الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من اسم أبيه على حرف الطاء المهملة
أحمد بن طاهر بن عبد الله
ابن يزيد أبو علي النيسابوري من الرحالة في طلب الحديث. سمع بدمشق وغيرها.
قال أحمد بن طاهر: أنشدني مكحول البيروتي قال: أنشدني أبو الحسن الرهاوي: من البسيط
إني وإن كان جمع المال يعجبني
…
ما يعدل المال عندي صحة الجسد
في المال عزٌّ وفي الأولاد مكرمةٌ
…
والسقم ينسيك ذكر المال والولد
توفي أحمد بن طاهر ليلة الاثنين السابع من ذي القعدة سنة ستين وثلاث مئة.
أحمد بن طاهر الدمشقي
حكى عن عبد الله بن خبيق الأنطاكي الزاهد قال: سألت يوسف بن أسباط: هل مع حذيفة المرعشي علم؟ فقال: معه العلم الأكبر؛ خوف الله عز وجل.
المعتضد أحمد بن طلحة أبي أحمد الموفق
ويقال اسم أبي أحمد محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم أبو العباس المعتضد بالله بويع بالخلافة بعد عمه المعتمد على الله في رجب سنة تسع وسبعين ومئتين. وكان قدم دمشق، وهو ولي عهدٍ لمحاربة أبي الجيش بن أحمد بن طولون يوم السبت لليلتين خلتا من شعبان سنة إحدى وسبعين ومئتين.
وأمه أم ولد يقال لها نحلة، ويقال: ضرار.
حدث المعتضد بالله عن أبيه أبي أحمد الموفق قال:
كان أمير المؤمنين السفاح يعجبه السمر، وكان يطول عليه السهر، وتعجبه الفصاحة ومنازعة الرجال، فسمر عنده ذات ليلة أناس من اليمن وأناس من مضر، فيهم خالد بن صفوان التميمي وإبراهيم بن محمد الكندي، فمال بهم الحديث، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إن أخوالك هم الناس، وهم العرب الأول، والذين دانت لهم الدنيا، كانت لهم اليد العليا. توارثوا الرياسة، يلبس آخرهم سرابيل أولهم، بيت المجد ومآثر الحمد لهم، منهم النعمانان والمنذران والقابوسان، ومنهم عياض صاحب البحر، ومنهم الجلندى، ومنهم ملوك التيجان، وحماة الفرسان، أصحاب السيوف القاطعة والدروع الحصينة، إن حل ضيف أكرموه، وإن سئلوا أنعموا، فمن ذا مثلهم يا أمير المؤمنين إذا عدت المآثر، وفخر مفاخر، ونافر منافر؟ فهم العرب العاربة، وسائر العرب المتعربة. فتغير وجه السفاح وقال: ما أظن خالداً يرضى بما تقول يا خالد؟ فقال: إن أذن لي أمير المؤمنين، وأمنت الموجدة تكلمت. قال: تكلم ولا تهب أحداً. فتكلم خالد فقال: خاب المتكلم، وأخطأ المتحكم، وقد قال بغير علم، ونظر بغير صواب. إذ فخر على مضر، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من أهل بيته، وهل أهل اليمن - أصلح الله أمير المؤمنين - إلا دابغ جلد أو حائك برد أو سائس فهد، أو قائد قرد؟! دل عليهم الهدهد، وغرقهم الجرذ، وملكتهم أم ولد، وهم يا أمير المؤمنين ما لهم ألسنة فصيحة، ولا لغة صحيحة، ولا حجة تدل على كتاب الله عز وجل، ولا يعرف بها صواب. إن جاوزوا قصدنا أكلوا، وإن أبوا حكمنا عنفوا. ثم التفت إلى الكندي فقال: أتفخر علي بالدرع الحصينة والفرس الراتع والسيف القاطع والدرة المكنونة ولا تفخر بخير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم؟! فبه أدرك من ذكرت وفخر من فخرت، فأكرم به إذ كانوا أتباعه وأشياعه وبه ذكروا وافتخروا، فمنا النبي المصطفى وسيف الله عمه العباس المجتبى، ومنا علي الرضى، وأسد الله
حمزة، ومنا خير المسلمين وديان الدين وسيد أولاد المهاجرين وأبو الخلفاء الأربعين، ومن فقهه الله في الدين، وتلقن القرار من الأمين، ولنا السؤدد والعلياء وزمزم ومنى، ولنا البيت المعمور والسقف المرفوع والتسر المحبور، ولنا البيت الأعظم والسقاية والشرف، ولنا زمزم وبطحاؤها وصحراؤها ومنابتها وكل فناء لها، ولنا غياضها ومنابرها وأعلامها وحطيمها وعرفاتها وحرمها ومواقفها. فهل يعدلنا عادل أو يبلغ فخرنا مفاخر، وفينا كعبة الله؟ فمن زاحمنا زاحمناه، ومن فاخرنا فاخرناه.
