الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس والأربعون: عدله ورئاسته
…
الباب الخامس والأربعون: في ذكر عدله ورئاسته
ذكر ابن الجوزي عن عامر الشعبي قال: "قال عمر رضي الله عنه: "والله لقد لان قلبي حتى لهو ألين من الزبد، ولقد اشتد قلبي حتى لهو أشد من الحجر"1.
وعن عروة2 قال: "كان عمر رضي الله عنه إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال: "اللهم أَعِنِّي عليهما فإن كل واحد منهما يريدني عن ديني"3.
وعن أبي فراس4 قال: "خطب عمر رضي الله عنه فقال: "أيها الناس إنما كنا نعرفكم إذ بين ظهرينا النبي صلى الله عليه وسلم وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلق وانقطع الوحي، ألا وإنما نعرفكم بما نقول لكم: من أظهر منكم خيراً ظننا به خيراً، وأجبناه عليه، ومن أظهر لنا شرّاً ظننا به شرّاً وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم، ألا إنه قد أتى عليّ حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن يريد الله وما عنده، فقد خيّل إليّ بآخره5 أن رجالاً قد قرأوه يريدون به ما عند الناس، فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا وإني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم
1 ابن الجوزي: مناقب ص 94، أبو نعيم: الحلية 1/5، المتقي الهندي: كنْز العمال 12/585، وهو ضعيف، لانقطاعه.
2 ابن الزبير.
3 ابن سعد: الطبقات 3/289، وفي إسناده الواقدي، وابن الجوزي: مناقب ص 94.
4 في الأصل: (فارس) ، وهو تحريف. وهو أبو فراس الهندي، قيل اسمه: الربيع بن زياد، مقبول من الثانية. (التقريب ص 665) .
5 في الأصل: (آخر) .
وسنتكم، فمن عمل به سوى ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفسي بيده لأُقِصّنه منه".
فوثب عمرو بن العاص فقال: "يا أمير المؤمنين، أفرأيت إن كان رجل من المسلمين على رعيه، فأدب بعض رعيته، إنك لتقصنه منه؟!، قال: "إي، والذي نفس عمر بيده، إذاً لأقصّنه منه، أنّى1 لا أقصّ منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم"23.
وعن جرير بن عبد الله البجلي أن رجلاً كان مع أبي موسىالأشعري، وكان ذا صوت4، ونكاية في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلقه، فجمع الرجل شعره ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل على عمر بن الخطاب قال جرير:"وأنا أقرب الناس من عمر"، فأدخل يده فاستخرج شعره ثم ضرب به صدر عمر، ثم قال:"أما والله لولا النار"، فقال عمر:"صدق والله، لولا النار"، فقال:"يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية"، فأخبره بأمره، وقال:"ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه". فقال / [64 / أ] عمر رضي الله عنه: "لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، أحب
1 في الطبقات: (وما لي) .
2 مطموس في الأصل سوى: (فتضيعـ) .
3 أحمد: المسند 1/279، قال أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند رقم: 286: "إسناده حسن". البلاذري: أنساب الأشراف (الشيخان: أبو بكر وعمر) ص 168، 169، الطبري: التاريخ 4/204، ابن الجوزي: مناقب ص 95، وقد سبق تخريج نحو منه ص 383.
4 في الأصل: (صوتا) ، وهو تحريف.
إليّ من جميع ما أفاء الله علينا".
فكتب عمر إلى أبي موسى: "السلام عليك، أما بعد: فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملاء من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملاء من الناس، حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء الناس، حتى يقتص منك". فقدم الرجل فقال له الناس: "أعف عنه"، فقال:"لا والله، لا أدعه لأحد من الناس"، فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال:"اللهم إني قد عفوت عنه"1.
