الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 3]
المقالة الأولى: في النظر في أحوال الرواة
شرط قبول الخبر: أن يكون المُخبِر حين أَخبر به مسلمًا بالغًا عاقلًا عدلًا ضابطًا.
الباب الأول: في الإسلام
أما الإسلام فلاشتراطه أدلّة:
منها: أنَّ عامَّة الأدلة على مشروعية العمل بخبر الواحد في الدّين خاصة واردةٌ في خبر المسلم.
ومنها: قول الله تبارك وتعالى في المنافقين والرد عليهم: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61].
أي: ويصدِّق المؤمنين.
ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
والكفر أشدّ الفسق قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الجرز
(1)
: 18 ــ 20].
(1)
كذا في الأصل: "الجُرُز" وقد سمّاها المؤلف كذلك في عدة مواضع من كتبه، ولم أجد من سمى سورة السجدة بهذا الاسم، وقد ورد فيها قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} .
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
والآيات في ذلك كثيرة.
وتبادُر المسلم من نحو قولك: "رأيتُ رجلًا فاسقًا" من العُرف الحادث [ص 4] بعد صدر الإسلام، وسببه: أنه صار الغالب إذا ذُكِر الكافر أن يُذْكر بلفظه الخاص به "كافر" أو ما يعطي ذلك مثل: "يهودي، ونصراني، ومجوسي". وإذا ذُكِر المسلم الذي ليس بعَدْل أن يُذكر بنحو: "فاسق، وفاجر"، ومثل هذا العرف لا يعتدّ به في فهم القرآن.
وغَفَل بعضهم عن هذا فظنَّ أن دخول الكافر في الآية إنما هو من باب الفحوى، قال: لأنه أسوأ حالًا من الفاسق.
ونُوقش في ذلك بأن الفسق مظنة التساهل في الكذب، إذ المانع من الكذب هو الخوف من الله عز وجل، ومن عيب الناس، ومرتكب الكبيرة قد دلَّ بارتكابه إياها على ضعف هذا الخوف من نفسه.
وأما الكافر فقد يكون عدلًا في دينه بأن يكون يحسب أنه على الدين الحقّ، ويحافظ على حدود ذلك الدين، ويخاف الله عز وجل والناس بحسب ذلك.
أقول: في هذا نظر؛ فإن الحجة قد قامت على الكافر، فدلَّ ذلك على كذبه في زعمه أنه يعتقد أنَّ دينه حقّ.
والكافر الذي بلغته دعوة الإسلام لا يخلو عن واحد من ثلاثة أمور:
الأول: التقصير في البحث عن الدين الحق.
الثاني: الهوى الغالب.
الثالث: العناد.
ولو برئ من هذه الثلاثة لأسلم، قال الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت
(1)
: 68 - 69].
[ص 5] وقد اتفقوا على أنّ من كان مسلمًا مخالطًا للمسلمين، ثم ارتكب كبيرة قد قامت الحجة القاطعة بأنها كبيرة ــ كأن ترك صوم رمضان ــ فهو فاسق، فإن زاد على ذلك فزعم أنه لا حجَّة عنده على تحريم ما ارتكبه كان مرتدًّا، وهو في باب الأخبار أسوأ حالًا من المسلم المرتكب الكبيرة مع اعترافه بأنها كبيرة.
فإن قيل: إننا نجد من الكفار من يبالغ في تحرِّي الصدق والأمانة، حتى إن مَن يَخبر حاله، ويتّبع أخباره، قد يكون أوثق بخبره من خبر كثير من عدول المسلمين.
قلت: وكذلك في فُسّاق المسلمين ممن يترك الصلاة المفروضة ــ مثلًا ــ من يكون حاله في إظهار تحرِّي الصدق والأمانة كحال الكافر المذكور.
(1)
عبارة المؤلف: "خاتمة العنكبوت".
