الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به مطلقًا، وإلا فقد قيل: يُقبل منه ما لا يوافق مقالته، ويتوقَّف عما يوافقها لموضع التهمة.
وليس هذا بشيء؛ لأنه إن كان حقيقًا بأن يُتَّهم في شيء من روايته بما ينافي العدالة فلم تثبت عدالته، وقد شرحت هذا في "التنكيل"
(1)
.
* * * *
[ص 45]
فصل ــ 10
في المُعَدِّل والجارح
أما المعدِّل: فشرطه أن يكون في نفسه: بالغًا، عاقلًا، عدلًا، عارفًا بما يُثبت العدالةَ وما ينافيها، ذا خبرة بمن يعدِّله. ولا بدّ أن يكون متيقِّظًا، عارفًا بطباع الناس وأغراضهم
(2)
.
وهل يكفي الواحد؟ اختلف في ذلك:
فقال أبو عبيد القاسم بن سلَّام: لا بد من ثلاثة، واحتجَّ بما في "صحيح مسلم"
(3)
من حديث قَبيصة بن المُخَارق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المسألة لا تحلّ إلّا لأحد ثلاثة: رجلٌ تحمّل حَمالة
…
ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قَوامًا من عيش".
(1)
(1/ 71 - 86). وكان المؤلف قد كتب: "تعزيز الطليعة" ثم ضرب عليها وكتب ما هو مثبت.
(2)
تحتمل: "أعرافهم" وما أثبته أقرب.
(3)
(1044).
قال أبو عبيد: "وإذا كان هذا في حقِّ الحاجة فغيرها أولى". "فتح المغيث"(ص 123)
(1)
.
أقول: وممّا يساعده أنَّ العدالة تتعلق بما يخفى من حال الإنسان كالحاجة، ولكن يَرِد عليه أمور:
منها: أنّ هذا الحديث تفرّد به عن قبيصةَ كنانةُ بن نعيم، ولم يعدِّله ثلاثة تعديلاً سالمًا
(2)
وإنما قال ابن سعد
(3)
: "وكان معروفًا ثقة إن شاء الله" فلم يجزم. ووثَّقه العجلي، وسيأتي في بحث المجهول أنَّ في توثيقه نظرًا، وأن مذهبه قريب من مذهب ابن حبان. ووثَّقه ابنُ حبان، ومذهبه معروف في التسامح، ويأتي بيانه أيضًا
(4)
. فإذا عدَدْنا إخراج مسلم لحديثه توثيقًا، فلم يسلم له إلا مسلم.
[ص 46] الأمر الثاني: أنّ هؤلاء كلّهم لم يدركوا كنانة، وإنما وثَّقوه بناء على مذاهبهم: أن من روى عنه الثقات، ولم يُجْرَح، ولم يأت بمنكر، فهو ثقة، وسيأتي الكلامُ في هذا إن شاء الله تعالى.
الأمر الثالث: ظاهر الحديث أنه لا يحلّ للمحتاج المسألة حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه فيخبروا أنه نزلت به فاقة، ولا يُعْرَف أحدٌ قال بهذا، بل مدار الحلِّ عند أهل العلم على نفس الحاجة، فإن احتاجَ في نفسه
(1)
(2/ 8 ــ 9).
(2)
"تعديلًا سالمًا" كتبت فوق السطر بخط غير واضح فلعلها ما أثبت.
(3)
"الطبقات": (9/ 226).
(4)
لم يتسنَّ للمؤلف كتابة هذا المبحث هنا، وقد تكلم عن توثيق العجلي وابن حبان في "التنكيل":(1/ 113 - 114، ورقم 200).
إلى المسألة حلَّت له، ولا نعلم أحدًا تكلَّف العملَ بهذا. وليس هذا من ردِّ السنة بعدم العمل بموافق لها، أو عامل بها، وإنما المقصود أنَّ مثل هذا قد يُسْتنكر فيصير الحديث منكرًا، فيقدح في راويه ــ أعني كنانة بن نعيم ــ مع قِلَّة ما له من الحديث، ومع أنّه في حديثه هذا شيء من الاختلاف:
فرواه حماد بن زيد، عن هارون بن رئاب، عن كنانة، كما مرَّ.
ورواه ابنُ عيينة عن هارون فقال في أوله: "إن المسألة لا تصلح" وقال مرة: "حرمت" أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 475)
(1)
.
ورواه إسماعيل بن عُلَيّة، عن أيوب، عن هارون فلم يذكر محلَّ الشاهد أصلًا، بل قال: "إنّ المسألةَ لا تحلّ إلا لثلاثة
…
ورجلٌ أصابته فاقة فيسأل حتى يصيب قَوامًا من عيش" أخرجه أحمد في المسند (5/ 60)
(2)
.
[ص 47] الأمر الرابع: أنَّ مقتضى حَمْل الشاهد والمخبر على المحتاج أن لا يحلَّ أن يشهد أحدٌ أو يخبر حتى يعدِّله ثلاثة، وهذا لا قائل به، ولا يعلم واحد ــ فضلًا عن ثلاثة ــ عدَّل كنانةَ قبل أن يخبر.
