المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السابع والأربعون: حذره من المظالم وخروجه منها - محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - جـ ٢

[ابن المبرد]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الحادي والأربعون: غزواته مع الرسول وإنفاذه إياه في سرية

- ‌الباب الثاني والأربعون: غزواته بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وفتوحه

- ‌الباب الثالث والأربعون: حجاته

- ‌الباب الرابع والأربعون: تركه السواد غير مقسوم ووضعه الخراج

- ‌الباب الخامس والأربعون: عدله ورئاسته

- ‌الباب السادس والأربعون: قوله وفعله في بيت المال

- ‌الباب السابع والأربعون: حذره من المظالم وخروجه منها

- ‌الباب الثامن والأربعون: ملاحظته لعماله ووصيته إياهم

- ‌الباب التاسع والأربعون: حذره من الإبتداع وتحذيره منه

- ‌الباب الخمسون: جمعه القرآن في المصحف

- ‌الباب الحادي والخمسون: مكاتباته

- ‌الباب الثاني والخمسون: زهده

- ‌الباب الثالث والخمسون: تواضعه

- ‌الباب الرابع والخمسون: حلمه

- ‌الباب الخامس والخمسون: ورعه

- ‌الباب السادس والخمسون: بكائه

- ‌الباب السابع والخمسون: خوفه من الله عز وجل

- ‌الباب الثامن والخمسون: تعبده واجتهاده

- ‌الباب التاسع والخمسون: كتمانه التعبد وستره إياه

- ‌الباب الستون: دعاؤه ومناجاته

- ‌الباب الحادي والستون: كراماته

- ‌الباب الثاني والستون: تزويج النبي بحفصة وفضلها

- ‌الباب الثالث والستون: نبذ من مسانيده

- ‌الباب الرابع والستون: كلامه في الزهد والرقائق

- ‌الباب الخامس والستون: ماتمثل به من الشعر

- ‌الباب السادس والستون: فنون أخباره

- ‌الباب السابع والستون: كلامه في الفنون

الفصل: ‌الباب السابع والأربعون: حذره من المظالم وخروجه منها

‌الباب السابع والأربعون: حذره من المظالم وخروجه منها

الباب السابع والأربعون: في حذره من المظالم وخروجه منها

ذكر ابن الجوزي عن الأحنف بن قيس قال: "وفدنا إلى عمر بفتحٍ عظيم، فقال: "أين نزلتم؟ "، فقلت: في مكان كذا، فقام معنا حتى انتهينا إلى مناخ رواحلنا، فجعل يتخللها ببصره ويقول: "ألا اتقيتم الله في ركابكم هذه؟، أما علمتم أن لها عليكم حقاً؟، ألا خليتم عنها فأكلت من نبت الأرض؟ ".

فقلنا: يا أمير المؤمنين، إنا قدمنا بفتح عظيم، فأحببنا التسرع إلى أمير المؤمنين، وإلى المسلمين بما يسرهم، ثم انصرف راجعاً ونحن معه، فلقيه رجل، فقال:"يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعدني على فلان فإنه ظلمني". قال: فرفع الدرة فخفق1 بها رأسه، وقال:"تدعون عمر / [71 / أ] وهو مُعرِضٌ لكم حتى إذا اشتغل بأمرٍ من أمور المسلمين أتيتموه: أعدني، أعدني".

فانصرف الرجل وهو يتذمّر2، فقال عمر:"عليّ بالرجل"، فألقى إليه المخِفقة3، فقال:"أمسك"، قال:"لا ولكن أدعها لله ولك"، قال:"ليس كذلك، إما تدعها لله وإرادة ما عنده، أو تدعها لي فأعلم ذلك". قال: "أدعها لله"، قال:"انصرف". ثم جاء يمشي حتى دخل منزلة، ونحن معه، فافتتح الصلاة، فصلى ركعتين، ثم جلس، فقال:"يا ابن الخطاب، كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزّك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، لجاء رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ "، فجعل يعاتب نفسه

1 الخفق: ضربك الشيء بدرة أو بعريض. (القاموس ص 1126) .

