المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٥

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌شرح لمعة الاعتقاد

- ‌المقدمة

- ‌لمعة الاعتقاد

- ‌ السنة والبدعة وحكم كل منهما

- ‌ الصفات التي ذكرها المؤلف من صفات الله تعالى

- ‌معنى كون الله في السماء

- ‌ القول في القرآن

- ‌ القدر

- ‌ فصل في السمعيات

- ‌عذاب القبر أو نعيمه:

- ‌النفخ في الصور:

- ‌(البعث والحشر)

- ‌(الشفاعة)

- ‌(الحساب)

- ‌(الموازين)

- ‌(صفة أخذ الكتاب)

- ‌(الحوض)

- ‌(الصراط)

- ‌(الجنة والنار)

- ‌(ذبح الموت)

- ‌فصلفي حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

- ‌خصائص النبي

- ‌فضائل الصحابة

- ‌الشهادة بالجنة أو النار

- ‌المعينون من أهل النار في الكتاب والسنة

- ‌حقوق الصحابة

- ‌حكم سب الصحابة

- ‌حقوق زوجات النبي

- ‌معاوية بن أبي سفيان

- ‌الخلافة

- ‌هجران أهل البدع

- ‌الجدال والخصام في الدين

- ‌الخلاف في الفروع

- ‌الإجماع وحكمه

- ‌التقليد

- ‌نبذة في العقيدة

- ‌[أهمية علم التوحيد]

- ‌أركان الإسلام

- ‌أسس العقيدة الإسلامية

- ‌الإيمان بالله تعالى

- ‌الإيمان بالملائكة

- ‌الإيمان بالكتب

- ‌الإيمان بالرسل

- ‌الإيمان باليوم الآخر

- ‌وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة منها:

- ‌الإيمان بالقدر

- ‌وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:

- ‌أهداف العقيدة الإسلامية

- ‌أسماء اللهوصفاتهوموقف أهل السنة منها

- ‌[مقدمة]

- ‌ موقف أهل السنة في أسماء الله تبارك وتعالى

- ‌ في نصوص الأسماء والصفات:

- ‌ العدول عن هذا الموقف تطرف دائر بين الإفراط والتفريط

- ‌ التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله

- ‌ بعض أهل التحريف والتعطيل قالوا: إن أهل السنة مشبهة ومجسمة وممثلة

- ‌ ادعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص

- ‌منهاجأهل السنةوالجماعةفي العقيدة والعمل

- ‌[المقدمة]

- ‌المراد بأهل السنة والجماعة وبيان طريقهم

- ‌ بيان طريق أهل السنة والجماعة في أسماء الله تعالى وصفاته

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في عبادة الله

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في حق الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في حق الأولياء والأئمة

- ‌ طريقة أهل السنة والجماعة في إصلاح المجتمع

- ‌ قول أهل السنة والجماعة في الإيمان

- ‌القضاء والقدر

- ‌[المقدمة]

- ‌مراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة

- ‌الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع

- ‌مفاتح الغيب

- ‌ إن الله عنده علم الساعة:

- ‌{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}

- ‌ ويعلم ما في الأرحام:

- ‌ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا

- ‌ وما تدري نفس بأي أرض تموت:

- ‌التوسل

- ‌النوع الأول:عبادة يراد بها التوصل إلى رضوان الله والجنة

- ‌ النوع الثاني من الوسيلة: فهو ما يتخذ وسيلة لإجابة الدعاء

- ‌القسم الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه

- ‌القسم الثاني: التوسل إلى الله تعالى بصفاته

- ‌القسم الثالث: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به

- ‌القسم الرابع: التوسل إلى الله تعالى بحال الداعي

- ‌القسم الخامس: التوسل بدعاء من ترجى إجابة دعائه

- ‌القسم السادس: التوسل إلى الله بالعمل الصالح

- ‌آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع

- ‌[تمهيد]

- ‌حكمة إرسال الرسل

- ‌معجزات الأنبياء أو آيات الأنبياء

- ‌آيات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم

- ‌رسالةحول الصعود إلى القمر

الفصل: ‌الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع

‌الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع

.

