الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسة الأدب
للأستاذ محمد روحي فيصل
في المقدمة الرائعة التي مهّد الأستاذ غوستاف لانسون لمؤلفه الكبير [تاريخ الأدب الفرنسي] بحث عميق عن خير المناهج العلمية في دراسة الأدب الفرنسي وإنماء الذوق. نقتطف من هذا البحث الفصل التالي:
زوّر بعض المؤلفين، في السنوات الأخيرة، صورة الأدب دراسة وتدريسا حين اتخذوه مادة لبرنامج مدرسي يجب أن يجوزه الطالب بأجمعه على كل حال، وأن يلتهمه كيفما اتفق، وبأسرع ما يستطيع، كيلا يسقط في فحصه. . . فإذا انتهى منه كما ينتهي من كل شيء في المدرسة، لم يعد يحظر على باله في حياته. وعلى هذا النحو من الحرص على تدريس الطالب كل شيء، ودراسة كل شيء، نصل إلى ضرب من المعرفة الحرفية ليست على شيء من القيمة الأدبية، ويصير الأدب بذلك إلى مجموعة جافة من الحوادث والصيغ خليقة أن تحدث القرف في العقول الناشئة حيال المؤلفات التي تصطنعها.
هذا الخطأ التربوي العميق الشائع يتصل بخطأ آخر أشد عمقا وأكثر شيوعا. فقد أراد بعضهم أن يتخذ الأدب شكلا علميا، فلا ينظر إليه إلا على أنه نحو من المعرفة الموضوعية. وليس العلم نفسه ولا العلماء أنفسهم هم المسؤولون عن ذلك. ويؤسفني أن أذكر هنارينان كواحد من أصحاب ذلك الخطأ الذي ألاحظه. فقد سجل في كتابهمستقبل العلم هذه العبارة التي أحب أن لا أرى فيها إلا صورة من حماسة الشاب الذي تغمر الطراءة بداءاته في التحريات العلمية: إن دراسة تاريخ الأدب من شأنها أن تحل محل القراءة المباشرة لآثار العقل الإنساني.
فهذه العبارة تعني أن لا مكان للأدب نفسه على الإطلاق، أو تعني أن له مكان الفرع من فروع التاريخ، تاريخ العادات أو تاريخ الأفكار.
وإنما أولى بنا أن نقف على الآثار الأدبية نفسها، نقرؤها مباشرة وعلى الفور من أن تقف على الملخصات أو الكتب التي ندرسها. فما نفهم كيف يمكن أن يغنيتاريخ الفن عن النظر إلى اللوحات والتماثيل. وأمر الأدب في ذلك كأمر الفن لأغنية فيه عن النظر إلى الأثر ذاته وهو الذي يسجل وينفض شخصية صاحبه. فإذا كانت مطالعة النصوص الأصلية ليست
مصوّر التاريخ الأدبي، ولا هي مناطه وغايته فما يمكن أن يفيد منه المرء إلا معرفة جدباء لا قيمة لها. والذين يريدون لنا أن لا نعرف أكثر مما في المجموعات والكتب إنما يرجعون بنا القهقرى. باسم التقدم الذي يدعون، إلى أسوأ النقائص التي كان عليها العلم في القرون الوسطى. وما كان عصر النهضة الرينسانس رائعا ذا أثر عظيم إلا لأنه، كما ينبغي أن لا ننسى، قد بدأ عمله بالذهاب إلى النص القديم، وطرح الشروح التي بين يديه.
ليس من شك في أن دراسة الأدب اليوم قد أصبحت لأغنية فيها عن الإطلاع الواسع الشامل، فما تستوي أحكامنا الأدبية، أو تتجه وجهة قويمة، إلا إذا تزودنا بطائفة من المعارف الصحيحة الموضوعية. هذا، ولسنا نعرف شيئا يفيد الباحث في الأدب مثل هذه المحاولات التي تصطنع طرائق العلم لتربط خواطرنا وانطباعاتنا بعضها ببعض، ولتمثل الدب في سيره ونموه وتطوره. بيد أن أمرين اثنين يجب أن لا نغفل هنا عن ذكرهما، أولهما أن تاريخ الأدب غايته رسم الأشخاص: وثانيهما أن تاريخ الأدب أساسه البصائر الفردية. كل همه كما ترى أن يبرزهما بالتجارب أو الطرائق التي يستطيع كل إنسان أن يعيدها ويتوسل بها، والتي تسوق واحدة عند الجميع، إنما يبرزهما باستخدام الملكات التي تسوق بالضرورة، لاختلافها بين إنسان وإنسان، إلى نتائج نسبية موقتة. وإذن فالمعرفة الأدبية ليست غايتها ولا وسائلهاعلمية في أدق ما لهذه الكلمة من المعاني.