وعن عمر بن شبّه2، قال: عمرو بن العاص لرجل من تُجِيب3: "يا منافق". فقال التجيبِي: "ما نافقت منذ أسلمت، ولا أغسل رأسي ولا أدهنه حتى آتي عمر"، فأتى عمر فقال:"يا أمير المؤمنين إن عمراً نفّقني، فلا والله ما نافقت منذ أسلمت"، فكبّر عمر رضي الله عنه وكان إذا غضب كبّر وكتب:"إلى عمرو بن العاص، أما بعد: فإن فلاناً التجيبِي ذكر أنك نفّقته، وقد أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين، أو قال سبعين"، فقال:"أشهد الله رجلاً سمع عمراً نفّقني إلا قام فشهد، فقام عليه من في المسجد، فقال له: "أتريد أن تضرب الأمير؟ "، وعرض عليه الأرش، فقال: "لو ملئت لي هذه الكنيسة ما قبلت"، فقال له حشمه: "أتريد أن تضربه؟ "،
1 ابن أبي شيبة: المصنف 13/30، وإسناده حسن، فيه عطاء بن السائب صدوق اختلط. (التقريب رقم: 4592) ، وأورده ابن الجوزي: مناقب ص 95.
2 النميري، البصري، صدوق له تصانيف، توفي سنة اثنتنين ومئتين. (التقريب ص 413) .
3 تُجيب - بالضم -: بطن من كندة، وهم بنو عدي، وبنو سعد، ابن أبي أشرف ابن شبيب بن السكون بن أشرس بن كندة، أمهما تجيب بنت ثوبان، نسبوا إليها. (جمهرة أنساب العرب ص 429) .
فقال: "ما أرى لعمر ههنا طاعة"، فلما ولى قال عمرو:"ردّوه"، فأمكنه من السوط وجلس بين يديه، فقال:"أتقدر أن تمتنع مني لسلطانك؟ "، قال:"لا، فامض إلى ما أمرت به"، قال:"فإني قد عفوت عنك"1.
وعن سلاّم2 قال: "سمعت الحسن3 رحمه الله يقول: "جيء إلى عمر رضي الله عنه بمال فبلغ حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها فقالت: "يا أمير المؤمنين، حقّ أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عزوجل بالأقربين"، فقال لها:"يا بنية حقّ أقربائي في مالي، وأما هذا، ففئ المسلمين، غششت أباك، ونصحت أقرباءك، قومي"، فقامت والله تجرّذيلها4.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم علينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، قال: فجاءوا بجفنة يحملها أربعة، فوضعت بين القوم، فأخذ القوم يأكلون وقام الخدم، فقال عمر: "ما لي أرى خدامكم لا يأكلون معكم، أترغبون عنهم؟ "، فقال سفيان بن عبد الله5: "[لا] 6 والله يا أمير المؤمنين، ولكننا نستأثر عليهم"، فغضب غضباً شديداً، ثم قال: "ما لقوم يستأثرون على خدامهم،
1 ابن شبه: تاريخ المدينة 3/807، 808، وفي إسناده انقطاع بين عبد الملك بن أبي القاسم، وبين عمرو بن العاص، وعبد الملك لم يوثقه ابن حبان. (الثقات 7/101) .
2 ابن مسكين الأزدي، البصري، ثقة رُمي بالقدر، وتوفي سنة سبع وستين ومئة. (التقريب ص 261) .
3 البصري.
4 أحمد: الزهد ص116، ابن زنجويه: الأموال: 1/517، ابن سعد: الطبقات 3/278، بنحوه، ابن الجوزي: مناقب ص 96، وهو ضعيف لانقطاعه، الحسن لم يدرك عمر.
5 لعله ابن أبي ربيعة الثقفي، أسلم مع وفد ثقيف، استعمله عمر على صدقات الطائف. (الإصابة 3/105) .
6 سقط من الأصل.
فعل الله بهم وفعل"، / [64 / ب] ثم قال: للخدم: [اجلسوا فكلوا، فقعد الخدم] 1 يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين"2.
وعن سالم بن عبد الله، "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل يده في دبر البعير، ويقول: "إني خائف أن أسأل عمّا بك"3.
وعن المسيب بن دارم4، قال:"رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب جمّالاً يقول: "حملت جملك ما لا يطيق"، قال: "ورأيته مرّ به سائل على ظهر جراب5 مملوء طعاماً، فأخذه فنثره للنواضح6، ثم قال:"الآن سل ما بدا لك"7.