ثم التفت إلى الكندي فقال: كيف علمك بلغة قومك؟ قال: إني بها لجد عالم.
قال: أخبرني عن الشناتر؟ قال: الأصابع.
قال: فأخبرني عن الصنارة؟ قال: الأذن.
قال: فأخبرني عن الجحمتين؟ قال: العينان.
قال: فأخبرني عن المبزم؟ قال: السن.
قال: أخبرني عن الكتع؟ قال: الذئب.
قال: أتؤمن أنت بكتاب الله عز وجل؟ قال: نعم.
قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه " بلسان عربي مبين "" العين بالعين " ولم يقل: الجحمة بالجحمة، وقال جل ثناؤه " جعلوا أصابعهم في آذانهم " ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم. وقال " السن بالسن " ولم يقل: المبزم بالمبزم. وقال " فأكله الذئب " ولم يقل: فأكله الكتع. ولكني أسألك عن أربع خصال إن أقررت بها قهرت وإن أنكرتها قتلت، قال: وما هي؟ قال: أسألك عن نبي الله المصطفى أمنا أم منكم؟ قال: بل منكم.
قال: فأخبرني عن كتابه المنزل عليكم أو عليكم؟ قال: بل عليكم.
قال: فأخبرني عن خلافة الله عز وجل أفينا أم فيكم؟ قال: بل فيكم.
قال: فأخبرني عن بيت الله عز وجل المستقبل، لنا أم لكم؟ قال: بل لكم قال: فأي شيء يعادل هذه الخصال؟ فقال أمير المؤمنين: ما فرغت من كلامك حتى ظننت أن سريري قد عرج به إلى السماء، ما لك يا كندي ورجال مضر. وأمر له بألف درهم وقال له: الحق بأهلك.
قال عبد الله بن الحسين بن سعد:
في سنة إحدى وسبعين ومئتين وجه الموفق ابنه أحمد المعتضد لحرب أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون فخرج من بغداد مع العساكر، واتصل الخبر بأبي الجيش فوجه من مصر عسكراً كبيراً زهاء خمسين ألف رجل من البربر وسائر الناس، فالتقوا بحمص فهزمهم أحمد المعتضد، ولما التقوا جعل أحمد على ميمنته ذا السيفين إسحاق بن كنداجين وعلى ميسرته محمد بن أبي الساج، فانهزم المصريون وهربوا إلى مصر ودخل أحمد المعتضد دمشق.
قال أحمد بن حميد بن أبي العجائز: دخل أبو العباس أحمد المعتضد دمشق قبل أن ولي الخلافة، دخلها من باب الفراديس، فلما بلغ إلى باب البريد التفت فنظر إلى مسجد الجامع، وقف وعن دابته فقال: أي شيء هذا؟ فقيل: هذا مسجد الجامع. قال: وايش هذه الزيادة التي قدامه؟ فقالوا: هذه تسمى الزيادة، فيها التجار، ويدخل منها إلى مسجد الجامع ولكل باب للمسجد زيادة مثل هذا تشبه الدهاليز، بناء مبني بقناطر وأروقة فاستحسنها وقال: ما في الدنيا مسجد جامع عني به ما عني بهذا المسجد. ثم سار ونزل الراهب على باب دمشق أياماً ثم خرج منها إلى حرب أبي الجيش عند طواحين الرملة. وواقعه في سنة إحدى وسبعين.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: استخلف أبو العباس المعتضد بالله أحمد بن محمد في اليوم الذي مات فيه المعتمد على الله. وله إذ ذاك سبع وثلاثون سنة.
قال محمد بن أحمد بن البراء: ولي المتعضد بالله لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومئتين. وولد بسر من رأى في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين ومئتين.
