الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ::
مناقشة تتمة البحث السابع (1)::
ــ
أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال سألت عبيدة عن قوله {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
…
قال فقال بثوبه فغطى رأسه ووجهه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.
وفي رواية أخرى لابن جرير: فتقنع به فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب.
(1)
وهذا الأثر مما اعتمد عليه جل أهل التفسير في تفسير آية إدناء الجلابيب، ولكن الشيخ الألباني حكم عليه بالضعف ولم يكن محقا في ذلك لما يأتي:
أولا: قال إنه مقطوع موقوف، والموقوف هو ما أسند إلى صحابي، والمقطوع هو ما أسند إلى تابعي، فكيف يجتمعان في الحكم على أثر واحد! وقد احتج الشيخ الألباني بأثر قتادة المقطوع "أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يُقَنِّعن على الحواجب" قائلا: أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح إليه، ورمى هنا أثر عبيدة بالضعف وقد أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح إليه!!
بل إن إسناده من أصح الأسانيد، رجاله كلهم جبال في الثقة والضبط؛ ولا أظن أن هذا مما خفي على الشيخ فهو عند ابن جرير في الموضع الذي أخذ منه
(1)
ابن جرير الطبري في تفسيره 22/ 46، صحح إسناده أ. د حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور 4/ 144.
الشيخ الألباني أثر قتادة وابن عباس ولكنه غفر الله له عزا هذا الأثر إلى السيوطي في الدر، ولم يعزه إلى ابن جرير الطبري!!
علاوة على أن قتادة من صغار التابعين لم يرَ إلا عددا من الصحابة فجُلّ رواياته عن التابعين.
(1)
أما عبيدة السلماني فهو من كبار التابعين وأعلامهم
(2)
، ومخضرم ثقة ثبت، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره، نزل المدينة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعاصر الصحابة ولم يزل بها حتى مات؛ وبذلك فهو إنما يفسر ما كان سائداً في المجتمع الذي كان يمثله أجلة الصحابة رضي الله عنهم وأكابر الأمة الذين نزل بينهم القرآن وعليهم مدار هذا الدين.
قال عنه ابن عبد البر: هو من كبار أصحاب ابن مسعود الفقهاء.
(3)
وقال الذهبي: عبيدة السلماني الكوفي الفقيه العلم، كاد أن يكون صحابياً، أسلم زمن الفتح باليمن وأخذ العلم عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وبرع في الفقه، وكان ثبتا في الحديث، وقال العجلي؛ عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن مسعود الذين يقرؤون ويفتون الناس، وقال ابن سيرين: ما رأيت رجلاً أشد توقياً من عبيدة
(4)
.
(1)
وانظر تقريب التهذيب 1/ 75.
(2)
قال النووي في التقريب (ص/ 34): اتفق علماء الطوائف على أن قول التابعي الكبير: قال رسول الله كذا أو فعله يسمى مرسلاً. اهـ وقول عبيدة تفسير للآية بما كان عليه الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
الاستيعاب 3/ 1023.
(4)
انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 40، تهذيب الكمال 19/ 267، تهذيب التهذيب (7/ 78).
وقد قال الإمام الذهبي في الموقظة في علم مصطلح الحديث (ص: 39): فإن المرسل إذا صح إلى تابعي كبير، فهو حجة عند خلق من الفقهاء.
قال أبو العباس أحمد بن فرح الإشبيلي (ت 624 هـ) في الغرامية في مصطلح الحديث (ص: 106): وليعلم أن المقطوع يقع عليه الوصفان، الصحة والضعف تبعا لحال إسناده ومتنه، ولا يلزم من صحته وجوب العمل به، إذا كان مجردا عن قرينة تدل على أن له حكم الرفع.
ولما كان أثر عبيدة هذا تفسيرا للآية بما كان سائدا ومعمولا به في مجتمع أكابر الصحابة الذين نزل عليهم القرآن الكريم؛ كانت تلك قرينة توجب العمل به وتدل على أن له حكم الرفع.
هذا علاوة على ما ذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (7/ 78) قال: قال علي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس: أصح الأسانيد محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي وقال العجلي: كل شيء روى محمد عن عبيدة سوى رأيه فهو عن علي بن أبي طالب وكل شيء روي عن إبراهيم عن عبيدة سوى رأيه فإنه عن عبد الله بن مسعود.