ص: 241

الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بين فيها ما تحتاجه الأمة في جميع شؤونها حتى قال أبو ذر رضي الله عنه:«ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم طائرا يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» . «وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه: علمكم نبيكم حتى الخراءة -آداب قضاء الحاجة- قال: "نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي برجيع أو عظم» .

وإنك لترى هذا القرآن العظيم قد بين الله تعالى فيه أصول الدين وفروع الدين، فبين التوحيد بجميع أنواعه، وبين حتى آداب المجالس والاستئذان قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} وقال تعالى:

ص: 243

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .

حتى آداب اللباس، قال الله تعالى:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} وقال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتبين بها أن هذا الدين شامل كامل لا يحتاج إلى زيادة كما أنه لا يجوز فيه النقص، ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم إلا بينه الله تعالى في كتابه إما نصا، أو إيماء وإما منطوقا، وإما مفهوما.

أيها الأخوة: إن بعض الناس يفسر قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}

ص: 244

(يفسر قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} على أن الكتاب القرآن.

والصواب: أن المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، وأما القرآن فإن الله تعالى وصفه بأبلغ من النفي وهو قوله:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . ولعل قائلا يقول: أين نجد أعداد الصلوات الخمس في القرآن؟ وعدد كل صلاة في القرآن؟ وكيف يستقيم أننا لا نجد في القرآن بيان أعداد ركعات كل صلاة والله يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ؟ . والجواب على ذلك أن الله تعالى بين لنا في كتابه أنه من الواجب علينا أن نأخذ بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وبما دلنا عليه {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فما بينته السنة فإن القرآن قد دل عليه؛ لأن السنة أحد قسمي الوحي الذي أنزله الله على رسوله وعلمه إياه كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وعلى هذا فما جاء في السنة فقد جاء في كتاب الله عز وجل.

أيها الأخوة: إذا تقرر ذلك عندكم فهل النبي صلى الله عليه وسلم توفي وقد بقي شيء من الدين المقرب إلى الله تعالى لم يبينه؟

أبدا، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين كل الدين إما بقوله وإما بفعله وإما بإقراره ابتداء أو جوابا عن سؤال، وأحيانا يبعث الله أعرابيا من أقصى البادية ليأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله عن شيء من أمور الدين لا يسأله عنه

ص: 245

الصحابة الملازمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانوا يفرحون أن يأتي أعرابي يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض المسائل. ويدلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئا مما يحتاجه الناس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشتهم إلا بينه، يدلك على ذلك قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .

إذا تقرر ذلك عندك أيها المسلم فاعلم أن كل من ابتدع شريعة في دين الله ولو بقصد حسن فإن بدعته هذه مع كونها ضلالة تعتبر طعنا في دين الله عز وجل، تعتبر تكذيبا لله تعالى في قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . لأن هذا المبتدع الذي ابتدع شريعة في دين الله تعالى وليست في دين الله تعالى كأنه يقول بلسان الحال: إن الدين لم يكمل لأنه قد بقي عليه هذه الشريعة التي ابتدعها يتقرب بها إلى الله عز وجل.

ومن عجب أن يبتدع الإنسان بدعة تتعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته، ثم يقول إنه في ذلك معظم لربه، إنه في ذلك منزه لربه، إنه في ذلك متمثل لقوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} إنك لتعجب من هذا أن يبتدع هذه البدعة في دين الله المتعلقة بذات الله التي ليس عليها سلف الأمة ولا أئمتها ثم يقول: إنه هو المنزه لله، وإنه هو المعظم لله، وإنه هو الممتثل لقول الله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (. وأن من خالف ذلك فهو ممثل مشبه، أو نحو ذلك من ألقاب السوء.

