المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ادعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٥

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌شرح لمعة الاعتقاد

- ‌المقدمة

- ‌لمعة الاعتقاد

- ‌ السنة والبدعة وحكم كل منهما

- ‌ الصفات التي ذكرها المؤلف من صفات الله تعالى

- ‌معنى كون الله في السماء

- ‌ القول في القرآن

- ‌ القدر

- ‌ فصل في السمعيات

- ‌عذاب القبر أو نعيمه:

- ‌النفخ في الصور:

- ‌(البعث والحشر)

- ‌(الشفاعة)

- ‌(الحساب)

- ‌(الموازين)

- ‌(صفة أخذ الكتاب)

- ‌(الحوض)

- ‌(الصراط)

- ‌(الجنة والنار)

- ‌(ذبح الموت)

- ‌فصلفي حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

- ‌خصائص النبي

- ‌فضائل الصحابة

- ‌الشهادة بالجنة أو النار

- ‌المعينون من أهل النار في الكتاب والسنة

- ‌حقوق الصحابة

- ‌حكم سب الصحابة

- ‌حقوق زوجات النبي

- ‌معاوية بن أبي سفيان

- ‌الخلافة

- ‌هجران أهل البدع

- ‌الجدال والخصام في الدين

- ‌الخلاف في الفروع

- ‌الإجماع وحكمه

- ‌التقليد

- ‌نبذة في العقيدة

- ‌[أهمية علم التوحيد]

- ‌أركان الإسلام

- ‌أسس العقيدة الإسلامية

- ‌الإيمان بالله تعالى

- ‌الإيمان بالملائكة

- ‌الإيمان بالكتب

- ‌الإيمان بالرسل

- ‌الإيمان باليوم الآخر

- ‌وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة منها:

- ‌الإيمان بالقدر

- ‌وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:

- ‌أهداف العقيدة الإسلامية

- ‌أسماء اللهوصفاتهوموقف أهل السنة منها

- ‌[مقدمة]

- ‌ موقف أهل السنة في أسماء الله تبارك وتعالى

- ‌ في نصوص الأسماء والصفات:

- ‌ العدول عن هذا الموقف تطرف دائر بين الإفراط والتفريط

- ‌ التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله

- ‌ بعض أهل التحريف والتعطيل قالوا: إن أهل السنة مشبهة ومجسمة وممثلة

- ‌ ادعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص

- ‌منهاجأهل السنةوالجماعةفي العقيدة والعمل

- ‌[المقدمة]

- ‌المراد بأهل السنة والجماعة وبيان طريقهم

- ‌ بيان طريق أهل السنة والجماعة في أسماء الله تعالى وصفاته

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في عبادة الله

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في حق الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في حق الأولياء والأئمة

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في إصلاح المجتمع

- ‌ قول أهل السنة والجماعة في الإيمان

- ‌القضاء والقدر

- ‌[المقدمة]

- ‌مراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة

- ‌الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع

- ‌مفاتح الغيب

- ‌ إن الله عنده علم الساعة:

- ‌{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}

- ‌ ويعلم ما في الأرحام:

- ‌ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا

- ‌ وما تدري نفس بأي أرض تموت:

- ‌التوسل

- ‌النوع الأول:عبادة يراد بها التوصل إلى رضوان الله والجنة

- ‌ النوع الثاني من الوسيلة: فهو ما يتخذ وسيلة لإجابة الدعاء

- ‌القسم الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه

- ‌القسم الثاني: التوسل إلى الله تعالى بصفاته

- ‌القسم الثالث: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به

- ‌القسم الرابع: التوسل إلى الله تعالى بحال الداعي

- ‌القسم الخامس: التوسل بدعاء من ترجى إجابة دعائه

- ‌القسم السادس: التوسل إلى الله بالعمل الصالح

- ‌آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع

- ‌[تمهيد]