قال القاضي أبو عمرو محمد بن يوسف: قدم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله إلى أبي في حكم، فجاء فارتفع في المجلس فأمره الحاجب بموازاة خصمه، فلم يفعل إدلالاً بعظم محله من الدولة، فصاح أبي عليه وقال: قفاه أتؤمر بموازاة خصمك فتمتنع يا غلام عمرو بن أبي عمرو النخاس الساعة لأتقدم إليه ببيع هذا العبد وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين ثم قال لحاجبه: خذ بيده وسو بينه وبين خصمه فأخذ كرهاً وأجلس مع خصمه، فلما انقضى الحكم انصرف الخادم فحدث المعتضد بالله، وبكى بين يديه، فصاح عليه المعتضد وقال: لو باعك لاخترت بيعه وما رددتك إلى ملكي أبداً، وليس خصوصك بي يزيل مرتبة الحكم فإنه عمود السلطان وقوام الأديان.
قال إسماعيل بن إسحاق القاضي: دخلت على المعتضد، وعلى رأسه أحداثٌ رومٌ صباح الوجوه، فنظرت إليهم، فرآني المتعضد وأنا أتأملهم. فلما أردت القيام أشار إلي فمكثت ساعة، فلما خلا قال لي: أيها القاضي، والله ما حللت سراويلي على حرام قط.
روى التنوخي قال: لما خرج المعتضد إلى قتال وصيف الخادم إلى طرسوس وأخذه عاد إلى أنطاكية، فنزل خارجها، وطاف البلد بجيشه، وكنت صبياً إذ ذاك في المكتب. قال: فخرجت مع جملة الناس، فرأيته وعليه قباء أصفر فسمعت رجلاً يقول: يا قوم، الخليفة بقباء أصفر بلا سواد قال: فقال له أحد الجيش: هذا كان عليه وهو جالس في داره ببغداد، فجاءه الخبر بعصيان وصيف فخرج في الحال عن داره إلى باب الشماسية فعسكر به وحلف ألا
يغير هذا القباء أو يفرغ من أمر وصيف، وأقام بباب الشماسية أياماً حتى لحقه الجيش ثم خرج فهو عليه إلى الآن ما غيره.
قال إسماعيل بن إسحاق القاضي: دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً. نظرت فيه فكأنه قد جمع له الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، مصنف هذا الكتاب زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب.
حدث صافي الحرمي قال:
مشيت يوماً بين يدي المعتضد وهو يريد دور الحرم، فلما بلغ إلى باب شغب، أم المقتدر، وقف يسمع ويتطلع من خلال الستر وإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فضة فيه عنقود عنب في وقت فيه العنب عزيز جداً، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة على الدور، حتى إذا بلغ الدور إليه أكل عنبة واحدة مثل ما أكلوا حتى فني العنقود، والمعتضد يتميز غيظاً. قال: فرجع ولم يدخل الدار، ورأيته مغموماً فقلت: يا مولاي، ما سبب ما فعلته وما قد بان عليك؟ فقال: يا صافي، والله لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة. فقلت: يا مولاي، حاشاه، أي شيء عمل؟ أعيذك بالله يا مولاي، العن إبليس، فقال: ويحك أنا أبصر بما أقول، أنا رجل قد سست الأمور وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولابد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيجلسون ابني علياً يعني المكتفي، وما أظن عمره يطول للعلة التي به، يعني الخنازير، فيتلف عن قرب، ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده أكبر من جعفر فيجلسونه وهو صبي وله من الطبع في السخاء هذا الذي قد رأيت من أنه أطعم الصبيان مثل ما أكل، وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان، فتحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب، ويبذر ارتفاع الدنيا؟ ويخربها، فتضيع الثغور
وتنتشر الأمور ويخرج الخراج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس أصلاً. فقلت: يا مولاي، بل يبقيك الله تعالى حتى ينشأ في حياة منك ويصير كهلاً في أيامك، ويتأدب بآدابك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فقال: احفظ عني ما أقوله فإنه كما قلت. قال: ومكث يومه مهموماًن وضرب الدهر ضربه.