وعن السائب بن الأقرع8: أنه كان جالساً في إيوان9 كسرى، قال: فنظرت إلى تمثال يشير بإصبعه إلى موضع، قال: فوقع في رُوعي10 أنه يشير إلى كنز فاحتفرت ذلك الموضع، فأخرجت11 منه كنزاً عظيماً، فكتبت إلى عمر خبره،
1 سقط من الأصل.
2 ابن الجوزي: مناقب ص 96.
3 ابن سعد: الطبقات 3/286، وإسناده صحيح، ابن الجوزي: مناقب ص 97.
4 أبو صالح، يَرْوِي عن عمر قصة السائل، روى عنه أبو خلدة بن دينار. (الجرح والتعديل 8/294، الثقات 5/437) .
5 الجراب: المِزودة أو الوعاء. (القاموس ص 85) .
6 الناضح: البعير أو الثور، أو الحمار الذي يستقى عليه الماء. (لسان العرب 2/619) .
7 ابن حبان: الثقات 5/437، وابن الجوزي: مناقب ص 97، وفيه المسيب بن دارم لم يوثقه غير ابن حبان.
8 الثقفي، صحابي صغير، شهد فتح نهاوند، وولي أصبهان ومات بها. (الإصابة 3/58) .
9 إيوان كسرى: في مدائن كسرى وهو من أعظم الأبنية وأعلاها. (معجم البلدان 1/294) .
10 روعي: نفسي وخلدي. (النهاية 2/277) .
11 البُناني.
وكتبت إن هذا شيء أفاءه الله عليّ من دون المسلمين، فكتب عمر: إنك أمير من أمراءالمسلمين فاقسمه بين المسلمين1.
وعن ثابت2: أن أبا سفيان3 ابتنى داراً بمكة فأتى أهل مكة عمر فقالوا: "إنه ضيق علينا الوادي، وسيل علينا الماء"، قال: فأتاه عمر، فقال:"خذ هذا الحجر فضعه ثمة، وخذ هذا الحجر فضعه ثمة، ثم قال عمر: الحمد لله الذي أذل أبا سفيان بأبطح4 مكة"5.
وعن يحيى بن عبد الرحمن6 بن حاطب7 عن أبيه قال: "قدمنا مكة مع عمر، فأقبل أهل مكة يسعون: يا أمير المؤمنين أبو سفيان حبس مسيل الماء ليهدم منازلنا، فأقبل عمر ومعه الدِرّة، فإذا أبو سفيان قد نصب أحجاراً، فقال: "ارفع هذا"، فرفعه، ثم قال: "وهذا"، حتى رفع أحجاراً كثيرة، خمسة أو ستة، ثم استقبل عمر الكعبة، فقال: "الحمد لله الذي جعل عمر يأمر أبا سفيان ببطن مكة فيطيعه"8.
وعن الحسن9 رضي الله عنه قال: "حضر باب عمر رضي الله عنه
1 ابن الجوزي: مناقب ص 97، وبنحوه ابن أبي شيبة: المصنف 12/573، 574.
2 البُناني.
3 ابن حرب.
4 الأبطح، يضاف إلى مكة وإلى منى، لأن المسافة بينه وبينهما واحدة، وربما كان إلى منى أقرب، وهو المحصّب، وهو خيف بني كنانة. (معجم البلدان 1/74) .
5 ابن الجوزي: مناقب ص 97.
6 في الأصل: (عبد الواحد) ، وهو تحريف.
7 ابن أبي بلتعة، ثقة، توفي سنة أربع ومئة. (التقريب ص 593) .
8 ابن الجوزي: مناقب ص 97.
9 البصري.
سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب في نفر من قريش من تلك الرؤوس، وصُهيب، وبلال، وتلك الموالي الذين شهدوا بدراً، فخرج آذن عمر فأذن لهم، وترك أولئك، فقال أبو سفيان:"لم أرَ كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد، ويتركنا على بابه لا يلتفت إلينا"، فقال سهيل بن عمر - وكان رجلاً عاقلاً -:"أيها القوم، إني - والله - أرى الذي في وجوهكم إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم دُعي القوم ودُعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، وكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتُرِكتم؟ "1.