الأمر الخامس: أنّ الأولوَّية التي ادّعاها أبو عبيد غير ظاهرة، بل الصواب عكس ما قال، وبيان ذلك: أن الحكمة في تحريم المسألة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحِجا من قوم مَن يريد المسألة هي:
أولًا: منع أهل الستر عن المسألة بدون حاجة؛ لأن أحدَهم يرى أنه لو
(1)
رقم (15916).
(2)
رقم (20601). لكن رواه اثنان عن ابن عُليّة بالشاهد عند الطبراني في "الكبير"(15337) قال: واللفظ لحديث ابن عُليّة.
اسْتَشهد ثلاثةً من قومه لا يشهدون له، وإن أقدم على المسألة بدون شهادة، كان عند الناس أنه أقدم على محرَّم، وهو يكره ذلك لحبّه السِّتْر.
وثانيًا: شَرْع طريقٍ يُرجى أن يستغني بها المحتاج من أهل الصلاح أو الستر، فلا يحتاج إلى المسألة البتة، وإيضاحه: أنه لا يقدم على المسألة بدون استشهاد، فيضطرّ إلى أن يطالب ثلاثة من ذوي الحجا من قومه بأن يشهدوا له، ولا ريب أنهم إذا علموا حاجته وجب عليهم أحدُ أمرين: إما أن يقوموا فيشهدوا، وإما أن يواسوه من أموالهم بما يغنيه عن المسألة. ولعلّ هذا الثاني يكون أيسر عليهم؛ لأنهم يرون أنّ اقتصارهم على أن يقوموا فيشهدوا يحمل الناس على أن يَرْموهم باللؤم، ويقول الناس: أما كان في أموال هؤلاء الثلاثة متَّسَع لأن [ص 48] يواسوا ابنَ عمّهم بما يسدّ فاقته إلى أن يجد قوامًا من عيش؟ ولهذا ــ والله أعلم ــ شَرَط في الحديث أن يكونوا من قومه، وأن يكونوا من ذوي الحجا، وأن يكونوا ثلاثة؛ لأن الغالب أن الثلاثة لا يكونون كلهم فقراء أو لؤماء.
وعلى فرض أنهم قاموا فشهدوا، فالغالب أن قومه عندما يسمعون شهادة الثلاثة من ذوي الحجا فيهم، يجمعون له ما يكفيه بدون أن يحتاج إلى مسألة، وعلى هذا فقد أغنى الله عز وجل ذلك المحتاج بدون مسألة؛ لأن مطالبته الثلاثة بأن يشهدوا ليست مسألةً لهم، وإظهاره الحاجة ليس بمسألة صريحة، وإظهاره العزمَ على المسألة ليس بمسألة، فتدبَّر.
وليس في الشهادة والإخبار أثر لهذا المعنى، على أن المحتاج مضطر إلى أن يستشهد الثلاثة، فلا يكون في اشتراط ذلك مفسدة، والشاهد والمخبر غير مضطرين إلى الشهادة والإخبار. بل إن شَرَط أن يتقدّم تعديل الثلاثة على
الشهادة والإخبار ــ كما هو مقتضى حملهما على المسألة كما مر ــ وَجَد الشاهدُ عذرًا لعدم حضوره إلى الحاكم، وأما المخبر فيجد عذرًا لكتمانه العلم.
[ص 49] وقال جماعة: لا بد من اثنين، قال السخاوي في "فتح المغيث"(ص 123)
(1)
: حكاه القاضي أبو بكر ابن الباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم؛ لأن التزكية صفة فيحتاج في ثبوتها إلى عدلين. كالرشد والكفاءة وغيرهما، وقياسًا على الشاهد بالنسبة لما هو المُرَجَّح فيها عند الشافعية والمالكية، بل هو قول محمد بن الحسن، واختاره الطحاوي".
وعارض الخطيب في "الكفاية"(ص 47) هذا القياس بقياس آخر حاصله: أنه لا يكفي في شهود الزنا إلا أربعة، ومع ذلك اكْتُفِيَ في إثبات الإحصان الذي به يثبت الرجمُ باثنين، وقد اكْتُفِيَ في الأخبار بواحد، والعدالة صفة كالإحصان، فيجب أن يُكْتَفى في إثباتها بدون ما اكْتُفِيَ به في الأخبار، إلا أنه غير ممكن.
وكأنّ الخطيبَ عَدَل عما هو أوضح من هذا خوفَ النقض؛ وذلك أنَّ أوضح من هذا أن يقال: لم يكتف في عدد شهود الزنا بأقلّ من أربعة واكْتُفِيَ في عدد مزكِّيهم باثنين اتفاقًا وبواحد عند قومٍ، فقياس ذلك أن يكفي في عدد مزكّي المُخبِر دون ما يكفي في عدد المخبر.
ونقضُه أن يقال: قد اكتفى قوم في الأموال بشاهد ويمين، ولم يكتفوا في تعديل [ص 50] هذا الشاهد إلا باثنين.
(1)
(2/ 8).