كما إنك لتعجب من قوم يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعون بذلك أنهم هم المحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم المعظمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من لم يوافقهم في بدعتهم هذه فإنه مبغض

ص: 246

لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من ألقاب السوء التي يلقبون بها من لم يوافقهم على بدعتهم فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن العجب أن مثل هؤلاء يقولون: نحن المعظمون لله ولرسوله، وهم إذا ابتدعوا في دين الله، وفي شريعته التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم ما ليس منها فإنهم بلا شك متقدمون بين يدي الله ورسوله، وقد قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

أيها الأخوة: إني سائلكم ومناشدكم بالله عز وجل وأريد منكم أن يكون الجواب من ضمائركم لا من عواطفكم، من مقتضى دينكم لا من مقتضى تقليدكم، كأن سواء فيما يتعلق بذات الله، وصفات الله، وأسماء الله، أو فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون: نحن المعظمون لله ولرسول الله، أهؤلاء أحق بأن يكونوا معظمين لله ولرسول الله؟ أم أولئك القوم الذين لا يحيدون قيد أنملة عن شريعة الله، يقولون فيما جاء من الشريعة: آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به، وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به أو نهينا عنه، ويقولون فيما لم تأت به الشريعة: أحجمنا وانتهينا، وليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله، وليس لنا أن نقول في دين الله ما ليس منه. أيها أحق أن يكون محبا لله ورسوله ومعظما لله ورسوله؟.

لا شك أن الذين قالوا: آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به، وقالوا: نحن أقل قدرا في نفوسنا من أن نجعل في شريعة الله ما ليس منها، أو أن نبتدع في دين الله ما ليس منه، لا شك أن هؤلاء هم الذين عرفوا قدر أنفسهم، وعرفوا قدر خالقهم، هؤلاء هم الذين عظموا

ص: 247

الله ورسوله، وهم الذين أظهروا صدق محبتهم لله ورسوله.

لا أولئك الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه في العقيدة، أو القول، أو العمل، وإنك لتعجب من قوم يعرفون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ويعلمون أن قوله: "كل بدعة" كلية عامة شاملة، مسورة بأقوى أدوات الشمول والعموم "كل" والذي نطق بهذه الكلية صلوات الله وسلامه عليه يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق لا يتلفظ إلا بشيء يقصد معناه. إذن فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال:«كل بدعة ضلالة» كان يدري ما يقول، وكان يدري معنى ما يقول، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصح للأمة.

وإذا تم في الكلام هذه الأمور الثلاثة -كمال النصح والإرادة، وكمال البيان والفصاحة، وكمال العلم والمعرفة- دل ذلك على أن الكلام يراد به ما يدل عليه من المعنى، أفبعد هذه الكلية يصح أن نقسم البدعة إلى أقسام ثلاثة، أو إلى أقسام خمسة؟ أبدا، هذا لا يصح.

وما ادعاه العلماء من أن هناك بدعة حسنة. فلا تخلو من حالين:

1 -

أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة.

2 -

أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.

فكل ما ادعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا. وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» . إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة، إنه لم يصنع في مصانع مضطربة، لكنه صنع في مصانع النبوة، وصاغه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصياغة البليغة فلا يمكن

ص: 248

لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول: إنها حسنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بدعة ضلالة» .

وكأني أحس أن في نفوسكم دبيبا يقول: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب حينما أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما بالناس في رمضان، فخرج والناس على إمامهم مجتمعون فقال:" نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ".

فالجواب عن ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بأي كلام، لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". ا. هـ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر! ".

الوجه الثاني: أننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشد الناس تعظيما لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان مشهورا بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان وقافا عند

ص: 249

كلام الله تعالى. وما قصة المرأة التي عارضته -إن صحت القصة- في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} . فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور. لكن هذه القصة في صحتها نظر. لكن المراد بيان أن عمر كان وقافا عند حدود الله تعالى لا يتعداها، فلا يليق بعمر رضي الله عنه وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وأن يقول عن بدعة:"نعمت البدعة" وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل بدعة ضلالة» بل لا بد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر: إنها "نعمت البدعة" على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «كل بدعة ضلالة» فعمر رضي الله عنه يشير بقوله: "نعمت البدعة هذه" إلى جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال: (إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» . فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسماها عمر رضي الله عنه بدعة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه، ويقوم الرجل ومعه الرجل، والرجل ومعه الرجلان، والرهط والنفر في المسجد، فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد، فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قبل بدعة، فهي بدعة اعتبارية إضافية، وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر رضي الله عنه؛ لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهي سنة، لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر رضي الله عنه،

ص: 250

وبهذا التقعيد لا يمكن أبدا أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذا لما استحسنوه من بدعهم.

