المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فن السؤال للأستاذ عبد الرزاق جودة يسمو المرء في أفكاره وآراءه، ويعلو - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٥

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌فن السؤال للأستاذ عبد الرزاق جودة يسمو المرء في أفكاره وآراءه، ويعلو

‌فن السؤال

للأستاذ عبد الرزاق جودة

يسمو المرء في أفكاره وآراءه، ويعلو في معارفه وتأمّلاته، سواءً مع تدرّجه في درجات الدراسة والمطالعة، أو مع نشوئه ونموّه في فصول السنّ والأعمار، كلّ هذا يراه إذا ما عاد وتأمّل ذاته، وتعمّق في شخصيّته، يعود إلى عوامل عديدة، أسماها ما فطر عليه من حبّ السؤال والاستطلاع، ولذّة المحادثات والمحاورات، التي تمكّن الفهم والإدراك، وتقوّي الحكم والمحاكمة، وتزيد الإمعان والتّذوّق في العقول والنفوس.

يتبيّن لنا من ذلك أنّ أهمّ ما يجب أن يلجأ إليه المربّون والمربيات، والمعلّمون والمعلّمات، في تلقين ناشئتهم العلوم والعرفان، والفضائل والأخلاق، هو السؤال والتّحدّث وقد بحثنا في لمحةٍ سابقةٍ عن ذلك، أما الآن فإني أرسل بنبذةٍ عن كيفيّة انتقاء السؤال والفن في اختياره.

يتطلّب السؤال كثيراً من الحذاقة، وكثيراً من الإمعان، إذ هو فنٌّ حقيقي. ولنلاحظ ما فيه من الخصائص الدقيقة.

1 -

يجب أن يكون السؤال واضحاً، وذا قيمةٍ: كيف يستطيع التلاميذ الردّ على سؤالٍ محدودٍ، في نتيجةٍ مظلمةٍ، أو فكرةٍ مبهمةٍ، في حين أنّ الأستاذ نفسه من المحتمل أن يلاقي صعوبةً في الإجابة عنه! إنّ الأسئلة العامة الغامضة توقع التلاميذ في حيرة وارتباك عظيمين، كيف نطلب إليهم أن يجيبوا بصورة واضحة وتامّة عن أسئلة كهذه؟ ماذا قلنا في المرة الأخيرة. . .؟ أو ما هي الممالك المشهورة. . .؟ أو ماذا تعرفون عن مجلس الإدارة. . .؟

يفهم من ذلك أنّ الأسئلة التي تعطي إنتاجاً حسناً، وتقدّماً محسوساً في الصّفّ هي غالباً ما تكون حسب منطوق مادّة الدّرس، المستوحاة من عناصره الأساسيّة، فالمعلّمون هم الذين يبذلون قصارى جهدهم لجعل أسئلتهم نيّرة وواضحة، فيخرجون الدرس معها بأجمل صورة، ويجعلون الوقت المكرّس لها كفرصةٍ معدّةٍ للراحة تتناحر فيها الأذهان، دونما قسوةٍ أو قصد.

2 -

يجب أن يكون السؤال جذّاباً ومنطقيّاً: السؤال الواضح، الغضّ، المملوء طلاوةً، وتفسيراً جذّابين للدرس والتّمارين - لاشكّ - أنّه سوف لا يملك قسوة الغصن اليابس الذي

ص: 56

لا يلين، بل يتمشّى مع إصلاح ما هو فاسدٌ، ويربط عرى ما هو متفكك الأواصر، وبالعكس فالسؤال المغلوط والخارج عن نطاق ومنطوق مادّة الدرس، كأنّه يقذف بالتلميذ إلى هوّةٍ سحيقةٍ مظلمةٍ، فيبعث في فكرته التشويش، والارتباك، ويسوقه إلى الإيهام والإبهام الخطيرين.

لذا يجدر بالمربّي الحقيقي أثناء أسئلته ومحادثاته الأخذ بيد التلميذ، والسير به بمعونة أسئلةٍ محكمة الارتباط، ومطبقةٍ على أشياءَ حسيةٍ توقظ فيه الحياة، وتظهر قواه الكامنة للمّ شعث أفكاره المبعثرة. وذلك بإحضار الأسئلة الأساسية، الموضّحة لمادّة الدرس بصورة فنّية دقيقة، واعتناءٍ فائقٍ صحيحٍ.

