الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لغة فنون البناء
للدكتور سليم عادل عبد الحقّ
محافظ دار الآثار الوطنيّة ومدرسة التاريخ القدبم
في كلّية الآداب بدمشق
مهما حاول الإنسان أن ينعزل في الطبيعة وأن يفيء إلى نفسه ويخلد إلى إحساساته، فعبثاً يفعل لأن الطبيعة غير محدودة وليس لها أوّل ونهاية. فلا البحر ولا الجبل ولا الغابة بمكنتها أن تمنحنا مكاناً محصوراً نلتجئ إليه إلى رحبته الضّيقة فينقطع اتصالنا بالعالم الخارجي ونشعر براحة من وجودنا وأنفسنا في حيّز صغير من الفراغ. وأكبر الظّن أن فنّ البناء ولد من هذه الحاجة وأن الرجل الابتدائي أراد من تحديده قطعة من الأرض بجدار أحاطها به وسقف رفعه فوق هذا الجدار أن يخلق لنفسه عالماً صغيراً محدوداً خاصّاً به.
ومهما يكن فقد استطاع كلّ امرئٍ في المجتمعات الأوّليّة وفي المجتمعات الراقية أن يتّخذ لراحته جوّاً صغيراً يقوم على كتلة من التراب وعدد من الأحجار، وجعل ينظّم كلّ ذلك على شكل قلّما يتّفق والشكل الذي يبدعه رجل آخر بحيث أن شخصّيته نطبع بناءه بطابعها كما تطبع فنيّ النّحت والتّصوير اللذين يعبر بواسطتها عن خوالجه النفسية وأفكاره وأحلامه، تتبدّى خلال منشآته كما تتبدّى خلال تماثيله وتصاويره.
وفي الواقع إنّ العناصر التي يتألّف منها فنّ البناء محصورة ولا يمكن أن تتبدّل بتبدّل الأشخاص والأزمنة وتتلخّص في العمود والتّاج والعضادة والقبّة التي أوجدها الإنسان منذ أقدم الأزمنة فأصبحت مشاعاً بين البشر أجمعين، تملكها كما الإنسان منذ أقدم الأزمنة فأصبحت مشاعاً بين البشر أجمعين، تملكها سوريًة كما تملكها أمريكا ويتصرّف بها العرب كما يتصرّف بها العجم. إنّما تختلف الأبنية باختلاف مزج هذه العناصر ببعضها وبتنظيم الجدران التي تحدّد جوّها وبإقامة جهاز من الفراغات فيها من الفراغات فيها يسمح لسكّانها بتلقّي نور الشمس، وبتوزيع أقسامها الداخلية حسب رغائبهم. وفي كل هذا يفرّق إنسان عن إنسان وتختلف بيئة عن بيئة ويتميّز عصر عن عصر.
فمما لا شكّ فيه أن نفسيّات الأفراد والشعوب تظهر بوضوح خلال فن البناء وخلال الأشكال والعناصر التي يتألّف منها هذا الفنّ. فإذا نظرنا إلى أبنية المصريين القدماء وجدنا
أن جدرانها من أسفلها إلى أعلاها مبنيّة بأحجارها كبيرة ملساء، يخيل للمرء إذا تقرّب منها أنّه يدفع عنها بقوّة خفيّة مع أنّها بحذق ومهارة ومنطق لا غبار عليه، ولا ريب أن هذا كمالها هذا يجعلنا نشعر بإحساس بارد يوقفنا على عتبتها ويمنعنا من النّفوذ إلى داخلها، فمن المحقّق أنّه لكي يستطيع امرؤٌ أن ينفذ إلى داخل منزل أو آبدة لا يتحتّم عليه أن يجد بابه مفتوحاً فقط بل يجب أن يشعر أنّه سيستقبل ويلقى فيه كلّ ترحاب، وكما قلنا أنّ الجدار المصري القديم أملس ومغلق يسقط كأنه جاهز بين سكّان الآبدة المصرية وبين العالم الخارجيّ فيمنعهما من إقامة أي اتصال كان.