وقد يقول قائل: هناك أشياء مبتدعة قبلها المسلمون وعملوا بها وهي لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كالمدارس، وتصنيف الكتب، وما أشبه ذلك وهذه البدعة استحسنها المسلمون وعملوا بها ورأوا أنها من خيار العمل، فكيف تجمع بين هذا الذي يكاد أن يكون مجمعا عليه بين المسلمين وبين قول قائد المسلمين ونبي المسلمين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة» ؟

فالجواب أن نقول: هذا في الواقع ليس ببدعة، بل هذا وسيلة إلى مشروع، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فوسائل المشروع مشروعة، ووسائل غير المشروع غير مشروعة، بل وسائل المحرم حرام. والخير إذا كان وسيلة للشر كان شرا واستمع إلى الله عز وجل يقول:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (. وسب آلهة المشركين ليس عدوا بل حق وفي محله، لكن سب رب العالمين عدو وفي غير محله وعدوان وظلم، ولهذا لما كان سب آلهة المشركين المحمود سببا مفضيا إلى سب الله كان محرما ممنوعا، سقت هذا دليلا على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمدارس وتصنيف العلم وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه إلا أنه ليس مقصدا بل هو وسيلة، والوسائل لها أحكام المقاصد. ولهذا لو بنى شخص مدرسة لتعليم علم محرم كان البناء حراما، ولو بنى مدرسة لتعليم علم شرعي كان البناء مشروعا.

ص: 251

فإن قال قائل: كيف تجيب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وسن بمعنى "شرع"؟.

فالجواب: أن من قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة» هو القائل: «كل بدعة ضلالة» ولا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب له قولا آخر، ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا، ولا يمكن أن يرد على معنى واحد مع التناقض أبدا، ومن ظن أن كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم متناقض فليعد النظر، فإن هذا الظن صادر إما عن قصور منه، وإما عن تقصير. ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم تناقض أبدا.

وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث «كل بدعة ضلالة» لحديث «من سن في الإسلام سنة حسنة» أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من سن في الإسلام» والبدع ليست من الإسلام، ويقول "حسنة" والبدعة ليست بحسنة، وفرق بين السن والتبديع.

وهناك جواب لا بأس به: أن معنى "من سن" من أحيا سنة كانت موجودة فعدمت فأحياها وعلى هذا فيكون "السن" إضافيا نسبيا كما تكون البدعة إضافية نسبية لمن أحيا سنة بعد أن تركت.

وهناك جواب ثالث يدل له سبب الحديث وهو قصة النفر الذين وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا في حالة شديدة من الضيق، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التبرع لهم، فجاء رجل من الأنصار بيده صرة من فضة كادت تثقل يده فوضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي عليه الصلاة والسلام يتهلل من الفرح والسرور وقال:«من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر»

ص: 252

«من عمل بها إلى يوم القيامة» فهنا يكون معنى "السن" سن العمل تنفيذا وليس العمل تشريعا، فصار معنى «من سن في الإسلام سنة حسنة» من عمل بها تنفيذا لا تشريعا؛ لأن التشريع ممنوع «كل بدعة ضلالة» .

وليعلم أيها الإخوة أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقا للشريعة في أمور ستة:

الأول: السبب فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيا فهي بدعة مردودة على صاحبها.

مثال ذلك: أن بعض الناس يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتهجد عبادة، ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة؛ لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعا. وهذا الوصف -موافقة العبادة للشريعة في السبب- أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يظن أنه من السنة وليس من السنة.

الثاني: الجنس، فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها، فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة.

مثال ذلك: أن يضحي رجل بفرس، فلا يصح أضحية؛ لأنه خالف الشريعة في الجنس، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام؛ الإبل، البقر، الغنم.

الثالث: القدر، فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول: هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالفة للشرع في القدر، ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلا خمسا فإن صلاته لا تصح بالاتفاق.