- ‌حكمة إرسال الرسل

- ‌معجزات الأنبياء أو آيات الأنبياء

- ‌آيات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم

- ‌رسالةحول الصعود إلى القمر

الفصل: ‌ ادعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص

العنصر السادس:‌

‌ ادعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص

ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها

هذه دعوى تلبيس وتشكيك، وقد نشرت في الصحف، نشرها من نشرها وقال: أنتم يا أهل السنة تشنعون علينا، تقولون: أنتم تأولون، وأنتم يا أهل السنة قد أولتم، فما بالكم تشنعون علينا بالتأويل وأنتم تسلكونه؟

حقيقة إن هذه الحجة حجة قوية إذا ثبتت؛ لأنه لا يحق لأي إنسان أن يتحكم فيما يمكن تأويله أو يجب، وفيما لا يمكن، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: هذه دعوى تلبيس وتشكيك، فإننا لسنا على هذه الطريقة، وأنتم رميتمونا بذلك إما لإلزامنا أن نقول بالتأويل كما قلتم به، وإما لإلزامنا أن نسكت عن تحريفكم ونداهن، ولكنا بعون الله لن نسكت على ما نرمى به ونحن منه بريئون.

وهذا التأويل الذي ادعاه بعض أهل التأويل ورمى به أهل السنة والجماعة لنا عنه جوابان:

الجواب الأول: أن نمنع أن يكون طريق أهل السنة في ذلك تأويلا؛ لأن التأويل في اصطلاح المتأخرين -وهو الذي يعنيه هؤلاء- هو صرف اللفظ عن ظاهره.

وأهل السنة يقولون: ظاهر الكلام ما دل عليه الكلام باعتبار السياق، أو باعتبار حال المتكلم به، هذا هو ظاهر الكلام، وليس للكلمات معنى خلقت له لا تستعمل في غيره، ولكن معنى الكلمات إنما يظهر بسياقها وبحال المتكلم بها، نحن كنا قرأنا في البلاغة أو بعض منا قرأ في البلاغة ورأى أن الاستفهام يأتي لعدة معان، وقرأنا في حروف الجر ومعانيها، وعلمنا أن بعض الحروف يأتي لعدة معان، فما الذي يعين هذه

ص: 168

المعاني؟ أليس السياق؟ إذن فحقيقة الكلام ما دل عليه سياقه، وظاهره ما دل عليه سياقه، وذلك باعتبار نظم الكلام، وباعتبار حال المتكلم به، فهذا الجواب جواب مجمل أن نقول: لا نسلم بأن ظاهر الكلام خلاف ما دل عليه سياقه أو حال المتكلم به، بل ما دل عليه السياق فهو حقيقة الكلام وظاهره مطلقا، حتى لو استعملت هذه الكلمة في غير هذا الموضع لمعنى آخر، فإن استعمالها في هذا الموضع للمعنى الذي دل عليه السياق هو في الواقع حقيقتها، هذا جواب.

الجواب الثاني: لو سلمنا أن في اللفظ إخراجا له عن ظاهره، فإن أهل السنة والجماعة لا يمكن أبدا أن يخرجوا لفظا عن ظاهره إلا بدليل من الكتاب أو السنة، متصل أو منفصل، وأنا أتحدى أي واحد يأتي إلي بدليل من الكتاب أو السنة في أسماء الله وصفاته أخرجه أهل السنة عن ظاهره، إلا أن يكون لهم دليل بذلك من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ إذا كان ما أخرجه إليه أهل السنة من المعنى ثابتا بدليل من الكتاب والسنة، فإنهم في الحقيقة لم يخرجوا عما أراد الله به؛ لأنهم علموا مراد الله به من الدليل الثاني من الكتاب والسنة، وليسوا بحمد الله يخرجون شيئا من النصوص عما يقال: إنه ظاهره من أجل عقولهم؛ حتى يتوصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه، وإثبات ما لم يدل عليه ظاهر الكلام، هذا لا يوجد ولله الحمد في أي واحد من أهل السنة، والأمر إذا شئتم فارجعوا إليه في كتبهم المختصرة والمطولة، ونحن نضرب لذلك بعض الأمثلة لا كل الأمثلة؛ لأننا لو تتبعنا الأمثلة كلها التي قيل: إن أهل السنة والجماعة صرفوها عن ظاهرها لطال بنا الكلام، لكننا نذكر عدة أمثلة فقط:

