هذا المقال أن ألفت الأنظار إلى (نسبية) الحقائق التاريخية، ولولا ذلك لما وجدنا التناقض بيننا واضحا بين كتابين في التاريخ لأمتين متعاديتين، ولولا ذلك
لما وجدنا التناقض واضحا بينا بين مؤرخي الأمة الواحدة أن (ميشليه) الأفرنسي يجعل من الثورة الفرنسية مشعل حضارة وضياء حرية وينساق في العاطفة المشبوهة حتى يقف كتاباته (أنا تول فرانس) بأنها (غضب ورضى، عويل طفل وصراخ امرأة تضع، زفرات وأنات أما حوادث فلا000) 0 بينما (دودة) و (برنتانو) و (كاكسوت) الافرنسيون أيضاً لا يرون في الثورة الفرنسية إلا قذارة ودماء مراقة0
والأمثلة أقرب إليك من ذلك، خذ صحيفتين في بلد واحد من حزبين مختلفين وحاول أن تتلمس الحقيقة التاريخية بينهما0
وشيء آخر قصدت إليه في هذا المقال هو أن ألفت الأنظار إلى كتب تاريخنا العربي بما جمعت من تناقض وتعارض في الأسماء والأرقام والتواريخ وبما فيها من أساطير مروية عن الأولين وحكايات دسها الوضاعون.
فحتى متى يخلص تاريخنا من أمثال هذا:
سام بن نوح كانت حياته 600 سنة وأرفخشد بن سام عاش 465 سنة وشالم بن أرفخشد عاش 430 سنة وعابر بن شالخ عاش 430 سنة وقيل 164 سنة الخ. .
أو من أمثال هذا:
دمشق أول من بناها دمشاق بن قاني بن لامك بن أرفخشد بن سام وقيل إن الذي بناها جيرون بن سعد بن عاد بن ارم - وقال وهب بن منبهان العازر غلام إبراهيم بني دمشق. وقال غيره سميت بدماشق ابن عزود بن كنعان وهو الذي بناها. وقال آخرون سميت بدمشق بن أرم بن نوح وهو أخ لفلسطين وإيليا وحمص والأردن، بنى كل واحد موضعا فسمي به الخ. . .
ولا تفوق كتب المستشرقين الغربيين عن تاريخنا ما كتبناه نحن إلا بسوء الفهم وما القول برجل يكتب عشرات المؤلفات عن تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده ويزعم في أحد كتبه أن في الكعبة حجرين، يعين موضعهما وأبعادهما، أحدهما الحجر الأسود وهو للمس فقط وثانيهما الحجر الأسعد وهو للتقبيل!. . .
حتى متى يخلص تاريخنا من الترهات والأباطيل والأساطير؟!
عزة النص