وعن نوفل بن عمار2 قال: "جاء الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، إلى عمر بن الخطاب فجلسا عنده، وهو بينهما، فجعل المهاجرون الأوّلون يأتون عمر، فيقول: ههنا يا سهيل، ههنا يا حار3، فينحيهما عنه، فجعل الأنصار يأتون، فينحيهما، حتى صار في آخر [الناس] 4 فلما خرجا من عند عمر قال الحارث بن هشام لسهيل بن عمرو: "ألم تر ما صنع بنا؟ "، فقال له سهيل: "أيها الرجل لا لوم عليه، ينبغي أن نرجع إلى أنفسنا / [65 / أ] دُعي القوم فأسرعوا، ودُعي بنا فأبطأنا فلما قاما من عند عمر أتياه فقالا له:"يا أمير المؤمنين، قد رأينا ما فعلت اليوم، وعلمنا أنا أتينا من أنفسنا، فهل من شيء نستدرك [به] 5؟، فقال لهما: "لا أعلمه إلا هذا الوجه، وأشار لهما إلى ثغر
1 أحمد: الزهد ص 113، 114، وهو ضعيف، لانقطاعه، وأورده ابن الجوزي: مناقب ص 98، وابن حجر: الإصابة 3/146.
2 النوفلي، يروي عن هشام بن عروة والمدنيين. (الثقات 7/540) .
3 ترخيم حارث.
4 سقط من الأصل.
5 سقط من الأصل.
الروم، فخرجا إلى الشام فماتا بها - رحمهما الله -"1.
وعن الحسن2 رحمه الله: "أن رجلاً أتى أهل ماء فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات عطشاً، فأغرمهم عمر بن الخطاب ديته"3.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جاءه رجل من أهل مصر، فقال: "يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بك"، قال: "وما لك؟ "، قال: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت، فلما ترآها الناس، قام محمّد بن عمرو فقال: "فرسي ورب الكعبة، فلما دنا منه عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة، فقام إليّ يضربني بالسوط، ويقول:"خذها وأنا ابن الأكرمين". قال: فوالله ما زاده عمر أن قال له: "اجلس، ثم كتب إلى عمرو إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل معك بابنك محمّد، قال: فدعا عمرو ابنه فقال: "أحدثت حدثاً؟ أجنيت جناية؟ "، قال: "لا"، قال: "فما بال عمر يكتب فيك؟ "، قال: فقدم على عمر، قال أنس: فوالله إنا عند عمر حتى إذا نحن بعمرو، وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه؟، فإذا هو خلف أبيه، قال: "أين المصري؟ "، قال: "ها أنا ذا"، قال: "دونك الدّرة فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين"4.
قال فضربه حتى أثخنه، ثم قال: أحلِها5 على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، فقال: "يا أمير
1 ابن الجوزي: مناقب ص 98، وهو ضعيف لإعضاله.
2 البصري.
3 عبد الرزاق: المصنف 10/51، ابن أبي شيبة 9/412، ابن حزم: المحلى 8/522، ابن الجوزي: مناقب ص 98، وهو ضعيف لانقطاعه، الحسن لم يدرك عمر.
4 في الأصل: (الأمير) ، وهو تحريف.
5 في مناقب عمر: (أجلها) .
المؤمنين، قد ضربت من ضربني"، قال: "أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم1 أحراراً؟ "، ثم التفت إلى المصري فقال: "انصرف راشداً فإن رابك ريب فاكتب إليّ"2.
وفي صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: "كنت قائماً في المسجد فحَصَبني3 رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: "اذهب فأتني بهذين"، فجئته بهما، قال: "ممن أنتما4، أو من أنتما، أو من أين أنتما؟ "، قالا: "من أهل الطائف"، قال: "لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"5.
