المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عقليّة الماضي للأستاذ أنور هدى البرازي ترى في شبابنا اليوم هيئاتٍ وأفراداً - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٥

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌عقليّة الماضي للأستاذ أنور هدى البرازي ترى في شبابنا اليوم هيئاتٍ وأفراداً

‌عقليّة الماضي

للأستاذ أنور هدى البرازي

ترى في شبابنا اليوم هيئاتٍ وأفراداً وحلقاتٍ وجماعاتٍ وكتّاباً وأدباء لولا أنّهم يتنفّسون من هواء أيامنا هذه لما أثبت شيءٌ آخر أنهم يعيشون في القرن العشرين. . . آراؤهم وأفكارهم ونهجهم ودوافع أعمالهم وأساليب تصرّفهم كلّها عليها عنكبوت الماضي الغابر. . . ولكن لا يلبث المرء أن يبدي أسفه على ذلك الماضي حينما يسمح لهم بالدول إليه،،، فهم لا يعيشون في الماضي وإنّما أوهام الماضي وضلاله وباطله. . . ولو أنّهم يعيشون بحقائقه المثلى لكان لهم بعض العذر وإنّما هم يبكون على ديارٍ ابتعدوا عنها. . . وإذا هم يقضون أوقاتهم في البكاء عليها والالتفات إليها لا يرون متّسعاً من الوقت للعمل على بناء دارٍ جديدةٍ يسكنونها. . وهكذا يبقون ضعفاء مشرّدين بلا مسكنٍ ولا مأوى. . .

وإنّ من أهمّ سيئات التفاتنا إلى الماضي وعيشنا دوماً فيه أننا خلقنا له في نفوسنا صورةً مبلورةً لامعةً وهميّةً تكاد تكون غير مرتبطةٍ بالعوامل الزمنية وأصبحنا نجد في تلك الصورة المبلورة عزاءً وارتخاءً يمنعانا غالباً من تحقيق أيّ عملٍ جدّيٍّ في سبيل تحسين الحاضر. . .

إذا حادثت رجلاً عاديّاً عندنا عن تدخّلات الأجانب في بلادنا مثلاً وضرورة معالجتها لا تجد إلا وقد انحدر حديثك إلى في نفسه بصورةٍ طبيعيةٍ إلى أيام أبي بكرٍ وعثمان وعليّ. . . وأيام طارقٍ وموسى. . . أيام الرحمة والعدل والكرم والسّخاء. . وقد يطوف بك على صلاح الدين ثم يعرّج على هارون الرشيد بفعل ذلك دون أن يحاول التّفتيش عن حلٍّ عمليٍّ لتدبير الصعوبة المبحوث عنها في الحاضر. . .

وهكذا تضيع وإيّاه في أجواء لا تستلزمها الفكرة ولا يقتضيها الموضوع الذي تعالجه وإياه ولا تعود من بحثك معه بنتيجةٍ عمليّةٍ. . .

إنّ مقياس منطق الأمة هو منطق أفرداها العاديين، وإنّ انحراف منطق العاديين عندنا نحو الراحة الشخصية والفرار من الجهد والمصلحة لأمرٌ خطرٌ لا يبشّر بدعنا إلى اتّجاهاتٍ قوميّةٍ. . .

إنّ نغمة التّحدّث عن حسنات الماضي لأنّه ماضي فحسب تجعل من ماضينا منعطفاً هائلاً

ص: 34

يمنع كلّ صلةٍ بين الفكر والعمل. . .

وإذا فكّرنا جدّياً في الموضوع رأينا أنّ لأغلب الناس عندنا عذراً واضحاً في اتّباع هذا الأسلوب الفكريّ. . . فالطبيعة الإنسانية تحب الراحة والفرار من الجهد والانفلات من الصعوبات المتعبة، فأنت حينما تطرق موضوعاً صعب العلاج وثمين التضحية تميل بك غرائز الخمول والضّعف إلى الفرار من جهد معالجة الواقع القاسي بالالتجاء إلى تلك الفسحة الواسعة الكائنة في صورة الماضي القوي الغابر. . .