المثال الأول: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قول الله

ص: 169

عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، فقلتم: إن معنى الاستواء هنا " القصد والإرادة "، وقلتم: إن معنى الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} " العلو والارتفاع "، وما هذا إلا تأويل منكم لأحد النصين لا يمكن أن تخرجوا عنه، ومعلوم أن استوى على كذا ظاهرة جدا في العلو عليه، يبقى استوى إلى كذا معناها القصد، إذن أخرجتم كلمة استوى عن ظاهرها.

وجوابنا على ذلك أن نقول: " استوى " كلمة يتحدد معناها بحسب متعلقها فمثلا: " استوى على العرش " معناها العلو على وجه يليق بجلاله، ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق.

"استوى إلى السماء" اختلف الحرف فكان " إلى "، و" إلى " للغاية، وليست للعلو، ومعلوم أنها إذا كانت للغاية فإن الفعل مضمن معنى يدل على الغاية وهو: القصد والإرادة، وإلى هذا النحو ذهب بعض أهل السنة فقالوا:" استوى إلى السماء " أي قصد إلى السماء، والقصد إذا كان تاما يعبر عنه بالاستواء؛ لأن الأصل في اللغة العربية أن مادة الاستواء تدل على الكمال كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} .

وجواب آخر أن نقول: " استوى إلى السماء" بمعنى ارتفع، قال البغوي: وهو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين، ولكن هذا يجب أن لا نظن أن الله سبحانه وتعالى قد انتفى عنه العلو حين خلق الأرض، بل إنه سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال عاليا؛ لأن العلو صفة ذاتية، ولكن الاستواء هنا وإن كان بمعنى الارتفاع إلا أننا لا نعلم كيفيته، وهذا جواب آخر عن الآية.

ص: 170

والخلاصة الآن أننا إذا فسرنا "استوى إلى السماء" بمعنى قصد إليها على الكمال فإننا لم نخرج عن ظاهر اللفظ، وذلك لاختلاف حرف الجر الذي تعلق باستوى في قوله:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وفي قوله:{اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، وإذا قلنا بالقول الثاني الذي هو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين بأنه ارتفع فإنه لا يجوز لنا أن نتوهم بأن الله تعالى لم يكن عاليا من قبل.

أما المثال الثاني: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة فسرتم قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا، وهذا خلاف ظاهر اللفظ.

نقول لهم: ماذا تفهمون من هذا اللفظ؟ هل أحد يمكن أن يفهم أن الباء للظرفية، وأن سفينة نوح تجري في عين الله؟ أبدا لا أحد يفهم هذا إطلاقا، وإتيان الباء للظرفية في بعض المواضع وارد، لكن في هذه الآية لا يمكن أبدا أن يكون كذلك.

إذن فهذا الظاهر الذي زعمتم أنه ظاهر الآية لا نسلم أبدا أنه ظاهرها، لكن الذين فسروا {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} بمرأى منا هؤلاء فسروا اللفظ بلازمه، وذلك صحيح، وليس خروجا باللفظ عن ظاهره؛ لأن دلالة اللفظ على معناه: إما دلالة مطابقة، أو دلالة تضمن، أو دلالة التزام، وكل من الدلالات لا يخرج اللفظ عن ظاهره، هذه الدلالات الثلاث أوضحها بالمثال:

"البيت" يعني الدار، تدل على جملة الدار وكتلتها جميعا بالمطابقة، أي تدل على بناء مكون من حجر وغرف وساحات وغيرها بالمطابقة.

ص: 171

وتدل على كل حجرة أو كل غرفة أو كل ساحة بالتضمن.

وتدل على أن هذا البيت لا بد له من بان بناه بالالتزام.

