المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الثالثة زعمهم أن وقوع التحريف مستبعد لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا] - مختصر إظهار الحق

[رحمت الله الهندي]

فهرس الكتاب

- ‌[تمهيد]

- ‌[مقدمة في بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها]

- ‌[الباب الأول بيان أسماء كتب العهد العتيق والجديد وإثبات تحريفها ونسخها]

- ‌[الفصل الأول بيان أسمائها وتعدادها]

- ‌[الفصل الثاني أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد]

- ‌[الادعاء بنسبة الكتب إلى اسم نبي أو حواري لا يعني إلهامية هذه الكتب ولا وجوب تسليمها]

- ‌[حال التوراة]

- ‌[حال كتاب يوشع بن نون]

- ‌[حال الأناجيل]

- ‌[الفصل الثالث بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف]

- ‌[القسم الأول بيان بعض الاختلافات]

- ‌[الاختلاف في أسماء أولاد بنيامين وعددهم]

- ‌[الاختلاف في عدد المقاتلين في إسرائيل ويهوذا]

- ‌[الاختلاف في خبر جاد الرائي]

- ‌[الاختلاف في عمر الملك أخزيا عندما ملك]

- ‌[الاختلاف في عمر الملك يهوياكين عندما ملك]

- ‌[الاختلاف في عدد الذين قتلهم أحد أبطال داود بالرمح دفعة واحدة]

- ‌[الاختلاف في عدد ما يؤخذ من الطير والبهائم في سفينة نوح عليه السلام]

- ‌[الاختلاف في عدد الأسرى الذين أسرهم داود عليه السلام]

- ‌[الاختلاف في عدد الذين قتلهم داود عليه السلام من أرام]

- ‌[الاختلاف في عدد مذاود خيل سليمان عليه السلام]

- ‌[الاختلاف في بيان نسب المسيح عليه السلام]

- ‌[الاختلاف في عدد الذين شفاهم المسيح عليه السلام]

- ‌[الاختلاف في العصا الواردة في وصية المسيح لتلاميذه الاثني عشر]

- ‌[الاختلاف في شهادة المسيح لنفسه]

- ‌[الاختلاف في حامل الصليب إلى مكان الصلب]

- ‌[هل المسيح صانع سلام أم ضده]

- ‌[القسم الثاني بيان بعض الأغلاط]

- ‌[الغلط في مدة إقامة بني إسرائيل في مصر]

- ‌[الغلط في عدد بني إسرائيل حينما خرجوا مع موسى من أرض مصر]

- ‌[الغلط الذي يلزم منه نفي نبوة داود عليه السلام]

- ‌[الغلط في عدد المضروبين من أهل بيتشمس]

- ‌[الغلط في ارتفاع الرواق الذي بناه سليمان عليه السلام]

- ‌[الغلط في عدد جيش أبيا ويربعام]

- ‌[الغلط بخصوص الأكل من الشجرة وبخصوص عمر الإنسان]

- ‌[الغلط في عدد الأجيال الواردة في نسب المسيح عليه السلام]

- ‌[الغلط في جعل رفقاء لداود عند رئيس الكهنة]

- ‌[الغلط في كتابة أحداث لم تقع عند حادثة الصلب]

- ‌[الغلط في اسم والد شالح]

- ‌[القسم الثالث إثبات التحريف اللفظي بالتبديل وبالزيادة وبالنقصان]

- ‌[التحريف في مدة أعمار الأكابر قبل الطوفان]

- ‌[التحريف في مدة أعمار الأكابر بعد الطوفان]

- ‌[التحريف في اسم الجبل المخصص لنصب الحجارة]

- ‌[التحريف في اسم المملكة]

- ‌[التحير بين النفي والإثبات]

- ‌[الدليل على أن التوراة الحالية مكتوبة بعد موسى عليه السلام]

- ‌[التحريف بزيادة عبارة إلى هذا اليوم]

