الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الباب الثالث إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزا ورفع شبهات القسيسين على القرآن والأحاديث]
[الفصل الأول الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم]
الباب الثالث
إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزا ورفع شبهات القسيسين الواردة على القرآن وعلى الأحاديث النبوية الشريفة ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم.
الفصل الثاني: دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث النبوية.
الفصل الأول
الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم الأمر الأول: أن القرآن الكريم في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها في كلام العرب، وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم، والبلاغة هي التعبير باللفظ المعجب عن المعنى المناسب للمقام الذي أورد فيه الكلام بلا زيادة أو نقصان في البيان، وتدل على كونه في الدرجة العالية من البلاغة بضعة أوجه:
الوجه الأول: أن فصاحة العرب والعجم سواء كانوا شعراء أو كتاب أكثرها في وصف ما يشاهدون، كوصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو طعنة أو غارة أو حرب، ودائرة البلاغة في مثل هذه الأشياء متسعة جدا، لأن طبائع أكثر الناس تميل إليها، وقد يظهر من الشاعر أو الكاتب مضمون جديد ونكتة لطيفة، ويكون المتأخر المتتبع واقفا على تدقيقات المتقدم غالبا، والقرآن الكريم ليس في بيان خصوص هذه الأشياء، ومع ذلك فيه من الفصاحة والبلاغة ما لم تعهده العرب في كلامهم.
الوجه الثاني: أن فصاحة العرب في شتى الأغراض والموضوعات لم تخل من الكذب حتى قيل: أحسن الشعر أكذبه، أما القرآن الكريم فجاء في غاية الفصاحة مع الصدق في جميعه، والتنزه عن الكذب.
الوجه الثالث: أن الشاعر قد ينسب للفصاحة لبيت أو بيتين في قصيدة له، وباقيها لا يكون كذلك، أما القرآن الكريم فجاء كله في غاية الفصاحة
التي يعجز الخلق عنها، ومن تأمل في سورة يوسف وقصته عليه السلام عرف أنها مع طولها جاءت في الدرجة العالية من البلاغة.
الوجه الرابع: أن الشاعر أو الكاتب إذا كرر مضمونا أو قصة لا يكون كلامه الثاني مثل الأول، بينما تكررت المضامين القرآنية في قصص الأنبياء وأحوال المبدأ والمعاد والأحكام والصفات الإلهية، واختلفت فيها العبارات إيجازا وإطنابا وغيبة وخطابا، ومع ذلك جاءت هذه المضامين كلها في نهاية الفصاحة، ولم يظهر التفاوت أصلا.
الوجه الخامس: أن القرآن الكريم فيه الأوامر والنواهي وإيجاب العبادات وتحريم القبائح، وفيه الحث على مكارم الأخلاق والعمل للآخرة وتقديمها على الدنيا، وكل ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة، علما أن أمثال هذه الأمور توجب تقليل الفصاحة، ولذلك إذا قيل لشاعر فصيح أو كاتب بليغ أن يكتب بعض مسائل الفقه والعقائد في عبارة فصيحة مشتملة على التشبيهات البليغة والاستعارات الدقيقة فإنه يعجز عن ذلك.
الوجه السادس: أن كل شاعر يحسن كلامه في فن ويضعف كلامه في غير ذلك الفن، أما القرآن الكريم فقد جاء فصيحا على غاية الفصاحة في كل فن، ترغيبا كان أو ترهيبا، زجرا كان أو وعظا أو غيرها.
وفيما يلي بعض الأمثلة:
ففي الترغيب مثل قوله تعالى في سورة السجدة آية 17: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]
وفي الترهيب مثل قوله تعالى في سورة إبراهيم آية 15-17: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ - يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 17]
وفي الزجر والتوبيخ مثل قوله تعالى في سورة العنكبوت آية 40: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40]
وفي الوعظ مثل قوله تعالى في سورة الشعراء آية 204-207: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ - أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ - ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ - مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 204 - 207]
وفي وصف الله تعالى مثل قوله تعالى في سورة الرعد آية 8-9: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 8 - 9]
الوجه السابع: أن الانتقال من مضمون إلى آخر ومن قصة إلى أخرى، واشتمال الكلام على بيان أشياء مختلفة يضيع حسن الربط بين أجزاء الكلام، ويسقطه عن الدرجة العالية للبلاغة، والقرآن الكريم فيه الانتقال من قصة إلى أخرى، ومن مضمون إلى غيره، مع اشتماله على الأمر والنهي والوعد والوعيد وتوحيد الله وبيان صفاته تعالى وإثبات النبوات والترغيب والترهيب وضرب الأمثال وغيرها، ومع ذلك يوجد فيه كمال الربط مع الدرجة العالية للبلاغة الخارجة عن مألوف العرب حتى حارت فيه عقول بلغائهم.