الرابع: الكيفية فلو أن رجلا توضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه ثم غسل يديه، ثم وجهه فنقول: وضؤوه باطل؛ لأنه مخالف للشرع في الكيفية.

ص: 253

الخامس: الزمان فلو أن رجلا ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان.

وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقربا لله تعالى بالذبح، وهذا العمل بدعة على هذا الوجه؛ لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية، والهدي والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة. وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز.

السادس: المكان، فلو أن رجلا اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح، وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، ولو قالت امرأة: أريد أن أعتكف في مصلى البيت. فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان. ومن الأمثلة: لو أن رجلا أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق ووجد ما حوله قد ضاق فصار يطوف من وراء المسجد فلا يصح طوافه؛ لأن مكان الطواف البيت، قال الله تعالى لإبراهيم الخليل:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}

فالعبادة لا تكون عملا صالحا إلا إذا تحقق فيها شرطان: الأول: الإخلاص.

الثاني: المتابعة.

والمتابعة لا تتحقق إلا بالأمور الستة الآنفة الذكر.

وإنني أقول لهؤلاء الذين ابتلوا بالبدع - الذين قد تكون مقاصدهم حسنة ويريدون الخير -: إذا أردتم الخير فلا والله نعلم طريقا خيرا من طريق السلف رضي الله عنهم.

أيها الإخوة، عضوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنواجذ، واسلكوا طريق السلف الصالح، وكونوا على ما كانوا عليه وانظروا هل يضيركم ذلك شيئا؟.

ص: 254

وإني أقول -وأعوذ بالله أن أقول ما ليس لي به علم- أقول: إنك لتجد الكثير من هؤلاء الحريصين على البدع يكون فاترا في تنفيذ أمور ثبتت شرعيتها وثبتت سنيتها، فإذا فرغوا من هذه البدع قابلوا السنن الثابتة بالفتور، وهذا كله من نتيجة أضرار البدع على القلوب، فالبدع أضرارها على القلوب عظيمة، وأخطارها على الدين جسيمة، فما ابتدع قوم في دين الله بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها أو أشد، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من السلف.

لكن الإنسان إذا شعر أنه تابع لا مشرع حصل له بذلك كمال الخشية والخضوع والذل، والعبادة لرب العالمين، وكمال الاتباع لإمام المتقين وسيد المرسلين ورسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم.

إنني أوجه نصيحة إلى كل إخواني المسلمين الذين استحسنوا شيئا من البدع سواء فيما يتعلق بذات الله، أو أسماء الله، أو صفات الله، أو فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، أن يتقوا الله ويعدلوا عن ذلك، وأن يجعلوا أمرهم مبنيا على الاتباع لا على الابتداع، على الإخلاص لا على الإشراك، على السنة لا على البدعة، على ما يحبه الرحمن لا على ما يحبه الشيطان، ولينظروا ماذا يحصل لقلوبهم من السلامة والحياة والطمأنينة، وراحة البال والنور العظيم.

وأسأل الله تعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، وقادة مصلحين، وأن ينير قلوبنا بالإيمان والعلم، وأن لا يجعل ما علمنا وبالا علينا، وأن يسلك بنا طريق عباده المؤمنين، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 255

شرح حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 257

شرح حديث عائشة رضي الله عنها.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .

عائشة هي بنت أبي بكر الصديق، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة لها ست سنوات، ودخل عليها وهي صغيرة أيضا لها تسع سنوات، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، وكان عندها من العلم الكثير الذي نفع الله به الأمة، وكنيتها أم عبد الله، والصحيح أنها لم تلد، وقيل إنها تكنت بابن أختها عبد الله بن الزبير.

قوله: " أحدث " أي أتى بشيء جديد.

" في أمرنا " أي في ديننا.

" ما ليس منه " أي باعتبار الشرع.

" رد " بمعنى مردود، وهذه الكلمة مصدر، والفعل (رد) ، والمصدر هنا بمعنى اسم المفعول (مردود) ، ويأتي المصدر بمعنى اسم المفعول، ولذلك شواهد من اللغة، منها كلمة (الحمل) فهي بمعنى (المحمول) كما في قوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} أي محمول.