2 يتذمّر: أي: يجترئ عليه ويرفع صوته في عتابه. (النهاية 2/167) .

3 المخفقة: الدرة. (النهاية 2/56) .

ص: 502

معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض"1.

وعن إياس بن سلمة2 عن أبيه، قال:"مرّ عمر رضي الله عنه وأنا في السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدّرّة، فقال: "هكذا أمِطْ3 عن الطريق يا سلمة". قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: "يا سلمة، أردت الحج العام؟ "، قلت: نعم. يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل في بيته، فأخرج كيساً فيه ست مئة درهم، فقال: "يا سلمة، استعن بهذه، واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أوّل". قلت: والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها، قال:"والله ما نسيتها بعد"4.

وعن عاصم بن عبيد الله5، قال:"قال6 عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحت شجرة في طريق مكة، فلما اشتدت عليه الشمس أخذ عليه ثوبه، فقام فناداه رجل غير بعيد منه: يا أمير المؤمنين، هل لك في رجل قد ربْدت حاجته، وطال انتظاره؟، قال: "من ربدها؟ "، قال: "أنت"، فجاراه القول حتى ضربه

1 ابن عساكر: تاريخ دمشق ج 13 / ق 102، وفي سلامة بن صبيح، لم أجد له ترجمة. وابن الجوزي: مناقب ص111، 112، والمتقي الهندي: كنْز العمال12/671، 672، ونسبه لابن عساكر.

2 ابن الأكوع الأسلمي، المدني ثقة، توفي سنة تسع عشرة ومئة. (التقريب ص 116) .

3 ماطه وأماطه: نحّاه ودفعه. (لسان العرب 7/409) .

4 الطبري: التاريخ 4/224، وإسناده ضعيف، فيه عكرمة بن عمار، قال الحافظ فيه:"صدوق يغلط". (التقريب ص 396)، وأورده ابن الجوزي: مناقب ص 112.

5 ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، العدوي، ضعيف، توفي سنة اثنتين وثلاثين ومئة. التقريب ص 285) .

6 قال؛ من القيلولة: وهو نومة نصف النهار. (لسان العرب 11/577) .

ص: 503

بالمخفقة، فقال:"عجلت عليّ قبل أن تنظرني، فإن كنت مظلوماً رددت إلي حقي، وإن كنت ظالماً رددتني"1، فأخذ عمر طرف ثوبه، وأعطاه المخفقة، وقال له:"اقتص"، قال:"ما أنا بفاعل"، فقال:"والله لتفعلن كما فعل المنصف من حقه"، قال:"فإني أغفرها"، فأقبل عمر على الرجل، فقال:"أنصف من نفسي أصلح من أن ينتصف مني، وأنا كاره"، فلو كنت في الأراك لسمعت حنين عمر - يعني: بكاءه"2.

قوله: "ربدتها: يعني: حبستها3، 4.

وعن سالم بن عبد الله، قال:"نظر عمر رضي الله عنه إلى رجل أذنب ذنباً فتناوله بالدّرّة، فقال الرجل: "يا عمر إن كنت أحسنت فقد ظلمتني، وإن كنت أسأت فما علمتني". قال:"صدقت، فاستغفر الله لي5 فاقتد من عمر، فقال الرجل: "أهبها لله وغفر الله لي ولك"6.

قال ابن الجوزي أو ابن مرشد الذي اختصر سيرته والظاهر أنّه من كلام ابن الجوزي: "فإن قال قائل: كيف جاز لعمر أن يقول لمن ضربه: اقتص منّي، والقصاص لا يكون في الضرب بالعصا إجماعاً"7. / [71 / ب] .

قال: "وأبلغ من هذا ما روى محمّد بن سعد من حديث الفضل

1 في الأصل: (ردتني) ، وهو تحريف.

