الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجماعة بأن مشيئة الله تعالى تابعة لحكمته وأنه سبحانه وتعالى ليست مشيئته مطلقة مجردة ولكنها مشيئة تابعة لحكمته؛ لأن من أسماء الله تعالى "الحكيم"، والحكيم هو الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كونا وشرعا، ويحكمها عملا وصنعا، والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها لمن يعلم سبحانه وتعالى أنه يريد الحق وأن قلبه على الاستقامة، ويقدر الضلالة لمن لم يكن كذلك لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيق صدره كأنما يصعد في السماء فإن حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين إلا أن يجدد الله له عزما ويقلب إرادته إلى إرادة أخرى والله تعالى على كل شيء قدير، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها.
و
مراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة
أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم وهي أن يؤمن الإنسان إيمانا جازما بأن الله تعالى بكل شيء عليم وأنه يعلم ما في السماوات والأرض جملة وتفصيلا سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته، وأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
المرتبة الثانية: الكتابة وهي أن الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء.
وقد جمع الله تعالى بين هاتين المرتبتين في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فبدأ سبحانه بالعلم وقال: (إن ذلك في كتاب (أي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: رب ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك»
«الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» . ولهذا «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما نعمله: أشيء مستقبل أم شيء قد قضي وفرغ منه؟ قال: إنه قد قضي وفرغ منه» . وقال أيضا حين «سئل: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له» فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل، فأنت يا أخي اعمل وأنت ميسر لما خلقت له.
ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
المرتبة الثالثة: المشيئة، وهي أن الله تبارك وتعالى شاء لكل موجود أو معدوم في السماوات أو في الأرض، فما وجد موجود إلا بمشيئة الله تعالى، وما عدم معدوم إلا بمشيئة الله تعالى، وهذا ظاهر في القرآن الكريم، وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله ومشيئته في فعل العباد فقال الله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فبين الله تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته، وأما فعله تعالى فكثير قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله تبارك وتعالى، فلا يتم الإيمان بالقدر إلا أن نؤمن بأن مشيئة الله عامة لكل موجود أو معدوم، فما من معدوم إلا وقد شاء الله تعالى عدمه، وما من موجود إلا
وقد شاء الله تعالى وجوده، ولا يمكن أن يقع شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله تعالى.
المرتبة الرابعة: الخلق أي أن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء فما من موجود في السماوات والأرض إلا الله خالقه، حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى، وإن كان هو عدم الحياة. يقول الله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فكل شيء في السماوات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه لا خالق إلا الله تبارك وتعالى، وكلنا يعلم أن ما يقع من فعله سبحانه وتعالى بأنه مخلوق له، فالسماوات والأرض، والجبال والأنهار، والشمس والقمر، والنجوم والرياح، والإنسان والبهائم كلها مخلوقات الله، وكذلك ما يحدث لهذه المخلوقات من صفات وتقلبات وأحوال كلها أيضا مخلوقة لله عز وجل. ولكن قد يشكل على الإنسان كيف يصح أن نقول في فعلنا وقولنا الاختياري إنه مخلوق لله عز وجل؟
فنقول: نعم يصح أن نقول ذلك؛ لأن فعلنا وقولنا ناتج عن أمرين:
أحدهما: القدرة.
والثاني: الإرادة.
فإذا كان فعل العبد ناتجا عن إرادته وقدرته فإن الذي خلق هذه الإرادة وجعل قلب الإنسان قابلا للإرادة هو الله عز وجل، وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل ويخلق السبب التام الذي يتولد عنه المسبب. نقول: إن خلق السبب التام خالق للمسبب أي إن خالق المؤثر خالق للأثر، فوجه كونه تعالى خالقا لفعل العبد أن نقول إن فعل العبد وقوله ناتج عن أمرين هما:
الإرادة.
القدرة.
