الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: ورجاله ثقات، ويمكن أن يكون شعبة ــ والله أعلم ــ إنما أرسله لهذا الاختلاف.
وقال البخاري في "التاريخ"(1/ 2/343): "حُميد بن عبد الرحمن الحميري البصري عن أبي هريرة وابن عباس
…
".
أقول: و
في الحديث نظرٌ من وجوه:
الأول: ما ذكره مسلم من أنه لا يعلم لـ"حميد الحميري" لقاءٌ لأبي هريرة.
الثاني: ما سمعتَ من الاختلاف.
والثالث: أنه لا يُتابَعُ عن أبي هريرة، ولا عن جُندب، مع ما لأبي هريرة من الأصحاب الحفاظ المكثرين.
الرابع: أنه بالنسبة إلى الصوم ليس له شاهدٌ ــ فيما أعلم ــ إلَّا ما رواه الترمذي
(1)
من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد عن علي، وقال الترمذي:"حسن غريب"
(2)
.
وعبد الرحمن بن إسحاق هو: ابن شيبةَ الواسطيِّ، قال أحمد: ويحيى: "ليس بشيء"، وقال أحمد وغيره:"منكر الحديث"، وقال مرة:"ليس بذاك، وهو الذي يُحدّثُ عن النعمان بن سعد أحاديث مناكير"، وضعَّفه غيرهم أيضًا.
(1)
(2527).
(2)
وفي نسخة "غريب" فقط.
والنعمان بن سعدٍ تفرَّد عنه عبد الرحمن بن إسحاق، فيما قال أبو حاتم
(1)
، وكذا قال البخاري (4/ 3/77)، كما ثبت في بعض نسخ "التاريخ". قال ابن حجر في "التهذيب"
(2)
: "والراوي عنه ضعيف فلا يحتجُّ بخبره".
أقول: وذكره ابن حبان في "الثقات"
(3)
والثقة عنده: مَن روى عن ثقة، وروى عنه ثقة، ولم يروِ منكرًا. وهذا الشرط مع تساهله مفقودٌ هنا؛ لأنّ الراوي عنه غير ثقة، وروى عنه المناكير، كما مرَّ.
الخامسُ: أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يصومُ شهرًا كاملًا إلا أنه كان يكثرُ الصيامَ في شعبان، والله أعلم.
(1)
"الجرح والتعديل": (8/ 446).
(2)
(10/ 453).
(3)
(5/ 472).
الرسالة السادسة
رسالة في الصيغ المحتملة للتدليس
أظاهرةٌ هي في السماع أم لا؟
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم ــ رحمكم الله ــ في قول المحدث: "عن فلان" أو "قال فلان" أو "ذكر فلان" ونحوها من الصِّيَغ المحتملة للتدليس، أظاهرةٌ هي في السماع أم لا؟
فإن قلتم: نعم، فيلزم من ذلك أن يكون المتكلّم بها مريدًا خلافَ ظاهرها، كاذبًا إذا لم ينصب قرينةً تصرفها عن ظاهرها؛ لما تقرَّر في موضعه
(1)
: أن نيّة التورية بدون قرينة لا تُخرج الكلامَ عن كونه كذبًا. وليس هذا من المواضع التي رُخِّص في الكذب مع التورية فيها ولا يشبهها؛ لأن الكذب فيها لدفع مضرَّة ولا تترتّب عليه مفسدة، وما هنا ليس كذلك؛ لأن المفسدة قائمة وهي ظنّ السامع الحديثَ صحيحًا، فيحلّ به الحرام ويحرم الحلالَ. وإذا ثبت هذا لزم أن يكون التدليس جرحًا.
فإن قلتم: إن المدلِّس إذا اشتهر بالتدليس صارت هذه الصِّيَغ غير ظاهرةٍ في السماع بالنسبة إليه، وهذه قرينةٌ كافية، لأن الكلام يكون معها محتملًا فيخرج عن الكذب حتمًا.
قيل: نعم ولكن ما حصلت هذه القرينة إلا بعد أن وقع منه التدليس مرارًا، فقد دلَّس مرارًا قبل أن تحصل القرينة بمعرفة عادته، وهذا كافٍ في الجرح.