وفي الأوّل من القراءة على الوزير أبي القاسم بن عليّ بن عيسى بن الجراح الكاتب6، عن عبد الله الباهلي7، عن ضبة بن محصن8، قال:"دخل ضبة بن محصن من الليل فتحدث عندي، حتى خشيت عليه الحرس، قال: فكان فيما حدثني، قال: "شاكيت أبا موسى في بعض ما يشاكي الرجل
1 في الأصل: (أمهم) ، والمثبت من الكنز.
2 ابن الجوزي: مناقب ص 98، 99، المتقي الهندي: كنْز العمال 12/660، ونسبه لابن عبد الحكم.
3 الحصباء: الحصى، واحدتها: حصبة، وحصبه رماه بها. (القاموس ص 95) .
4 قوله: "ممن أنتما"، لم أجدها في نسخ البخاري الموجودة بين يدي.
5 البخاري: الصحيح، كتاب المسجد 1/179، رقم:458.
6 عيسى بن عليّ بن الجراح الوزير، البغدادي، أملى مجالس في البغوي وطبقته، كان ثبت السماع، صحيح الكتاب، توفي سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة. (تاريخ بغداد 11/179، ميزان الاعتدال 3/318، سير أعلام النبلاء (16/549) .
7 ابن الأقنع الباهلي، يروي عن الأحنف وضبه بن محصن، روى عنه حميد بن جلال والمغيرة بن النعمان. (الثقات لابن حبان 7/27، 28) .
8 العَنْزِي، بصري، صدوق، من الثالثة. (التقريب ص 279) .
أميره؟، قال: فانطلقت أثووا عليه - يعني أشي به1 عند / [65 /ب] عمر -، قال: وذلك عند حضور وفادة أبي موسى، فكتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنه والبرد2 إذ ذاك على الإبل، قال: فكتب: "السلام عليك، أما بعد:
فإني كتبت إليك وأنا خارج إليك في كذا وكذا، قال: وكتب إليه: وضبة بن محصن قد خرج من عندي بغير إذن، وهو بيني وبينك، فأحببت أن تعلم ذاك يا أمير المؤمنين، قال: فسبقني كتابه، فقدمت المدينة فجئت إلى باب عمر، فقلت: السلام عليك أيدخل ضبة بن محصن، فقال عمر:"لا مرحباً ولا أهلاً". قال: قلت: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل ولا مال، قال فأعدت ذلك ثلاث مرات، فأعاد هو ثلاثاً، ثم قال:"ادخل، أو قال لي فدخلت، قال: قلت: يا أمير المؤمنين الرجل يظلمه سلطانه فإذا انتهى إلى أمير المؤمنين لم يجده عنده غيراً، فوالله يا أمير المؤمنين، إن الأرض لواسعة، وإن العدو لكثير، قال: فكأنه كشف عن وجهه غطاء، فقال: "ادن دونك، فقال: إيهِ3، ثم قال: إيه، قال: قلت: أبو موسى اصطفى لنفسه أربعين من الأساورة، قال: فقال: "اكتب"، فكتب، قال: ثم قال: "إيه"، قلت: أبو موسى له مكيالان يكيل الناس بغير الذي يكتال به، قال:"اكتب"، فكتب، ثم قال:"إيه"، قلت: عَقِيلة سُرِّيته لها قصعة4 غادية رائحة يأكل منها أشارف الجند، قال:"اكتب"، فكتب فما لبث إلا يسيراً
1 انظر: القاموس ص 1624.
2 البُرد: الرسل. (لسان العرب 3/86) .
3 إيه - بكسر الهمزة والهاء، وفتحها وتُنوّن المكسورة -: كلمة استزادةٍ واستنطاقٍ. القاموس ص 1604) .
4 القصعة: الصحفة. (القاموس ص 971) .