2 انظر: منظور: لسان العرب 13/129.

3 انظر: ابن منظور: لسان العرب 3/170.

4 ابن الجوزي: مناقب ص112، 113، وهو ضعيف لإعضاله، ولضعف عاصم بن عبيد الله.

5 في الأصل: (ذنوبك) ، وهو تحريف.

6 ابن الجوزي: مناقب ص 113.

7 ابن الجوزي: مناقب ص 113.

ص: 504

بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل كنت أصبت من عِرِضه شيئاً، فهذا عرضي فليقتص منّي، أو من بَشَره شيئاً فهذا بشري فليقتص، أو من ماله شيئاً فهذا مالي فليأخذ، واعلموا أن أولاكم بيَ رجل كان له من ذلك شيء1 فأخذه وحلّلَني، فلقيت ربّي وأنا محلَّل لي "2.

قال: فالجواب أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه منزه أن يكون ضرب أحداً بغير حق، إنما أبان بما قال الواجب على من ضرب أحداً بغير حق يعزر، والتعزير ضرب لكنه لايقع قوداً، لكن تعزيراً، وكذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"من كنت ضربته بغير حق، فليضربني على وجه التعزير، لا معنى القصاص، فإن عمر هو الإمام، وإذا وجب لبعض رعيته عليه حق جاز أن يأذن له في استيفائه، وإقامته، فأما القصاص في الضرب بالعصا فقد أجمع الفقهاء أنه لا قصاص في ذلك، ولا يعدل عن الإجماع بخبر محتمل، ثم لا يحوز للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لعمر أن يبيحا من أنفسهما ما لم يبحه الله تعالى من الضرب، كما لا يجوز لأحد أن يقول لآخر: اجرحني، أو اقتلني، لأن النفوس محترمة لحق الله تعالى، وإنما أبيح القصاص في الجراح والقتل"3.

قلت: وهذا الكلام مردود من وجهين:

الأوّل: أنه لا يمتنع أن يظن النبي صلى الله عليه وسلم الحق في ضرب رجل فيضربه ثم يظهر الحق في عدم ضربه، فقد قال عليه السلام:"إنما أنا بشر مثلكم، أنْسى كما تنسون" 4، وقال: "إني بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليّ، وإن

1 في الأصل: (شيئاً) .

2 ابن سعد: الطبقات 2/255، بأطول، وإسناده ضعيف لجهالة أحد رجال السَّند.

3 ابن الجوزي: مناقب ص 113، 114.

4 البخاري: الصحيح، كتاب القبلة 1/156، رقم: 392، مسلم: الصّحيح، كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/402، رقم:572.

ص: 505

بعضكم ألحن بحجته1 من بعض" 2.

فإذا كان الخطأ في الاجتهاد جائزاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم ففي حق عمر من باب أولى.

الثاني: أن قوله: "لا قصاص في العصا بالإجماع"، ليس بمسلم، بل يكون فيه القصاص، حتى قال بعض أصحابنا: القصاص في الكلام أيضاً، وهو اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية، أنه إذا شُتم، أو لعن، يجوز أن يقتص منه بالكلام، وكذلك إذا ضرب يجوز أن يضرب من ضربه3، وقال الله عزوجل:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .

وقوله عزوجل: {وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، لا يلزم منه أن لا يكون القصاص في غير الجروح، بل هنا أثبت القصاص في الجروح، وسكت عن غيرها، وأي دليل في ثبوت القصاص في ذلك أعظم من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول عمر، ولو لم يكن قول النبي صلى الله عليه وسلم فقول الصحابي حجة4.

وقوله: "لا يجوز لهما أن يبيحا من نفسهما ما لم يبحه الله تعالى".

نقول: "هذا ليس مما لم يبحه الله تعالى، فإن هذا مباح، بل واجب، أي:

1 في الأصل: (بحت) ، وهو تحريف.