الوجه الثامن: أن القرآن الكريم يأتي باللفظ اليسير المتضمن للمعنى الكثير، فسورة (ص) مثلا جمع في أولها أخبار الكفار وتقريعهم بإهلاك القرون
من قبلهم، وخلافهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له، وتعجبهم مما أتى به، وإجماع ملئهم على الكفر، وظهور الحسد في كلامهم، ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة، وتكذيب الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم، ووعيد قريش وأمثالهم مثل مصابهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر على أذاهم، وتسليته بقصص الأنبياء قبله، وكل هذا الذي الذكر جاء بألفاظ يسيرة متضمنة لمعان كثيرة.
وقوله تعالى في سورة البقرة آية 179: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فإن هذا القول لفظه يسير ومعناه كثير، ومع بلاغته فهو مشتمل على المطابقة بين المعنيين المتقابلين وهما القصاص والحياة، وعلى الغرابة في جعل القتل المفوت للحياة ظرفا لها، فهو أولى من جميع الأقوال المشهورة عند العرب في باب منع القتل؛ لأنهم عبروا عن هذا المعنى بقولهم:(قتل البعض إحياء للجميع)، وقولهم:(أكثروا القتل ليقل القتل)، وقولهم:(القتل أنفى للقتل) ، وهذا القول الأخير أخصر أقوالهم وأجودها، ولكن لفظ القرآن أفصح منه وأبلغ لما يلي:
قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أخصر من كل أقوالهم.
قولهم: (القتل أنفى للقتل) يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه، بخلاف لفظ القرآن الكريم، فإنه يقتضي أن نوعا من أنواع القتل - وهو القصاص - سبب لنوع من أنواع الحياة.
أن في قولهم الأخصر والأجود (القتل أنفى للقتل) تكرار للفظ القتل، بخلاف لفظ القرآن الكريم.
أن قولهم الأخصر والأجود لا يفيد إلا الردع عن القتل فقط، بخلاف لفظ القرآن فإنه يفيد الردع عن القتل والجرح، فالقصاص يشملهما.
أن قولهم الأخصر والأجود يدل على ما هو المطلوب - أي الحياة - بالتبع، أي جعل نفي القتل مطلوبا أصالة، والحياة تبع له، بخلاف لفظ القرآن الكريم فإنه دال على ما هو مقصود أصلي، أي جعل نفي القتل مطلوبا تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة الذي هو مطلوب أصالة.
أن القتل ظلما قتل مع أنه ليس بناف للقتل، ولا يفيد وجوب الاقتصاد على قتل القاتل فقط، بخلاف لفظ القرآن الكريم، فإنه لايجيز القتل ظلما، وهو ناف للقتل بإيجابه القصاص الذي هو قتل القاتل لا غيره، فظاهر قولهم باطل، وأما لفظ القرآن الكريم فصحيح من كل وجه.
الوجه التاسع: أن الجزالة والعذوبة بمنزلة الصفتين المتضادتين، واجتماعهما على ما هو ينبغي في كل جزء من أجزاء الكلام الطويل خلاف العادة المعتادة للبلغاء، فاجتماعهما في كل موضع من مواضع القرآن الكريم دليل على كمال بلاغته وفصاحته الخارجتين عن العادة.
الوجه العاشر: أن القرآن الكريم مشتمل على جميع فنون البلاغة من ضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل وأصناف الاستعارة، وحسن المطالع والمقاطع، وحسن الفواصل والتقديم والتأخير، والفصل والوصل اللائق بالمقام، وخلوه عن اللفظ الركيك والشاذ الخارج عن القياس النافر عن الاستعمال، وغير ذلك من أنواع البلاغة، ولا يقدر أحد من البلغاء الكملاء من العرب الأصلاء إلا على نوع أو نوعين من الأنواع المذكورة، ولو رام نوعا غيره في كلامه لم يتأت له وكان مقصرا، والقرآن الكريم محتو عليها كلها.
فهذه الوجوه العشرة تدل على أن القرآن الكريم في الدرجة العالية من
البلاغة الخارجة عن العادة، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن.
الأمر الثاني: تأليف القرآن العجيب، وأسلوبه الغريب في المطالع والمقاطع والفواصل، مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان، وحسن العبارة ولطف الإشارة، وسلاسة التركيب وسلامة الترتيب، فتحيرت فيه عقول العرب العرباء (أي الخلص الصرحاء) ، والحكمة في هذه المخالفة أن لا يبقى لمتعسف عنيد مظنة السرقة، وأن يمتاز هذا الكلام عن كلامهم ويظهر تفوقه؛ لأن البليغ - ناظما كان أو ناثرا - يجتهد في هذه المواضع اجتهادا كاملا، ويمدح ويعاب عليه غالبا في هذه المواضع، وقد عيب على جميع فحول الشعراء مواضع لم يحسنوا فيها العبارة أو كانت مسروقة عن غيرهم.