إنّ رأيي الشخصي هو أنّ الماضي القوي أو التاريخ القوي يزيد الشعب الواعي قوّةً كما يزيد الشعب الجاهل انحلالاً وضلالاً. فالماضي القويّ للأمة الضّعيفة في نظري هو ميزابٌ واسعٌ لشلّ إمكانيّاتها الحاضرة وتصريف استعدادها الراهن للعمل. . . ذلك لأنّ الشعب الضعيف في الحاضر ينظر من الأسفل إلى منارة ماضيه القوي فلا يستطيع ان يبصرها بتدقيقٍ وتحقيقٍ ولا أن يتّجه صوب منارة تطوّره الزّمني لأنّ منارته الأولى لا تسمح له بالابتعاد عن أوارها. . .

أما إذا وعت الأمة أنّ اتّجاه قابليّاتها نحو ماضيها يستنفذ أكثر طاقتها فليس بالصعب على قادة الفكر فيها أن ينظّموا حملةً واسعةً يستطيعون معها سدّ الثّغرة والالتفات إلى الأمام والاعتبار بالماضي كتجربةٍ مثبتةٍ لنجاح جهود الحاضر والمستقبل. . .

وليست دعوتنا هذه إلى تبديل عقليّة الماضي والوقوف وجهاً لوجه مع الحياة المعاصرة. . . أقول ليست هذه الدعوة نظرية غريبة ولا مستهجنة. . . إنّها فكرةٌ ممكنةٌ وقابلةٌ للتّحقيق إذا اتّبعنا المناهج الخاصّة بمعالجة أحوالنا وإذا أخلصنا في تنفيذ ما يناسبنا منها. . .

إنّ صلة الجيل العربي الجديد بماضيه يجب أن تكون في نظري كصلة مهاجرينا العرب إلى أمريكا به. . . يتمثّلون من ماضيهم ما ينسجم وروح العصر فقط. تاركين له أساليبه وإطاراته وزخرفاته السطحيّة وسيئاته وقدمه. . .

لقد عرفت بعض الكهول العائدين من هرتهم من أمريكا إلى سوريّتهم فرأيتهم أشخاصاً طيّبين مدنيين عمليين يحبّون أمّتهم حبّاً متغلغلاً في سلوكهم ويمجّدون تاريخها، ولكنّهم لا يضيعون مثلنا في تلك الصورة الماضية مطلقاً فإنّ لهم إلى جانب صور ماضيهم التّذكاريّة صورة حياةٍ عصريةٍ عمليةٍ كبرى فيها كلّ أعمالهم وشؤونهم في الحاضر. . . إنّهم يعتزّون

ص: 35

بالماضي على ضوء نجاح أساليبه المضبوطة في الحاضر إنّهم يحبّون أوطانهم بصدقٍ يتجاوز كذب أكثرنا ومبالغاتهم في الهيام الكاذب. . . إنّهم يقبلون أكثر منّا على التضحية والإغاثة والتعاون الاجتماعي والعمل المثمر. . . ومع كلّ هذا فهم لا يزالوا منّا وإلينا. . . عربٌ. . . دمهم عربيٌ. . . وطنهم عربي. . . ماضيهم عربي. . . ولكن الشيء الوحيد الذي يمتازون به عنّا أن أسلوبهم جدّدته التجربة وفعاليتهم أنعشتها القدوة الحسنة. . . فتراهم حافظوا على قوميتهم محافظةً كافيةً مقرونةً بإثباتٍ عمليٍّ في قدرتهم على تحقيق الحياة المعاصرة أيضاً. . .

يتّضح لنا من هذا أننا نحن العرب لسنا ضعيفي الإمكانيات ولا أردياء العنصر. . . وإنّما كلّ الخطأ عندنا كائنٌ في أنّ فعالياتنا مجمّدة لحساب الماضي. . . نحن شعبٌ تنقصه القدوة الحسنة والتدريب العملي في التّعامل والسلوك والأخلاق ولنستطيع أيّ الأساليب التاريخية النظرية أن تنعش فينا مواهبنا الإنسانية. . . ومن عرف داءه فليس له أيّ عذرٍ في إهماله. . .

النّبك

أنور هدى البرازي

ص: 36