- ‌[التحريف بإضافة مقدمات لبعض الأبواب]

- ‌[التحريف للانتصار لعقيدة التثليث]

- ‌[التحريف لإظهار أن عيسى ابن الله]

- ‌[التحريف في حادثة زنا رأوبين بسرية أبيه]

- ‌[التحريف في حادثة سرقة الصواع]

- ‌[التحريف بإسقاط اسم مريم ابنة عمران أخت موسى]

- ‌[التحريف في الزبور إما بالزيادة وإما بالنقصان]

- ‌[التحريف في إنجيل لوقا بالنقصان]

- ‌[التحريف لعناد اليهود والنصارى بعضهم بعضا]

- ‌[مغالطات نصرانية والرد عليها]

- ‌[الأولى زعمهم أن المسلمين فقط هم الذين يدعون أن كتب العهدين محرفة]

- ‌[الثانية زعمهم أن المسيح عليه السلام شهد بحقية كتب العهد العتيق]

- ‌[الثالثة زعمهم أن وقوع التحريف مستبعد لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا]

- ‌[الفصل الرابع إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين]

- ‌[بيان معنى النسخ]

- ‌[كذب بعض القصص الموجودة في كتب العهدين القديم والجديد]

- ‌[بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ في شريعة نبي سابق]

- ‌[بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه]

- ‌[الباب الثاني إبطال التثليث]

- ‌[مقدمة في بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول]

- ‌[الفصل الأول إبطال التثليث بالبرهان العقلي]

- ‌[الفصل الثاني إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام]

- ‌[الفصل الثالث إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح]

- ‌[الباب الثالث إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزا ورفع شبهات القسيسين على القرآن والأحاديث]

- ‌[الفصل الأول الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم]

- ‌[الفصل الثاني دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث النبوية الشريفة]

- ‌[الشبهة الأولى زعمهم أن رواة الأحاديث هم أزواج محمد وأقرباؤه ولا اعتبار لشهادتهم في حقه]

- ‌[الشبهة الثانية زعمهم أن مؤلفي كتب الحديث ما رأوا الرسول]

- ‌[الباب الرابع إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المسلك الأول ظهور المعجزات الكثيرة على يده عليه السلام]

- ‌[النوع الأول بيان إخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة]

- ‌[النوع الثاني الأفعال التي ظهرت منه صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة]

- ‌[المسلك الثاني وجود المحاسن والأخلاق العظيمة في ذاته مما يجزم العقل بأنها لا تجتمع في غير نبي]

- ‌[المسلك الثالث الكمال والشمول في شريعته عليه السلام يدل على أن المبعوث بها نبي مرسل من الله تعالى]

- ‌[المسلك الرابع القرآن الكريم وانتصار النبي على الكافرين لا يكون إلا بعون إلهي]

- ‌[المسلك الخامس حاجة العالم في هذا التوقيت لبعثة النبي ليزيل ظلمة الشرك ولتشرق شموس التوحيد على الأرض]

- ‌[المسلك السادس البشارات المحمدية في الكتب السماوية السابقة]

- ‌[التنبيه إلى بعض الأمور]

- ‌[البشارة الأولى في سفر التثنية أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك]

- ‌[البشارة الثانية في سفر التثنية وهذه هي البركة التي بارك بها موسى]

- ‌[البشارة الثالثة في سفر التكوين ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا]

- ‌[البشارة الرابعة في سفر التثنية فأنا أغيرهم بما ليس شعبا بأمة غبية أغيظهم]

- ‌[الخاتمة]

الفصل: ‌[الثالثة زعمهم أن وقوع التحريف مستبعد لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا]

[الثالثة زعمهم أن وقوع التحريف مستبعد لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا]

المغالطة الثالثة: يزعم النصارى أن وقوع التحريف مستبعد؛ لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا فلا يمكن لأحد تحريفها.