والشأن في الأدب كالشأن في الفن، لا غنية فيه عن النظر إلى الآثار، وهي - لقابليتها التي ليست بذات انتهاء ولا حدود - لا يستطيع امرؤ أن يجزم أنه أتى عليها واستهلك فحواها واستخلص دستورها. وهذا معناه أن الأدب ليس مادة علمية، إنما هو مران وذوق ولذة، لا نتدارسه ولا نتعلمه، لكن نمارسه ونتثقف به ونحبه. إن أصدق كلمة قيلت بحق الأدب هي كلمة ديكارت: مطالعة الكتب الجيدة أشبه بالحديث مع أشرف رجالات القرون الغابرة، وهو حديث لا يمنحوننا فبه إلا خير أفكارهم.
فالرياضيون الذين أعرفهم يتسلون بالآداب، ويتفرجون على التمثيل، ويتصفحون الكتاب يجددون به خلق أنفسهم، هم عندي أصح فهما وأقوم سبيلا من أولئك الأدباء الذين أعرفهم لا يقرؤون الكتاب، لكن يعرّونه ثم يحسبون إنهم يحسنون صنعا حين يحيلون المطبوع الذي استولوا عليه إلى ما يشبه البطاقات واللوائح.
ذلك إن مناط الأدب أن يحدث قينا لذة، ولذة نفسية هي بمثابة إلهية عند ملكاتنا الفكرية، تخرج منها هذه الملكات وهي موفورة النشاط والمرونة والخصب. وكذلك يكون الدب أداة ثقاف باطني، فتلك وظيفته التي لا وظيفة له غيرها.
للأدب مزية رائعة عليا، هي أنه يعودنا على التلذذ بالأفكار. إنه يجعل المرء يرى في مران عقله البهجة والراحة والتجدد، لقد ينشط بصاحبه إلى مشاغل المهنة. ويرتفع بالذهن فوق جميع المعارف والمنافع والمعتقدات المسلكية، وهو على الجملة يخرج بالاختصاصين إلى نطاق الإنسانية العام. ولعل العقول أحوج ما تكون اليوم إلى منازع الفلسفة منها في أي زمن مضى، ولكن الدراسات الفلسفية الخالصة لن يتلقاها الناس جميعا بالرضى والقبول. وإنما الأدب في اسمي معاني الكلمة، هو الذي يشيع الفلسفة بين الناس. فمن خلاله وبواسطته تتصل الجماعات البشرية بأعظم التيارات الفلسفية التي تحدّد مدى الرقي والتقدم أو تحدد مدى التبدلات الاجتماعية على الأقل، ثم إن الأدب هو الذي يبث في النفوس التي أنهكتها ضرورات العيش، وغمرتها مشاغل المادة، روح القلق إزاء كبريات المسائل والمشاكل التي تتصل بالحياة فتجعل لها معنى أو هدفا، وكثير من العاصرين يرون الدين إلى ذبول، والعلم نائيا، فليس لهم غير الأدب وحده من مشاركات تنتزعهم من تلك الأنانية الضيقة أو من تلك المهنة القاسية.
إذا تقرر هذا كله، فما أقهم إذن كيف يدرسون الأدب لشيء غير التثقيف ولأمر غير اللذة. لا ريب في أن الذين يهيئون أنفسهم للتدريس إنما ينبغي لهم أن ينظموا معارفهم، وإن يخضعوا دراستهم للمناهج، يوجهونها وجهة المبادئ التي تفوق بدقتها وصحتها، وأن شئت فقل بروحها العلمية، ما يرضاه منها عادة هواة الآداب. بيد أن أمرين اثنين يجب أن لا نغفل هنا عن ذكرهما، أحدهما أن صاحب هذا العمل العلمي ربما صار أسوأ أستاذ أدب، لا يعمل على تنمية الذوق الأدبي عند الطلاب، ولا يدفع بهم إلى أن يجدوا في الأدب أقوى باعث على الفكر، وأدق منشط للعمل. وهذا ما يجب إن نرمي إليه من وراء دراسة الأدب، بدلا من أن نزود الطلاب بأجوبة يلفظونها في ساعة الفحص. أما الثاني فهو أن أحدا من الأساتذة لن يعرف كيف يكون لتدريسه أثر ومفعول، إذا لم يكن هو من هواة الأدب قبل أن يكون من علمائه. ثم إذا لم يكن قد ابتدأ بتثقيف نفسه بهذا الأدب الذي سيتخذه بعد حين أداة
ثقاف للآخرين، ثم إذا لم يكن أخيرا - في تحريه العلمي، وجمعه للمعارف المتعلقة بالآثار الأدبية - قد تحرى وجمع ليعمق فهمه ونقوى متعته.
محمد روحي فيصل