الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لخَّصها، وليست في عبارة أصله.
إنني قد استعجلتُ بهذا الحكم قبل أن أضطَرَّ الناظر في هذه الرسالة إلى مشاركتي فيه، ولكنَّ الخطب سهل.
[ص 17]
فصل
أنت ترى النصوص المتقدّمة عن ابن مهدي وغيره ليس فيها ذِكْر لجواز العمل بالضعيف ولا استحبابه، وإنما فيه تساهلهم في روايته بشرطه، لكن قد لا يبعد أن يكون النووي رحمه الله رأى تساهلهم في رواية الضعيف في الفضائل دون الأحكام يستلزم جواز العمل به في الفضائل، وإلّا لَمَا كان هناك معنى للفرق، فإن تشدّدهم في رواية ما فيه حُكم إنما هو لعلمهم أنهم إذا لم يُشدّدوا في روايته يُخشَى أن يَعملَ به من يسمعه، وذلك لا يجوز، فتساهلهم في الفضائل يدلّ على أنهم لم يروا محذورًا في أن يعمل بها من يسمعها، وهذا معنى الجواز.
ثم رأى أن العمل المتوقّع من العامة إذا سمعوا الضعيف في الفضائل هو العمل طلبًا للفضل، ومعنى ذلك أنهم يرونه مظنّة لأن يُؤجروا عليه، وعليه فلو كان أولئك الأئمة يرون أن العمل به ليس مظنة للأجر لكانوا يرون العمل به طلبًا للأجر بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، فكيف يقع منهم تساهل يؤدّي إلى إيقاع الناس في الضلالة؟! فتعيّن أنهم كانوا يرون العملَ به مظنَّة للأجر، وهذا هو الاستحباب، فلهذا صرَّح النووي في "الأذكار"
(1)
بالاستحباب، وكأنه حمل ما صرَّحوا به من أنهم لا يتساهلون في رواية ما فيه حكم أو سنة
(1)
(ص 8).
أو يرفع حكمًا أو يضعه= على ما عدا ذلك الضرب من الجواز والاستحباب.
[ص 18] فصل
يجب أولًا أن نعلم ما هو التساهل الذي كان يعتمده ابن مهدي وغيره، فأقول: حاصل ما في "فتح المغيث"
(1)
: أن التساهل هو أن لا يَنصّ على ضعف الحديث بل يكتفي بسياق إسناده، أو ذِكْره بصيغة التمريض، نحو رُوِي ويُروَى.
أقول: وعندي في هذا نظر؛ فإننا نجد في الكتب أحاديث ضعيفة في العقائد والأحكام قد رواها ابنُ مهدي وغيره ولم يبين ضعفها. وهذا "مسند أحمد" فيه أحاديث كثيرة ضعيفة في العقائد والأحكام ولم يبيِّن ضعفها، بل غالب مصنفات المتقدمين كذلك، كمصنَّفَي عبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسانيد إسحاق والحميدي وعبد بن حُمَيد، وسنن النسائي الكبرى، وسنن الدارمي وابن ماجه، وتاريخ البخاري، وغيرها.
والذي أراه أن تشديد ابن مهدي هو أنه كان يتأمَّل الحديثَ الذي قد سمعه، فإن كان في العقائد والأحكام بدأ فنظر في إسناده ومتنه، فإذا تبيَّن له أن الحديث شديد الضعف بحيث لا يصلح للحجة ولا للاعتبار لم يَرْوِه أصلًا، فإن اضطرّ لروايته بيَّن ضعفه. وإن كان الحديث في غير العقائد والأحكام رواه ما لم يعلم أنه موضوع، فإذا علم أنه موضوع لم يروه أصلًا، فإن اضطر إلى روايته بيَّن وضعَه. فهذا الصنيع هو الذي ينطبق على ما نجده
(1)
(1/ 331 - 332).
في الكتب عن ابن مهدي والإمام أحمد وأكثر الأئمة، فاعْلَمْه، والله أعلم.
[ص 19] فصل
ثم يجب ثالثًا أن نحقق الأمور التي كانوا يتساهلون في رواية ما ورد فيها مما ليس بموضوع ولكنه غير صالح للمتابعة، فأقول:
يُعلَم من صنيع النووي ومَن وافقه: أنه يدخل في ذلك ما وَرَد بفضيلة لعملٍ خاصّ ولم تثبت له تلك الفضيلة، ولكنه مندرج تحتَ عمومٍ ثابت بالاستحباب.
