المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهمية الآثار القديمة - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٥

[عادل العوا]

الفصل: ‌أهمية الآثار القديمة

‌أهميّة الآثار القديمة

للأستاذ سليمان المقداد

لعلّه من الصعب على الباحث أن يحدّد ما يشمله علم الآثار من فروعٍ عديدةٍ يندمج بعضها في بعضٍ بدرجاتٍ مختلفةٍ كالتاريخ وعلم الإنسان والفنون الجميلة، فعلم الآثار يعمل على إتمام الحقائق المستمدّة من الأدب والتاريخ منذ العصر الحجري القديم التي تطوّرت مع تقدّم البشرية، ومع ذلك ينتج أهمّية هذا العلم فيتعين العصور وكشف الألغاز التي أهمل أو طمس ذكرها فمنذ القرن الثامن عشر انتبه المؤرّخون والباحثون لأهمية هذه الناحية في دراساتهم عن تاريخ وحضارة الأمم القديمة فأسست المتاحف في أكثر البلاد المتمدّنة وأخذ العلماء في اكتشاف النقوش والكتابات والتماثيل والمناظر المصوّرة على الأواني والعملة وهي مصادرٌ تاريخيّةٌ تحدّث عن أحوال الأمم القديمة بصورةٍ لا تقبل الشّكّ والجدل، وقد توسّعت الدراسة عن العصور الماضية بفضل الاستكشافات التي ظهرت والتي ستظهر وبفضل أعمال التّنقيب والحفريّات وصيانة الآثار التي تتقدّم بصورةٍ متساويةٍ مع ارتفاع المستوى العلمي في كافّة أنحاء العالم. وقد أدهش العلماء تلك المقدرة التي كان يمتاز بها الإنسان في العصور القديمة، فالمكتشفات الأثريّة التي تكتشف الآن تدلّ على نشاطٍ وذوقٍ فنّيٍّ وقوّةٍ في التعبير وإبداعٍ في خلق الأشكال يفوق أقصى ما كان يتصوّر احتمال وجوده في تلك العصور، ومن أهمّ مصادر علم الآثار ما يعثر عليه من شظايا وأواني الفخّار القديمة التي تكاد تكون موجودةً في كلّ المناطق التي كانت آهلةً بالسكّان، وكان انتشاره واسعاً حول البحر المتوسّط، وقد درس الخبراء هذه الأشياء دراسةً وافيةً ومتواصلةً حتى استطاعوا الاستدلال بها على العصر الذي عاش بها صانعوها وعلى مبلغ تقدّمهم في شتّى الميادين الفن والحضارة والتّمدّن، ومن هنا ظهر أهميّة الآثار القديمة وضرورة الحرص على صيانتها وحفظها كمظهرٍ قوميٍّ وينبوعٍ علميٍّ يبعث فينا الحسّ الفنّي وروح الطموح وتقدير السّلَف المنتج الصّالح (وهذا أكثره مفقودٌ في برامج الدراسة) - وأقصد بذلك بعث الحثّ الفنّي في نفوس الطلاّب لتذوّقِ روعة وعظمة الآثار - فكم من كتاباتٍ أثريةٍ نفيسة تحطّمت أو طمست بدافع الإهمال والجهل وكم من عاديات فنّيّةٍ تسرّبت إلى أيدي لصوص وتجّار الآثار بثمنٍ بخس حيث تهرّب إلى الأسواق الأجنبية لتباع هناك بأغلى الأثمان،