(1)
انظر رسالة "أحكام الكذب" للمؤلف ضمن مجموع رسائل أصول الفقه.
على أنه بعد أن عُرِفت عادتُه، كثيرًا ما يقع أن يسمع منه مَن لم يعرف عادتَه من الغرباء ونحوهم [ص 2] وربما كان يحضر حَلْقة المحدِّث مائة ألف أو أكثر.
وإذا راجعنا تراجم المدلسين من كتب الرجال وجدنا الرجلَ منهم قد يوثِّقه جماعة ولا يذكرون التدليس، وإنما يذكره واحد أو اثنان، وذلك قاضٍ بأنه لم يكن مشهورًا بالتدليس الشهرةَ الكافية.
ولا يظهر كبيرُ فرقٍ بين من يدلس عن الضعفاء مطلقًا كبقية بن الوليد ومَن لا يدلّس إلا عن ثقة عنده، ومَن لا يدلّس إلا عن ثقة متفق عليه، كسفيان بن عُيينة.
أما الثاني فلأنّ الثقة عنده قد يكون مجروحًا عند غيره، فالمفسدة باقية وإن كانت أخفّ من الأول.
وأما الثالث فلأن الثقات يتفاوتون في الحفظ والإتقان، ويظهر أثرُ ذلك عند التعارض، فإذا روى رجلٌ مكافئ لابن عُيينة حديثًا بالسماع من عَمرو بن دينار عن ابن عمر، وروى ابنُ عيينة حديثًا يعارضه عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة.
فربما رجّح من يظن أن ابن عُيينة سمع الحديث من الزهري حديثَ الزهري، ويكون ابن عُيينة إنما سمع الحديث من عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، ولكنه دلَّسه. ولو علم المرجّح بهذا لرجّح حديث عَمرو بن دينار.
نعم، إن مثل هذا قليل ولكن أصل الكذب باقٍ ولم تُدْفَع به مضرّة كما
في الكذب على الزوجة ونحوه مما رخّص فيه، وإيهام العلوّ ليس فيه دفع مضرّة بل ولا جلب [3] مصلحة. وقد صدق الخطيب في قوله:"وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة؛ من التواضع في طلب العلم، وترك الحميّة في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه"
(1)
.
هذا، ويشتدّ الأمر فيمن كان يقول:"حدثنا" ثم يسكت، ثم يقول: "فلان
…
" يريد: قال فلان ولم يسمعه منه.
ومَن كان يقول: "حدثنا فلان وفلان" ولم يسمعه من الثاني إنما أراد: وقال فلان أو نحوه.
ومَن كان يدلّس تدليس التسوية كالوليد بن مسلم فيقول: "حدثنا الأوزاعي عن الزهري" مع أن الأوزاعي إنما رواه عن إبراهيم بن مرة عن الزهري، وإبراهيم بن مرة قد ضعَّفه الوليدُ نفسُه.
وإن قلتم: ليست الصيغة ظاهرةً في السماع، فإنه ينحلّ الإشكال المتقدّم، لكن يورد إشكال أشدّ منه، وهو أنهم صرَّحوا بأنها إذا صدرت ممن لم يوصف بالتدليس تُحْمَل على السماع، تحسينًا للظن بمن ثبتت عدالتُه.
فيقال لهم: الفَرْض أنها ليست ظاهرةً في السماع، وعليه فلا يكون إطلاقها مع عدم السماع قبيحًا ولا مكروهًا حتى يلزم من احتماله إساءة الظن بالراوي. وإذا ثبت هذا لم يبق حجة لحملها على السماع إلا في حق مَن ثبت
(1)
"الكفاية"(ص 358).
أنه لم يكن يطلقها إلا إذا سمع كشعبة. وأما مَن لم يوصَف [ص 4] بالتدليس، ولا بِعَدَمِه ــ وهم غالب الرواة ــ فلا وجه لِحَمْلِها على السماع، سواء أثبتَ اللقاء أم لم يثبت.