وهذا كأنْ يَرِد ضعيفٌ بفضيلةٍ لصيامِ أولِ يومٍ من صفر أو قيام ليلته، أو بفضيلةٍ لقراءة سورة الأنعام في صلاة الصبح أو في ركعتَيْ تطوّع. ويظهر من كلام بعضهم إلحاق ما اندرج تحت عموم ثابت بالإباحة، كأنْ يَرِد ضعيف بفضل التختُّم بخاتم فضة عقيق.
فقال النووي بجواز واستحباب العمل بأشباه هذا، واقْتَصَر بعضهم على الجواز، واستشكله بعضهم كما مر. ورأى العلائي أن مثل هذا إن جاز في الضعيف الصالح للمتابعة فلا يتصوّر جوازه في شديد الضعيف، فلذلك زاد هذا الشرط وحكى الاتفاقَ عليه، كما تقدم مع ابن الصلاح والنووي قالا:"ما سوى الموضوع".
وعلينا أن نتدبّر النصوصَ السابقةَ وغيرها لتحقيق الأمور التي يتساهلون فيها، فأقول:[ص 20] الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال على أضْرُب:
الأول: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ قد ثبت أنه مشروع بخصوصه، كأن يَرِدَ ضعيفٌ بفضيلةٍ للصلوات الخمس وصوم رمضان وصوم التطوّع مطلقًا،
وصوم الاثنين والخميس ونحو ذلك.
الثاني: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ خاصّ قد ثبتت مشروعيةُ ما هو أعمّ منه ولم تثبت له خصوصية، كأن يَرِد ضعيفٌ بفضيلةٍ لصيامِ ثاني يوم من صفر أو قيام ليلته، أو بفضيلةٍ لقراءة سورة الأنعام في صلاة الصبح أو في ركعتي تطوّع.
الثالث: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ هو مع صرف النظر عن الضعيف مباح، كأن يَرِد ضعيف بفضيلة للقيام في الشمس على رجلٍ واحدة.
الرابع: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ قد دلّ غير الضعيف على أنه حرام أو مكروه.
فأما الرابع فلا نزاع أنه لا يجوز العمل به، وقد تقدَّم كلام [ص 21] ابن دقيق العيد وابن حجر الهيتمي.
وأما الثالث فَلِكَي تعلم ما فيه يجب أن تنظر في المباح هل يجوز أن يُعْمَل على زَعْم أنه عبادة؟ ومن أمثلته أن يتحرّى إنسانٌ الجلوس مستقبِلًا مطلع سُهيل، أو النوم في ضوء القمر، أو الإمساك عن المُفَطِّرات ليلة العيد، زاعمًا أن هذه الأعمال يُرجى لفاعلها الأجر والثواب.
فإننا نقول لمن زَعَم زَعْمًا من هذا الضرب: أمِن المشروع فِعْل هذا العمل التماسًا للأجر والثواب؟
فإن قال: لا، فقد كفانا شأنه.
وإن قال: نعم، قلنا: آللهُ عز وجل شَرَعَه أم غيرُه؟
فإن قال: غيره، فقد أشرك. قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وإن قال: بل الله عز وجل شرعه.
قيل له: فهل أعْلَمَ به رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
فإن قال: لا!
قيل له: فأَنَّى عَلِمْتَه؟ أتعلم الغيب؟ أم تدّعي النبوَّة لك أو لأحدٍ بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. نزلت قُبيل موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء عن عمر وابن عباس وغيرهم [ص 22] كمالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم تفسيرها بأن جميع أحكام الدين قد أوحاها الله إلى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وبلَّغها النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أمّته
(1)
.
وإن قال: بل أعْلَم الله عز وجل رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم مشروعيّة هذا العمل.
قيل له: هل أمره بتبليغ ذلك؟
فإن قال: لا!
قيل له: فليست إذن مما شرعه للأمة، إذ لو كان مما شُرِع للأمة لأمره بتبليغه، وأيضًا فكيف علمتَ أنتَ أنَّ الله شَرَعَه؟ !
(1)
انظر تفسير الطبري: (8/ 79 - 80)، و"الدر المنثور":(2/ 456).
وإن قال: بل أمره بتبليغه.