وحل الإشكال من أوجه:
الأول: أنَّ الظاهر من حال الكافر والفاسق الذي يُعرف بتحرِّي الصدق أن المانع له من الكذب الخوف من الناس، وحبُّ السمعة الحسنة بينهم، وعلى هذا فهذا المانع إنّما يؤثر في الأخبار التي يخافُ من اطلاع الناس على جَليَّة الحال فيها، فلا يُؤمن ممن هذا حاله أن يكذب إذا ظن أنه لا يُوقَفُ على كذبه.
فالعدل في خبر هذا أن نتبيّن [ص 6] فيه، فإن ثبت بدليل موثوق به أنه صَدَق عُمل به لذلك الدليل، وإلا اطُّرح لعدم الوثوق به حينئذٍ.
الوجه الثاني: أنه لا يُسْتنكر من الشارع أن لا يعتدّ بصدق مثل هذا؛ لأنه ليس بصدقٍ يحمده عليه الشارع؛ إذ الباعثُ عليه هو رئاء الناس كما علمت.
الوجه الثالث: أنه لو فُرِض أنه يحصل من الوثوق بخبره كما يحصل بخبر المسلم العدل، فقد يكون الشارع جعل كفرَ هذا الرجل أو فسقَه مانعًا من قبول خبره في الدين؛ زجرًا له، وعونًا له على نفسه، لعله يستنكف من تلك الحال فيتوب، ورفعًا لتلك المرتبة العليّة ــ وهي أن يُدان بخبر الرجل ــ عمن لا يستحقها.
الوجه الرابع: أن السبب الباعث على الحكم قد يكون خفيًّا، أو غير منضبط، فإذا كان هكذا فلو كلَّف الشارعُ الناس ببناء الحكم عليه كان في ذلك مفاسدُ، منها: أنه من باب التكليف بما لا يطاق، ومنها: أنه فتحٌ لباب اتباع الهوى، ولكثرة الاختلاف، ولاتهام الحكام، وغير ذلك.
فاقتضت الحكمةُ أن يبني الشارعُ الحكمَ على أمر آخر يشتمل على
ذلك السبب غالبًا، ثم تكفَّل الله عز وجل بتطبيق العدل بقضائه وقدره.
مثال ذلك: أن السبب الباعث على شرع العقوبة للمذنب هو الذنب، فإذا شُرعت العقوبة على وجهين ــ مثلًا ــ[ص 7] فإنما ذلك لاختلاف حال ذلك الذنب. فمن ذلك الزنا شُرِع الحدُّ عليه على وجهين:
الأول: الجلد.
الثاني: الرجم.
ولا يخفى أن الجلد أخفّ من الرجم، وأنّ حقّه أن يكون الرجم عقوبة لمن يكون زناه جرمًا أغلظ مِنْ زنا عقوبته الجلد، ولكنَّ الغِلَظَ والخِفَّة في الإجرام بالزنا أمرٌ لا ينضبط؛ لأن شديد الشهوة أقرب إلى العذر من ضعيفها، وشدّتها وضعفُها أمرٌ خفيٌّ وغير منضبط، والعاشق أقرب إلى العذر من غيره، والعشق يخفى ولا ينضبط. والمصادف للمرأة بغتةً أقرب إلى العذر من المتصدّي لها. والعاجز عن التزوّج بالمرأة أقرب إلى العذر من القادر على زواجها، في أمورٍ أخر.
فلذلك علّق الشارع الفرق بالإحصان وعدمه؛ لأن الغالب أن يكون المحصَن أضعف عذرًا من غيره، على أنه قد يتَّفق خلاف ذلك، فقد يكون شابٌّ فقيرٌ، قوي البنية، شديدُ الشهوة، عاشقًا لامرأة عاجزًا عن التزوّج بها، وهو يحبس نفسه عن التعرُّض لها، والقرب من مكانها، ثم حاول أن يدافع داعيته فتزوج امرأة فقيرة، فبات معها ليلة فهلكت، ثم لم يستطع الزواج بغيرها، ولم تزل نفسُه متعلّقة بمعشوقته، فبينا هو ليلةً في خلوة لم يفجأه إلا دخول معشوقته عليه، ورميها نفسها [ص 8] بين ذراعيه، فلم يتمالك أن كان ما
كان.