فلولا الإرادة لم يفعل، ولولا القدرة لم يفعل؛ لأنه إذا أراد وهو عاجز لم يفعل، لعجزه عن الفعل وإذا كان قادرا ولم يرد لم يكن الفعل، فإذا كان الفعل ناتجا عن إرادة جازمة وقدرة كاملة فالذي خلق الإرادة الجازمة والقدرة الكاملة هو الله، وبهذا الطريق عرفنا كيف يمكن أن نقول: إن الله تعالى خالق لفعل عبده، وإلا فالعبد هو الفاعل في الحقيقة فهو المتطهر وهو المصلي، وهو المزكي، وهو الصائم، وهو الحاج، وهو المعتمر، وهو العاصي، وهو المطيع لكن هذه الأفعال كلها كانت ووجدت بإرادة وقدرة مخلوقتين لله عز وجل، والأمر ولله الحمد واضح.
وهذه المراتب الأربع المتقدمة يجب أن تثبت لله عز وجل، وهذا لا ينافي أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوي الإرادة.
كما إننا نقول: النار تحرق والذي خلق الإحراق فيها هو الله تعالى بلا شك، فليست محرقة بطبيعتها بل هي محرقة بكون الله تعالى جعلها محرقة، ولهذا لم تكن النار التي ألقي فيها إبراهيم محرقة؛ لأن الله قال لها:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فكانت بردا وسلاما على إبراهيم، فالنار بذاتها لا تحرق ولكن الله تعالى خلق فيها قوة الإحراق، وقوة الإحراق هي في مقابل فعل العباد كإرادة العبد وقدرته، فبالإرادة والقدرة يكون الفعل، وبالمادة المحرقة في النار يكون الإحراق، فلا فرق بين هذا وهذا، ولكن العبد لما كان له إرادة وشعور واختيار وعمل صار الفعل ينسب إليه حقيقة وحكما وصار مؤاخذا بالمخالفة معاقبا عليها لأنه يفعل باختيار ويدع باختيار.
وأخيرا نقول: على المؤمن أن يرضى بالله تعالى ربا، ومن تمام رضاه بالربوبية أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويعلم أنه لا فرق في هذا بين الأعمال التي يعملها وبين الأرزاق التي يسعى لها، وبين الآجال التي يدافعها، الكل بابه سواء، والكل مكتوب، والكل مقدر، وكل إنسان ميسر لما خلق له.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن ييسرون لعمل أهل السعادة وأن يكتب لنا الصلاح في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تمت بحمد الله تعالى.
شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» . متفق عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» . يرد فيه إشكال حيث جاء في حديث النبي، صلى الله عليه وسلم:«من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» . فيفهم منه أن الأجل يتمدد.
والجواب: أنه محدد، وأن من كتب له أن يموت في مدة معينة فإنه لا يتعداها ولا ينقص عنها، وأن من وصل رحمه فقد كتب له في الأصل أنه واصل وأن أجله محدود، والفائدة من قوله عليه الصلاة والسلام:«من أحب» هي حث الناس على صلة الرحم، ليكتب له هذا كغيره من الأسباب التي تترتب عليها مسبباتها.
وفي هذا الحديث أيضا أن عمل الجنين يكتب وهذا يشمل العمل الصالح والسيئ؛ لأن كلمة (عمل) مفرد مضاف، وهو يكون للعموم،
والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فكلمة نعمة مفرد، وكلمة لا تحصوها تدل أنه مفرد يعم الجمع. فكل مفرد مضاف يفيد العموم.
وعمل الإنسان كتب قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما نعمله في هذه الدنيا من أعمال الدنيا والآخرة هل هو شيء مستأنف أو شيء قد فرغ منه؟ فأخبر أنه قد فرغ منه، وقال:«ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له» .
