الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكمة سبيل الحرية
للأستاذ سعيد القضماني
يعدّ فيثاغورس، برأي شيشرون، أوّل من لقّب بالفيلسوف لأنّ القدماء كانوا يطلقون، قبل فيثاغورس، لقب الحكماء على أولئك الرجال الذين جهدوا لوضع أسسٍ ثابتة للجماعات البشرية، وعلى المفكّرين الذين كانوا ينشرون بين الناس تعاليم العقل ويدعونهم لتحكيم المنطق، والشّعراء الذين كانوا يشيدون بأناشيدهم بفضائل الأجداد وأعمالهم المجيدة الباهرة ثمّ على أولئك المتشرّعين الذين خدموا الحضارة بدعوتهم لسيطرة القانون والقدّيسين والصّالحين الذين توصّلوا لكشف النّقاب عن سرّ الطمأنينة النّفسيّ والراحة الفكرية، فاستطاعوا أن يشيعوا في قلوب النّاس الأمل الحلو في حياةٍ أخرى حيث الراحة والسعادة والخلد. وعلى هذا الاعتبار عرّف شيشرون الحكمة القديمة تعريفاً تقليديّاً فقال: الحكمة هي علم معرفة الأشياء الإلهيّة الروحية والبشرية الحسّيّة ثمّ معرفة العلل والأسباب التي تسيّر هذه الأشياء. ولقد أخذ بهذا التّعريف كلٌّ من سينك وباكون وديكارت، حتى سبينوزا نفسه قد تأثّر بهذا التعريف عندما قال: غاية الفلسفة الأولى معرفة أثر الحكمة الإلهية في تسيير نظام الكون.
أمّا فيثاغورس فلم يشأ أن يصطنع لنفسه لقب الحكيم بل ارتضى، بكلّ تواضعٍ، بلقب الفيلسوف معناه الباحث عن الحكمة أو محب الحكمة.
والحق فإنّ هذا الحكيم الكبير كان يمارس علماً تامّاً من شأنه إرضاء نهم العقول المتفتّحة وإشاعة السكينة والطّمأنينة في النفوس القلقة، وغية هذا العلم معرفة لمبادئ العليا التي تسيّر العالم والقوانين الثّابتة التي تربط بين الإنسان والطبيعة ومن ثم معرفة النّظام الإلهي الكامل الذي يسود هذا الكون البديع ذا السماء الساطعة والكواكب المتلألئة.
على أنّ هذا العلم، كما يقول سينه، فوق متناول البشر وهو محرّمٌ عليهم، لأنّ ما نسمّيه بالحكمة هو من خصائص الذّات الإلهيّة، أمّ إذا تاقت نفس الإنسان إلى الحكمة وقويت فيه الرغبة في تلمّس آثارها، فلا يستطيع الظّفر بها في حدود الكمال المطلق، ولكن كلّ ما يشعر به من شوقٍ ملحٍّ للحكمة وما يبذل من جهدٍ جريءٍ للوصول إليها، يعدّ فضيلةً بحد ذاته، وإنّ ذلك التّوق الشديد إلى المعرفة والكمال بفرض مبدأ وجود ذلك العلم السماوي
الكامل.
كان أفلاطون أكثر حكماء الإغريق محاولةً لبلوغ هذه الحكمة الغيبية والعلمية والخلقية فكان بذلك يسعى إلى تحقيق حلم فيثاغورس الذي لم ينقطع تلاميذه أبداً عن متابعة السعي للظفر بتلك الحكمة الكاملة المطلقة.
وقد حرص أفلاطون على ألاّ يجزّأ هيكل الفلسفة الفيثاغورثيّة بالتّعرّض لأشكالها المختلفة التي طلع بها أتباع فيثاغورس ومريدوه كلٌّ على حسب مزاجه وتفكيره الخاص، لأنّ الفيلسوف الحق، برأي أفلاطون، ليس من يفاضل بين مظاهر الحكمة ويرجع شكلاً منها على شكلٍ آخر، بل الفيلسوف الحق هو الذي يتعشّق الحكمة بأجمعها وتكون ضالّته يأخذها أينما وجدها.