وللرد على هذه المغالطة فيما يلي إيراد أمور يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتبهم:

أن موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة وسلمها إلى الأحبار، وأوصاهم بالمحافظة عليها بوضعها داخل صندوق الشهادة، أي التابوت الذي صنعه موسى، فكانت توراة موسى موضوعة في الصندوق، وكانت الطبقة الأولى محافظة عليها، فلما انقرضت هذه الطبقة تغير حال بني إسرائيل، فكانوا يرتدون تارة ويسلمون أخرى، ويقي حالهم هكذا إلى سلطنة داود وسليمان عليهما السلام، فحسنت حالهم، واستقامت عقيدتهم، أما التوراة الموضوعة في التابوت فضاعت قبل عهد سليمان بسبب الارتدادات الكثيرة، ولا يعلم جزما متى ضاعت؛ لأن سليمان عليه السلام عندما فتح الصندوق لم يجد فيه سوى اللوحين اللذين كانت الأحكام (الوصايا) العشرة فقط مكتوبة فيهما، كما هو مصرح به في سفر الملوك الأول 8 / 9. ثم وقع الارتداد العظيم في آخر حكم سليمان على ما تشهد به كتبهم المقدسة (ولا شك أنه إفك مفترى على سليمان) . فيقولون إن سليمان ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد الكثيرة إرضاء لأزواجه (سفر الملوك الأول 11 / 1 -11) ، فإذا صار سليمان في آخر عمره مرتدا وثنيا بشهادتهم القبيحة، فما بقي له غرض بالتوراة.

وبعد موت سليمان عليه السلام سنة 931ق. م وقع الارتداد الأعظم بأن انقسم أسباط بني إسرائيل، فصارت المملكة الواحدة مملكتين، وصار

ص: 94

يربعام بن ناباط ملكا على عشرة أسباط في شمال فلسطين، وسميت مملكته بمملكة إسرائيل، وعاصمتها ترصة قرب شكيم (نابلس) ، وصار رحبعام بن سليمان ملكا على سبطين في جنوب فلسطين، وسميت مملكته بمملكة يهوذا، وعاصمتها أورشليم (القدس) ، وقد شاع الكفر والارتداد في المملكتين، وكان في مملكة إسرائيل أسرع وأشد؛ لأن يربعام بعدما تولى الحكم ارتد ونصب عجول الذهب وأمر بعبادتها، فارتدت معه الأسباط العشرة وعبدوا الأصنام، ومن بقي منهم على التوحيد هاجر إلى مملكة يهوذا، وقد تعاقب على حكم مملكة إسرائيل تسعة عشر (19) ملكا، ولم يتغير حالهم، فهؤلاء الأسباط العشرة من عهد أول ملوكهم إلى آخرهم كانوا كافرين بالله، عابدين للأصنام، نابذين للتوراة، فأبادهم الله بأن سلط عليهم الأشوريين بقيادة سرجون الثاني سنة 722ق. م، فأسروا وقتلوا القسم الأكبر منهم، وفرقوا قسما آخر في الممالك، ولم يبق منهم في هذه المملكة إلا شرذمة قليلة، فجلبوا الوثنيين وأسكنوهم في مملكة إسرائيل، فاختلطت هذه الشرذمة الإسرائيلية القليلة بالوثنيين اختلاطا شديدا، فتزاوجوا وتوالدوا، فسميت أولادهم بالسامريين، فمن عهد يربعام أول ملوك المملكة الإسرائيلية وإلى اندثارها بعد مدة تزيد عن قرنين من الزمان ما كان لهؤلاء الأسباط العشرة غرض بالتوراة، وكان وجود نسخ التوراة في هذه المملكة كوجود العنقاء، يسمع بها ولا أصل لها.

