الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
أحمد بن يحيى أبو عبد الله
ابن الجلاء أحد مشايخ الصوفية الكبار صحب أباه وذا النون المصري وأبا تراب النخشبي وغيرهم. وكان عالماً ورعاً. وكان أصله بغدادياً، وأقام بالرملة وبدمشق، وكان من جلة المشايخ وأئمة القوم.
سئل أبو عبد الله: ما معنى الصوفي؟ فقال: ليس يعرف من شرط العلم، ومعناه مجرد من الأسباب كأن الله معه بكل مكان فلا يمنعه الحق من علم كل مكان فسمي صوفي.
كان ابن الجلاء يقول:
يحتاج العبد أن يكون له شيء يعرف به كل شيء.
وكان يقول: من استوى عنده المدح والذم فهو زاهد، ومن حافظ على الفرائض في أول مواقيتها فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلها من الله فهو موحد.
قال ابن الجلاء: قلت لأبي وأمي: أحب أن تهباني لله عز وجل. فقالا: قد وهبناك لله، فغبت عنهم مدة، فلما رجعت كانت ليلة مطيرة فدققت الباب فقال أبي: من ذا؟ قلت: ولدك أحمد، قال: قد كان لنا ولد فوهبناه لله عز وجل ونحن من العرب لا نسترجع شيئاً وهبناه ولم يفتح الباب.
قال أبو الخير: كنت جالساً ذات يوم في موضعي هذا على باب المسجد فرفعت رأسي، فرأيت رجلاً في الهواء وبيده ركوة، فأومأ إلي فقالت له: انزل فأبى، ومر في الهواء فسئل الشيخ أبو الخير: عرفت الرجل؟ فقال: نعم، قيل له: من كان، فقال: أبو عبد الله بن الجلاء.
سئل ابو بكر محمد بن داود عن أبي عبد الله بن الجلاء: أكان يجلو المرايا والسيوف؟ قال: لا، ولكن كان إذا تكلم على قلوب المؤمنين جلاها.
قال أبو عبد الله بن الجلاء: ما جلا أبي شيئاً قط، ولكنه كان يعظ الناس فيقع في قلوبهم فسمي جلاء القلوب.
كان يقال: في الدنيا ثلاثة من أئمة الصوفية لا رابع لهم: أبو عثمان بنيسابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلاء بالشام.
قال الفرغاني: ما رأيت في عمري إلا رجلاً ونصف رجل، فقيل له: من الرجل؟ قال أبو أمية الماحوزي، والنصف رجل أبو عبد الله بن الجلاء، فقيل له: لم جعلت ذاك رجلاً وهذا نصفاً؟ قال: أبو أمية يأكل شيئاً ليس للمخلوقين فيه صنع، وأبو عبد الله بن الجلاء يأكل من رحل أبي عبد الله العطار.
قال أبو عمر محمد بن سليمان بن أبي داود اللباد: حضرت مجلس أبي عبد الله بن الجلاء فحدثنا أن هارون الرشيد دخل إلى بيت الله الحرام، ومعه رجل من بني شيبة، فأقام معه طويلاً، فقال له هارون: يا شيبي، قد دخلت معي هذا البيت فهل لك من حاجة؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيره. قال: فأعجب هارون هذا الكلام. فلما خرج هارون من البيت أمر له بسبع بدر فقال الحسن بن حبيب لابن الجلاء يا حبيبي، أمر له بسبع بدر؟! فأعادها عليه مراراً، فقال له ابن الجلاء: كم ترددها! إذا رأيت أحداً يعظم أمر الدنيا مقته قلبي.
سئل أبو عبد الله بن الجلاء عن المحبة فقال: ما لي وللمحبة، إني أريد أن أتعلم التوبة.
قال أبو عمر الدمشقي: خرجنا مع أبي عبد الله بن الجلاء إلى مكة فمكثنا أياماً لم نجد ما نأكل. قال: فوقعنا
إلى حي في البرية، فإذا بأعرابية وعندها شاة فقلنا لها: بكم هذه الشاة؟ فقالت: بخمسين درهماً. فقلنا لها: أحسني فقالت بخمسة دراهم فقلنا لها: تهزئين؟ فقالت: لا، والله، ولكن سألتموني الإحسان فلو أمكنني لم آخذ شيئاً. فقال أبو عبد الله بن الجلاء: إيش الذي معكم؟ قلنا: ست مئة درهم فقال: أعطوها، واتركوا الشاة عليها فما سافرنا سفرة أطيب منها.