ص: 40

وبذلك تفقد البلاد إلى الأبد كنوزاً لا يمكن تعويضها. هذه مصر، فتكاد أن تكون قضيّة تمثال رأس نفرتيتي من أهمّ القضايا القوميّة فيها، إذ تعمل الحكومة بإصرارٍ واهتمام لإرجاعه من متحف بافاريا في ألمانيا إلى مكانه في المتحف المصري. فالاهتمام بعلم الآثار وصيانة الأماكن والعاديات واجبٌ مفروضٌ على كلّ من يقدّر القيمة العلم والثقافة والنشاط في هذا السبيل جهادٌ قوميٌّ ينير صفحات التاريخ ويكشف عن أمجادٍ كثيرةٍ أهمل التاريخ ذكرها أو حرّف الكثير من حقائقها، وليس هذا بكثيرٍ على بلادٍ يمتدّ تاريخها إلى مدى بعيد يجعل منها مورداً ممتازاً في نظر كلّ من تستهويه المعارف والذّكريات التاريخية للتّنوّع العظيم في مواردها الثقافية. وإنّ من الملموس لدى القارئ العربيّ ذلك الغموض الكثيف في بعض نواحي تاريخ بلادنا المجيد فأكثر المؤرّخين الإفرنج يتحدّثون عن أجدادنا القدماء كأمّةٍ بدويّةٍ عاشت على الفطرة يئِدون البنات وينتهكون الحرمات ويقتلون ويتناهبون منذ أقدم عصورهم متناسين أنّ العرب كأمّةٍ قديمة العهد بالوجود عاصرت أعرق الأمم في المدنيّة لا يمكن أن يكونوا على مثل هذه الحال التي يذكرونها، كما أنّه لا يوجد في الكون أمّةٌ من الأمم التي عاصرت العرب لم يتقوّض عمرانها ولم تتبدّل في موطنها الأرض غير الأرض، فلا يبقى أمام الباحث المدهوش من أقوال أولئك المؤرّخين ألا يفتّش على الدلائل المحسوسة التي تكشف اللثام عن حياة أمّةٍ مجيدةٍ من أقدم الأمم ليست كما يتحدّث عنها أولئك المنحرفون عن جادّة الحقائق من الكاتبين ذوي النزعات الاستعماريّة، بل أمةٌ كانت لها حياةٌ حضريةٌ قارةٌ ونظامٌ اجتماعي واقتصادي ودولٌ منظّمة، وكان عمرو بن العلاء يقول: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلّه ولو جاءكم وافرٌ لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثيرٌ كما أنّ شيخ التاريخ العلامة ابن خلدون يقرر ما كان للعرب من الملك والحضارة وقد طال أمد ملكهم وازدهرت تجارتهم وصناعتهم فلم تبلُ ببلى الدولة وكانت المعارف الفكرية والعلوم الأدبيّة مزدهرةً ازدهاراً عظيماً، وقد اعترف كثيرٌ من المؤرّخين الأجانب بهذه الحقيقة أذكر منهم العالم الكبير دوسو وكليرمون غافو والمؤرّخ إرنست ريتان الذي قال: إنه من الخطأ وتجاوزٌ عن الحقيقة تصوير العرب بشعوبٍ همجيةٍ وجاهلةٍ، بل على العكس كان لها من ذكائها وتفوّقها أن جعلت لنفسها مدنيّةً خاصّةً زاهرةً رغماً عن وجود الرّومان وتقدّمهم في شتّى ميادين الحضارة في ذلك الزّمن والأدلّة صريحةٌ على بقايا تلك الحضارة من الشام إلى

ص: 41

العراق واليمن خاصّةً في حوران.

