الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسم وتربية الذّوق
للأستاذ نعيم الحمصي
للرسم أكبر الأثر في تربي الذوق العام في ينمّي قوّة الملاحظة البصريّة ويرهف الحسّ ويوسّع الخيال ويقوّي الذّاكرة الفنيّة فيجعلها أقدر على استيعاب الصّور الجميلة وخزنها وأشدّ انتباهاً إلى جزئيّات الشّيء بعد استيعاب صورته الإجماليّة وهو يقويّ الإحساس بجمال الأشياء المرئية والإحساس بتفاوتها في الجمال، وهو ضروريّ لا غنىً عنه في عمليّة الانتقاء الفنيّ ومساعد على زيادة إطاعة الجوارح لأوامر الدّماغ، فإن اليد تسجّل فيه ما تراه العين تسجيلا فالوسيط فيه هو الوعي الفنّي.
فإذا أضفنا إلى هذا أنّ الحسّ الفنّي عند الشّعراء فيه قسط كبير من الحسّ البصري التّصويري إلى جانب الحسّ الموسيقي الصّوتي وغيره من الإحساسات المساعدة على إخراج القطعة الفنّية أدركنا شأن المشاركة بين الفنّين فكلٌّ منهما يتأثّر بالمرئيّات إلى حدٍّ كبير وإن كانا يتفاوتان في ذلك، ولكنّ أحدهما يستعمل الألوان ليعبّر عن تجربته الفنّية والآخر يستعمل الكلمات وهذه المشاركة تجعلنا نقول بأنّ الشّاعر الذي يستحقّاسم مجيدٍ مبرز لابدّ أن يكون رسّاماً في ثنايا نفسه إن لم يكن يجيد الرّسم بالفعل. وكثير أولئك الشعراء الغربيّون الذين كانوا يتقنون الرسم.
والرّسم في بيئتنا متقهقر ولعلّ الموسيقا خير حالاً منه فإننّا نجد كثيراً من العائلات يحسن أفرادها العزف على آلات موسيقيّة شرقيّة أو غربيّة مهما كان قدر الذّوق الفنّي الأصيل الذي يصدرون عنه، ولكن من النّادر جدّاً أن تجد عائلة يحسن أفرادها الرسم أو تحث طفلها على مزاولته وذلك لأنّ أفراد العائلة قد يدفعهم الطّرب إلى تعلّم الموسيقا وسماعها ولكنّ ذوق الرّسم الفنيّ أضعف من أن يدفع فرداً من العائلة إلى قضاء فراغ وقته في رسم لوحةٍ وأضعف من أن تجتمع العائلة للتمتّع بمرأى قطعة فنيّة انتخبها فرد منها، بل لا ترى جُلُّ عائلاتنا ضرورةً في أن تزور متحفاً فنيّاً أو معرضاً تعرض فيه صورٌ فنيّةٌ. وهذه هي الحال في عائلاتنا التي أدركت حظّاً لا بأس به من الثقافة، وأمّا في الأوساط الجاهلة فحدّث ولا حرج فالرّسم فيها مخالف للدين والمصور مضطرٌّ يوم القيامة أن يخنق الرّوح في صورته الميّتة وإلا كان مصيره نار جهنم. وإذا كان الذّوق الفنّي التّصويري في بيئتنا
ضعيفاً إلى هذا الحد فإن الواجب الأكبر في نهضة هذا الفنّ يقع حين إذٍ على المدرسة وعلى وزارة المعارف أن تقوم بجهود جبّارة في هذا السّبيل، فهل قامت المدرسة بواجبها هذا؟ وللجواب على هذا السؤال لا بدّ أن تستعرض بسرعةٍ هدف برنامج التعليم من درس الرسم ثم استعراض الصورة التي يدرّس بها الرسم في مدارسنا الرسمية.
البرنامج ينصّ على أنّ الغاية من درس الرسم في المدارس الابتدائية ليست تكوين فّنانين ورسّامين وإنّما يدرّس الرسم للغاية التربوية التي تتحقق بواسطته فالرسم يقوّي حسن البصر عند الطفل ويكوّن عاملاً في تمرين اليد والملاحظة والذاكرة وخاصّةً ذاكرة الأشكال. ودروس الرسم التي تلقى في المدرسة تخلق في التّلميذ استعداداً للقيام في المستقبل ببعض المهن التي تتطلّب وقوفاً تامّاً على الرسم وتنمّي فيه الذّوق الفنّي.