قال أبو عبد الله بن الجلاء: كنت بمكة مجاوراً مع ذي النون فجعنا أياماً كثيرة لم يفتح لنا بشيء. فلما كان ذات يوم قام ذو النون قبل صلاة الظهر ليصعد إلى الجبل ليتوضأ للصلاة وأنا خلفه، فرأيت قشور الموز مطروحاً في الوادي وهو طري، فقلت في نفسي آخذ منه كفاً أو كفين أتركه في كمي ولا يراني الشيخ حتى إذا صرنا في الجبل ومضى الشيخ يتمسح أكلته. قال: فأخذته وتركته في كمي وعيني إلى الشيخ لئلا يراني. فلما صرنا في الجبل، وانقطعنا عن الناس التفت إلي وقال: اطرح ما في كمك يا شره، فطرحته وأنا خجل، وتمسحنا للصلاة، ورجعنا إلى المسجد وصلينا الظهر والعصر والمغرب وعشاء الآخرة. فلما كان بعد ساعة إذا إنسان قد جاء ومعه طعام عليه مكبة، فوقف ينظر إلى ذي النون، فقال له ذو النون: مر فدعه قدام ذاك، وأومأ إلي بيده، فتركه بين يدي، فانتظرت الشيخ ليأكل فلم أره يقوم من مكانه، ثم نظر إلي وقال: كل، فقلت: آكل وحدي، فقال: نعم، أنت طلبت، نحن ما طلبنا شيئاً، يأكل الطعام من طلبه، فأقبلت آكل وأنا خجل مما جرى. أو كما قال.
كان أبو عبد الله بن الجلاء جالساً في المسجد وحوله جماعة، فرأى بعض من حضر على لحيته قشرة تين فنحاها منه فأراها له، فصاح وقال: تأخذ من لحيتي وتطرح في المسجد! ثم أخذها في يده، وقام إلى باب المسجد فرماها وعاد فجلس.
قال ابن الجلاء: الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض عنها.
سئل أبو عبد الله بن الجلاء - وقيل له: هؤلاء الذين يدخلون البادية بلا زاد ولا عدة يزعمون أنهم متوكلة فيموتون! قال: هذا فعل رجال الحق فإن ماتوا فالدية على القاتل.
سئل ابن الجلاء عن الفقر، فسكت حتى خلا، ثم ذهب ورجع عن قريب وقال: كان عندي أربعة دوانيق فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر فذهبت فأخرجتها ثم قعد وتكلم في الفقر.
وكان ابن الجلاء يقول: لولا شرف التواضع لكان حكم الفقير أن يتبختر.
وكان يقول: آلة الفقير صيانة فقره، وحفظ سره، وأداء فرضه.
وقال ابن الجلاء: لا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه من المودة والصداقة، فإن الله تعالى فرض لكل مؤمن حقوقاً لا يضيعها إلا من لم يراع حقوق الله عليه.
وقال: الدنيا أوسع رقعة وأكثر رحمة من أن يجفوك واحد، ولا يرغب فيك آخر، وأنشد: من البسيط
تلقى بكل بلادٍ إن حللت بها
…
أهلاً بأهلٍ وإخواناً بإخوان
كان أبو عبد الله الجلاء يقول: لو أن رجلاً عصى الله بين يدي معصية أنظر إليه، ثم غاب فلا يجوز فيما بيني وبين الله عز وجل أن أعتقد فيه ذاك الذي رأيته بعيني، لأنه يمكن أنه قد تاب ورجع إلى الله عز وجل حين غاب عني.
لما مات ابن الجلاء نظروا إليه وهو يضحك، فقال الطبيب: إنه حي، ثم نظر إلى مجسه فقال: إنه ميت، ثم كشف عن وجهه فقال: لا أدري هو ميت أم حي. وكان في داخل جلده عرق على شكل: الله.
وقيل: هذا كان لوالده لا له.
توفي أبو عبد الله بن الجلاء يوم السبت ثاني عشر رجب سنة ست وثلاث مئة.