فنحن نقول: تجري بأعيننا إذا كان الله تعالى يراها بعينه ويرعاها، فإنها تجري بمرأى منه، وهذا معنى صحيح، ويمكن أن نجيب بجواب آخر بأن معناها: تجري مرئية بأعيننا، والمهم أن نثبت من هذه الآية أن لله سبحانه وتعالى عينا لا تشبه أعين المخلوقين، ولا يمكن أن نتصور لها كيفية، وبذلك لم نخرج عن ظاهر اللفظ.

وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أنها العين الحقيقية، والمعنى أن موسى صلى الله عليه وسلم يربى على عين الله، أي: على رؤية بعين الله سبحانه وتعالى.

المثال الثالث: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} إلى أن المراد أقرب بملائكتنا وهذا تأويل؛ لأنا لو أخذنا بظاهر اللفظ لكان الضمير نحن يعود إلى الله، وأقرب خبر المبتدأ، وفيه ضمير مستتر يعود على الله، فيكون القرب لله عز وجل، ومعلوم أنكم أهل السنة لا تقولون بذلك، لا تقولون: إن الله تعالى يقرب من المحتضر بذاته حتى يكون في مكانه؛ لأن هذا أمر لا يمكن أن يكون، إذ إنه قول أهل الحلول الذين ينكرون علو الله عز وجل، ويقولون: إنه بذاته في كل مكان، وأنتم أهل السنة تنكرون ذلك أشد الإنكار، إذن ماذا تقولون أنتم يا أهل السنة؟ ألستم تقولون: نحن أقرب إليه أي إلى المحتضر بملائكتنا، أي الملائكة تحضر إلى الميت وتقبض روحه؟ ! هذا تأويل.

ص: 172

قلنا: الجواب على ذلك سهل ولله الحمد، فإن الذي يحضر الميت هم الملائكة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} ، فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة، وأيضا في نفس الآية ما يدل على أنه ليس المراد قرب الله سبحانه وتعالى نفسه، فإنه قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} .

فهذا يدل على أن هذا القريب حاضر، لكن لا نبصره، وذلك لأن الملائكة عالم غيبي الأصل فيهم الخفاء وعدم الرؤية، وعلى هذا فنحن لم نخرج بالآية عن ظاهرها لوجود لفظ فيها يعين المراد، ونحن على العين والرأس والقلب نقبل كل شيء كان بدليل من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

المثال الرابع: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، فقلتم: وهو معكم بعلمه، وهذا تأويل، فإن الله تعالى يقول:{وَهُوَ مَعَكُمْ} ، والضمير في قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} يعود إلى الله، فأنتم يا أهل السنة أولتم هذا النص وقلتم: إنه معكم بالعلم، فإذن كيف تنكرون علينا التأويل؟

قلنا: نحن لم نؤول الآية، بل إنما فسرناها بلازمها وهو: العلم؛ وذلك لأن قوله: وهو معكم لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل

ص: 173

ويعرف عظمته أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم، فإن هذا أمر مستحيل، كيف يكون الله معك في البيت، ومع الآخر في المسجد، ومع الثالث في الطريق، ومع الرابع في البر، ومع الخامس في الجو، ومع السادس في البحر. . إلخ؟ لو قلنا بهذا فكم إلها يكون؟ لو قلنا بهذا لزم أن يكون الله إما متعددا أو متجزئا -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- وهذا أمر لا يمكن، ولهذا نقول: من فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه، ومن اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك، وكافر إذا بلغه العلم وأصر على قوله، ومن نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية أن الله معهم بذاته في أمكنتهم، فإنه بلا شك كاذب عليهم.

إذن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وأنه مع خلقه كما قال في كتابه، ولكن مع إيماننا بعلوه، ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسلطانا وسمعا وبصرا وتدبيرا، وغير ذلك من معاني الربوبية، أما أن يكون حالا في أمكنتهم، أو مختلطا بهم كما يقول أهل الحلول والاتحاد، فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب والسنة، وعلى هذا فنحن لم نؤول الآية ولم نصرفها عن ظاهرها؛ لأن الذي قال عن نفسه:{وَهُوَ مَعَكُمْ} هو الذي قال عن نفسه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، وهو الذي قال عن نفسه:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} إذن فهو فوق عباده، ولا يمكن أن يكون في أمكنتهم، ومع ذلك فهو معهم محيط بهم علما وقدرة وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك.