ومات المعتضد، وولي المكتفي فلم يطل عمره، ومات وولي المقتدر فكانت الصورة كما قاله المعتضد بعينه. فكنت كلما وقفت على رأس المقتدر وهو يشرب ورأيته قد دعا بالأموال فأخرجت إليه، وحللت البدر وجعل يفرقها على الجواري والنساء ويلعب بها ويمحقها ويهبها ذكرت مولاي المعتضد وبكيت.
قال صافي: وكنت يوماً واقفاً على رأس المعتضد فقال: هاتم فلاناً الطيبي، يعني خادماً يلي خزانة الطيب، فأحضر فقال: كم عندك من الغالية؟ فقال: نيف وثلاثون جباً صينياً مما عمله عدة من الخلفاء. قال: فأيها أطيب؟ قال: ما عمله الواثق. قال: أحضرنيه فأحضره جباً عظيماً يحمله عدة، ففتح فإذا بغالية قد ابيضت من التعشيب وجمدت من العتق في نهاية الذكاء، فأعجبت المعتضد وأهوى بيده إلى حوالي عنق الجب، فأخذ من لطاخته شيئاً يسيراً من غير أن يشعب رأس الجب، وجعله في لحيته وقال: ما تسمح نفسي بتطريق التشعيب على هذا الجب، شيلوه. فرفع، ومضت الأيام ف جلس المكتفي يوماً، وهو خليفة، وأنا قائم على رأسه فطلب غالية فاستدعى الخادم وسأله عن الغوالي فأخبره بمثل ما كان أخبر به أباه، فاستدعى غالية الواثق فجاءه بالجب بعينه ففتح فاستطابه، وقال: أخرجوا منه قليلاً، فأخرج منه مقدار ثلاثين أو أربعين مثقالاً، فاستعمل منه في الحال ما أراد، ودعا بعتيدة له فجعل الباقي فيها ليستعمله على الطعام، وأمر بالجب فختم بحضرته ورفع.
ومضت الأيام وولي المقتدر الخلافة، وجلس مع الجواري يوماً وكنت على رأسه، فأراد أن يتطيب فدعا الخادم وسأله فأخبره بمثل ما أخبر به أباه وأخاه، فقال: هات الغوالي كلها، فأحضر الجباب كلها، فجعل يخرج من كل جب مئة مثقال وأقل وأكثر فيشمه
ويفرقه على من بحضرته حتى انتهى إلى جب الواثق فاستطابه فقال: هاتم عتيدة حتى يخرج منه إليها ما يستعمل، فجاؤوه بعتيدة فكانت عتيدة المكتفي بعينها. ورأى الجب ناقصاً والعتيدة فيها قدح الغالية ما استعمل منه كثير شيء فقال: ما السبب في هذا؟ فأخبرته بالسبب على حاله، فأخذ يعجب من بخل الرجلين، ويضع منهما بذلك، ثم قال: فرقوا الجب بأسره على الجواري، فما زال يخرج منه أرطالاً أرطالاً وأنا أتمزق غيظاً، وأذكر حديث العنب وكلام مولاي المعتضد إلى أن مضى قريب من نصف الجب، فقلت له: يا مولاي، إن هذه الغالية أطيب الغالي وأعتقها وما لا يعتاض منه فلو تركت ما بقي منها لنفسك، وفرقت من غيرها كان أولى. قال: - وخرت دموعي لما ذكرته من كلام المعتضد - فاستحيا مني، فرفعت الجب فما مضت إلا سنون من خلافته حتى فنيت تلك الغوالي واحتاج إلى أن عجن غالية بمال عظيم.