ثمّ يفيض البرنامج في ذكر الملاحظات التي يجب على المعلّم مراعاتها ليصل إلى
الغاية من درس الرسم وهي ملاحظاتٌ قيّمةٌ، كما أنّ موادّ البرنامج في المدرسة الابتدائية لها قيمتها لو تحقّقت.
وأنت ترى معي أنّ البرنامج قد جعل تنمية الذّوق الفنّي هدفاً له ورسم لتحقيق هذا الهدف طرقاً سليمةً ولكنّك لا ترى شيئاً من هذه الغايات محقّقاً والذّنب ليس ذنب نصّ البرنامج فهو شيّقٌ ومغرٍ ولكنّه ذنب تطبيقه.
فدرس الرسم لا يؤدّي غايته التّربويّة للأسباب الآتية:
1 -
ينظر المعلّمون إلى درس الرّسم على أنّه درسٌ ثانويٌّ فيأخذ المعلّم المجدُّ منهم ساعات الرسم ليقوّي طلاّبه في الدّروس الأخرى التي يراها أعظم شأناً وأكثر ضرورةً، وقليل أولئك المعلّمون الذين يولون هذا الدرس العناية اللائقة به.
2 -
أكثر المعلّمين لا يحسنون الرسم بل لا يحسنون أن يصوّروا شيئاً فكيف يستطيعون أن يعلّموه لطلاّبهم.
3 -
كان يجب، والمعلّمون على هذه الحالة من الضّعف الفنّي، أن تعيّن وزارة المعارف معلّمين مختصّين في هذه المادّة ولكنّها لم تفعل شيئاً من هذا.
4 -
إنّ وزارة المعارف لا تعامل المختصّين في الرسم الذين يدرّسون هذه المادّة في الثانويّة معاملة المختصّين بالمواد الأخرى بل إنّها لا تحسّن رواتبهم وحالهم قليلاً ليكونوا
أكثر نشاطاً في عملهم.
5 -
لم ترسل وزارة المعارف في الماضي طلاّباً لهم ميلٌ فنّيّ لدراسة هذا الفن على حسابها في البلاد التي يزدهر بها.
6 -
ليس في المدارس الابتدائية بل لا ولا في الثانوية قاعات مخصّصة لهذا الفن زاخرة باللوحات الفنّية الرائعة التي تحيي الميل الفنّي في الطلاّب.
ولابدّ أن يشارك الرسم غيره من الفنون في تنمية الذّوق العامّ من النهوض به بتعيين معلّمين مختصّين يدرّسونه في المدارس الابتدائية ريثما تستطيع دور المعلّمين والمعلّمات إخراج طلاّبٍ يحسنون هذا الفنّ ويحسنون تدريسه وحينئذٍ لا بأس من أن يستلم المعلّم صفّاً كاملاً بكلّ موادّه ولا بدّ من تنبيه المعلّمين إلى قيمة هذا الدّرس ومنعهم من إهماله ومن إرسال عددٍ كافٍ من الطلاّب لدراسة هذا الفنّ في مصر أو أوروبا بموجب مسابقةٍ تجريها الوزارة ليكونوا في المستقبل مدرّسين في المدارس الثانويّة ودور المعلّمين ولابدّ من تحسين حالة مدرّسي هذه المادّة المختصّين حتى لا يشعروا أنّهم مغبونون الحقّ ومن تخصيص قاعاتٍ لهذا الفن في المدارس الابتدائية والثانوية تعرض فيها الصور لأعاظم رجال الفنّ كما يجب إقامة معارض فنّية تجري فيها مسابقات بين رجال الفن لتنبعث الحياة الفنّية في ببيئتنا الآن. ولابدّ لنهضة الرسم أيضاً من أن تبدأ العناية به في دور الحضانة بأن تكون مجهّزةً باللوحات الفنّية المساعدة على نموّ الذّوق الفنّي وبأن يمرّن الأطفال وفق استعداداتهم على الملاحظة الفنّية المساعدة على نمو الذّوق الفنّي وبأن يمرّن الأطفال وفق استعداداتهم على الملاحظة الفنّيّة وعلى رسم الأشكال التي تلائم سنّهم. هذا قليلٌ من كثيرٍ مما يجب أن نقوم به لنهضة فنّ الرّسم في بلادنا ومشاركته في تنمية الذّوق العامّ وأترك الإفاضة في هذا الشأن لأستاذٍ مختصٍّ في هذا الفن فهو أدرى منّي بما يجب عمله وإنما تكلّمت عن ما أراه ضروريّاً لتربية الذّوق الفني العامّ وبالقدر الذي أدركه.
حماه
نعيم الحمصي