وما زال هذا المفهوم القديم للحكمة يتناول بالبحث والتعميق والتّعديل من قبل أولئك الرّجال الذين عمدوا بادئ الأمر، لتكوين مذهبً خاصٍّ لهم في الحياة ثمّ سعوا جهد طاقتهم لأن ينشروا مذهبهم بين الناس ويلقّنوه إلى الآخرين.
فما عسى أن تكون الحكمة على وجه التّحقيق! وما عسى أن يفيد الناس منها، إذا لم تكن، قبل كلّ شيءٍ، فنّاً من الحياة يصنعه المرء ليحيا بانسجامٍ وائتلافٍ مع كلّ ما أبدعت عقول الحكماء من الأفكار الرائعة وما حلموا به من المثل السامية؟ إنّ الحكمة لم تكن في نظرهم نتاجاً هزيلاً لعلمٍ جافٍّ عقيمٍ، ولا هي تعاليمٌ لا تنسجم مع المجتمع وتدعو إلى حياةٍ عابسةٍ من الحسرة والتّبكيت، بل كانت الحكمة، في نظر أولئك الذين أوتوا الفضل العظيم بتمتّعهم بنعمها، ينبوعاً يتفجّر في قلوب الحكماء وثماراً ناضجةً في نتاج تجاربهم وإشعاعاً سامياً من نور عقولهم. ونحن إذا تجاهلنا بأنّ الحكماء قد مرّوا بهذه البسيطة ولم يطبّقوا في حياتهم ما كانوا يدعون إليه من فلسفة وتعاليم، فإنّ كلّ ما يمكن أن يشيعوه في نفونا خلا لأجيال الطّويلة من لهب الحماسة ونعمة التأمل يتعرّض عندئذٍ لأن يتدحرج إلى هوّة العدم، ويغدوا بعد ذلك كلّ ما تمخّضت عنه الأجيال من حكمة باهتاً هزيلاً لا حياة فيه فينتج عن ذلك ضعف الوجدان وخبو نور العقل وانطفاء شعلة الرغبة في حبّ الحياة.
وعندما يفلت خيط الحكمة من يد الإنسان يفقد بذلك كلّ دليل يقوده إلى سبيل الخلاص من سجن الأهواء وقيود النّزوات، ويفقد أيضاً القدرة على معرفة نفسه وعلى السيطرة عليها
فيفضّل عندها سبيل السعادة المطمئنّة والهدوء البهيج الذي يخلع على النّفس كلّ غبطةٍ ورضى.
والحكمة بعد ذلك هي المدرسة الوحيدة حيث يتلقّن المرء فيها سرّ الانطلاق وجوهر الحرّية، فالذي يقدر على مغالبة هواه وعلى سيادة نفسه مسترشداً بحكمة الحكماء، هو قادرٌ لأن يكون حرّاً بنفسه سيّداً على كلّ شيء، إذ ليس بمقدور أية سلطةً أن تضعف في نفسه تلك القوّة الكامنة التي تنبعث من ثقته المطلقة الواثقة التي ولّدتها خبرة الدّهور وعصارة الفكر ونتاج الحكمة وزادها رسوخاً علم المرء بأنّه قادرٌ على السّير وفق تعاليم وأنظمةٍ ابتدعها العباقرة الأفذاذ وعلى الحياة عن بصيرة وهدى وبتماسٍ مع خلود الفكر الإلهيّ.
ففي هذه الحالة عندما يوفّق الحكيم إلى إشاعة الانسجام بين نفسه وبين خير ما أبدع الفكر وأجمل ما حلم به الخيال ويتسامى بذلك من مرتبة الحسّ إلى مرتبة الرّوح، عندئذٍ يستطيع الظّفر بتلك الحرّية السامية التي هي مصدر قيمته الإنسانيّة وبقدر ما يشتدّ إيمان الحكماء بحرّيتهم بقدر ما يكتب للحرّية الحياة والبقاء، والضغط لا يؤثّر على نفوسهم ولا يحول دون تنفيذ إرادتهم، وقد تعمل وحشيّة المتعصّبين والحمقى على إخماد لهب الحرّيّة، لوقتٍ ما، ولكن الجزوة التي تحتفظ بها قلوب الحكماء المتأجّجة تعرف دوماً كيف تنفض الرّماد عنها وكيف تعيد إلى شعلة القلب لهب الحماسة ونعمة الضّياء.
سعيد القضماني