وقد رأى بعض الباحثين أن في فنّ البناء الفرعونيّ تعبيراً عن الفزع الذي كان يشعر الرجل المصري القديم والذي كان يدفعه إلى البحث عن وسائل تؤمّن له الخلود، وأنّه يحوي عناصر تعاكس الطّبيعة وتطوّر البشريّة. نحن وإن كنّا نرى هذا الرّأي تماماّ إلا أننا نشارك أصحابه بأن المصريين كانوا يتوحّدون من إشادة أوابدهم أن يهربوا بواسطتها من مصير كلّ البشر وأن يوجدوا لأنفسهم ملاجئ تعصمهم من الفناء وتبقيهم لا في قيد الحياة بل في قيد الموت. والأهرام والمصاطب والمدافن المصريّة التي تعب بإنشائها سكّان وادي النيل القدماء شاهدةٌ حتّى يومنا هذا على سيادة الموت ونكران الحياة.
ثمّ أننّا إذا دخلنا إلى داخل أكثر المعابد المصريّة ولا سيّما معبد الإمبراطوريّة الحديثة لوجدنا أنّ النور الذي هو عنصر الجمال الأساسي في الفضاء لا يصل إليها، فالأعمدة وتيجانها أشكال صلبة متجمّدة ومتراصّة لا حياة فيها، لا يستطيع المرء أن ينفذ بينها بسهولة ويضطّر للتوقّف لأنّ المسافة بين عمود وآخر صغيرة، والطّوق والنوافذ في الجدران قليلة ولا تسمح بإضاءتها إلاّ بشحّ زائد. أمّا داخلها المختصّ بعيادة الكهّان وخلوة الفراعنة مع الآلهة فهو موشّح رهيب، يفصل المرء عن العالم الخارجي. ويخيّم عليه سكون القبر العميق.
ولا ريب أنّ أكثر فنون البناء القديمة تشارك فنّ البناء المصري في صنعته الموحشة هذه وما وصلنا من آثار لفنون السّومرييّن والبابليين والحثّيين والفينيقيين لا يجعلنا نبدّل هذا الإحساس. وهناك أبنية أخرى أقرب من المتقدّمة عهداً تعبّر وتتكلّم بنفس اللغة فمنشآت الفنّ الرّوسي الذي سبق في أوروبا الفنّ القوطيّ وازدهر خلال القرن الثامن عشر الميلادي
تمثّل حياة الرهبان الخشنة الذين عملوا على إشادتها، وتنمّ عن رغبتهم في التّقشّف والنزوع إلى مثل أعلى ديني مطلق. لذا فإن الأحجار التي بنيت منها ليس فيها حياة، على حين أنّ الأحجار في بعض الفنون التي عاصرتها تؤلّف عنصراً حياً يشعّ بالفرح والضّياء كما هو الحال في الفنّ الأندلسي العربي.
ويتحوّل أحياناً الشعور بالخوف الذي تلهمنا إيّاه مبتكرات فنون البناء القديم إلى شعور عنيف مشابه للقلق والإطراب والبحر الذي ينتاب النفس ويسدّ عليها مسالكها كما يظهر ذلك لذا تأمل بعض الأوابد الهنديّة القديمة. وفي الواقع إذا كان فنّ البناء الفرعوني القديم تّصف ببرودته ويمنع منطقه العقلي كلّ شعورً وتحسسّ إلاّ بعاطفة الخوف فإنّ فنّ البناء الهندي القديم يختلف عنه كلّ الاختلاف فأوابده ومخلّفاته مشبعة بحياة غريبة حارّة تشبه طبيعة البلاد التي نشأت فيها. وهي تنتصب أمام من يتأمّلها كأنّها الهمّ الكبير يجده صاحبه أنّى اتَّجَه أو الكابوس الذي لا سبيل إلى الخلاص منه. وتقدّم إليه أشكالاً محدّبةً كبيرةً وغنيّةً تجعله يتنفّس في جوٍ من الحيرة والدّهشة والقلق لا حدّ له. وما ذلك إلاّ لأنّ نسبها كبيرة تنشر باتساع ما تحويه من أشكال مرعبة مخيفة مؤلّفة غالباً من رؤوسٍ ضخمةٍ حقيقيّةٍ وغير حقيقيّة. ويلقي داخل المعبد الرّوع في النّفوس كخارجه فيشعر المرء وهو يلج بابه أنّه قد ملكته قوّة غريبة سيطرت على حواسّه فتتعسّر أنفاسه إليه أنّه مجذوب ومدفوع في آن واحد وغارق في خضمٍ لا نهاية له. على أنّ الإنسان لم يبدع فقط أشكال الخوف والوجل والعذاب في فنّ أبنائه، فقد