وإذا أضيفت المعية إلى من يستحق النصر من الرسل وأتباعهم

ص: 174

اقتضت مع الإحاطة علما وقدرة، اقتضت نصرا وتأييدا، فنحن ولله الحمد ما خرجنا بهذا اللفظ عن ظاهره حتى يلزمونا بذلك.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه المختصرة والمطولة أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقة وبين علو الله سبحانه وتعالى، قال:" لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو علي في دنوه، قريب في علوه ".

وقال: " إن الناس يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، مع أن القمر في السماء، وهم يقولون: معنا، فإذا كان هذا ممكنا في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى".

والمهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا أبدا ولا نقول إن ظاهر الآية هو ما فهمتموه، وأننا صرفناها عن ظاهرها، بل نقول: إن الآية معناها أنه سبحانه مع خلقه حقيقة معية تليق به، محيط بهم علما وقدرة وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك؛ لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية وبين نصوص العلو إلا على هذا الوجه الذي قلناه، والله سبحانه وتعالى يفسر كلامه بعضه بعضا.

المثال الخامس: قال أهل التأويل: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» .

وأنتم يا أهل السنة هل تقولون: إن الله يكون سمع وبصر ويد ورجل من يحبه حقيقة؟ إن لم تقولوا بذلك فقد صرفتم الحديث عن ظاهره؛

ص: 175

لأن الله يقول: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» .

وجوابنا: أنه لا أحد يفهم أن ظاهر الحديث هو هذا، أي أن الله يكون سمع الإنسان وبصره ورجله ويده حقيقة، لا أحد يفهم هذا، إلا من كان بليد الفهم، أو مظلم القلب بالتقليد، أو بالدعوى الباطلة.

فالحديث لا يدل على أن حقيقة سمع الإنسان وبصره ورجله ويده هو الله عز وجل، وحاشاه عز وجل عن ذلك، لا يدل على هذا بأي وجه من الوجوه، اقرأ الحديث:«من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» ، «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» ، فأثبت عابدا ومعبودا، ومتقربا ومتقربا إليه، «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» فأثبت محبا ومحبوبا، «ولئن سألني لأعطينه» فأثبت سائلا ومسئولا، ومعطيا ومعطى "، «ولئن استعاذني لأعيذنه» فأثبت مستعيذا ومستعاذا به، ومن المعلوم أن كل واحد من هذين هو غير الآخر بلا ريب.

إذا تقرر هذا فكيف يمكن أن يفهم أحد من قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: " كنت سمعه " أن الله سيكون جزءا في هذا المخلوق الذي يتقرب إليه، والذي يستعيذ به، والذي يسأله؟ هذا لا يمكن لأحد أن يفهمه أبدا من سياق الحديث، وبهذا يكون معنى الحديث وظاهر الحديث وحقيقة الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يسدد هذا الإنسان في سمعه وبصره وسعيه، فلا يسمع إلا بالله ولله وفي الله، ولا ينظر إلا لله وبالله وفي الله، ولا يبطش إلا لله وبالله، ولا يمشي إلا لله وبالله وفي الله، هذا هو معنى الحديث، وحقيقته وظاهره، وليس فيه ولله الحمد أي شيء من التأويل.

المثال السادس: قال أهل التأويل: إنكم يا أهل السنة أولتم قول

ص: 176

الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، حيث قلتم: إن المراد أن الله سبحانه وتعالى متصرف في القلوب، ولا يمكن أن تكون القلوب بين إصبعين من أصابع اليد، فإن هذا يقتضي الحلول، وأن أصابع الله حالة في صدر كل إنسان.