فعملك مكتوب، ولكن لو سئلت هل تعلم ما كتب لك من العمل؟ لا تدري ماذا يكون لك في الغد قال الله تعالى:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} فإذا كنت لا تدري فإنه يبطل احتجاجك بالقدر، ولهذا أبطل الله حجة الذين يحتجون على شركهم بالقدر، فقال سبحانه:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ووجه إبطال هذه الحجة قوله تعالى: {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ولو كان لهم حجة في ذلك ما أذاقهم الله بأسه، فإذا كنت لا تدري ماذا كتب لك فلا احتجاج لك بالقدر، ولهذا فأنت لا تدري ماذا كتب لك من الرزق، ولهذا تسعى في طلب الرزق، والعمل كالرزق مقدور لك ولكن يجب عليك أن تسعى للعمل كما تسعى للرزق وتقوم بطاعة الله. وكذلك فلا احتجاج لأحد بالقدر على معصية الله، فمن الناس من
إذا أمرته بالطاعة أجابك بكلمة حق أريد بها باطل، فيقول: نسأل الله أن يهدينا. ولا شك أن الإنسان ينبغي أن يسأل الله الهداية، لكن هذا أراد بقوله دفع اللوم عن نفسه ولو كان صادقا في طلب الهداية لجد في الهداية وعمل لها. فكما أنك لن ترزق الولد بمجرد التمني بل لا بد أن تأخذ بأسبابه فتتزوج فإنك لكي تنال الهداية لا بد أن تتجه إلى ربك، وإذا اتجهت إليه سبحانه فثق أن ما يؤتيك الله سبحانه أكثر من عملك. وفي الحديث القدسي:«من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» . فانظر ما يؤتيك الله سبحانه وتعالى إذا تقربت إليه يكون سمعك، وبصرك، ويدك ورجلك، أي يسددك في جميع أعمالك، في كل ما تدركه بجوارحك، وإذا سألته أعطاك، وإذا استعذت به أعاذك.
وثبت كذلك عن رسول الله، عليه الصلاة والسلام أنه أخبر عن ربه أن من تقرب إلى الله شبرا تقرب الله إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة. فأقبل على ربك تجد أكثر بكثير من عملك، أما أن تعرض وتقول: أسأل الله أن يهديني، فهذا أشبه ما يكون بالاستهزاء بالله سبحانه.
ولهذا فنقول لمن يزعم أنه يترك العمل ويتكل على ما كتب، نقول له: اعمل فقد جاءتك الرسل ونزلت الكتب وبين الخير ورغب فيه، وبين الشر وحذر منه، وأوتيت عقلا فما عليك إلا أن تقوم بما يقتضيه هذا العقل من اتباع ما جاءت به الرسل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم تلا قول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
وهؤلاء الذين يحتجون بالقدر لو ضربهم أحد أو أخذ مالهم ثم احتج عليهم بأن هذا قضاء وقدر فلن يقبلوا، ولهذا فالاحتجاج بالقدر إبطال للشرع؛ لأن كل من يقترف إثما من زنى، أو قتل، أو شرب خمر، وغيره سيقول: هذا قضاء وقدر فتفسد الأرض ويفسد الشرع.
وقد ذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بسارق فأمر بقطع يده، فقال السارق: مهلا يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت إلا بقضاء الله وقدره، فقال عمر: ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره. فاحتج عليه عمر بما احتج به هو على عمله السيئ.
وقد يورد البعض هنا ما جاء في السنة من احتجاج آدم على موسى بقوله: «أتلومني على شيء كتبه الله علي قبل أن أخلق". وذلك حين قال موسى لآدم: "خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى» أي غلبه في الحجة.
فقال أهل العلم: إن موسى لم يلم آدم على ما وقع منه من المعصية والأكل من الشجرة وإنما ذكر المصيبة وهي الإخراج من الجنة. وموسى أعلم وأفقه وآدب من أن يلوم أباه على ذنب قد تاب منه، وقال الله فيه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وإنما كان العتب من جهة الإخراج من الجنة وهي مصيبة، ويجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المصيبة؛ لأنها ليست من فعله بل من تقدير الله.
ونظير ذلك رجل سافر فأصيب في سفره بحادث فجئت تلومه على سفره فلا يتوجه هذا اللوم؛ لأنه لم يسافر من أجل الحادث وسيقول لك: هذا بقضاء الله وقدره. ويقبل منه هذا.
وهكذا آدم فهو لم يأكل من الشجرة من أجل أن يخرج من الجنة، ولكن الشيطان وسوس له وقاسمه وغره فنسي ما عهد الله إليه ألا يقرب هذه الشجرة فحصلت المصيبة وأخرج من الجنة.
فاحتجاج آدم بالقدر على المصيبة، وهذا جائز لا بأس به.
وكذلك يورد البعض هنا ما جاء «أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان لم يقوما لصلاة الليل، فكأنه لامهما، فقال علي: يا رسول الله، إن أنفسنا بيد الله. يعني كنا نائمين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب على فخذه ويقول: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» . فقال المحتجون بالقدر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على علي احتجاجه بالقدر.