3 -

يجب أن يكون السؤال في مستوى معرفة التلاميذ وعقليّتهم: الأسئلة الفارطة في الصعوبة تخمد - دوماً - الجواب، والاتّقاد، وتطفئ النشاط والاستعار، وتجلب السآمة والملل إلى النفوس. والأسئلة البالغة في السهولة لا تحدد شيئاً من المقدرة، بل تكون عديمة الفائدة، وقليلة الإنتاج.

ففي الأسئلة الصعبة مثلاً: كيف تسأل في حساب الصف الأول كم ثلثاً في الأربع برتقالات؟ أو في مفردات الصف الثاني، آت لنا من كلمة طبخ اسماً وصفةً ومصغّراً؟ مع أننا لم نعطِ شيئاً من ذلك، وهكذا دواليك في بقية الصفوف.

وفي الأسئلة السهلة، فكيف لا نبعث الفرح والمرح في التلميذ في أسئلة تلذّ له ظاهريّاً، وفيها الضرر بعينه، إذ تثير فيه الإعجاب بنفسه، وتجلب له الغبطة والسرور، ولا تحيجه في الجواب إلا لكلمة (نعم) أو (لا) والتي في بعض الأحايين يشرع المعلم في الإجابة عنها، فيعطي جلَّ الجواب أو أجمعه، ولا يترك للتلميذ إلا الجهد الضئيل لإيجاد آخر كلمةٍ أو آخر مقطعٍ في الجواب، نحو ولد محمد صلى الله عليه وسلم في. . .؟ مكّة. وكان خالد بن الوليد في جيش العراق ال. . .؟ القائد.

إنّ طائفةً من مثل هذه الأسئلة، أكانت أسئلةً صعبةً أم سهلةً، بدل أن تذكي الأذهان بالعكس فإنّها تميت الحركة الفكرية، ولا تترك للتلميذ حقّه في العمل الذّهني، والجهد التّفكيري، وتكون - محض - مميتة (للطريقة التعليميّة الفعّالة) بمجلّة فن التّربية في 15 كانون الثّاني عام 1888 م، إذ قال: إنّ نفس التّعاليم الشّرعيّة في الدّين المسيحي تتقدّم بأسئلة

ص: 57

وأجوبة، ولا تملك صفة تحيج إلى إجهاد وإعمال الفكر، بل العكس تلخّص إلى المحاورة بصورة لفظيّة، أدبيّة، مطابقة للمعرفة والعقل).

4 -

يجب أن يكون السّؤال لا إفراط في السّرعة، ولا تفريط في البطء:

هناك معلّمون كثيرون، عديمو الأناة والتؤدة، لا يعرفون معناً للتّريث من معنىً في أسئلتهم ومحادثاتهم، فلزاماً علينا أن نقول لهم: دعوا التلميذ أن يفكّر في السؤال فلا تضايقوه، ففي الإضافة إزعاج له، وشلٌ، لقواه، وإذا ما تأكدتم - بعد هذا - من عدم الجواب، انتقلوا به إلى غيره علّه يستوي إلى الطريق ثم إذا كان سؤالكم يشوبه شيءٌ من الغموض، وغير واضح بصورةٍ جليّة غيّروا شكله في التّقديم، أو التّأخير، أو بقلب العبارة المبهمة.

والمشكلة الأعظم من ذلك هي النّاشئة من الشّطر الثاني من هذه الفقرة، وهو برودة وبطء السّؤال. فكلّ سؤال فيه جمودٌ وبلادةٌ يصطحب معه ضباباً قاتماً يخيّما في جميع أرجاء الصّف. لأنّه من المؤلم بمكانٍ أن يرى سؤالٌ واحدٌ يدور أمداً طويلاً حول تلميذٍ واحدٍ حيث يجنح الباقون في هذه البرهة الزّمنيّة الطّويلة إلى الصّمت العميق المضرّ، وينساب إليهم الضّجر والملل اللذان يعقبهما عدم الانتباه والفوضى.

5 -

يجب توجيه السؤال إلى الجميع:

المعلّم الذي يعني بتوجيه سؤاله - أبداً - بالأقوياء من التّلاميذ لا شكّ أنّه يرى أصابعهم - بلا فتور - تتقاذف إلى الأعلى، وما أعظم غبطتهم؟ عندما يجيبون بلا صعوبةٍ، أو إجهاد فكرٍ بالنسبة إليهم.