وفي هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجملة شرطية أن من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد مردود على صاحبه، حتى إن كان أحدثه عن حسن نية فإنه لا يقبل منه؛ لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع.

ولهذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم " أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية" قال سبحانه:

ص: 259

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وهذا إنكار عليهم.

وعلى العكس من ذلك فالأصل في المعاملات والأفعال والأعيان الإباحة والحل حتى يقوم دليل على المنع.

وهذا الحديث ورد في العبادات وهي التي يقصد الإنسان بها التعبد والتقرب إلى الله، فنقول لمن يزعم شيئا عبادة: هات الدليل على أن هذا عبادة، وإلا فقولك مردود.

ويحتاج هذا الحديث إلى تحرير بالغ.

فأولا: ينبغي معرفة هل هذا عبادة أم عادة.

فمثلا لو أن رجلا قال لصاحبه الذي نجا من هلكة: ما شاء الله، هنيئا لك. فقال له رجل: هذه بدعة. فهذا القول غير صحيح؛ لأن هذا من أمور العادة وليس من أمور العبادة. وفي الشرع ما يشهد لهذا، حيث جعل الناس يهنئون كعب بن مالك بتوبة الله عليه في حديثه الطويل. وكثير من التهاني التي تحدث بين الناس لا يزعم أحد أنها بدعة إلا بدليل؛ لأنها أمور عادات لا عبادات، وكمن قابل رجلا نجح في امتحان فقال له: مبروك. فمن يقول هذه بدعة غير محق في ذلك.

وإذا تردد الأمر بين كونه عبادة أو عادة، فالأصل أنه عادة ولا ينهى عنه حتى يقوم دليل على أنه عبادة.

وتوجد أشياء ابتدعها الناس في دين الله، كإحداث أذكار معينة بصيغ وعدد ووقت وهي لم تشرع على هذا الوجه لا في الزمن ولا العدد، ولا الهيئة، كمن يسبح ألف مرة ويلتزم بذلك ويجعله في الصباح مثلا، فهذا العمل بدعة، مردود على صاحبه لا ثواب له.

فإن قال: كيف تنكرون أن أقول: سبحان الله؟ فنقول: نحن لا ننكر عليك سبحان الله، بل ننكر عليك أن تأتي بها على هذه الصفة التي

ص: 260

لم ترد، أما أن تسبح آناء الليل وأطراف النهار تسبيحا غير مقيد بزمن، ولا عدد، ولا هيئة فلا ننكر عليك.

وكذلك ما يحدث في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من اجتماع الناس وإتيانهم بصيغ من الصلاة والسلام على رسول الله لم ترد عن الرسول ولا أصحابه، بل هي محشوة من الغلو في رسول الله الذي حذر أمته منه، ويأخذون في ترانيم على صفات معينة، فكل هذا بدع مردودة.

وإذا قالوا: نحن نصلي على رسول الله لننال ثواب الصلاة عليه. فنقول لهم: تحديدها بزمان، وعدد معين، وصيغة معينة قد تكون غير واردة أو منهيا عنها، كل هذا جعلها بدعة مردودة.

واعلم أنك لن تحدث بدعة في دين الله إلا انتزع الله من قلبك من السنة ما يقابل هذه البدعة؛ لأن القلب وعاء إن ملأته بالخير لم يبق فيه مكان للشر، وإن ملأته بالشر لم يبق فيه مكان للخير، وإذا ملأته بالسنة لم يبق فيه مكان للبدعة، وإذا ملأته بالبدعة لم يبق فيه مكان للسنة.

وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تجد هؤلاء الحريصين على البدع عندهم قصور وفتور في اتباع السنن، ولا يكادون يأتون بها على الوجه المطلوب.

ولذلك فإذا تعبد إنسان في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بعبادات من أذكار وصلوات على رسول الله وغير ذلك، فهذه بدعة، ونجيب على من يفعل ذلك من وجهين:

الأول: أنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرج به في هذه الليلة، وهذا يبطل كل ما ينبني على هذا.