قيل له: فهل بلّغه؟
فإن قال: لا، فقد كفر؛ لاتهامه النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدم تبليغ ما أمره الله بتبليغه، وأيضًا فكيف علمتَها أنت؟
وإن قال: بل بلّغَه.
قيل له: فهل حَفِظَتْها الأمة؟
فإن قال: لا.
قيل له: فأين قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. الآية تدل على حفظ السنة أيضًا؛ لأن المقصود من حفظ القرآن هو أن تبقى الحجةُ قائمةً والهدايةُ دائمًة إلى يوم القيامة، حتى لا تدعو الحاجة إلى بعث نبي بعد خاتم الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
ولذلك لما قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(1)
. فاحتجَّ بالآية على حفظ السنة من أن يُلْصَق بها ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن تمييزه، ونحن نحتجّ بها على حفظ السنة من أن يضيع منها دليل لا يُغني عنه غيره. [ص 23] وأيضًا فكيف علمته أنت؟ !
وإن قال: بل حفظَتْها الأمة.
قيل له: فأوْجِدْنا في الشريعة ذلك.
(1)
"تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 3 و 2/ 18).
فإن قال: أنا لا أستحضر ذلك، ولكن لعله في دلالة آيةٍ من القرآن لم أتنبّه لها، أو في سنة ثابتة محفوظة لم أقف عليها.
قيل له: فمن أين علمتَ أن ذلك موجود محفوظ؟ والأصل عدم الشرع، ولو كان هناك دليل على شَرْع هذه الأعمال لَعَلِمه العلماء أو بعضُهم، ولو علموه لأخبروا به وتُنُوقِل عنهم.
وادّعاؤك على الله عز وجل أنه شَرَع ذلك العمل، وليس بيدك دليل على ذلك، كذب على الله، وقد قال تعالى:[{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]]
(1)
.
[ص 24] فأنت ترى أن مَن تحرّى شيئًا من المباحات زاعمًا أنه يُرجى لعامله الأجر والثواب دائرٌ بين الشرك والكفر والكذب على الله والتكذيب بآياته، وأقلّ أحواله أنه مبتدع ضالّ إذا عَذَرْناه فلم نُكفّره.
إذا تقرر هذا فكيف يسوغ قلب الحكم لمجرّد حديث ضعيف فيقال: لو لم يَرِد الحديث الضعيف لكان تحرِّي هذا العمل رجاءً للأجر والثواب إما شركًا وإما كفرًا، وإذا عُذِر صاحبه لم يكفَّر ولكنه مبتدع ضال، ولمّا ورد الحديث الضعيف بالدلالة على استحبابه صار تحرّيه رجاء الأجر والثواب جائزًا أو مستحبًّا.
وبعبارة أخرى: لولا الضعيف لما كان هذا العمل من الدين، ولكن
(1)
ترك المؤلف مكان الآية بياضًا، والظاهر أنه أراد الآية التي أثبتّها.
ورود الضعيف جَعَله من الدين!!
وبالنظر إلى النصوص السابقة نقول: ألا ترى هذا الضعيف فيه حُكم وحلال وحرام وسنة ويضع حُكمًا ويرفعه؟ فارجع إلى تلك النصوص وانظر هل تدل على أن القوم كانوا يتساهلون في رواية ما هذا شأنه؟
[ص 25] بالأدلة
(1)
الثابتة جملةً وتفصيلًا، فليس في ذلك الضعيف أمر زائد على الثابت، فهذا هو الذي تدلّ النصوص السابقة على أن العلماء يتساهلون في روايته؛ لأنهم يرون أنه لا يُخشى من تساهلهم فيه إلا أن يسمعه بعض المسلمين فيُجوِّز كونه صحيحًا، فيزداد إقبالًا على الطاعة، وهذه هي الفائدة في تساهلهم في رواية ما هذا شأنه.
فصل
ونزيد ذلك إيضاحًا فنقول: لو سألتَ عالمًا هل صوم يوم عَرفة لغير الحاج سنة ومستحبّ؟ لبادرك بالجواب قائلًا: نعم!
فلو قلتَ له: فهل صوم ثاني يوم من صفر سنة ومستحبّ؟ لبادر قائلًا: لا!
فإن احتاط في الجواب قال: أما من حيث خصوصه فلا، ولكن صيام التطوّع مستحبّ في أيّ يوم كان، ما عدا ما ثبت النهي عنه.