وأحسن ما وصل إلينا من الأدب الذي بصوّر هذه الحضارة هو شعر حسّان بن ثابت إذ ذكر شيئاً عن تلك الحياة الزاخرة بالمجد والعلم والفن. وقد عثر الباحثون في بابل على نقوشٍ بالخطّ المسماري وقفوا منها على تاريخ العمالقة واستدلّوا بها قيام دولة حمورابي العربية وهو اسم أكبر ملوكها ومؤسّس أقدم شريعةٍ في العالم كما تحقّق ما كان لدولة الأنباط العربية من مجدٍ وغنى ورواجٍ في التجارة وهندسة معمارية لا تزال بقاياها الرائعة مائلة حتّى الآن. وربّما كان الغموض المحيط ببعض نواحي تاريخنا إغفالاً مقصوداً لأن التاريخ لم ينفرد بهذا الغموض، بل هو ككلّ تاريخٍ آخر قديمٍ في حاجةٍ إلى البحث والكشف عن حقائقه في مواطنه التي دلّ أوائل التنقيب فيها على ثروةٍ علميّةٍ تعاظم كلّ تاريخٍ في الدنيا، ومن المؤكّد أن الجهود التي ستبذل في هذا السبيل ستكشف عن ثنايا حضارةٍ عربيّةٍ زاهرةٍ وتدحض كلّ حديثٍ مدسوسٍ أو تعمّد في إقلال شأن العرب، ولعلّ حوران وهي إحدى ولايات العرب القديمة التي سكنوها من أقدم عصور تاريخهم ستكون من النّواحي التي لها نصيبٌ وافرٌ من هذه الجهود، فقد أينعت بها الثّقافة العربية وتغنّى بجمالها كبار شعرائها، فمدح ملوكها النابغة الذّبياني وحسان بن ثابت، كما أنها كانت أوّل محطّ مدني نلتقي به القوافل القادمة من الجزيرة واليمن والعراق وجلّهم من التجار والأدباء وراغبي التمتّع بمباهج المدنيّة في بلاط الملوك وقصور هذه الديار وحدائقها الغنّاء فكانت محيطاً جديداً وجوّاً فخماً يعيش فيه أرباب القوافل مدةً نم الزمن يعودون بعدها حاملين بضاعة الشام النفيسة وأخباراً وأقاصيص عن بلادٍ مدهشةٍ. ليتحدّثوا بها في مجالسهم العامرة بقلب الجزيرة المباركة فيهتزّ المستمع البدوي لذكرها طرباً ويهفو قلبه شوقاً لرؤياها، هذه هي حوران وحاضرتها بصرى أمّ المدن وعروس البلاد العربية عاصمة الأنباط ومساكن الغساسنة أهراء العالم القائمة بها صروح المجد التاريخية التي تنطق عن فنٍّ خالدٍ ومجدٍ تالدٍ وحضارةٍ كبرى. ولعلّ من أعجب مل مسته من طلاّب المدارس أثناء زيارتهم لآثار بصرى أن يرددوا اسم الغساسنة في حوارهم عن الذكريات التاريخية بحوران ويسألوا عن أماكنهم وبقايا حضارتهم دون أن أسمع من أيّ فردٍ منهم ذكراً للأنباط العرب أو استفهاماً عن آثارهم الكثيرة هذا مع الفرق الشّاسع بين الدولتين في شتّى نواحي الحياة وكلّ ذلك

ص: 42

دليلٌ قاطعٌ على النقص الواقع في تغذية نفوس الطلاّب بالاهتمام بالآثار القديمة وبثّ الثقافة الفنّية في أذهانهم وقد سمعت في الأسبوع الماضي حديثاً يذاع للأطفال من محطّة الإذاعة اللاسلكيّة للحكومة المصرية فمع أنّ الحديث كان معدّاً للإلقاء على أطفالٍ لا يتجاوز أكبرهم السادسة من عمره فإنّ موضوعه زيارة جميلة لآثار الأقصر وفي الحقيقة كان حديثاً شيّقاً جمع بين التسلية والتوجيه نحو تمجيد روائع الماضي والابتداء بالطّفل نحو التدرّج في سبيل معرفتها وتقدير قيمتها فحبّذا لو قام كلٌّ منّا بواجبه في هذا المضمار الوطنيّ وساعد عل قدر إمكانه وبكلّ الوسائل لخلق ثقافةٍ أثريّةٍ صحيحةٍ في نفوس المجموع لصيانة آثار بلادنا الخالدة والتلذذ بروائعها وتذوّق جمالها الغني وإنّا لناظروه قريباً إن شاء الله.

بصرى الشام

سليمان عبد الله المقداد

موظف بمصلحة الآثار القديمة

ص: 43