الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العنصر الثالث: "
العدول عن هذا الموقف تطرف دائر بين الإفراط والتفريط
"
العدول عن هذا الموقف -أعني موقف أهل السنة والجماعة- تطرف إما إفراط، وإما تفريط؛ لأن الناس انقسموا في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، طرف غلا في التنزيه حتى نفى ما أثبته الله لنفسه، وطرف آخر غلا في الإثبات حتى أثبت ما نفاه الله عن نفسه.
فإن من أهل البدع من أثبت النصوص على ظاهرها، ولكنه جعل هذا الظاهر من جنس صفات المخلوقين والعياذ بالله، فأثبت النقص لربه بإلحاقه بالمخلوق الناقص، وأخطأ في ظنه أن ظاهرها التمثيل.
أثبت أن لله تعالى سمعا، وأن لله تعالى وجها، وأن لله تعالى عينا، وأن له يدا، لكنه جعل ذلك كله من جنس صفات المخلوقين، غلا في الإثبات حتى بلغ به إلى التمثيل، وقد قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ولا شك أنه كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لم يرد بهذه النصوص هذا الظاهر الذي ادعاه هذا الممثل.
وقد يقول القائل: أين دليلك على أن الله ما أراده؟
فأقول: الدليل عندي نقلي، وعقلي:
أما النقلي فآيات متعددة تنفي المماثلة عن الله، وأصرحها وأبينها قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وأما الدليل العقلي: فإنه لا يمكن أبدا أن يكون الخالق مماثلا للمخلوق في أي صفة من صفاته لظهور الفرق العظيم بينهما في الذات والصفات والأفعال.
ومن أهل البدع من حرف النصوص عن ظاهرها، ونفى مدلولها اللائق بالله، وهؤلاء المحرفون انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم غلا في ذلك غلوا عظيما حتى نفى النقيضين في حق الله، فقال: لا تقل: إن الله موجود، ولا تقل: غير موجود، إن قلت: موجود شبهته بالموجودات، وإن قلت: غير موجود شبهته بالمعدومات، ولا ريب أن هذا تنكره العقول كلها؛ لأن رفع أحد النقيضين أمر مستحيل، والتقابل بين الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما.
القسم الثاني: من قال: نثبت السلب ولا نثبت الإيجاب، فلا نصف الله بصفات ثبوتية، ولكن نصفه بالأسلوب والإضافات، ونثبت الأسماء مجردة عن المعاني، وهذا ما عليه عامة الجهمية والمعتزلة.
القسم الثالث: من يقول: نثبت بعض الصفات لدلالة العقل عليها، وننكر بعض الصفات لأن العقل لا يثبتها، وبعضهم يقول: لأن العقل ينكرها.
وكل هذه الأقسام الثلاثة -وإن كانت تختلف من حيث البعد عن الحق- كلها على غير صواب فهي متطرفة، فالقول الوسط ما عليه أهل السنة والجماعة: أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من الصفات، ولكنه إثبات مجرد عن التكييف، وعن التمثيل، وبذلك نكون عملنا بالنصوص الشرعية من الجانبين، ولم ننظر بعين أعور، وبذلك نكون قد تأدبنا مع الله ورسوله، فلم نقدم بين يدي الله ورسوله، وإنما التزمنا غاية الأدب، سمعنا وآمنا وأطعنا، ما أثبته الله لنفسه أثبتناه، وما أثبته له رسوله أثبتناه، وما نفاه الله عن نفسه نفيناه، وما نفاه عنه رسوله نفيناه، وما سكت عنه سكتنا عنه.