الجواب:
أننا نختار الشق الثاني، وهو أن الصيغة ليست ظاهرةً في السماع، ولكن كانت عادة أكثر السلف الاحتياط، بأن لا يذكر أحدُهم صيغةً تحتمل السماع وتحتمل خلافه إلا وقد سمع. وسلكَ المدلّسون مسلك التوسُّع، فمَن لم يكن يدلّس فهو محتاط ملتزم ما لو أخلَّ به لما أثِمَ، ومَن دلّس فهو غير محتاط ولكن لا يصدق عليه الكذب؛ لأن الصيغة في نفسها محتملة الأمرين على السواء.
ثم إن أئمة الحديث تتبّعوا الرواة وفتَّشوا عن أحوالهم، فمَن عثروا منه على ترك ذلك الاحتياط أخبروا الناس بأنه مدلّس، ومَن لم يجدوه أخلَّ بها أصلًا اقتصروا على تعديله وتوثيقه والثناء عليه. وبهذا التقرير سلم المدلِّسون من الكذب، وثبت أن من كَثُرت مخالطةُ المحدّثين له والسماع منه، ولم يصفوه بالتدليس= فهو ممن لم يكن يطلق الصِّيَغ المتقدمة إلّا للسماع، ما لم تكن هناك قرينة واضحة كالعلم بأنه لم يدرك مَن حَكى عنه.
فيبقى من لم يرو إلّا بضعةَ أحاديث ولم يُعْنَ أئمة الحديث بامتحانه. ومثل هذا إن كان قد عدّله بعضُ أئمة الحديث فالظنّ بالمعدّل أنه قد احتاط حتى عرف أن ذلك الشيخ لا يدلّس، والظن بذلك الشيخ أنه يحتاط كما كان أكثر الرواة يحتاطون، ولو لم يكن إلا الحَمْل على الغالب لكفى.
[ص 5] وههنا فائدة مغفولٌ عنها
(1)
[وهي أن "عن" المتكررة في]
(2)
ثاني حديث في "صحيح البخاري"
(3)
وهو قوله: "حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" جرى علماء المصطلح في نحو ذلك على أن كلمة "عن" الأولى من لفظ مالك، والثانية من لفظ هشام، والثالثة من لفظ عروة. ولذلك يقولون: إن المدلّس إذا عنعن لم يكن حجة. وغير ذلك مما تجده في فصل التدليس من "فتح المغيث"
(4)
وغيره.
وهو عندي سهو وإنما الأُولى من قول عبد الله بن يوسف متعلّقة بقوله: "أخبرنا"، والثانية والثالثة محتملتان، فيحتمل أن تكونان
(5)
أيضًا من قول عبد الله بن يوسف، ويكون التقدير هكذا: "أخبرنا مالك عن هشام أنه أخبره (عن أبيه) أنه أخبره (عن عائشة).
ويحتمل أن يكون هكذا: "
…
عن هشام قال: أخبرنا هشام (عن أبيه) قال: أخبرني أبي (عن عائشة).
ويحتمل أن يكون مالك ابتدأ وقال: "هشام
…
" وقِسْ عليه.
(1)
ذكر المؤلف هذا المبحث في "التنكيل": (1/ 142 - 144).
(2)
ضرب المؤلف على ما بين القوسين، ربما أملًا في صياغةٍ جديدة للعبارة لكنه ذهل عن كتابتها فأبقيتها من أجل السياق.
(3)
رقم (2).
(4)
(1/ 208 فما بعدها). وانظر "تدريب الراوي": (1/ 256 فما بعدها).
(5)
كذا، والوجه:"أن تكونا".
ولم يكن أحدٌ من المدلسين يقول في ابتداء الحديث: "عن فلان". ولكن كانوا كثيرًا ما يبتدئون بالاسم، كما تجد أمثلته في فصل التدليس من "فتح المغيث"
(1)
، واعترف بكثرته، وقد اطّلعتُ على أمثلةٍ أخرى، ولم أجد مثالًا واحدًا أن أحدًا من المدلسين أو غيرهم ابتدأ بقوله:"عن فلان".
وهذا السهو لا يُغيّر حكمًا ولكن ما حقّقتُه يساعد على ما قدّمته: أن الصيغة غير ظاهرة [ص 6] في السماع، وذلك أن قول ابن عُيينة مثلًا "الزهري
…
"
(2)
.
(1)
(1/ 208 - 229).
(2)
هنا انتهى ما وُجد من هذه الرسالة، وترك المؤلف باقي ص 6 بياضًا.