فقد علمتَ من هذا أن إثبات السّنِّية والاستحباب على الخصوص حكم
(1)
كذا تبدأ هذه الورقة [25] وفي الكلام نقص، يدل على أنّ هناك سقطًا في صفحات المخطوط.
مستقلّ.
[ص 26] ولو سألتَه: هل يمكن أن يكون مِنْ أَجْر المكثر من صيام التطوّع غيرِ خارجٍ عن المشروع أن يُسْقَى من حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مَن كان أقلّ صيامًا منه؟ لقال لك: يمكن!
فلو قلتَ له: فهل يمكن أن يكون مِن أجْر صائم يوم الأربعاء وثاني صفر أن يُسقى من الحوض قَبْل صائمِ اليومِ الذي قبله وسائر الأيام؟ لقال لك: لا!
فإن طالبتَه بالفرق، قال: الشرع لم يُحدّد أجر صيام التطوّع وغيره من الطاعات، بل نصّ على بعض الأجر ووعد بالمزيد والمضاعفة، فيمكن أن يكون التقديم في السقي من الحوض من ذلك المزيد، ولا يلزم من عدم نص الشرع عليه ــ على فرض أنه واقع في نفس الأمر ــ نقصٌ في الدين. ولا يلزم من تجويز ذلك كَذِبٌ على الله تعالى ولا زيادةٌ في دينه ولا غير ذلك مما تقدم.
وأمّا ثاني يوم من صفر فلو كان له هذه المزيّة لخَصَّه الشارع بالحضّ على صيامه كما خصّ يوم عرفة ويوم عاشوراء، فلو جوَّزنا له هذه المزيّة، مع أن الشرع لم ينص على مزيّة له، لكُنّا قد جوّزنا أن يكون صيامه سنةً ومستحبًّا على الخصوص. وهذا حُكْم مستقل، لو كان واقعًا ولم ينص عليه، لكان الدين ناقصًا. [ص 27] وإذ قد عُلِمَ أن الدين كامل؛ فإنّ في زَعْم أن [صيامَ] ثاني صفر سُنةٌ ومستحبّ على الخصوص شرعًا لِمَا لم يأذن به الله، وكذبًا عليه
…
إلى غير ذلك من الموبقات.
فلو ورد حديثان ضعيفان، أحدهما: أن المكثرين من صيام التطوع يُسْقَون قبل غيرهم. والآخر: أن صائمي ثاني يوم من صفر يُسقون قبل غيرهم. فأيُّ الحديثين تدلّ النصوص التي تقدمت عن الإمام أحمد وغيره على أنهم يتساهلون في روايته؟ آلأول الذي ليس فيه حكم زائد ولا سنة ولا حلال ولا حرام؟ أم الثاني وفيه حكم زائد وسنة وحلال وحرام، على ما مرَّ تقريرُه؟
بقي شيءٌ وهو أن الحاكم قال في أول كتاب الدعوات من "المستدرك": ["وأنا بمشيئة الله أُجري الأخبار التي سقطت على الشيخين في كتاب الدعوات على مذهب أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في قبولها؛ فإني سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: كان أبي يحكي عن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات تساهلنا في الأسانيد"]
(1)
"المستدرك" ج 1 ص 490.
فزاد في عبارة ابن مهدي "المباحات والدعوات" فلقائل أن يقول: هذه الزيادة تمنع حمل التساهل في كلام ابن مهدي على التساهل في رواية الضعيف على الضرب الأول، وتُعيِّن أنه أراد الضرب الثاني والثالث.
وأقول: أما المباحات فلم يُرِد ابن مهدي أنه يتساهل في الضعاف الواردة بفضائل لما ثبت في الشرع أنه مباح، فإن هذه الضعاف فيها سنن
(1)
ترك المؤلف ثلاثة أسطر لكلام الحاكم، فأضفناها من "المستدرك".
[ص 28] وأحكام وحلال وحرام كما سمعتَ، وإنما أراد أن يَرِدَ ضعيف يقتضي إباحة شيء وقد ثبت من الشرع أنه مباح.
وأما الدعوات فعندي كالشكّ في صحة زيادتها، ولا آمن أن يكون بعض النّسّاخ زادها في "المستدرك" ظنًّا منه أنها سقطت من الأصل، وأنها لولا أنها في عبارة ابن مهدي لما استند إليها الحاكم معتذرًا بها عن إيراده أحاديث ضعيفة في الدعوات، ولم يتنبّه لاحتمال أن يكون الحاكم استند إلى عبارة ابن مهدي= يرى أن الدعوات تدخل في "فضائل الأعمال والثواب والعقاب".