(1)
اهـ
فهذه شهادة باتصال سند هذه الرواية حيث إنها تفسير منه للآية بما كان سائدا في مجتمع الصحابة وليست مما يقال بالرأي، وعليه فإن إسنادها يعتبر أصح الأسانيد كما قال ابن المديني وعمرو الفلاس، كما ثبت أن تفسير عبيدة
(1)
وانظر معرفة الثقات للعجلي 2/ 124.
للآية أخذه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإن لم يكن عن علي فهو عن عبد الله بن مسعود وهو أعلم وأفقه هذه الأمة بالقرآن.
ثانيا: قال الشيخ الألباني (أنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة وأن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها) فيقال؛ إن الاضطراب الذي يسقط الاحتجاج بالأثر: هو ما روي على أوجه متعارضة متدافعة بحيث لا يمكن التوفيق بينها، وتكون متساوية في القوة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الأخرى.
(1)
والروايات الواردة لأثر عبيدة ليس فيها تعارض ولا تدافع! وتفسيره للآية كان بفعل منه وليس بقول؛ ولذلك اختلف تعبير الرواة لهذا الفعل، فلا وجه للطعن فيه بالاضطراب!! فإن كشف أي العينين لا يضر، فالأمر راجع للمرأة تكشف أيهما تشاء دون توسع في إظهار ما عداهما لأن الرخصة في إبداء العين إنما شرع لرؤية الطريق فقط.
كما قال الألوسي في روح المعاني (22/ 88): والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل ولذا عدي بعلى، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل.
(1)
انظر: تيسير مصطلح الحديث /141.
ثالثا: قال الشيخ الألباني أنه مخالف لتفسير ابن عباس! وهذا قول غير صحيح؛ فإن أثر عبيدة موافق لما صح عن ابن عباس في تفسير هذه الآية (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة) وقول سعيد بن جبير (يدنين عليهن من جلابيبهن؛ يسدلن عليهن من جلابيبهن وهو القناع فوق الخمار) بل وموافق لأثر قتادة الذي احتج به الشيخ الألباني (أن الله أخذ عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب) فأين المخالفة التي ذكر الشيخ الألباني غفر الله له؟!
قال حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 464): أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة) فقد صح مثله عن عبيدة السلماني. اهـ
إذن فلا وجه للطعن في هذه الرواية وقد احتج بها أهل العلم واعتمد عليها أهل التفسير وعمل بها الأئمة.
ــ:: تتمة البحث السابع للألباني (2):: ــ
قال الشيخ الألباني: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن مكتوم ـ وذلك بعد أن أُمرنا بالحجاب ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" احتجبا منه" فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟! " أخرجه أصحاب السنن من طريق الزهري: حدثني نبهان مولى أم سلمة عنها. وهو مخرج في "الإرواء" و "الضعيفة" وخلاصة التحقيق الوارد فيهما:
1 -
أن الحديث تفرّد به نبهان وعنه الزهري، وأن نبهان مجهول العين.
2 -
قال الإمام أبو محمد بن قدامة المقدسي في "المغني" وأبو الفرج بن قدامة المقدسي في "الشرح الكبير" .. وكلهم من كبار علماء الحنابلة قالوا: (ويباح لامرأة نظرٌ من رجل إلى غير عورة) لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك" وقالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد" ولأنهن لو مُنِعنَ النظر لوجب على الرجال الحجاب كما وجب على النساء لئلا ينظرن إليهم. فأما حديث نبهان عن أم سلمة؛ قال أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين: هذا الحديث، والآخر:"إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه"، كأنه أشار إلى ضعف حديثه.