أما مملكة يهوذا التي تضم سبطين من أسباط بني إسرائيل فجلس على سرير الحكم فيها بعد موت سليمان عليه السلام عشرون ملكا، وكان المرتدون من هؤلاء الملوك أكثر من المؤمنين الموحدين، فمن عهد رحبعام بن سليمان

ص: 95

شاعت عبادة الأصنام، ووضعت تحت كل شجرة وعبدت، فسلط الله عليه شيشق ملك مصر، فغزا مملكة يهوذا، ونهب جميع أثاث الهيكل وأثاث بيت السلطان، ثم سلط الله على آسا ثالث ملوكها بعشا بن أخيا ثالث ملوك مملكة إسرائيل، وكان بعشا وثنيا مرتدا، فجاء إلى القدس ونهب الهيكل وبيت السلطان نهبا شديدا، وفي عهد أخزيا سادس ملوك يهوذا بنيت المذابح للبعل في كل جانب من مدينة أورشليم (القدس) ، حتى سدت أبواب بيت المقدس، ثم في عهد منسي ملكها الرابع عشر اشتد الكفر حتى صار أكثر أهل المملكة وثنيين، فبني مذابح الأوثان في فناء بيت المقدس، ووضع الوثن الذي كان يعبده في بيت المقدس، وهكذا كان حال الكفر والارتداد في عهد ابنه آمون.

ولما تولى الحكم يوشيا بن آمون سنة 638ق. م تاب إلى الله توبة نصوحا، وأمر أركان دولته بنشر الملة الموسوية، وهدم رسوم الكفر والوثنية في غاية الجد والاجتهاد، واتخذ الكاهن حلقيا مرشدا له، وعين الكاتب شافان لجمع الضرائب من الشعب لإصلاح الهيكل، وكان بحاجة شديدة إلى التوراة، ولكنه مع ذلك ما رأى أحد ولا سمع بوجود نسخة التوراة إلى سنة 621 ق. م، أي بعد سبعة عشر عاما من حكمه، ثم في العام الثامن عشر ادعى مرشده الكاهن حلقيا أنه وجد مخطوطة لسفر التثنية ومجموعة من الشرائع في بيت المقدس، عندما كان يحسب الفضة الواردة إلى الهيكل، فأعطى هذا السفر لشافان فقرأه على الملك يوشيا، فلما سمع يوشيا مضمونه شق ثيابه حزنا على عصيان بني إسرائيل، (سفر الملوك الثاني 22 / 1 -11 وسفر أخبار الأيام الثاني 34 / 1 -19) .

ص: 96

ولكن هذه النسخة لا اعتماد عليها ولا على قول حلقيا؛ لأن الهيكل نهب مرتين قبل عهد الملك أخزيا، وفي عهده جعل بيتا للأصنام، وكان سدنتها يدخلون البيت كل يوم، ففي خلال أكثر من قرنين من الزمان، (منذ بداية حكم أخزيا سنة 843 ق. م إلى سنة 621 ق. م التي هي العام السابع عشر لحكم يوشيا) ما سمع أحد اسم التوراة ولا رآها، علما أن يوشيا وأركان دولته وجميع رعيته كانوا في غاية الاجتهاد لإحياء شريعة موسى، وكان الكهنة يدخلون كل يوم إلى الهيكل، فالعجب أن يكون سفر التثنية في الهيكل ولا يراه أحد طيلة سبعة عشر عاما، والحق أن هذا السفر اخترعه الكاهن حلقيا؛ فإنه لما رأى أن الملك يوشيا وأركان دولته متوجهون بشدة إلى اتباع شريعة موسى، قام بجمع هذا السفر من الروايات اللسانية غير المدونة التي كان يتناقلها الأحبار، أو وصلت إليه من أفواه الناس سواء كانت صادقة أو كاذبة، وكان طيلة سبعة عشر عاما في جمعها وتأليفها، فبعدما أتم جمعها نسبها إلى موسى، وادعى أنه وجد هذا السفر في الهيكل، ومثل هذا الافتراء والكذب لترويج الملة كان من المستحبات الدينية عند متأخري اليهود وقدماء النصارى.