ويَقْوى الشكُّ إذا لاحظنا أن قوله: "والدعوات" وقع آخر الأنواع: "فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات" والأخير موضع الزيادة.
وقد ذكر السخاويُّ
(1)
عبارة ابن مهدي ونَسَبَها إلى "المدخل"
(2)
للبيهقي ولم يذكر فيها المباحات والدعوات كما سبق.
وقد وقع في "المستدرك" المطبوع شبيه بهذا.
[ص 29] ولنصرف النظر عن ذلك ونبني على أن زيادة "والدعوات" صحيحة عن ابن مهدي، ثم نقول: الدعاء يُفارق سائر الأعمال، فإن الدعاء غير محدود، بل لكلّ إنسان أن يُنشئ ما شاء من الأدعية، وله أن يحفظ دعاء غيره ويُكثر من الدعاء به إذا وجده مناسبًا لحاله، حاويًا لما يُسْتحْسَن شرعًا
(1)
في "فتح المغيث": (1/ 332).
(2)
تقدم أنه ليس في المطبوع (ص 18).
في الدعاء؛ من تعظيم الربّ، وإظهار الخضوع والافتقار، مع جَمْع المقاصد واختصار اللفظ ونحو ذلك. ولا يُعَدُّ بحفظه له والإكثار من الدعاء به مُحْدِثًا. وله أن يتلقّف الدعاء من كافر إذا رآه دعاءً حسنًا.
وعَلِمَ ابنُ مهدي أن أكثر الناس لا يُحْسِنون الدعاء، ويحتاجون إلى أن يتحَفَّظوا أدعيةَ غيرهم، [ص 30] وإذا أنشأ أحدُهم دعاءً لنفسه، أو تلقَّفَ دعاءً من غيره ممن هو قريب منه لم يُؤمَن أن يكون في ذلك الدعاء مخالفةٌ للشرع باعتداء، أو وصف الله عز وجل بما لا ينبغي.
فرأى ابن مهدي أن تعريض العامة لتلقّف الدعاء الذي ورَدَ به الضعيف، وهو دعاءٌ حَسَن في نفسه، وليس فيه مخالفة للشرع= خير لهم من تركهم يُنْشِؤون الأدعية لأنفسهم، فربما وقعوا في المحظور.
ولم يخش ابن مهدي من العامة أن يسمع أحدهم الدعاء في الحديث الضعيف فيحفظه ويدعو به لمجرّد أنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن العامةَ في ذلك الزمان كانوا يعلمون أن فيما يُروَى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يثبت
(1)
وما لا يثبت [ص 31]، وكانوا أيضًا يعلمون قُبْح الإحْداث والابتداع، فلم يكن يَتَوقّع من العامة إذا رَوى لهم الحديثَ المشتملَ على الدعاء إلا أن يقول أحدهم: لا أدري أثبتَ هذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لا يثبت، ولكنني أراه دعاء بليغًا موجزًا، جامعًا للمقاصد، مناسبًا لحالي، وقد علمتُ برواية العلماء له وسكوتهم عنه أنه ليس فيه ما يُنْكَر شرعًا؛ مِن اعتداء، أو وصفٍ لله عز وجل بما لا يجوز،
(1)
الأصل: "ما لا يثبت" سبق قلم.
فَلَأن أتحَفَّظه وأدعو به أسْلَم لي من أن أُنشئ دعاءً لنفسي أو أتَلَقّف دعاءً من غيري ممن هو قريب منّي.
ولسنا نشكّ أن العاميَّ في ذلك الزمان لم يكن ليقدِّم مثل هذا الدعاء على الأدعية التي أخبر بثبوتها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يتحرَّاه كما يتحرّاها، ويواظب عليه كما يواظب عليها.
فقد تبيَّن بحمد الله عز وجل أنه ليس في النصوص المتقدّمة مُتَمَسَّك لما ذهب إليه النووي وموافقوه، بل إنها تدلّ على خلاف ما قالوه، والله أعلم.