الوجه الثاني: لو سلمنا بذلك فهذا لا يقتضي أن نثبت لها شيئا من العبادات؛ لأن الصحابة لم يجعلوا فيها شيئا من هذه العبادات، والواجب على المؤمن أن يتبع ما جاء به الشرع، ولو اتبعنا ما كان عليه سلفنا الصالح

ص: 261

فعلا وتركا صرنا أسعد مما نحن عليه اليوم.

وهذا الحديث كذلك ميزان للأعمال الظاهرة، كما أن حديث عمر في النية ميزان للأعمال الباطنة، فحديث عائشة عن المتابعة، وحديث عمر عن النية، والعبادة لا تقبل إلا بالإخلاص والمتابعة.

وهنا نذكر مثلا ما يفعله الناس من التسابق على الجليد، فهذا لا ينكر عليه؛ لأن هذا من العادات لا من العبادات، وكذلك المصارعة فيما لا ضرر فيه، فإن اشتمل على ضرر كان حراما، ليس لأنه بدعة، بل لما فيه من الضرر.

فالبدعة تكون في الأمور التعبدية، أما أمور العادات فإن كان فيها ضرر منعت وإلا فالأصل فيها الحل.

وكذلك من لبس لباسا غير معهود ولم ينه الشرع عنه فلا ننكر عليه.

ولو أن رجلا داوم على حلق رأسه كلما نبت شعره حلقه، فهذا من الأمور العادية، ولهذا «لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما قد حلق بعض رأسه، قال: "احلقه كله أو اتركه كله» . وهذا دليل على أنه ليس من باب العبادة وإلا لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبقاء الشعر، ولهذا فالراجح من أقوال أهل العلم أن إطلاق الشعر من الأمور العادية إن اعتادها الناس فعلت وإلا فلا.

ولو لبس الإنسان لباسا يخالف العادة ولكنه غير محرم شرعا فلا ينبغي لئلا يكون لباس شهرة، ولباس الشهرة هو الذي يشتهر به الإنسان حتى يقال: هذا الثوب مثل ثوب فلان، وقد يكون بالدون وقد يكون بالأعلى، حتى قال بعض العلماء: لو أن رجلا فقيرا لبس ثياب الأغنياء صار في حقه ثوب شهرة، ولو أن رجلا غنيا لبس ثياب الفقراء صار في حقه ثوب شهرة، وإنما يلبس كل إنسان ما يناسب حاله. واليوم والحمد لله لم يعد هناك فرق كبير بين ثوب الغني والفقير.

ص: 262

وبناء على ما تقدم فإنه لا يستحب أن يقصد العمرة في ليلة السابع والعشرين من رمضان، ومن قصد ذلك فقد أتى بشيء لا دليل عليه، فليلة القدر وإن كان لها خاصية لكنها لا تطلب بأداء العمرة فيها بل بقيامها لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . ولم يقل: من اعتمر. وقال صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة» ولم يقل: عمرة في ليلة سبع وعشرين تعدل حجة.

فننصح لإخواننا الذين يريدون وجه الله أن تكون أعمالهم موافقة لشرع الله سبحانه لأن مجرد إخلاص النية وإرادة وجه الله لا يكفي في قبول العلم كما سبق بيانه. ولم أجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على استحباب العمرة ليلة السابع والعشرين، بل هي كغيرها من أيام رمضان في فضل الاعتكاف لما سبق من قوله عليه الصلاة والسلام:«عمرة في رمضان» .

ولا يفيد الإنسان أن يعبد الله بالعاطفة بدون أصل شرعي يرجع إليه لأن ذلك اتباع للهوى، فللشرع حدود معينة مضبوطة من كل وجه حتى لا يتفرق الناس فيها شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.

ثم إن ليلة القدر ليست مخصوصة بليلة سبع وعشرين، فالنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تدل أنها تتنقل في الأعوام، ففي عام تكون ليلة ثلاث وعشرين، وفي آخر ليلة خمس وعشرين، وغيره ليلة تسع وعشرين وثمان وعشرين، وست وعشرين.. وهكذا.