قال أبو محمد عبد الله بن حمدون: قال لي المعتضد ليلة وقد قدم له عشاء: لقمني، قال: وكان الذي قدم فراريج ودراريج، فلقمته من صدر فروج فقال: لا، لقمني من فخذه، فلقمته لقماً، ثم قال: هات من الدراريج فلقمته من أفخاذها فقال: ويلك هو ذا تتنادر علي؟! هات من صدورها، فقلت: يا مولاي، ركبت القياس فضحك، فقلت: إلى كم أضحكك ولا تضحكني؟ قال: شل المطرح وخذ ما تحته. قال: فشلته فإذا دينار واحد، فقلت: آخذ هذا؟ فقال: نعم، فقلت: يالله هو ذا تتنادر أنت الساعة علي! خليفةً يجيز نديمه بدينار؟ فقال: ويلك لا أجد لك في بيت المال حقاً أكثر من هذا، ولا تسمح نفسي أن أعطيك من مالي شيئاً، ولكن هو ذا أحتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار، فقبلت يده، فقال: إذا كان غداً وجاءني القاسم - يعني ابن عبيد الله - فهو ذا أسارك - حتى تقع عيني عليه - سراراً طويلاً التفت فيه إليه كالمغضب، وانظر أنت إليه في خلال ذلك كالمخالس لي نظر المترثي له، فإذا انقطع السرار فيخرج ولا يبرح الدهليز أو تخرج، فإذا خرجت خاطبك بجميل وأخذك إلى دعوته، وسألك عن حالك، فاشك الفقر والخلة وقلة حظك مني وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك، واطلب كل ما تقع عينك عليه، فإنه لا يمنعك حتى تستوفي الخمسة آلاف دينار، فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى بيننا فاصدقه، وإياك أن تكذبه وعرفه أن ذلك حيلة مني عليه حتى وصل إليك هذا، وليكن
إخبارك له بعد امتناع شديد وأحلاف منه لك بالطلاق والعتاق أن يصدقه، وبعد أن يخرج من داره كل ما يعطيك.
فلما كان من غد حضر القاسم فحين رآه بدأ يسارني وجرت القصة على ما واضعني عليه، فخرجت فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني فقال: يا أبا محمد، ما هذا الجفاء لا تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة؟! فاعتذرت إليه باتصال الخدمة علي، فقال: ما تقنعني إلا أن تزورني اليوم وتتفرج، فقلت: أنا خادم الوزير، فأخذني إلى طياره وجعل يسألني عن حالي وأخباري فأشكو إليه الخلة والإضاقة والدين والبنات وجفاء الخليفة وإمساكه يده، فيتوجع ويقول: يا هذا ما لي لك ولن يضيق عليك ما يتسع علي، ولو عرفتني لعاونتك على إزالة هذا كله عنك فشكرته. وبلغنا داره فصعد ولم ينظر في شيء وقال: هذا يوم أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبي محمد فلا يقطعني أحد عنه. وأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يجاذبني وينشطني، وقدمت الفاكهة فجعل يلقمني بيده وجاء الطعام، فكان هذا سبيله، فلما جلس للشرب وقع لي بثلاثة آلاف دينار فأخذتها للوقت وأحضرني ثياباً وطيباً ومركوباً فأخذت ذلك، وكان بين يدي صينية فضة فيها مغسل فضة وخرداذي بلور وكوز وقدح بلور فأمر بحمله إلى طياري، وأقبلت كلما رأيت شيئاً حسناً له قيمة وافرة طلبته. وحمل إلي فرشاً نفيساً وقال: هذا للبنات. فلما تقوض المجلس خلا بي وقال: يا أبا محمد، أنت عالم بحقوق أبي عليك، ومودتي لك، فقلت: أنا خادم الوزير، فقال: أريد أن أسألك عن شيء، وتحلف لي أنك تصدقني عنه، فقلت: السمع والطاعة، فأحلفني بالله وبالطلاق والعتاق على الصدق، ثم قال: بأي شيء سارك الخليفة اليوم، في أمري؟ فصدقته عن كل ما جرى حرفاً بحرف، فقال: فرجت عني، ولكون هذا هكذا مع سلامة نيته لي انهل علي فشكرته وودعته وانصرفت. فلما كان من الغد باكرت المعتضد فقال: هات حديثك فسقته عليه فقال: احفظ الدنانير ولا يقع لك أني أعمل مثلها معك بسرعة.