وأشراف العرب مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وشدة عداوتهم للإسلام، لم يجدوا في بلاغة القرآن وحسن نظمه مجالا، ولم يوردوا في القدح مقالا، بل اعترفوا أنه ليس من جنس خطب الخطباء ولا شعر الشعراء، فنسبوه تارة إلى السحر تعجبا من فصاحته وحسن نظمه، وقالوا تارة إنه إفك افتراه وأساطير الأولين، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة فصلت آية 26:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]
وهذه كلها دأب المحجوج المبهوت، فثبت أن القرآن الكريم معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه.
ولقد كان فصحاء العرب وبلغاؤهم كثيرين ومشهورين بغاية العصبية والحمية الجاهلية، وبتهالكهم على المباراة والمباهاة والدفاع عن الأحساب،
فكيف يتصور أن يتركوا الأمر الأسهل الذي هو الإتيان بمقدار أقصر سورة من القرآن، ويختاروا الأشد الأصعب الذي هو القتال وبذل الأرواح والأموال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرعهم ويتحداهم بمثل قوله تعالى في سورة البقرة آية 23-24:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24]
وبمثل قوله تعالى في سورة يونس آية 38: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]
وبمثل قوله تعالى في سورة الإسراء آية 88: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]
ولو كان العرب يظنون أن محمدا صلى الله عليه وسلم استعان بغيره في تأليف القرآن الكريم لأمكنهم أيضا من أجل المعارضة والتحدي أن يستعينوا بغيرهم؛ لأنهم مثله في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك وآثروا المقاتلة والمقارعة بالسنان على المعارضة والمقاولة باللسان - ثبت أن بلاغة القرآن الكريم كانت مسلمة عندهم، وأنهم عاجزون عن المعارضة، وغاية الأمر أنهم صاروا مفترقين بين مصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن المنزل عليه من ربه، وبين معاند متحير في بديع بلاغة القرآن، والأخبار المنقولة في ذلك عن الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما تؤيد ذلك.
الأمر الثالث: كون القرآن الكريم منطويا على الأخبار عن الحوادث الآتية
في المستقبل، فوجدت في الأيام اللاحقة على الوجه الذي أخبر:
منها قوله تعالى في سورة الفتح آية 27: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27] ووقع كما أخبر.
ومنها قوله تعالى في سورة النور آية 55: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]
وقد وفى الله تعالى بما وعد، فمكن للمسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزاد هذا التمكين في خلافة الصديق أبي بكر رضي الله عنه، ثم زاد التمكين في خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه بالفتوحات الواسعة، ثم زاد هذا التمكين في خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنه بأن توسعت الفتوحات كثيرا جدا شرقا وغربا، بحيث لم يمض ربع قرن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى غلب دين الله على سائر الأديان، وكان المسلمون يعبدون الله آمنين غير خائفين.
ومنها قوله تعالى في سورة الفتح آية 16: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] ووقع كما أخبر.
ومنها قوله تعالى في سورة النصر آية 1-2: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] ووقع كما أخبر، ففتحت مكة المكرمة في العام الثامن للهجرة، ودخل الناس في الإسلام فوجا بعد فوج.
ومنها قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة آية 67: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ووقع كما أخبر، رغم كثرة من قصدوا ضرره، فعصمه
الله تعالى حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.
- ومنها قوله تعالى في سورة الروم آية 2-6: {غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ - بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ - وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 2 - 6] ووقع كما أخبر، وانتصرت الروم على فارس بعد سبع سنين من هزيمتهم.
- ومنها قوله تعالى في سورة الحجر آية 9: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أي يحفظه الله تعالى من التحريف والزيادة والنقصان، وهذا الأمر مشاهد الآن، ولله الحمد على هذه النعمة.
ومثله قوله تعالى في سورة فصلت آية 42: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]
- ومنها قوله تعالى عن اليهود في سورة البقرة آية 94-95: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94 - 95]
ومثله قوله تعالى في سورة الجمعة آية 6-7: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7]
ولا شك أن اليهود كانوا من أشد أعدائه صلى الله عليه وسلم، ومن أحرص الناس على تكذيبه، ومع ذلك لم يبادر أحد منهم إلى تكذيبه بأن يقول: إنه يتمنى الموت.
- ومنها قوله تعالى في سورة البقرة آية 23-24: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24] ووقع كما أخبر.
فمن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان مشركو العرب في غاية العداوة له وفي غاية الحرص على إبطال دعوته وإلى وقتنا الحاضر لم يستطع أحد معارضة القرآن ولو بمقدار أقصر سورة من مثله رغم توافر الدواعي.
فهذه الأخبار السابقة وأمثالها في القرآن الكريم تدل على أنه كلام الله تعالى؛ لأن سنة الله جارية على أن مدعي النبوة لو كذب على الله لا يخرج خبره صحيحا، بل ويفضحه الله ويظهر كذبه للناس.
الأمر الرابع: أنه ورد في القرآن الكريم أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يشتغل بمدارسة مع العلماء، وأنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ولا يعرفون الكتاب، وليس لديهم شيء من العلوم العقلية، وأنه لم يغب عن قومه غيبة يمكن له فيها التعلم من غيرهم، والمواضع التي خالف فيها القرآن الكريم كتب أهل الكتاب في بيان بعض القصص والحالات هي مخالفة قصدية لبيان الحق الذي انحرف عنه أهل الكتاب؛ لأنهم فقدوا النسخ الأصلية لكتبهم، والذي بين أيديهم فاقد للسند المتصل، وفاقد لصفة الوحي والإلهام، قال تعالى في سورة النمل آية 76:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]
الأمر الخامس: أنه ورد في القرآن الكريم كشف أسرار المنافقين، حيث كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، وكان الله تعالى يطلع
رسوله على تلك الأحوال حالا فحالا، ويخبره عنها على سبيل التفصيل، فما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، ولم يستطيعوا أن ينكروا خبر القرآن عنهم، وكذلك ما فيه من كشف أحوال اليهود وضمائرهم.
الأمر السادس: أنه ورد في القرآن الكريم من المعارف الجزئية والعلوم الكلية ما لم تعهده العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، ففيه علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقلية، والرد على أهل الضلال، وفيه السير والمواعظ، والحكم، والأمثال، وأخبار الدار الآخرة، ومحاسن الآداب والشيم، وقد انبثقت من القرآن الكريم علوم كثيرة أهمها علم العقائد والأديان، وعلم الفقه والأحكام، وعلم السلوك والأخلاق.
الأمر السابع: كونه بريئا عن الاختلاف والتفاوت، مع أنه كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان هذا القرآن من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة؛ لأن الكتاب الكبير لا ينفك عن ذلك، ولما لم يوجد فيه أدنى اختلاف علمنا علما يقينيا أنه من عند الله كما قال تعالى في سورة النساء آية 82:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]
وإلى هذه الأمور السبعة يشير قوله تعالى في سورة الفرقان آية 6: {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6] ؛ لأن بلاغته وأسلوبه العجيب وإخباره عن الغيوب واشتماله على أنواع العلوم وبراءته عن الاختلاف والتفاوت مع كونه كتابا كبيرا لا يتأتى إلا من العليم الخبير الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
الأمر الثامن: أن القرآن الكريم معجزة باقية متلوة في كل مكان؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه، بخلاف معجزات الأنبياء السابقين؛ فإنها مؤقتة في حياتهم وانقضت بوفاتهم، لكن معجزة القرآن الكريم باقية على ما كانت عليه من وقت نزوله وإلى زماننا هذا، ومازالت حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة، فإن بلاد العالم مملوءة بالملاحدة والمخالفين العنيدين من كل ملة ونحلة، وكلهم عاجزون عن الإتيان بمقدار أقصر سورة من هذا القرآن الكريم، وستبقى هذه المعجزة إن شاء الله ما بقيت الدنيا وأهلها.
الأمر التاسع: أن قارئ القرآن لا يسأمه، وسامعه لا يمله، بل تكراره يوجب زيادة محبته، وغيره من الكلام مهما كان بليغا فإن تكراره يمل في السمع، ويكره في الطبع، بخلاف القرآن الكريم فإن الهيبة تعتري تاليه، والخشية تلحق قلوب سامعيه، وهذه الهيبة والخشية قد تكون لمن لا يفهم معانيه ولا يفهم تفسيره، بل ولمن لا يعرف اللغة العربية أيضا.
الأمر العاشر: أن القرآن الكريم يحفظ نصه بسهولة بالغة، كما قال تعالى في سورة القمر الآيات 17 و22 و32 و40:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] فحفظه ميسر على الأولاد الصغار في أقرب مدة، وحفاظ القرآن الكريم منتشرون في الأقطار بحيث يمكن أن يكتب القرآن الكريم كاملا من حفظ كل منهم دون وقوع الغلط في الإعراب فضلا عن الألفاظ، بينما لا يوجد في كل ديار النصارى واحد يحفظ الإنجيل فضلا عن حفظ كتب العهدين، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكتابها القرآن الكريم.
ثلاثة أسئلة وجوابها: -
السؤال الأول: ما سبب كون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من جنس البلاغة؟ الجواب: أن بعض المعجزات تظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهل ذلك الزمان؛ لأنهم يكونون قد بلغوا فيه الدرجة العليا، ويقفون على الحد الذي يمكن للبشر الوصول إليه، فإذا شاهدوا ما هو خارج عن الحد المذكور علموا أنه من عند الله، فمثلا عندما رأى سحرة فرعون في زمان موسى عليه السلام أن عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم، علموا أن هذا الأمر خارج عن حد صناعة السحر، وأنه معجزة لموسى من عند الله فآمنوا به وبمن أرسله.
وفي زمان عيسى عليه السلام كان علم الطب متقدما، فلما رأى أهل ذلك الزمان إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علموا أنها ليست من حد صناعة الطب، وإنها معجزة لعيسى من عند الله؛ ليؤمنوا برسالته ويتبعوه.