عبّر في مبتكراته أيضاً عن الفرح والإشراق والهناء حاذفاً منها كلّ ما يوحي إلى النّفس بالكآبة والحزن والاضطراب. فثقب الجدران بفتحات كبيرة وأدخل إلى داخل أبنيته الضّياء والهواء. والمعبد اليونانيّ القديم أحسن الأمثلة التي تساق في هذا المقام عن الأوابد التي تعبّر عن السعادة والتطلُّع الباسم إلى الحياة. وهو كما قال بعضهم ليس قائماً على أعمدةٍ بل على موكبٍ من الرجال الأحياء يلفّهم النّور والهواء فيؤلّفون لحناًً حيّاً تنسجم نغماته وأيّ انسجام. هذا وبناؤه موجّهٌ كلّه إلى الخارج فالعواميد محفورةٌ بأخاديد شاقوليّة مستقيمة يلعب بها النّور، وداخله مفتوح وغير مغلق، فيه شيءٌ كثيرٌ من سعة العالم وجماله، ويتصفّى فيه الضّياء خلال مصفاةٍ دقيقةٍ. فيرى إلى جانب النّور الوضّاح شبه الظّل ثمّ الظلّ كلحنٍ موسيقيٍّ عذبٍ تضمحلّ نغماته شيئاً فشيئاً. وقد
اقتضى نشوء اليوناني تحررّاً مطلقاً من كلّ خوف وكلّ قلقٍ توازناً مدهشاً بين كلّ العناصر البنائيّة وسعادةً نَعِمَ بها الإغريق ردحاً منّ الزّمن، فعبّروا عن كلّ هذا بخطوطٍ أفقيةٍ لها اتّزان داخليّ معجب دون أن يكون لها في الخارج أشكال غنيّة كثيرة. ولا يمكن أن يشاهد هذه الموسيقى المتجمّدة ومثل اتساقها الساحر إلا في عهدٍ آخر اكتملت فيه ملكات الفرد وتحررّ خياله وجعل يبني البناء وذلك في عصر النّهضة الإيطاليّة في النّصف الثّاني من القرن الخامس عشر وأوائل القرن السّادس عشر. ولا ريب أن الأشكال التي تتّصف بمثل هذه البساطة وهذا الجمال نادرةٌ. إلاّ أنّه يوجد نوع آخر من الأبنية جميلة وقويّة بآن واحد. وذلك لوجود اندفاع داخليّ قويّ فيها يهيمن على أشكالها ويمنحها صفة خاصّة. وتختصّ بأنه لا يوجد فيها توازن البتّة، وأنّ خطوطها غير أفقيّة بل عموديّة تسمح للمرء أن يصعد إلى السّماء أجنحة غريزتّه. والفنّ القوطيّ مثل جميل عن هذا الاندفاع، وقد أملأ بآثاره المعجبة أوربا الغربيّة والشّماليّة. وتحمل كاندرائيّات رانس وستراسبورغ وكولونيا وبامبرغ وغيرها دروساً بليغة فيها منطق ووضوح ورجولة ونزعة شرقيّة وكثير من الجنين ينمّ عنها كلّها التي تطاول السّماء وتماثيلها الحيّة وزجاج نوافذها الملّون. أمّا فنّ البناء العربيّ الذي علّم فنّ البناء القوطيّ شيئاً كثيراً من نظريّاته فهو فنٌّ فيه الكثير من السحر الأخّاذّ والرّوعة الفتّانة. فخارج البناء يدلّ على داخله وهو يجذبك من بعيد ويدعوك إلى الدخول إليه يدعو الهواء والضياء اللذين ينشرهما في غزارة وعن سعة قلّما أن توجد في أي بناء آخر في العالم، ويستقبلك استقبالاً عذباً ويؤنسك فلا تشعر فيه بأيّة وحشة. وأنت هنا أمام نفسيّة جديدة، فالعمود ليس له قاعدة ويستند مباشرة على الأرض، والخطوط أفقيّة أو محدّبة تلقي في النّفوس شيئاً كثيراً من الأحاسيس الحلوة. فإذا دخلنا إلى مسجدٍ فإنّنا نشعر بمشاعر خفيّة لأنّ الفراغ هنا لا يهرب إلى السّماء كما هو الأمر في البناء القوطيّ ولا ينحصر الأمر في بقيّة الفنون الشّرقيّة، إنّه فراغ متّزنُ ولا يرفع المرء ولا يدفعه إلى خارج البناء بل يلقي في نفسه كثيراً من الراحة والطمأنينة ويفتح أمام عينيه عالم الأحلام بما فيه من أقواس منسّقةٍ تنسيقاً جميلاً كأنّها وجدت لقياس الفراغ، وترجع ألحاناً تردّدهما بنسقها الرتيب وبعذوبةٍ كلّية.