قال محمد بن يحيى الصولي: كان مع المعتضد أعرابي فصيح يقال له: شعلة بن شهاب اليشكري، وكان يأنس به،
فأرسله إلى محمد بن عيسى بن شيخ وكان عارفاً به ليرغبه في الطاعة ويحذره العصيان ويرفق به. قال شعلة: فصرت إليه فخاطبته أقرب خطاب، فلم يجيبني فوجهت إلى عمته أم الشريف، فصرت إليها فقالت: يا أبا شهاب، كيف خلفت أمير المؤمنين؟ فقلت: خلفته أماراً بالمعروف، فعالاً للخير، متعززاً على الباطل، متذللاً للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. فقالت لي: أهل ذلك هو ومستحقه وكيف لا يكون كذلك وهو ظل الله الممدود على بلاده، وخليفته المؤتمن على عباده، أعز به دينه، وأحيا به سنته، وثبت به شرائعه، ثم قالت: يا أبا شهاب، فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت: رأيت حدثاً معجباً قد استحوذ عليه السفهاء، واستبد بآرائهم، وأنصت لأقوالهم، يزخرفون له الكذب، ويوردونه الندم، فقالت: هل لك أن ترجع إليه بكتابي قبل لقاء أمير المؤمنين، فلعلك تحل عقد السفهاء؟ قلت: أجل، فكتبت إليه كتاباً حسناً لطيفاً أجزلت فيه الموعظة، وأخلصت فيه النصيحة، بهذه الأبيات: من البسيط
اقبل نصيحة أمٍّ قلبها وجلٌ
…
عليك خوفاً وإشفاقاً وقل سددا
واستعمل الفكر في قولٍ فإنك إن
…
فكرت ألفيت في قولي لك الرشدا
ولا تثق برجالٍ في قلوبهم
…
ضغائن تبعث الشنآن والحسدا
مثل النعاج خمولاً في بيوتهم
…
حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسدا
وداو داءك والأدواء ممكنةٌ
…
وإذ طبيبك قد ألقى عليك يدا
أعط الخليفة ما يرضيه منك ولا
…
تمنعه مالاً ولا أهلاً ولا ولدا
واردد أخا يشكرٍ رداً يكون له
…
ردءاً من السوء لا تشمت به أحدا
قال: فأخذت الكتاب وصرت به إلى محمد بن أحمد بن عيسى. فلما نظر فيه رمى به إلي ثم قال: يا أخا يشكر، ما بآراء النساء تتم الأمور ولا بعقولهن يساس الملك، ارجع إلى صاحبك فرجعت إلى أمير المؤمنين فأخبرته الخبر على حقه وصدقه فقال: وأين كتاب أم الشريف فدفعته إليه فقرأه وأعجبه شعرها، ثم قال: والله إني لأرجو أن أشفعها في كثير من القوم. فلما كان من فتح آمد ما كان أرسل إلي المعتضد فقال: يا شعلة هل عندك علم من أم الشريف؟ قلت: لا، والله، قال: فامض مع هذا الخادم فإنك ستجدها في جملة نسائها. قال: فمضيت، فلما بصرت بي من بعيد سفرت عن وجهها
وأنشدت: من مجزوء الكامل
ريب الزمان وصرفه
…
وعناده كشف القناعا
وأذ بعد العز منا الصعب
…
والبطل الشجاعا
ولكم نصحت فما أطع
…
ت وكم حرصت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدار إلا
…
أن نقسم أو نباعا
يا ليت شعري هل نرى
…
يوماً لفرقتنا اجتماعا
قال: ثم بكت حتى علا صوتها، وضربت بيدها على الأخرى وقالت: يا أبا شهاب، إنا لله وإنا إليه راجعون، كأني والله كنت أرى ما أرى فقلت لها: إن أمير المؤمنين وجه بي إليك، وما ذاك إلا لجميل رأيه فيك، فقالت لي: فهل لك أن توصل لي رقعة إليه؟ قلت: هل لي فدفعت إلي رقعة فيها: من الكامل
قل للخليفة والإمام المرتضى
…
وابن الخلائف من قريش الأبطح
علم الهدى ومناره وسراجه
…
مفتاح كل عظيمةٍ لم تفتح
بك أصلح الله البلاد وأهلها
…
بعد الفساد وطالما لم تصلح
قد زحزحت بك هضبة العرب التي
…
لولاك بعد الله لم تتزحزح
أعطاك ربك ما تحب فأعطه
…
ما قد يحب وجد بعفوٍ واصفح
يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها
…
هب ظالمي ومفسدي لمصلح
فصرت بالرقعة إلى المعتضد، فلما قرأها ضحك وقال: لقد نصحت لو قبل منها وأمر أن يحمل إليها خمسون ألف درهم وخمسون تختاً من الثياب، وأمر أن يحمل مثل ذلك إلى محمد بن أحمد بن عيسى.
قال وصيف خادم المعتضد: سمعت المعتضد بالله ينشد عند موته وقد أخذ بكظمه يقول: من الطويل
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى
…
وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمنن الدهر إني أمنته
…
فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقا