الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياة الانسيابية
للأستاذ رياض الجابري
شاء القدر أن يدبّ الإنسان، هذا المخلوق العجيب فوق سطح البسيطة، بعد أن هبط من سمائه، وفقد سعادته وهناءه، وشاء أيضاً أن يعيش جماعاتٍ وشعوباً، فهامَ على وجهه أما هذا اللغز الأبدي - القدر - الذي تركه يتساءل: من أين. .؟! وأين. . .؟! وإلى أين. . .؟!
انتبه فتشبّث بأذيال الوجود، ونظر فكبّل نفسه بالقيود والحدود. . . قيود اجتماعية وحياتية لابدّ منها ما دام يروم الحياة والخلد.
بيد أنّ هذا الحائر أبداً، المتسائل عبثاً، رأى حياته لا تتلوّن كما يريد وتتكيّف حسبما شاء، ورأى أنّه - من المحال - أن تكون الحياة نمطيّةً رتيبةً ينساق في تيّارها الثابت الوطيد لا يحول ولا يزول. . .
قاوم وجاهد وهيهات أن يثمر عمله، وقد شاءت الحياة أن تكيّف كلّ فردٍ كما تريد هي، لا كما يهوى، - هذا الطفل - ويحب. . . وفرضت وجوب الانسياب معها والسير في مجراها. فهذه مخلوقات الله في أرضه. وأنعامه فوق بسيطته، وجوارحه في سمائه، كلّها تسعى وتساير الحياة وتمشي معها جنباً لجنب لئلاّ تُلقى على هامشها وتنبذ كالنواة من أصلها. .
ولكن مالنا نذهب إلى السماء والأرض والأجواء ونترك الواقع حولنا؟ واقعنا المحيط بنا في كلّ لحظةٍ؟! واقعنا المريض المعذّب؟! أليس هو أحقّ الجميع بالفحص والنّقد؟!
لننظر إلى هذه الكتل البشرية حولنا، بل لننظر إلى أبناء آدم وبنات حوّاء على السواء، ألسنا نرى أنّ كلاًّ منهما يتعرّض للسخرية والانتقاد بل للهزء والاحتقار إذا حاد عن تيار الحياة وعاكس مجراه؟! أوَ لم نرَ هذه الضّحايا الخفيّة التي تذهب بها الأقوال كلّ مذهب. ذلك لأنها لم تنسب مع الطبيعة بل كانت حجرة كأداء بل صخرةً صمّاء في سبيل تقدّمها؟!
هناك ألوفٌ وألوفٌ من هذه الأجساد البشرية بل من هذه الأدمغة الحجرية التي تأبى إلا التّمسّك برأيها - الصميمي، القديم، الذي أصبح يتنافى والواقع، ويشذّ عن المحيط الحاضر، وتريد أن تنقل كلّ شيءٍ عن الماضي وعن الماضي فقط مهما تفه أو سما، دون نظرٍ إلى هذا الحاضر الذي يتطلّب تكييف النّفوس دون أن يتكيّف هو نفسه. .
أجل تريد هذه النفوس أن تتكيّف في الماضي والماضي فقط ناسيةً أنّ العقل قبل النقل، وتريد الفناء الكامل والدّهر يصيح: رويدك أيّها - الحجر - رويدك أيّها الإنسان فما حاضرك إلا سلسلةٌ بين الماضي والمستقبل، وما حاضرك إلا مولودٌ من ماضيك فاخضع له، وانسَب معه، ولا تتعلّق بكلّ الماضي، فقد خلقت لحاضرك، ووجدت من أجل ساعتك، فدعك وأيام غيرك، بل هيّا وانهش عيشك. . .
ولكن مهلاً أيّها الإنسان، مهلاً لك ولهذا السؤال، الذي يتوارد فوراً لخاطرك، ويخالج توّاً نفسك. . .
إنّك سوف تتساءل: وكيف يتسنّى لهذا المخلوق أن ينساب مع محيطه دائماً وأبداً مهما كان هذا المحيط! لنفرض - مثلاً - أنّ حياته في بيئته تلك هي سلبية إلى حدٍّ كبيرٍ، أعني في درجةٍ دنيا من سلّم الرّقي والحضارة، فهل يحقُّ لهذا الفرد أن يقف مكتوف اليدين إزاء واقعه هذا - لضرورة الانسياب معه -؟! وهل لا يجب أن يشذّ عن تيّار محيطه خطوةً ثم خطواتٍ إلى الأمام علّه يضيء طريق الحياة وينير سبيل التّقدّم فيهدي مواطنيه في ظلامهم الدّامس وينتشلهن بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة نحو الصالح العام؟!
أجل. . . وكيف لا والإنسانيّة سائرةٌ بخطىً سريعةٍ نحو العلاء! والفرد فيها يعرج متوثّباً نحو السّماء؟ فهو إن لم يفعل نُبِذ لأنّه لم يساير وينسب مع الحياة. . . الحياة الوثّابة الحياة التي تريد البقاء.
إننا لا نطلب - ضرورة الانسياب هذا - إلا للقضاء على هوّةٍ سحيقةٍ وفجوةٍ كبرى تزيد وتتهيّأ للظهور بين أبناء القطر الواحد. . . تصوّر هذا الفرد بعقليةٍ وعاداتٍ وتقاليدٍ تخالف كلّ المخالفة ما يتمتّع به صاحبه بالمقابل ثم تصوّر هذا البون الشاسع في حياتهما العمليّة أو الفكريّة العقلية، فهلاّ تلاحظ معي أنّ الشقّة بعيدةٌ بين الطرفين؟ وهلاّ في أو تأخذ وسطهما المتناسب ليتسنّى لهما العيش؟!
إننا ندعو إلى ضرورة الانسياب مهما كلّف الأمر على أن يكون انسياباً نحو الجوزاء. نابذين عقولاً متحجّرةً، ونفوساً ساكنةً تلك التي تريد أن تجعل من حاضرها ساحةً كبرى تتنوع فيها كلّ عناصر الماضي من غثٍّ وثمينٍ، ضاربةً بكلّ تقدّمٍ ونشاطٍ إنسانيٍّ، عرض الحائط، لأنه في نظرها - جديدٌ - جديدٌ فحسب. . .
نحن لا نفكّر بأنّ لكلّ جديدٍ أنصاراً وخصوماً مهما كانت قيمة هذا الجديد، ولا ننكر أيضاً هذا الغلوّ والإفراط من كلا الطرفين، ولكن لننظر منصفين إلى كلّ شيءٍ في واقعنا ولنستخلص منه ما يلائم الحياة الحاضرة، سواءٍ كان قديماً أو حديثاً، إذ أننا لا نريد أن نبني الحاضر على أنقاض الماضي، ولا نحبّ أن نبعث كلّ ماضي، بل همّنا أن نأخذ كلّ حسنٍ وجيّدٍ وملائمٍ للحاضر والوقت الواقع، كلّ شيءٍ ينساب ولكنّ المدنيّة المتحفّزة والحضارة المتوثّبة تنساب نحو السمو والعلاء. . .
دمشق
رياض الجابري
كلّية الآداب