وفي زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت البلاغة قد وصلت إلى الدرجة العليا، وكان بها فخارهم نثرا وشعرا، فلما أتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الذي أعجز جميع البلغاء علم أنه من عند الله قطعا، وأن من لم يؤمن به فهو عنيد مستكبر.
السؤال الثاني: ما حكمة نزول القرآن منجما مفرقا ولم ينزل دفعة واحدة؟
الجواب: إن لنزول القرآن منجما حكما كثيرة منها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة لصعب عليهم حفظه وضبطه، وربما تساهلوا فيه، فكان نزوله مفرقا أنسب لهم، حيث تمكن الصحابة بالتدريج من حفظه
وضبطه وتعلمه وكتابته، وبقيت سنة الحفظ جارية في أمته.
- أن كثيرا من آيات القرآن الكريم نزلت في وقائع وأحداث معنية، حلا لمشكلة أو جوابا على سؤال أو بيانا لحكم، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة لم يتضح المراد بها، فكان نزولها مفرقة مقترنة بالوقائع والأحداث أبلغ أثرا في النفوس، وأوضح في المراد بها.
- لو أنزل الله تعالى عليه الكتاب جملة واحدة لكانت التكاليف (أي الأحكام الشرعية العملية) قد نزلت على المسلمين دفعة واحدة، ولثقل عليهم العمل بها، وبخاصة أن فيها الناسخ والمنسوخ، ولكن لما كان نزول القرآن مفرقا فإن التكاليف نزلت بالتدريج قليلا قليلا، فكان تحملها أسهل.
- أن نزول القرآن منجما يقتضي أن يشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام حالا بعد حال، فيقوى قلبه على أداء الرسالة، ويصبر على أذية القوم.
- أن نزول القرآن الكريم منجما أشد تعجيزا لهم، أي إنهم في غاية العجز بحيث إنهم لم يقدروا على الإتيان بمثله منجما مفرقا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم من أول الأمر، فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن، فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى، فثبت بهذا الطريق أن القوم عاجزون عن المعارضة عجزا تاما من جميع الوجوه.
السؤال الثالث: ما سبب تكرار بيان التوحيد وحال القيامة وقصص الأنبياء في عدة مواضع؟
الجواب: إن للتكرار في القرآن عدة أسباب منها:
1 -
أن التكرار يفيد التقرير والتأكيد.
2 -
أن إعجاز القرآن الكريم لما كان باعتبار البلاغة وتحداهم بهذا الاعتبار، فجاء تكرار القصص وغيرها بعبارات مختلفة إيجازا وإطنابا، مع حفظ الدرجة العالية للبلاغة في كل مرتبة، ليعلم أن القرآن ليس بكلام البشر؛ لأن البلغاء يعرفون أن هذا الأمر خارج عن القدرة البشرية.
3 -
إن المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم كان لهم أن يقولوا له: إن الألفاظ الفصيحة التي كانت مناسبة لهذه القصة قد استعملتها، ولا تناسبها الألفاظ الأخرى، أو أن يقولوا له: إن طريق كل بليغ يخالف طريق الآخر، فبعضهم يقدر على الطريق المطنب وبعضهم يقدر على الطريق الموجز، فلا يلزم من عدم القدرة على نوع عدم القدرة مطلقا، أو أن يقولوا له: إن دائرة البلاغة ضيقة في بيان القصص، والذي صدر عنك بيانه منها محمول على البخت والاتفاق، لكن تكرار القصص إيجازا وإطنابا يقطع جميع أعذارهم.
4 -
أنه صلى الله عليه وسلم كان يضيق صدره بإيذاء قومه له كما قال تعالى في سورة الحجر آية 97: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] فيثبت الله قلبه بأن يقص عليه من قصص الأنبياء السابقين مناسبة لحاله في ذلك الوقت، كما قال تعالى في سورة هود آية 120 / 3 -:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]
5 -
أن أقواما كانوا يدخلون في الإسلام، وأن المسلمين كان يحصل لهم الأذى بأيدي الكفار، فكان الله تعالى ينزل في كل موضع من هذه القصص ما يناسبه؛ لأن حال السلف تكون عبرة للخلف، وقد يكون المقصود أحيانا تنبيه الكفار، فالقصة الواحدة قد تذكر تارة ويقصد بها بعض الأمور قصدا
وبعضها تبعا، وتُذكر تارة أخرى وتُعكس المقاصد.
وفيما يلي ذكر أبرز شبهتين يوردهما المنصّرون على القرآن الكريم:
الشبهة الأولى قولهم: (لا نسلم بأن عبارة القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة الخارجة عن العادة، ولو سلمنا ذلك لكان دليلا ناقصا على الإعجاز؛ لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة بلغة العرب، ويلزم أن تكون من كلام الله جميع الكتب البليغة التي في اللغات الأخرى كاليونانية واللاتينية وغيرهما، ويمكن أن تؤدّى المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى) .
والجواب عن هذه الشبهة أن عدم تسليمهم كون عبارة القرآن الكريم في الدرجة العليا من البلاغة هو مكابرة محضة لما مر في الأمر الأول والثاني من الفصل السابق.
وقولهم: (لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة بلغة العرب) حق، لكن هذه المعجزة لما كانت لتعجيز البلغاء والفصحاء، وقد ثبت عجزهم ولم يعارضوها واعترفوا بها، وعرفها جميع أهل اللغة العربية بسليقتهم، وعرفها العلماء بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام، فالعوام يكفيهم اعتراف العلماء بالعجز عن معارضة القرآن، وبه تقوم الحجة عليهم؛ لأن عجز العلماء والفصحاء يوجب عجز غيرهم من باب أولى، ثم إن الأمم غير العربية يكفيهم اعتراف العرب بعجزهم عن معارضة القرآن الذي هو بلغتهم، فتقوم عليهم الحجة أيضا، بالإضافة إلى أنه يوجد في هذه الأمم من يتكلمون اللغة العربية ويجيدون علومها، فشهادتهم ببلاغة القرآن الكريم وأنه كلام الله حجة
على سائر أقوامهم؛ لأن من كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن وفنون بلاغته، وبهذا ثبت يقينا أن بلاغة القرآن الكريم معجزة قاهرة ودليل كامل لا ناقص كما زعموا.
ثم إن أهل الإسلام لا يدعون أن معجزة القرآن منحصرة في بلاغته فقط، بل يقولون: إن بلاغة القرآن الكريم سبب واحد من أسباب كثيرة توجب علما قطعيا بأنه كلام الله تعالى، وهذه المعجزة ظاهرة، وعجز المخالفين ثابت منذ زمان محمد صلى الله عليه وسلم وإلى هذا الزمان.
وقولهم: (ويلزم أن تكون من كلام الله جميع الكتب البليغة التي في اللغات الأخرى. .) غير مسلَّم؛ لأن هذه الكتب لم تثبت بلاغتها في الدرجة القصوى باعتبار الوجوه التي مر ذكرها في الأمر الأول والثاني من الفصل السابق، ولأن مصنفي هذه الكتب لم يدعوا إعجازها ولا أن الفصحاء أمثالهم عاجزون عن معارضتها.
فكيف يدّعي القساوسة هذا الادعاء وهم لا يميزون غالبا في لغة غيرهم بين المذكر والمؤنث، ولا بين المفرد والمثنى والجمع، ولا بين المرفوع والمنصوب والمجرور، فضلا عن أن يميزوا الأبلغ عن البليغ، ويشهد لهذا الأمر أن البابا أربانوس الثامن أذِن للأب سركيس الهاروني مطران الشام أن يجمع كثيرا من القساوسة والرهبان والعلماء المختصين باللغات العبرانية والعربية واليونانية لإصلاح الترجمة العربية التي كانت مملوءة بالأغلاط الكثيرة، فاجتهدوا في هذه المهمة اجتهادا تاما سنة 1625م، ولكن هذه الترجمة التي اجتهدوا في إصلاحها وقع في نصوصها أغلاط كثيرة بحيث إنهم اضطروا في المقدمة التي
كتبوها لهذه الترجمة إلى الاعتذار عن بعض الأغلاط الواقعة فيها كوجود كلام لا يوافق قوانين اللغة بل يضادها، وكوقوع لفظ المذكر بدل المؤنث، والعدد المفرد بدل الجمع، وكوضع حركة الرفع مكان الجر والنصب في الاسم، ومكان الجزم في الفعل، وقالوا في اعتذارهم: إن روح القدس لم يُردْ أن يقيد اتساع الكلمة الإلهية بالحدود المضيقة التي حدتها الفرائض النحوية، فقدم لنا الأسرار السماوية بغير فصاحة وبلاغة.
وقولهم: (ويمكن أن تؤدَّى المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى) لا ورود له في حق القرآن الكريم؛ لأنه مملوء من أوله إلى آخره بذكر المطالب العالية الفاضلة والمضامين الحميدة مثل:
1 -
ذكر صفات الكمال لله، وتنزيهه عن صفات النقص كالعجز والجهل والظلم وغيرها.
2 -
الدعوة إلى إخلاص التوحيد لله، والتحذير من الشرك والكفر بجميع أنواعه، والتثليث نوع منه.
3 -
ذكر الأنبياء وصفاتهم، وتنزيههم عن عبادة الأوثان والكفر وغيرها من المعاصي، ومدح المؤمنين بهم وذم أعدائهم، والتأكيد على وجوب الإيمان بهم عموما، وبالمسيح وبمحمد عليهما السلام خصوصا.
4 -
الوعد بغلبة المؤمنين على الكافرين عاقبة الأمر.
5 -
ذكر القيامة والجنة والنار وجزاء الأعمال، وذم الدنيا ومدح العقبى.
6 -
بيان الحلال والحرام والأوامر والنواهي وسائر الأحكام في المطعومات
والمشروبات وفي الطهارة والعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها.