حتى قدم أبو موسى، قال: فمشيت إلى جنبه أعطفه، وأذكره أمير المؤمنين، قال: حتى انتهى إلى أمير المؤمنين، فقال له:"ما بال أربعين اصطفيتهم لك من أبناء الأساورة؟ "، قال:"يا أمير المؤمنين، اصطفيتهم وخشيت أن يخدع الجند عنهم، ففديتهم واجتهدت في فدائهم، وكنت أعلم بفدائهم، ثم خمست وقسمت. قال ضبة: وصادق والله، ما كذبه أمير المؤمنين وما كذبته، قال: "فما بال مكيال تكتال به، وتكيل الناس بغيره؟ "، قال: مكيال أكيل به قوت أهلي وأرزاق دوابي، وما كلت به لأحد، وما كلته به من أحد". قال ضبة: وصادق1 والله، فوالله ما كذبه أمير المؤمنين وما كذبته، قال:"فما بال قصعة عَقِيلة الغادية الرائحة؟ "، قال: فسكت ولم يعتذر منها شيء، قال: فقال لوفده: "أنشد الله رجلاً أكل منها"، قال: فسكت القوم، ثم دعا ثلاث مرات، قال: فقال / [66 / أ] وكيع بن قشر التميمي2: "قبح الله تلك القصعة3، فإنا أخالنا قد أصبنا منها"، قال: فقال عمر: "لا جَرَمَ4 والذي نفسي بيده، لا ترى عَقِيلة العراق ما دمت أملك شيئاً"، فاحتبسها عنده.
قال: فذكرت هذا لأبي بردة فقال: "ألا أحدثك بنحو من هذا؟، خرج أبو موسى على خمسة أبعرة بعضها بختي5، خرج وافداً إلى عمر، قال:
1 في الأصل: (وصادقاً) .
2 لم أجد له ترجمة.
3 في الأصل: (القصة) ، وهو تحريف.
4 لا جَرَمَ، ولا جَرُمَ ككَرُمَ، ولا جُرْمَ - بالضم - أي: لا بُدَّ أو حقاً، أو لا محالة، أو هذا أصله، ثم كَثُر حتى تحول إلى معنى القسم. (القاموس ص 1405) .
5 البُخْت: دخيل في العربية، أعجمي مُعَرّب؛ وهي الإبل الخراسانية، تُنتَج من عريبة وفالجٍ. (لسان العرب 2/9) .
ومعه فتاه فلان المولد1، كان يسافر به، قال: وأوقر البختي دقيقاً وسويقاً حتى دَبَر، قال: وكان عمر ممن إذا قدم وافداً إليه أبو موسى ففرغ مما يسأله يقول له: "أعرض عليَّ ظهرك الذي جئت عليه"، قال: فربما قال: أغزّ به في سبيل الله، فيفعل، قال: فلما دَبَر2 البختي، قال فتى أبي موسى له:"يا أبا موسى لا تعرض هذا البختي على عمر فيما تعرض، فوالله لئن رأى ما به لا تنالن عنده نالة أبداً"، قال أبو بردة:"فما أدري أنسي وصية فتاه، أو تأثم أن يكتمه عمر حين يسأله أمير المؤمنين". قال: فعرضه فيما يعرض، فشخصت أو قال: فسمت عينا عمر إليه، فدعا به فإذا به دَبِرَة، قال: فدعا بإناء فيه ماء، فجعل يغسل عنه بيده حتى أنقاها، ثم دعا بذرور3 فجعل ينثر بها دبرة البعير، قال:"من وَلِيَ بختيك هذا يا أبا موسى؟ "، قال: فتاي فلان؛ قال: "لا جرم والذي نفسي بيده، لا ترى العراق ما دمت أملك شيئاً"، قال أبو بردة:"فما رأت عَقِيلة ولا فتاة العراق حتى قبض عمر رضي الله عنه"4.
1 في الأصل: (المولود) ، وهو تحريف.
2 الدبَرة: قرحة الدابة والبعير. (لسان العرب 4/273) .
3 ذرّالشيء يذرّه، أخذه بأطراف أصابعه، ثم نثره على الشيء. (لسان العرب 4/303) .
4 ابن شبه: تاريخ المدينة 3/809، 810، 811، والخبر مختصراً في أبي عبيد: الأموال ص 132، ابن زنجويه: الأموال: 1/325، 326، البيهقي: السنن: 6/323، ومداره على عبد الله بن يزيد الباهلي، ولم يوثقه غير ابن حبان، والطبري بنحوه من طريق سيف بن عمر. (التاريخ 4/184) .