ــ:: مناقشة تتمة البحث السابع للألباني (2):: ــ
أولا: ثبوت هذا الحديث أو عدمه لا يعد حجة على جواز الكشف أو عدمه! لأنه مما يستشهد به في حكم نظر المرأة للرجل، ولكنا سنجيب عليه إتماما للبحث والفائدة:
ثانيا: ضعَف الشيخ الألباني هذا الحديث وأعلَه بتفرد نبهان وجهالته؛ مع أن التفرد ليس بعلة قادحة تمنع من الاحتجاج به إذا كان المتفرد ممن يحتمل تفرده، فإن في الصحيحين أحاديث عن الوحدان من الصحابة. أما جهالة نبهان فغير متفق عليها فهناك من عدله ووثقه، فليس من الإنصاف أن يرد حديثه، وقد استشهد الشيخ الألباني بآثار في أسانيدها من هو أشد جهالة من نبهان!
كما أن الشيخ الألباني ذكر ما قيل في نبهان من الجرح دون ما ذكر فيه من التعديل فإن هناك من قبل حديثه ووثقه غير ابن حبان؛
- كالترمذي حيث قال بعد أن ساق حديثه؛ حديث حسن صحيح.
- والذهبي حيث قال في الكاشف: ثقة.
(1)
- وابن الملقن حيث قال بعد أن ساق حديثه: هذا الحديث صحيح.
(2)
(1)
الكاشف 2/ 316.
(2)
البدر المنير (7/ 512).
- والنووي حيث قال في شرحه على صحيح مسلم (10/ 96): وهذا الحديث حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي هو حديث حسن، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة.
- والحافظ ابن حجر حيث قال فتح الباري (9/ 337): حديث أم سلمة الحديث المشهور أفعمياوان أنتما
…
وإسناده قوي وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته.
- والشوكاني حيث قال في نيل الأوطار (6/ 247): حديث أم سلمة أخرجه أيضا النسائي وابن حبان وفي إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق، وفي الباب عن عائشة عند مالك في الموطأ أنها احتجبت من أعمى فقيل لها إنه لا ينظر إليك قالت لكني أنظر إليه. اهـ وهذا الأثر عن عائشة يعد شاهد لحديث نبهان يتقوى به، وقد ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير أيضا كما سيأتي، ولعله مما خفي على الشيخ الألباني!
ولذلك اعتمد أهل العلم على حديث نبهان في القول بمنع نظر النساء للرجال الأجانب:
قال الشوكاني في نيل الأوطار (6/ 248): وقد استدل بحديث أم سلمة هذا من قال إنه يحرم على المرأة نظر الرجل كما يحرم على الرجل نظر المرأة وهو أحد قول الشافعي وأحمد قال النووي وهو الأصح،
وقال ابن عبد البر المالكي في التمهيد (19/ 154) والاستذكار (6/ 169): ففي هذا الحديث دليل على أنه واجب على المرأة أن تحتجب عن الأعمى ويشهد له ظاهر قول الله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} كما قال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ويشهد لذلك من طريق الغيرة أن نظرها إليه كنظره إليها.
وقال الجاوي الحنفي في نهاية الزين (1/ 47): الرجل له ثلاث عورات
…
ثالثتها جميع بدنه وشعره حتى قلامة ظفره وهي عورته عند النساء الأجانب فيحرم على المرأة الأجنبية النظر إلى شيء من ذلك
…
فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط فإن لم تكن فتنة فلا إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقيب أو منعوا من الخروج إلا لضرورة.
ثالثا: أما ما استشهد به عن فقهاء الحنابلة؛ فإن القول بأنه لا يباح نظر المرأة للرجل؛ هو أحد قولي الإمام أحمد:
كما جاء في عون المعبود (11/ 114): وقد استدل بحديث أم سلمة هذا من قال إنه يحرم على المرأة نظر الرجل كما يحرم على الرجل نظر المرأة وهو أحد قول الشافعي وأحمد، قال النووي وهو الأصح.
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني (7/ 81): فأما نظر المرأة إلى الرجل ففيه روايتان إحداهما لها النظر إلى ما ليس بعورة؛ والأخرى لا يجوز لها النظر من الرجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها، اختاره أبو بكر وهذا أحد قولي الشافعي لما روى الزهري عن نبهان عن أم سلمة، ولقوله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن).
وفي المبدع لابن مفلح الحنبلي (7/ 11): ويباح للمرأة النظر من الرجل إلى غير العورة نصره في الشرح وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة اعتدي في بيت أم مكتوم
…
ولأنه لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجاب لئلا ينظرن إليهم كما تؤمر النساء به، وعنه لا يباح لها النظر إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها قدمه السامري وابن حمدان واختاره أبو بكر لحديث نبهان.