7 -
التحريض على محبة الله وأوليائه، والزجر عن مصاحبة الفجار والفساق.
8 -
التأكيد على إخلاص النية لله في كل شيء، والتهديد على الرياء والسمعة.
9 -
التأكيد على الأخلاق الجميلة ومدحها، والتهديد على الأخلاق الذميمة وذمها والتنفير منها.
10 -
الوعظ المؤدي للتقوى، والترغيب في ذكر الله وعبادته.
ولا شك أن مثل هذه المطالب الفاضلة محمودة عقلا ونقلا، وجاء ذكر هذه المطالب العالية مكررا في القرآن للتأكيد عليها وتقريرها، ولو كانت هذه المطالب والمضامين العالية قبيحة فأي مضمون بعدها يكون حسنا؟!
نعم إنه لا يوجد في القرآن الكريم مضامين قبيحة كالتي في كتب العهدين مثل:
1 -
ما ورد في سفر التكوين 19 / 30 -38 أن لوطا عليه السلام زنى بابنتيه وحملتا بهذا الزنا.
2 -
وما ورد في سفر صموئيل الثاني 11 / 1 -27 أن داود عليه السلام زنى بزوجة أوريّا، ثم قتله بالحيلة وتزوجها.
3 -
وما ورد في سفر الخروج 32 / 1 -6 أن هارون عليه السلام صنع العجل لبني إسرائيل وعبده معهم.
4 -
وما ورد في سفر الملوك الأول 11 / 1 -13 أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى المعابد لها.
5 -
وما ورد في سفر الملوك الأول 13 / 11 -30 أن النبي الذي في بيت إيل
كذب على الله في التبليغ، وخدع بكذبه نبيا آخر وألقاه في غضب الرب.
6 -
وما ورد في سفر التكوين 38 / 12 -30 أن يهوذا بن يعقوب عليه السلام زنى بكنّته= ثامار - أي زوجة ابنه عير - فولدت منه بهذا الزنا فارص الذي من نسله داود وسليمان وعيسى عليهم السلام، فكلهم أولاد ولد الزنا.
7 -
وما ورد في سفر التكوين 35 أن رأوبين بن يعقوب عليه السلام زنى ببلهة سُرّيّة أبيه، ولما علم بهما (أي يهوذا ورأوبين) أبوهما يعقوب لم يُقم عليهما الحد، ودعا ليهوذا بالبركة التامة.
8 -
وما ورد في سفر صموئيل الثاني 13 / 1 -39 أن أمنون بن داود عليه السلام زنى بأخته ثامار وعلم بهما أبوهما داود ولم يُقم عليهما الحد.
9 -
وما ورد في الأناجيل (متى 26 / 14 -16، ومرقس 14 / 10 -11، ولوقا 22 / 3 -6، ويوحنا 18 / 1 -5) أن يهوذا الإسخريوطي الذي هو أحد الحواريين الاثني عشر رضي بتسليم عيسى عليه السلام لليهود مقابل ثلاثين درهما، والنصارى يعتقدون أن الحواريين أنبياء ورسل للإله المصلوب.
10 -
وما ورد في الأناجيل (متى 26 / 57 -68، ومرقس 14 / 53 -65، ولوقا 22 / 54 -71، ويوحنا 18 / 12 -24) أن قَيَافَا رئيس الكهنة - والذي كان نبيا بشهادة يوحنا الإنجيلي - كذّب عيسى وكفّره وأهانه، وأفتى بقتله، وعيسى في زعمهم هو إله قَيَافَا، أي أفتى النبي بقتل إلهه بعدما كفّره وأهانه.
فهذه المضامين القبيحة جدا وأمثالها توجد في كتبهم المحرَّفة، وهي مألوفة لدى القسيسين والمنصرين ويرونها مطالب عالية وحسنة، فلو وجدوا القرآن الكريم محتويا على أمثالها لاعترفوا أنه كلام الله وقبلوه، لكنهم لما وجدوه خاليا عنها أنكروه وطعنوا في صحته.
الشبهة الثانية قولهم: (إن القرآن يخالف كتب العهدين القديم والجديد في مواضع عديدة، فلا يكون كلام الله) .
والجواب على هذه الشبهة أن كتب العهدين لم تثبت أسانيدها المتصلة إلى مصنفيها، وثبت أنها مملوءة من الاختلافات المعنوية والأغلاط الكثيرة، وثبت وقوع التحريف القصدي فيها بالزيادة على المتن وبالنقصان منه، وبالتبديل في الجمل والكلمات، فمخالفة القرآن لكتبهم في مواضع عديدة هي مخالفة قصدية لا سهوية؛ لأجل التنبيه على أن ما خالف القرآن في هذه الكتب هو غلط ومحرَّف، فهذه المخالفة لا تعيب القرآن، بل يُقطع بصحته وخطئها.