وبقطع النظر عما فعله حلقيا، فإن سفر الشريعة الذي سلمه للملك يوشيا سنة 620 ق. م في العام الثامن عشر من حكمه، بقي العمل به طيلة حياته، أي لمدة ثلاثة عشر عاما، ولما مات يوشيا سنة 608 ق. م جلس ابنه يهوآحاز على سرير الملك، فارتد وأشاع الكفر في المملكة، فسلط الله عليه (نخو) ملك مصر، فأسره وأجلس مكانه أخاه يهوياقيم بن يوشيا، وكان أيضا مرتدا وثنيا كأخيه، وبعد موته جلس على سرير الملك ابنه يهوياكين بن

ص: 97

يهوياقيم، وكان أيضا مرتدا وثنيا كأبيه وعمه، فسلط الله عليه بختنصر (نبوخذنصر) ملك بابل، فأسره مع جم غفير من بني إسرائيل، ونهب الهيكل والقدس وكنز بيت الملك، وأجلس مكانه على السرير عمه صدقيا بن يوشيا، وكان مرتدا وثنيا كأخويه، فحكم أحد عشر عاما كان خلالها ذليلا لنبوخذ نصر، وفي سنة 587ق. م جاء نبوخذ نصر فقبض على صدقيا وقتل أولاده أمام عينه، ثم قلع عينيه وربطه بالسلاسل وأرسله مع سائر بني إسرائيل أسرى إلى بابل، وأشعل النار في الهيكل وفي بيوت الملك وجميع بيوت أورشليم، فدمرها تدميرا كليا وهدم أسوارها، وقضي نهائيا على مملكة يهوذا سنة 587 ق. م، أي بعد أن قضى سرجون الثاني الأشوري على مملكة إسرائيل بـ 135 سنة.

إذن يكون تواتر التوراة في اليهود منقطعا قبل زمان يوشيا (638-608 ق. م) ، والسفر الذي وجد في عهده لا اعتماد عليه ولا يثبت به التواتر، وما عمل به إلا ثلاثة عشر عاما، وبعدها اندثر ولم يعلم حاله، والظاهر أنه لما رجع الكفر والارتداد والوثنية في أولاد يوشيا زال هذا السفر قبل حادثة بختنصر، ولو فرض بقاؤه فزواله في حادثة بختنصر أمر مقطوع به؛ لأن جميع كتب العهد العتيق التي كانت مصنفة قبل هذه الحادثة انعدمت عن صفحة العالم رأسا، وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب، لذلك يضطرون للقول: إن عزرا كتب العهد العتيق مرة أخرى في بابل.

وذكر كتاب قاموس الكتاب المقدس أنه مما لا شك فيه أن معظم الأسفار المقدسة أتلفت أو فقدت في عصر الارتداد والاضطهاد وبخاصة في مدة حكم

ص: 98

منسى الطويل (55 سنة ما بين 693-639 ق. م) ، ورجحوا أن مخطوطة نسخة الشريعة التي عثر عليها حلقيا قد عبث بها عند تدنيس الهيكل.