2 البخاري: الصحيح، كتاب الحيل 6/2555، رقم: 6566، مسلم: الصّحيح، كتاب الأقضية 3/1337، رقم:1713.

3 ابن تيمية: مجموع الفتاوى 34/163، 11/547.

4 انظر عن حجية قول الصحابي: روضة الناظر وجنة المناظر 2/165، والوجيز في أصول الفقه ص 261، 262.

ص: 506

لأجل / [72 / أ] الخروج من المظلمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان عنده حق لأخيه فليتحلله" 1، وهذا حق فإن ضربه بغير حق فإثم ذلك عليه".

وقوله: "كما لا يجوز أن يقول لرجل: اقتلني، أو اجرحني".

هذا ليس بمسلم، وهذا ليس كهذا، فإنه لا يجوز أن يقول له اقتلني أو اجرحني بغير حق عليه، وهناك عليه حق، بل نقول: لو جرح الإمام رجلاً ظلماً، وجب عليه أن يقول له: اجرحني، وإذا ضربه وجب أن يقول له: اضربني، وإذا أخذ من ماله شيئاً، وجب عليه دفعه إليه، والضرب بالعصا كذلك.

وقوله: "إن ذلك تعزير".

هذا مردود بل كونه قصاصاً أولى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منَزَّهٌ أن يعزر وليس بمنزه عن دفع الحق إلى أهله، وهو محمود عليه، وكذلك عمر، ولأن التعزير لا يكون إلا من الإمام في حق غيره، ولا يكون من غير الإمام في حق الإمام، وما قاله هذا القائل لا معول عليه، ولو سكت عن هذه المقالة كان أولى، بل هي مقالة لا يلتفت إليها، وما أظن ابن الجوزي يقول ذلك.

وذكر أبو القاسم الأصفهاني عن حماد بن يحيى المكي2 عن أبيه3، قال:"قدمت المدينة أنا، وأهلي، فانطلقت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، ثم أقبلت فلقيتني المرأة في بعض الطريق، فقمت معها أسألها عن بعض الأمر، فبينا أنا أكلمها إذ ضربة على رأسي، فالتفت فإذا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقلت: "يا أمير المؤمنين، ظلمتني، هذا والله امرأتي، قال: "أفلا كلمتها

1 البخاري: الصحيح، كتاب الرقاق 5/2394، رقم: 6169، بنحوه.

2 لم أعثر له على ترجمة، في المصادر الأخرى.

3 لم أعثر له على ترجمة، في المصادر الأخرى.

ص: 507

خلف باب أو ستر؟ ": قلت: "يا أمير المؤمنين، لقيتني فسألتها عن بعض الأمر"، فألقى إليّ الدّرّة، وقال: "اقتص"، قلت: "لا"، قال: "فاعف". قلت: "لا". فأخذ بيدي، فانطلق بيَ إلى منزل أبي بن كعب، فاستأذن فخرج إليه ابنه، فقال: "حاجتك يا أمير المؤمنين؟ "، فقال: "قل لأبيك يخرج"، قال: فخرج إلي1 أبيض الرأس واللحية، فجلس معه، ثم قال عمر: "اقرأ عليّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58] .

فقرأها عليه، فقال عمر:"في عمر نزلت؟ "، قال:"لا"، قال:"فإني أضرب المؤمنين، ولا يضربونني، وأشتمهم ولا يشتمونني، وأوذيهم ولا يؤذنوني"، قال:"لا ولكن2 أحدّثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ من قبل الله: ألا لا يرفعن أحد كتابه حتى يرفع عمر بن الخطاب، فيجاء بك مبيض وجهك تزف إلى ربك كتابك بيمينك" 3.

فرضي الله عنه ما كان أحذره من المظالم الكبير منها والصغير، وما كان أجهده في الخروج من مظالم الناس، وأن لا يترك لأحد عنده مظلمة. رضي الله عنه.

1 في السير: (إليه) .

2 في الأصل: (لكن) .

3 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 188، 189، بدون سند.

ص: 508