أجل؟ لا يمكن الاستغناء عن سؤال أمثال هؤلاء التّلاميذ، وإغفالهم وشأنهم أو تركهم في عزلةٍ لوحدهم ظنّاً منّا أنّهم وصلوا إلى الغالية المنشودة، ونحن بغنى عنهم. ثمّ ولا يسعنا الاشتغال معهم وترك الباقين في جوّهم يعتهون، بل يجب الاستعانة بالقويّ، لأجل إذكاء الضّعيف، والالتفات إليه كيما ننعشه وندبّ فيه النشاط والرّوح.

إن متوسّطي الطّلاّب أو ضعافهم. في أيّ صفٍّ جعلناهم، أو في أيّ جقبة من أيّام الدّراسة حسبناهم يجدر بنا أن لا ننظر إليهم كأشخاصٍ جامدة، أو صورٍ خياليّة

قال - فيسيو -: (لمن دواعي السّرور العظيم أن لا يمرّ، ولا صفّ، تلاميذه كثيرون كانوا أم قليلون، دون أن ينتابهم - جميعاً - قسطهم من السّؤال وسيكون - بالعكس - الألم

ص: 58

الممض بعينه إذا ما ظنّ أحد التّلاميذ أنّه منسيّ أو مزدرىً به، لأنّ الإحساس بالسخرية، أو عدم العدل، كافٍ للتضليل والارتباك.

قسماً بعيناي أحلفه؟ إنّ أفضل معلّمٍ هو الذي يستنبط من جميع تلاميذه - على السواء - أفضل كميّة).

6 -

يجب أن لا يطلب السّؤال من تلميذ بمفرده:

المثل الأعلى في السّؤال هو إشراك جميع التّلاميذ فيه وذلك بطرح أسئلة شاملة عامّة، تتردد دائماً في المكالمة والتّحديث، شريطة ألاّ تحدث جلبة أو ضجيجاً، يتسرّب معهما تشويش في فهم الفكرة، أو تعذّر في عدم نضوج وتثبيت الموضوع ثمّ ولا يسمح لنا بأيّ وجه من الوجوه أن نعيّن بادئ بدء، ونطلب إليه أن يجيب، فنقول، مثلاً: قم يا نزار وقل ما هي دول الجامعة العربيّة؟ بل يستحسن دائماً أن نوجّه السّؤال إلى علامّة الصف ونطلب الجواب بسرعة من أحد التّلاميذ الذين رفعوا أصابعهم إذا وجدناه مناسباً للرّد، وتحقّقنا استطاعته بالإجابة في غضون ثانية. . .

أو ثالثة. . . أو أقلّ. وبذلك، وأن نستخدم في بعض الصعوبة لتسوية فاعليّة جميع التّلاميذ على السّواء، سواءً في التّكلّم أو الانتباه أو اليقظة أو المحاكمة. . .

ولكن في النّهاية، ومع الممارسة والتّمرين لابدّ من الوصول إلى الغاية المنشودة ونثر بذور النّشاط، والمباراة، والغيرة بين الجميع مهما اختلفوا في المشارك والأهواء.

وأخيراً قبل الانسحاب منن الموضوع ألفت النّظر إلى نقطة هامّة هي: أنّ جلّ المعلّمين يصادفون في تدريسهم نفراً من التلاميذ لا يهتزّون لما يطرح ويجري في الصّف من الأسئلة. فهؤلاء الصّامتون ليسوا - دائماً - أغبياء، بل استحوذ عليهم الخجل فأخمهم على المعلّم الحاذق أن لا يتركهم فريسة الأوهام بل ينشّطهم بكلماته الشّجيّة المشجّعة، ونبرة صوته الجذّابة الملأى بالعطف والرّقّة وإذا جرّ بعضهم إلى الاستجواء، ورآهم قد أجاب خلطاً فلا يستهزء به، ويفتّش عن خزيه، ويضحك الصّف لهفوته، إذ بهذا يؤصّل فيه البكم إلى الأبد، ويجني عليه ويجرّه إلى خطر البلادة، وسوء العاقبة.

عبد الرزاق جودة

ص: 59