ويقوّي هذا الشعور في أنفسنا إذا دخلنا إلى منزل عربيّ. ففيه ماء وخضرة وهدوءٌ تمنحنا
وجداناً شعريّاً عذباً، وفيه أروقةٌ خفيفةٌ هوائيّةٌ ذات أعمدةٍ دقيقةٍ تساعدنا على مفارقة أرض الحقيقة والتّحليق في سماء الخيال. ونحن لا نحفظ عنها إلاّ انطباعاتٍ نفسيّةً هي أشبه بالأشكال التي يراها المرء في الأحلام. وما ذلك إلاّ لأنّ إطاراتها غير محدودةٍ ولا واضحةٍ، وأقواسها اللطيفة مسنّنة كالأزهار تزركش الفضاء وتقسمه إلى زخارف يضيع بتأمّلها الخيال مسّه بالواقع.
واستناداً على ما تقدّم فإننّا نستطيع أن ننقل أحاسيسنا في فنّ البناء إلى لغة تصويرية. وكما فعل الشاعر الإفرنسي الرمزي (بودلير) في إحدى قصائده في الرمز إلى الأشياء ببعض الألوان فإننا نقول إن فنون البناء الشرقيّة ولا سيّما فنّ البناء المصريّ يجعلنا نفكّر باللون الأسود بعدها عن الحياة. ويذكّرنا باللون الأحمر جو الفزع والقلق والاختناق الذي تنشره أبنية الفنّ الهندي القديم بما فيها من أشكال تشبه الرّؤوس الآدميّة فتبعث اندفاعات نفسيّة حاميّة بتدافعها وتعاقبها وتجمعها دون توقّفٍ ولا راحةٍ كأنّها حركة اللهيب. وترسم المعابد اليونانيّة أمام أعيننا بإشراقها وضحكها وسعادتها لون الشمس الأصفر الذهبي. أمّا الأبنية القوطيّة والأبنية العربية فهي تبعث التأمّل باللون الأزرق الصافي لأنّ الأولى تطاول السماء باندفاعها الداخلي والثانية تجعلنا نحلّق فوق أجنحة الخيال إلى الجوزاء.
ونصل أخيراً إلى فنّ بناءٍ يتّجه اتّجاهاً خاصّاً فتبقى جذوره مغروسةً في الواقع ويختلف عن كلّ ما تقدّم. وهو فنّ البناء المعاصر الذي لا يبحث الإنسان خلال منشآته عن ملجأ يعصمه من أعراض الطبيعة بل إنّه يسعى إلى سيادتها والاستيلاء عليها والنّظر إليها من علٍ. ويكفينا أن نجتاز بعض شوارع مدينة دمشق أو القاهرة الجديدة حتى نشعر أنّ الإنسان المعاصر قد ساد الأرض وتحكّم في الفراغ. فمواضع الأبنية قد خصّصت في أمكنة معيّنة من الفراغ حسب تخطيطات وتصميمات سابقة. ثمّ وصل بينها بشوارع ضخمة طويلة تضيف خضرة الأشجار والحدائق المغروسة على جانبيها أو في وسطها، جمال الطّبيعة إلى جمال الفن. ولا يسع المرء تلقاءها إلاّ أن يشعر أنّه في عالمٍ منظّمٍ لا محلّ فيه للخيال الجوّال التّائه. وغير خافٍ أنّ التّصرّف في الفراغ على هذا الشّكل يسمح للفنّان أن عبّر عن شخصيّته وأن يظهر خوالج نفسه الخفيّة كما يسمح لشعبنا أن يظهر خصائصه العّامّة.
والخلاصة أنّ الإنسان يغيّر صفات الحجر ويستطيع أن يعبّر بواسطته عن حالات نفسيّة
مختلفة حسب ما يسعى إلى وضعه فيه من إتّزان واتّساق وتناسب واندفاع وتنظيم. وما لغة البناء إلاّ الشّكل الّذي تنظّم بواسطته عناصر هذا البناء والطّريقة الّتي يوزّع بها الإنسان النّور بالنّسبة إلى الظّل. وهو يستطيع حسب حالاته النّفسيّة أن يخلق فنّاً يولّد الأسرار أو فنّاً ثانياً يوحي بالقلق والاضطراب أو فنّاً ثالثاً مشرقاً يبعث على التّأمّل أو يحثّ على العمل.
سليم عادل عبد الحق