وقد ثبت في الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوسط ابتغاء ليلة القدر فخرج على أصحابه ليلة إحدى وعشرين وأخبرهم أنه كان يعتكف طلبا لليلة القدر وأنه رأى ليلة القدر في العشر الأواخر ولكنه أنسيها حكمة من الله تعالى، وقال عليه الصلاة والسلام: "وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين". قال أنس: فمطرت السماء تلك الليلة فقام رسول»

ص: 263

«الله عليه الصلاة والسلام يصلي الفجر فرأيت على جبهته أثر الماء والطين. وكانت تلك ليلة إحدى وعشرين. وقال عليه الصلاة والسلام: "التمسوها في خامسة تبقى، في رابعة تبقى،

» إلى آخر الحديث.

وهذا يدل أنها تنتقل ولا تتعين في ليلة سبع وعشرين. ونرى كثيرا من المسلمين يجتهدون في ليلة سبع وعشرين ويتساهلون فيما عداها، وقد تكون في غيرها فيحرمون خيرها.

وينبغي للإنسان أن يجتهد في تلك الليالي كلها في الدعاء بقلب خالص وأمل في الله سبحانه، وأن يحرص على اجتناب أكل الحرام، لأنه من أسباب رد الدعاء، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:«إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» وفي الحديث: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له» . فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب إجابة الدعاء السفر وهو مظنة للإجابة، وكذلك ذكر الشعث والغبر ولا شك أن كون الإنسان غير مترف ولا مهتم بأمور ملبسه ومظهره بل مهتم بإصلاح قلبه، وكذلك ذكر مد اليدين إلى السماء وهو من إظهار الافتقار إلى الله وإظهار الضعف والحاجة لله سبحانه، وذكر كذلك قوله: يا رب يا رب، ودعوة الله بهذا الاسم هو توسل إلى الله بأسمائه وخلقه للناس وربوبيته لهم.

ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مأكله ومشربه وملبسه وغذاءه كله من حرام، فيمنع إجابة الدعاء.

و (أنى) للاستفهام بمعنى الاستبعاد، أي بعيد أن يستجيب الله له.

ولهذا فأحذر إخواني من أكل الحرام، وهو ليس فقط كما يظن البعض أكل الخنزير والميتة وشرب الخمر، بل يشمل أكل الحرام لذاته

ص: 264

كهذه الأشياء، وأكله لكسبه بأن يكون الشيء حلالا ثم يصير حراما كالمغصوب والمسروق.

وكذلك المرابي ومن يأكل الربا سواء بصراحة أو بتحايل، والحيلة في ذلك أقبح من الصراحة لأنها تتضمن مفسدتين: المحرم والمخادعة والخيانة لله سبحانه، وهذا لا يخادع إلا نفسه فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وكذلك الذي يكسب المال بالغش والخداع، فيظهر السلعة بمظهر طيب وهي رديئة فيظنها المشتري جيدة ويدفع فيها الثمن الكثير وهي في الحقيقة لا تساوي هذا الثمن. وقد يظن هذا البائع الغشاش أنه ربح ولكنه في الحقيقة خاسر، لأن المغبون سيأخذ من حسناته يوم يكون أحوج إلى الحسنة من الدنيا وما عليها ولا يستطيع أن يفدي نفسه.

وقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب تمر فأدخل يده في التمر فإذا أسفله مبلول، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام"؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غش فليس منا» . وكان الواجب على هذا أن يظهر الرديء حتى يعرفه الناس.

ومن ذلك أيضا الكسب عن طريق الكذب، كمن يحلف أن هذه السلعة تساوي مائة وهي لا تساوي أكثر من خمسين، وقد يغتر من لا يعرف سعر هذه السلعة، فهذه الزيادة قد جاءت بالكذب وقد يزين له الشيطان أن المشتري قد اشترى برضاه، ولكن نقول له: لو علم المشتري أن القيمة الحقيقية أقل مما دفع فإنه لن يرضى، فهو إذا لم يشتر عن تراضٍ، بل بكذب وتغرير ودجل.

وقد تجد من يبيع السلعة بمائة ويبيعها من بجواره بخمسين، ولا شك أن هذا فرق كبير ليس مما يجري به العرف ويوجد بين الناس عادة ويتراضون به.

فالخلاصة أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على

ص: 265

المشروعية وأن كل من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد مردود على صاحبه، وأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع، وأنه لا بد من الإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 266