وأجاب أهل العلم على ذلك، فأجاب عنها ابن القيم بأنهما لما يحتجا على الاستمرار في المعصية وإنما على أمر قد فرغ وانتهى، وفرق بين شخص يحتج بالقدر على أمر قد مضى وهو نادم عليه ويعزم ألا يعود إليه، وبين شخص يحتج بالقدر ليبرر استمراره على المعصية فالأول يقبل، والثاني لا يقبل.
وهذا وجه جيد أن الإنسان إذا أصاب معصية وندم واحتج بالقدر بعد ندمه وتوبته فلا بأس بذلك ولا حرج، وليس كذلك من يحتج بالقدر ليبرر خطأه ويستمر عليه، فهذا لا يقبل أبدا.
وإن قال قائل: ما الجمع بين إبطال الله احتجاج المشركين على شركهم بمشيئته، وما أثبته الله من أن شركهم وقع بمشيئته، فقد قال سبحانه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} مع ما سبق قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} .
فالجمع أنهم يحتجون بالمشيئة لدفع اللوم والعتاب ويقولون: إن تعذيب الله لهم ظلم بزعمهم أنه قدره عليهم ثم يعاقبهم عليه. أما الآية الأخرى فهي تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعلام أن لله تعالى حكمة في وقوع الشرك من بني آدم، ولو شاء سبحانه لجعل الناس أمة واحدة على الحق لكن ليبلو بعض الناس ببعض.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «وشقي أم سعيد» . الشقاء هو الخيبة وعدم إدراك الآمال. والسعادة هي النجاة والفلاح وحصول الأمل، وهما في الدنيا والآخرة، فالشقي في الدنيا شقي في الآخرة، والسعيد في الدنيا سعيد في الآخرة، ولكن سعادة الدنيا ليست بكثرة المال، والولد، والمتاع، وإنما بالعمل الصالح، ودليل ذلك قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} فلا حياة طيبة إلا لمن عمل صالحا وهو مؤمن، سواء كان ذكرا أو أنثى.
وحياة المترفين ليست طيبة؛ لأن لديهم من التنغيص والنكد ما يتكدر به العيش، فتجده إذا فاتته ذرة من الترف انقبض وانزعج وأصيب بالضغط والبلاء، أما المؤمن فلو فاته هذا الشيء فهو مطمئن راض بقضاء الله وقدره، لا يهمه هذا الشيء ما دام من عند الله. ولهذا فالمؤمن بين أمرين إما شكر على نعمة، وإما صبر على ضراء، كما قال عليه الصلاة والسلام:«عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» .
وقال بعض السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا فيه بالسيوف ". وقد صدق والله، فالملوك وأبناء الملوك في ترف، لكن المؤمن وإن لم يكن في ترف فهو في نعيم قلب، فالإنسان تكتب سعادته
وشقاوته وهو في بطن أمه، لكنه لا يعذر بترك السعي للسعادة بل هو مأمور بأن يسعى لما فيه سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة.
هاتان الجملتان فيهما خوف شديد، وفيهما رجاء عظيم، فالخوف من أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة ثم يختم له بالنار -والعياذ بالله- والعكس بالعكس، وهذا شيء مشاهد في هذا وفي هذا، وكله قد وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد «كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى المعارك رجل شجاع مقدام لا يدع شيئا للكفار إلا قضى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا من أهل النار" فعظم ذلك على الصحابة، إذ كيف يكون من أهل النار وعمله عمل أهل الجنة؟! فقال رجل: والله لألزمنه. فتابعه، فبينما هو يقاتل أصابه سهم، فحزن وغضب ورأى أنه لا خير له في البقاء بعد هذا، فأخذ بسيفه ووضعه على صدره واتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره، فقتل نفسه، ومعلوم أن قاتل نفسه في النار، ولهذا لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على قاتل نفسه، فقاتل نفسه يعذب في النار بما انتحر به خالدا فيها مخلدا.
فلما أصبح الرجل الذي كان يراقبه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أنك رسول الله. فقال: "وما ذاك؟ " قال: إن الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار حدث له كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار» .