[ص 32] فصل
هذا التشديد والتساهل المرويّ عن ابن مهدي ومن معه ليس إجماعًا، فإن من الأئمة من كان يشدّد مطلقًا فلا يروي إلا عن ثقة، وفي "كفاية الخطيب" آثار من ذلك؛ ففيها "باب ما جاء أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يُقبل إلا عن ثقة"، "ذم الرواية عن غير الأثبات"
(1)
، "باب السماع من الأُمناء وكراهة النقل والرواية عن الضعفاء"
(2)
، "باب كراهة الرواية عن أهل المجون والخلاعة"
(3)
. ونَقَل في هذه الأبواب عن الأئمة نصوصًا توافقها.
(1)
"الكفاية"(ص 31 - 34).
(2)
(ص 132) وفيها: "باب في اختيار السماع
…
".
(3)
(ص 156 - 158).
فلو فَرَضْنا أن النصوص الواردة في التساهل تدلّ على ما ذهب إليه النووي وموافقوه، فإن نصوصَ غيرهم ممن ذكره الخطيب في هذا الأبواب تخالف ذلك؛ فبطلت دعوى الإجماع قطعًا.
ولا يجوز أن يقال: تُحمل نصوص التشديد مطلقًا على النصوص المفصلة؛ لأن ممن جاء عنه التشديد مطلقًا مَن لم يجئ عنه التفصيل، ولا يصح تخصيصُ أو تقييدُ نصِّ إمام بنصّ غيره.
ألا ترى أن نصوص مالك العامة لا يجوز تخصيصها أو تقييدها بنصوص الشافعي؟!
[ص 33] فصل
ولو سَلِمَت دعوى الإجماع من النقض فغايتُه أن يكون إجماعًا سكوتيًّا ضعيفًا، والإجماعُ السكوتيّ القويّ: أن يُنْقَل أن بعض المجتهدين قال: كيتَ وكيتَ، وبلغ ذلك سائرَ المجتهدين في ذلك العصر فسكتوا. والضعيف هو: أن يُنْقَل عن بعض المجتهدين، ثم يبحث المطّلع فلا يعلم لهم مخالفًا. وقد أنكر الإمامان الشافعي وأحمد تسمية مثل ذلك إجماعًا، وقالا: ينبغي أن يقول: "قال جماعة ممن قبلنا، ولا أعلم لهم مخالفًا" أو نحو هذا.
ويظهر من مذهبيهما أن مثل هذا حجة ضعيفة يُصار إليه إذا لم يوجد دلالة من الكتاب ولا من السنة، وعلى هذا تدلّ الآثار عن الصحابة. وعلى كل حال فإن القائلين بحجيّة الإجماع السكوتي يعترفون بأنه حجة ظنيّة، والدلائل الظنية لا تثبت بها مسائل الأصول، ومسألتنا منها.
[ص 34] فصل
وقد استدلّ المجوّزون بأمور أخرى:
منها: حديث رُوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من بَلَغه عن الله شيء وفيه فضيلة فأخَذَ به إيمانًا رجاء ثوابه أعطاه الله ذلك". ورُوي نحوه عن ابن عمر مرفوعًا، وعن أنسٍ مرفوعًا.
وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"
(1)
والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة" ج 1 ص 111 - 113
(2)
. وطرقه تدور على الكذابين والمتهمين.
واعلم أن الزنادقة والضُّلّال والكذّابين في تلك القرون كان ربما اجتمع منهم
(3)
جماعة، فتواطؤوا على وضع حديث، ثم يذهب كلّ منهم يرويه بإسنادٍ غير إسناد صاحبه ليُشَبِّهوا على الناس. وكان جماعةٌ منهم إذا سمعوا حديثًا غريبًا من كذّاب ذهب كلّ منهم يخترع له إسنادًا. وكانوا كثيرًا ما يُغَلّطون المغفّلين من الرواة إما بالتلقين وإما بالإلحاق في كتبهم، وإما بغير ذلك.
كل هذا معروف لمن مارس الحديث، فلا يغرّنّك تعدد الطرق مع دورانها على الهلْكَى والمتروكين والمغفّلين، وإن نُسِب بعضهم إلى الزهد والصلاح؛ فقد كان كثيرٌ من الزنادقة والضُّلّال يُظهرون الزهد والصلاح، و [كان] كثير من الزُّهّاد جُهّالًا يستحبّون الكذب في الحديث ترغيبًا للناس
(1)
(501). وحديثا ابن عمر وأنس أخرجهما ابن الجوزي في "الموضوعات" أيضًا (1642 و 1643).
(2)
(1/ 214).
(3)
الأصل: "منهما" سبق قلم.