لما كتب عزرا كتب العهد القديم مرة أخرى - على زعمهم - وقعت حادثة أخرى مروعة، جاء ذكرها في كتاب المكابيين الأول وفي تاريخ يوسيفس وفي كتب أخرى، وهي أنه لما فتح أنطيوخس الرابع (أنتيوكس ابيفانيس) أورشليم، أراد أن يمحق الديانة اليهودية، فأحرق جميع نسخ كتب العهد القديم التي حصلت له من أي مكان بعدما قطعها، وأمر بقتل كل من توجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد القديم أو من يؤدي رسم الشريعة، وكان يفعل هذا الأمر في كل شهر ولمدة ثلاث سنوات ونصف، وكانت هذه الحادثة حوالي سنة 161 ق. م، فقتل خلق كثير من اليهود، وأعدمت فيها جميع النسخ التي كتبها عزرا، ولذلك قال جان ملنر: اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة ونسخ كتب العهد العتيق ضاعت من أيدي عسكر بختنصر، ولما ظهرت نقولها بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة أنتيوكس، ثم وقعت على اليهود بعد حادثة أنتيوكس حوادث أخرى انعدمت فيها نقول عزرا ونسخ لا تحصى، ومنها حادثة تيطس الرومي سنة 70م، وهي مكتوبة بالتفصيل في تاريخ يوسيفس وتواريخ أخرى، وقد أهلك في هذه الحادثة من اليهود في القدس ونواحيها مليون ومائة ألف (000ر100ر1) بالسيف والصلب والنار والجوع، وأسر سبعة وتسعين ألفا (97000) ، وباعهم في الأقاليم المختلفة، وأهلك جموعا كثيرة في أقطار أرض فلسطين وسوريا، فلو أن شيئا من كتب العهد القديم نجا من إحراق أنتيوكس، فمن المحقق أنه أحرق وأعدم في هذه

ص: 99

الحادثة. (انظر رقم (1) في حال التوراة ص20) . - أن قدماء النصارى لم يكونوا معترفين بالنسخة العبرانية من العهد القديم، وكانوا يعتقدون أنها محرفة، وكانوا يستعملون الترجمة اليونانية إلى آخر القرن الميلادي الثاني، وأما في معابد اليهود فكانت الترجمة اليونانية مستعملة إلى نهاية القرن الميلادي الأول، وكانت نسخ العبرانية قليلة جدا عند الطرفين، وقد أعدم اليهود بأمر محفل الشورى نسخا كتبت في القرنين السابع والثامن الميلادي؛ لأنها كانت تخالف النسخ المعتمدة عندهم مخالفة كبيرة، ولذلك لم تصل إلى أيدي المصححين أية نسخة مكتوبة في هذين القرنين، فإذا أعدموا النسخ المخالفة لنسخهم، وأبقوا النسخ التي يرضون بها صار لهم مجال واسع للتحريف.

4 -

الحوادث التي مرت على النصارى في القرون الثلاثة الأولى كانت سببا لقلة النسخ عندهم، ولسهولة التحريف فيها؛ لأن تواريخهم تشهد بأنهم طيلة هذه القرون الثلاثة ابتلوا بأنواع المحن والبلايا، فقد وقعت عليهم اضطهادات عظيمة كانت كافية لضياع الإنجيل الصحيح وسائر أسفارهم المقدسة، وأبرزها عشرة اضطهادات كما يلي:

الأول: في عهد السلطان نيرون سنة 64م، وكان مشهورا بالظلم والقسوة، حتى إنه أحرق مدينة روما وألقى تبعة ذلك على النصارى فاضطهدهم بعنف، وكان الإقرار بالنصرانية يعد جرما عظيما، فقتل بطرس وزوجته وأناسا كثيرين، وكان هذا القتل في العاصمة وفي سائر الولايات مستمرا إلى نهاية حياة هذا السلطان سنة 68م.

ص: 100

والثاني: في عهد السلطان دومشيان (دوميتيانوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 81م، (وهو أخو تيطس الذي ذبح اليهود سنة 70م) ، وكان طاغية جبارا، وعدوا للنصارى مثل نيرون، فأجلى يوحنا الحواري، وأمر بالقتل العام، وأسرف في قتل الكبراء ومصادرة أموالهم، ونكل بالنصارى تنكيلا عظيما فاق ما فعله أسلافه، وكان أن يستأصل النصرانية، وبقي الحال هكذا إلى أن قتل سنة 96م.