فهذا يبين ما جاء في الرواية الأولى وهو أن المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: «ليعمل بعمل أهل الجنة» أن ذلك فيما يبدو للناس وهذا والحمد لله يخفف الأمر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» أي: حتى يقترب أجله، فهو فيما يبدو للناس يعمل بعمل أهل الجنة، أما فيما يخفى على الناس ففي قلبه سريرة خبيثة أودت به وأهلكته، ولهذا فأنا أحث دائما أن يحرر الإنسان قلبه ويراقب قلبه، فأعمال الجوارح بمنزلة الماء تسقى به الشجرة لكن الأصل هو القلب، وكثير من الناس يحرص ألا يخطئ في العمل الظاهر، وقلبه مليء بالحقد على المسلمين وعلمائهم، وعلى أهل الخير، وهذا يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله، لأن القلب إذا كان فيه سريرة خبيثة فإنها تهوي بصاحبه في مكان سحيق.
فالحسد، وهو كراهية نعمة الله على الآخرين وإن لم يتمن زوالها، وقد اشتهر بين العلماء تعريف الحسد بأنه تمني زوال نعمة الله على الغير ولكن المعنى الدقيق للحسد هو كراهية نعمة الله على غيره سواء تمنى زوالها أو لم يتمن.
وهذا الحسد موجود في كثير من الناس وهو من خصال اليهود كما هو من خصال إبليس لعنه الله، فقال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} فإذا وجدت في قلبك حسدا على المسلمين جماعات أو أفرادا فاعلم أن في قلبك خصلة من خصال اليهود والعياذ بالله، فطهر قلبك من هذا الحسد، واعلم أن هذا الخير الذي فيه غيرك إنما هو فضل من الله فلا تعترض على فضل الله ولا تكره تقدير الله:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
وكذلك البغضاء، بغض المؤمنين أو دين الإسلام حتى وإن كان الشخص لا ينفذه لقول الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
ولا إحباط للعمل إلا إذا كان هناك كفر.
فليلاحظ الإنسان قلبه فيزيل عنه الحسد والبغضاء والحقد والكراهية والغل ويجعله صافيا مخلصا لله تعالى وصافيا للمؤمنين.
وأيضا فمن أسباب سوء الخاتمة محبة الكفار؛ لأنها سريرة خبيثة، بل الواجب على المسلم محبة المسلمين وموالاتهم وكراهية الكفار ومعاداتهم، فإذا كان الأمر بالعكس عند أحد الناس فذلك أمر خطير يخشى على صاحبه أن يختم له بسوء الخاتمة.
والمعاملة بالربا أيضا من أسباب سوء الخاتمة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أن رجلا من الناس كان يعامل بالربا، فلما حضرته الوفاة جعلوا يلقنونه الشهادة فيقول: عشرة، أحد عشر. لأنه ليس في قلبه إلا إرادة الدنيا فختم له بسوء الخاتمة. لأن الربا من أعظم الذنوب، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"إنه ورد فيه من الوعيد ما لم يرد على أي ذنب آخر دون الكفر، ولو لم يكن فيه إلا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} والمحارب لله ورسوله يجب أن يكون حربا على المؤمنين أيضا؛ لأن المؤمن يوالي من والاه الله ورسوله ويعادي من عاداه الله ورسوله." أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة وأن يتوفنا على الإيمان وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
ومما ورد من الأمثلة على أن من أكرمه الله سبحانه بحسن الخاتمة مع ما كان عليه من عمل أهل النار، ما وقع للأصيرم من بني عبد الأشهل، فقد كان رجلا كافرا، ولما سمع الصيحة لغزوة أحد خرج إلى
القتال، فقاتل حتى قتل، فنظر إلى أصحابه وهو في آخر الرمق، فقالوا: ما الذي جاء بك؟ فقد علمنا أنك تكره هذا الأمر. فأخبرهم أنه خرج عندما سمع الهيعة، وطلب منهم أن يبلغوا رسول الله منه السلام، فصار خاتمة هذا الرجل الشهادة ومآله السعادة.
أسال الله عز وجل أن يختم لي ولكم بخاتمة السعادة إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.