ونستطيع أن نحصر المخالفة التي بين القرآن الكريم وبين كتب العهدين في ثلاثة أنواع، الأول منها باعتبار الأحكام المنسوخة، والثاني منها باعتبار بعض الحالات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم ولم تذكر في كتب العهدين، والثالث منها باعتبار أن ما جاء في القرآن الكريم في بيان بعض الحالات يخالف بيان نفس الحالات في كتب العهدين. ولا حجة لهم في الطعن على القرآن الكريم باعتبار هذه الأنواع الثلاثة لما يلي:
أما باعتبار الأحكام المنسوخة فلأنه قد مر في الباب الأول أن النسخ لا يختص بالقرآن الكريم، بل وُجد في الشرائع السابقة، وقد اعترف الدكتور القسيس فندر في المناظرة الكبرى التي جرت بينه وبين الشيخ رحمت الله بوقوع النسخ في التوراة والإنجيل، وكان قبل المناظرة ينكر بشدة وقوعه فيهما.
وأما باعتبار بعض الحالات التي انفرد القرآن الكريم بذكرها ولم تذكر في كتب العهدين، فهذه المخالفة لا تنفي أن القرآن الكريم كلام الله تعالى؛ لأنه
وُجد في كتب العهد الجديد حالات لم تذكر في كتب العهد القديم، فانفراد العهد الجديد بذكرها لم يستلزم كونه معيبا في نظرهم، وفيما يلي بعض الأمثلة لذلك:
1 -
ورد في الفقرة 9 من رسالة يهوذا: (وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس مُحاجًّا عن جسد موسى. .) .
فهذه المخاصمة بينهما لم تذكر في كتاب من كتب العهد العتيق.
2 -
ورد في الرسالة إلى العبرانيين 12: (وكان المنظر هكذا مخيفا حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد) . وقد ورد صعود موسى إلى جبل سيناء ووقوف الشعب عند أسفل الجبل في سفر الخروج 19 / 7 -25، وليس فيه ولا في غيره من أسفار العهد العتيق هذه الفقرة.
3 -
ورد في رسالة بولس الثانية إلي تيموثاوس 3: (وكما قاوم يَنِّيسُ ويَمْبِرِيسُ موسى) ، وقد وردت قصة سحرة فرعون في الأصحاح السابع من سفر الخروج، وليس فيه ولا في غيره من الأسفار هذه العبارة، ولا أثر لهذين الاسمين في أي كتاب من كتب العهد القديم.
4 -
ورد في رسالة بولس الأولى= إلى أهل كورنثوس 15 / 6 ظهور المسيح بعد رفعه: (وبعد ذلك ظهر دَفْعَةً واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا) . ولا يوجد أثر لهذا الخبر في الأناجيل الأربعة ولا في سفر أعمال الرسل، مع أن لوقا أحرص الناس على كتابة مثل هذه الأمور العجيبة.
5 -
يوجد في الأناجيل ذكر القيامة وجزاء الأعمال والجنة والجحيم، وذلك
بالإجمال، ولا أثر لذلك في كتب موسى الخمسة، بل كل ما فيها مواعيد دنيوية للمطيعين وتهديدات دنيوية للعاصين.
6 -
ورد في إنجيل متى 1 / 13 -15 بعد اسم زَرُبّابل تسعة أسماء في بيان نسب المسيح عليه السلام، ولا ذكر لهذه الأسماء في كتاب من كتب العهد القديم.
وهكذا أحوال أخرى يصعب حصرها يثبت منها أن انفراد الكتاب المتأخر بذكر بعض الحالات التي لم تذكر في الكتاب المتقدم لا يلزم منه تكذيب الكتاب المتأخر، وإلا يلزم منه أن يكون الإنجيل كاذبا لاشتماله على حالات لم تذكر في التوراة ولا في كتاب آخر من كتب العهد القديم، والحق أن الكتاب المتقدم لا يلزم أن يكون مشتملا على جميع الحالات المذكورة في الكتاب المتأخر.
وأما طعنهم باعتبار أن بيان بعض الحالات في القرآن الكريم مختلف عن بيانها في كتب العهدين فلا حجة لهم في ذلك أيضا؛ لأن اختلافات فاحشة جدا وقعت بين كتب العهد العتيق بعضها مع بعض، وبين كتب العهد الجديد بعضها مع بعض، وبين كتب العهد الجديد والعهد القديم كما مر في الباب الأول، والنسخ الثلاث للتوراة (العبرانية والسامرية واليونانية) مختلفة فيما بينها اختلافات كبيرة، والأناجيل الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) مختلفة فيما بينها اختلافات كبيرة أيضا، لكن القسيسين يغمضون أعينهم عما في كتبهم من الاختلافات، ويتوجهون للطعن في القرآن الكريم لتغليط عوام المسلمين بهذه الشبهة، ومخالفة القرآن لكتبهم لا تضره؛ لأنه كتاب مستقل موحى به من الله، بل هذه المخالفة أكبر دليل قطعي على صدقه، وعلى وجود التحريف في كتبهم.