وآخر غنيٌّ ضعيفُ البنية، ضعيف الشهوة، لم يتزوّج حتى شاخ وضعف، فتعرَّض مرةً لامرأة لو شاء لتزوّجها، ولكنه لم يلتفت إلى ذلك، بل تَبِعها ووقع عليها.
فظاهرٌ أنَّ ذنب هذا الشيخ الذي لم يُحصَن أغلظ من ذنب ذلك الشاب الذي قد أُحْصِن بدرجات، ولكن مع ذلك حدُّ الشابِّ المحصن الرجم، وحدُّ الشيخ الذي لم يحصَن الجلد.
إلا أننا نقول: إن الحكمة اقتضت في القانون الكلي أن يُناط الفرقُ بالإحصان وعدمه، والله سبحانه وتعالى هو الرقيب على عباده، يطبق العدل بقضائه وقدره، كأن يستر ذلك الشاب، ويفضح هذا الشيخ، أو غير ذلك، فإنه سبحانه بكل شيء خبير، وعلى كل شيء قدير.
ومن ذلك: القاتل إذا تعمّد الضرب قد تكون عقوبته الدية، وقد تكون القتل قودًا، والمعقول أنَّ جرمه إنما يختلف بأن يكون قَصَد القتل أو لم يقصده، ولكنَّ قَصْده القتل أمرٌ خفيٌّ لا يُعْلَم كما ينبغي إلا بقوله، والقاتل غالبًا يدفع عن نفسه القتل، فهو ــ وإن قصد القتل ــ حريٌّ بأن يقول: لم أقصده، والقرائن عامتها مشتبهة، فناط الشارعُ الفرقَ بأقوى القرائن، وهي الآلة، وموضع الضرب بها، فإن كان الضرب في ذلك المكان بمثل تلك الآلة من شأنه أن يقتل حُكِم [ص 9] بالقَوَد؛ إذ الغالب أن القاتل قَصَد القتل، وإلا فلا.
وكأنه ــ والله أعلم ــ بناءً على هذا ذهب مالك رحمه الله إلى أن الوالد إذا
قتل ولده قِتْلَة شنيعة ــ كأن أضجعه فذبحه ــ وجب القصاص، وإلا فلا. كأنه بنى دفعَ القصاص عن الوالد بأن الغالب أنه لا يقصد القتل، فلم يوجب القصاص عليه إلا في الحال التي يمتنع فيها أن يكون لم يقصد القتل.
هذا وقد يتفق في مَنْ حقّه ــ بحكم الشرع ــ أن يُقاد منه أن لا يكون قصد القتل، وفي مَن حقه أن لا يقاد منه أنه قصد القتل، فمثل هذا يُطبق الله سبحانه وتعالى العدل فيه بقضائه وقدره.
إذا تقرّر هذا فمظنّة أن لا يكذبَ المخْبِر في خبرٍ عن الشرع مما لا ينضبط، فضبطه الشارع بالإسلام والعدالة، وقد يتفق في المسلم العدل أن يكذب خطأ أو عمدًا، وفي غيره أن يصدق، ولكن الله تبارك وتعالى يطبق العدل بقضائه وقدره، فيهدي أهلَ العلم إلى معرفة خطأ ذاك أو عَمْده، ويغنيهم عن خبر الكافر أو الفاسق بأن ييسر لهم علمه من غير طريقه.
فإن قيل: قد لا يهتدي بعضهم إلى الخطأ، وقد لا يقف بعضهم على الدليل.
قلت: إن قصَّر فهو الموقِعُ نفسَه في ذلك، وإن لم يقصّر [ص 10] فذلك داخل في تدبير الله عز وجل، وتطبيقه العدل والحكمة بقضائه وقدره، والبحث طويل، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.