والثالث: في عهد السلطان تراجان (ترايانوس) ، الذي صار امبراطور روما عام 98م، فقد بدأ اضطهاده العنيف للنصارى سنة 101م، واشتد جدا سنة 108م حيث أمر بقتل كل من بقي من ذرية داود، فقام الضباط بالتفتيش، وبقتل كل من وجدوه منهم، وأعدم كثيرين من الأساقفة بالصلب أو بالضرب أو بالإغراق في البحر، وبقي الحال هكذا طيلة حياته إلى أن فاجأه الموت سنة 117م.

والرابع: في عهد السلطان مرقس أنتيونينس (أنطيونينوس ماركوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 161م، وكان فيلسوفا رواقيا ووثنيا متعصبا، بدأ اضطهاده للنصارى عام 161م ولمدة تزيد على عشر سنين، حتى بلغ القتل شرقا وغربا، وكان يطلب من الأساقفة أن يكونوا مع جملة سدنة الأوثان، ومن أبى يجلسونه على كرسي حديد تحته نار، ثم يمزق لحمه بكلاليب من حديد.

والخامس: في عهد السلطان سويرس (سيفيروس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 193م، وابتدأ اضطهاده للنصارى عام 202م، فأمر بالقتل في كل ناحية، وكان القتل على أشده في مصر وقرطاجة وفرنسا حيث قتل

ص: 101

الألوف في غاية الشدة، فظن النصارى أن هذا الزمان هو زمان الدجال.

والسادس: في عهد السلطان مكسيمن (ماكسيمينيوس) ، الذي صار إمبراطور روما سنة 235م، فأحيا رسوم الوثنية، وبدأ اضطهاده للنصارى عام 237م، فأصدر أمره بقتل جميع العلماء؛ لأنه ظن أنه إذا قتل العلماء جعل العوام مطيعين له في غاية السهولة، ثم أمر بقتل كل نصراني بلا فحص ولا محاكمة، فكثيرا ما كان يطرح منهم في جب واحد خمسون أو ستون قتيلا معا، ثم هم بقتل جميع سكان روما، فقتله أحد الجند سنة 238م.

والسابع: في عهد السلطان دي شس (دنيس) ، الذي بدأ اضطهاده للنصارى سنة 253م، وقد أراد هذا السلطان استئصال الملة النصرانية، فأصدر أوامره بذلك إلى حكام الولايات، ونفذ الولاة أوامره بقسوة فبحثوا عن النصارى وقتلوهم في كل مكان بعد التعذيب الشديد، وكان ظلمه وقهره شديدا في مصر وأفريقيا وإيطاليا والمشرق (آسيا الصغرى وبلاد الشام) ، حتى ارتد في زمنه كثيرون من النصرانية إلى الوثنية.

والثامن: في عهد السلطان ولريان (والريانوس)(فالريان) ، الذي بدأ اضطهاده للنصارى سنة 257م، عندما أصدر أمره الشديد بقتل جميع الأساقفة وخدام الدين، وإذلال الأعزة ومصادرة أموالهم، وسلب حلي نسائهم، وإجلائهن من الأوطان، ومن بقي منهم بعد ذلك نصرانيا ورفض تقديم قربان للإله جوبيتر يقتل أو يحرق أو يلقى للنمور تفترسه، فقتل بضعة ألوف، وأخذ الباقون عبيدا مقيدين بالسلاسل لاستعمالهم في أمور الدولة.

والتاسع: في عهد السلطان أريلين، الذي بدأ اضطهاده للنصارى بأوامر

ص: 102

مشددة ضدهم سنة 274م، لكن لم يقتل فيه كثير؛ لأن السلطان قتل.