قلنا: هذا كذب على السلف، والسلف ما أولوا هذا التأويل، ولا قالوا: إن الحديث كناية عن سلطان الله تعالى، وتصرفه في القلوب، بل قالوا: نثبت أن لله تعالى أصابع، وأن كل قلب من بني آدم فهو بين إصبعين من أصابعه على وجه الحقيقة، ولا يلزم من ذلك الحلول أبدا، فإن البينية بين شيئين لا يلزم منها المماسة والمباشرة، أرأيتم قول الله تعالى:{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ؟ هل يلزم من ذلك التعبير أن يكون السحاب لاصقا بالسماء والأرض؟ لا يمكن، فقلوب بني آدم كلها كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق بالله:«بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، ولا يلزم من ذلك أن يكون مماسا لهذه القلوب، بل نقول كما قال نبينا، ونقول هذا على وجه الحقيقة، وليس فيه تأويل.

ونثبت مع ذلك أيضا أن الله تعالى يتصرف في هذه القلوب كما يشاء، كما جاء في الحديث، ونقول: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.

المثال السابع والأخير: فهو الحجر الأسود يمين الله في الأرض، قال أهل التأويل: إنكم تؤولون هذا الحديث، لأنكم لا يمكن أن تقولوا: إن الحجر هو يد الله.

ونقول: هذا حق، لا يمكن لأحد أن يقول: إن الحجر الأسود هو يد الله عز وجل، ولكن قبل أن نجيب على هذا نقول: إن هذا الحديث باطل، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 177

قال ابن العربي: إنه حديث باطل.

وقال ابن الجوزي في " العلل المتناهية ": إنه حديث لا يصح.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت ".

وعلى هذا فإنه ليس واردا على أهل السنة والجماعة لأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قال شيخ الإسلام: إنه مشهور عن ابن عباس، ولكنه مع ذلك لا يعطي المعنى الذي قاله هؤلاء، وأن الحجر الأسود يمين الله؛ لأنه قال:«يمين الله في الأرض» فقيده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والكلام إذا قيد ليس كالكلام المطلق ما قال: يمين الله وسكت، قال: في الأرض، ومعلوم أن يمين الله ليست في الأرض، كذلك أيضا قال في نفس الحديث كما رواه شيخ الإسلام ابن تيمية:«فمن صافحه فكأنما صافح الله» ، والتشبيه يدل على أن المشبه به ليس هو المشبه، وإنما هو غيره.

وخلاصة القول:

أن أهل السنة والجماعة -ولله الحمد- لا يمكن أن يخرجوا الكلام عن ظاهره؛ لأن ظاهر الكلام وحقيقته ما دل عليه سياقه، وهو مختلف بحسب السياق وبحسب الأحوال، فإن لم يمكن ذلك وأبى إنسان إلا أن يجعل معنى الكلمة معنى ذاتيا لها، فإننا نقول: لا يمكن لأهل السنة والجماعة أن يتركوا هذا المعنى الذي ادعى أنه ذاتي لها إلا بدليل من الكتاب والسنة، ومتى دل الكتاب والسنة على شيء وجب القول به، سواء وافق ما يقال: إنه ظاهر اللفظ أو خالفه، ونحن كلنا نلتمس ما قاله الله عن نفسه، وما قاله عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدلكم لهذا ما ثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول:«عبدي جعت فلم تطعمني، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ كيف أعودك وأنت رب»

ص: 178

«العالمين؟ فيقول الله عز وجل: أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلم تطعمه، مرض فلم تعده» .

هذا الحديث يدلنا دلالة ظاهرة على أن ما جاء في الكتاب والسنة مما أضافه إلى نفسه فهو حق على ظاهره، ما لم يرد عن الله ورسوله صرفه عن ذلك، فإن ورد صرفه عن ظاهره فإننا آخذون به، وهذا الحديث الأخير دليل واضح على منع التأويل الذي ليس له دليل من الكتاب والسنة، ولعلنا نقتصر على هذا خوفا من التطويل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ص: 179