والعاشر: في عهد السلطان ديوكليشين (دقلديانوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 284م، وبدأ اضطهاده للنصارى سنة 286م بقتل (6600) من النصارى، وكانت ذروته سنة 302م، واستمر إلى سنة 313م، ففي سنة 302م أحرق بلدة فريجيا كلها دفعة واحدة بحيث لم يبق فيها أحد من النصارى، وأراد هذا السلطان أن يمحو الكتب المقدسة من الوجود، واجتهد في هذا الأمر اجتهادا عظيما، فأصدر أمره في شهر آذار (مارس) سنة 303م بهدم جميع الكنائس وإحراق الكتب، وعدم اجتماع النصارى للعبادة، فنفذ الولاة أمره بصرامة شديدة، فهدمت الكنائس في كل مكان، وأحرق كل كتاب عثروا عليه بالجد التام، وعذب عذابا شديدا كل من ظن أنه أخفى كتابا، وامتنع النصارى عن الاجتماع للعبادة، قال يوسي بيس: إنه رأى بعينيه تهديم الكنائس وإحراق الكتب المقدسة في الأسواق.

وأصدر أمره لعامله على مصر أن يجبر الأقباط على عبادة الأصنام، وأن يذبح بالسيف كل من يأبى، فقتل منهم (000ر800) ، فسمي عصره بعصر الشهداء، وكان يقتل من النصارى في كل يوم ما بين 30-80 نفسا.

واستمر اضطهاده للنصارى عشر سنين حتى ملأ الأرض قتلا شرقا وغربا، فهذا الاضطهاد أعنف من كل الاضطهادات السابقة وأطولها أمدا.

فهذه الوقائع العظيمة والبلايا الجسيمة التي يكتبونها في تواريخهم، لا يتصور فيها كثرة النسخ وانتشارها شرقا وغربا كما يزعمون، بل لا يتصور فيها إمكانية المحافظة على سلامة النسخ الموجودة بين أيديهم ولا تصحيحها ولا

ص: 103

تحقيقها؛ لأن النسخ الصحيحة تضيع في مثل هذه الأحداث، ويكون للمحرفين مجال كبير للتحريف المناسب لأهوائهم.

وبسبب الحوادث المذكورة وغيرها فقدت الأسانيد المتصلة لكتب العهدين، وصار الموجود باسم كتب العهدين جعليا مختلقا، فلا يوجد عند اليهود ولا عند النصارى سند متصل لكتاب من كتبهم، وقد طلب الشيخ رحمت الله في مناظرته للقسيسين فندر وفرنج السند المتصل لأي كتاب من كتبهم، فاعتذرا بأن سبب فقدان الإسناد هو وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة (313م) .

وبهذا ثبت أنه لا يوجد دليل قطعي على أن النسخ الموجودة بين أيديهم قد كتبت في قرن معين، وليس مكتوبا في آخر أسفارها أن كاتبه فرغ من كتابته في سنة معينة كما هو الحال في نهاية الكتب الإسلامية غالبا، فأهل الكتاب يقولون رجما بالغيب وبالظن الذي نشأ لهم من بعض القرائن أنها لعلها كتبت في قرن كذا أو قرن كذا، مجرد الظن والتخمين لا يتم دليلا على المخالف.

ونحن المسلمين لا نقول إن كتب أهل الكتاب لم تحرف قبل زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأنها حرفت بعد زمانه فقط، بل إن إجماع المسلمين كلهم على أن كتب أهل الكتاب حرفت وفقدت إسنادها قبل زمانه صلى الله عليه وسلم، وأن التحريف في كثير من المواضع وقع فيها بعد زمانه أيضا، وكثرة النسخ لا تنفع في رد التحريف، بل إن وجود نسخ كثيرة قديمة يكون نافعا لدعوى التحريف، باعتبار أن اشتمال هذه النسخ على الكتب الجعلية المكذوبة، واختلافها عن بعضها اختلافا شديدا، من أعظم الأدلة الدالة على تحريف أسلافهم لكتبهم المقدسة،

ص: 104

ولا يلزم من القدم الصحة.

وبهذا ثبت والحمد لله وقوع التحريف بجميع أنواعه في كتب أهل الكتاب، وأنهم لا يملكون السند المتصل لأي كتاب منها، وأنهم يقولون ما يقولون بالظن والتخمين، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.

ص: 105