رابعا: أما ما ذكره الشيخ الألباني من رد بعضهم لحديث نبهان لمخالفته لحديث فاطمة بنت قيس؛ حيث أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد عند ابن أم مكتوم الأعمى فالجواب عنه من عدة وجوه:
1) ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لفاطمة أن تنظر للرجل الأعمى كما نص على ذلك بعض أهل العلم كالنووي في شرح صحيح مسلم (10/ 97): وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة.
2) أن من احتج بمخالفة حديث نبهان لحديث فاطمة بنت قيس؛ قد غفل عن موافقة حديث نبهان لكتاب الله في موضعين:
الأول: قوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} فإذا كانت النساء مأمورات في هذه الآية بأن يغضضن من أبصارهن عمن يحل لهم الدخول عليهن في البيوت دون حجاب عنهم - وسيأتي بيان ذلك في مناقشة البحث التاسع - فكيف يقال بإطلاق جواز نظرهن لمن لا يحل له رؤيتهن إلا وهن محتجبات!
الثاني: قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الأحزاب: 53 ففرض وجود الحجاب (الساتر) بين الرجل والمرأة عند المحادثة من قرب في البيوت ونحوها؛ يدل على عدم إطلاق جواز نظر المرأة للرجل، بقرينة في الآية وهي قوله {وَقُلُوبِهِنَّ} فالحجاب المضروب بينهما؛ هو لمنع كلا الجنسين من النظر للآخر، فزوال هذا الساتر ينفي كمال الطهارة لقلب العين الناظرة - كمن تنظر للرجال وتخالطهم بنقابها - ولذلك ينبغي أن تحذر النساء من التهاون بهتك الستار والاختلاط المباشر بالرجال في البيوت وأماكن العمل لأنه يعد تجاوزا لما حدّه الشرع ومخالفة صريحة لكتاب الله.
قال إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (22/ 39): {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يقول من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا
عليهن بيوتهن {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} يقول تعالى ذكره سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء وفي صدور النساء من أمر الرجال وأحرى من ألا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل.
خامسا: أما من احتج بمخالفة حديث نبهان لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون)
(1)
فالجواب عليه بعد أن يقال أن هذا الحديث يعد من أدلة وجوب تغطية الوجه، أن الاحتجاج به على إطلاق جواز نظر المرأة للرجال الأجانب لا يصح لما يأتي:
1) أن من أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة أن تنظر إليهم كانوا من العبيد الذين لا يحتجب منهم، يشهد لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم "يا بني أرفدة" قال ابن حجر في الفتح (2/ 444):(قيل هو لقب للحبشة. . . وقيل المعنى يا بني الإماء) وبوّب البخاري لهذا الحديث بقوله (باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة) فقيّد جواز النظر بالحبشة ومن نحوهم من العبيد ولم يطلق بناء عليه جواز نظرها للرجال الأحرار الأجانب.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 157): وأما الفرق بين ميمونة وأم سلمة، وبين عائشة إذ اباح لها النظر إلى الحبشة؛ فإن عائشة كانت ذلك الوقت والله أعلم غير بالغة
…
مع ما في النظر إلى السودان مما تقتحمه العيون.
(1)
صحيح البخاري 5/ 2006 (4938) صحيح مسلم 2/ 609 (892).
كما قال العيني في عمدة القاري (20/ 217): وأما المعارضة فلا نقول بها؛ بل نقول إن عائشة إذ ذاك كانت صغيرة فلا حرج عليها في النظر إليهم
…
أو نقول إن الحبشة كانوا صبيانا ليسوا بالغين.
2) أن هناك فرق بين النظر لرجل من قرب وتأمله، وبين النظر من بُعد لسودان يلعبون بحرابهم كما في الحديث (وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب)
(1)
ولذلك بوّب النسائي للحديث في سننه الكبرى (1/ 553) بقوله (نظر النساء إلى اللعب) ولم يقل إلى الرجال!
- وقال القاضي عياض: وفيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال، مثل هذا، لأنه إنما يكره لهن من النظر إلى الرجال ما يكره للرجال فيهن من تحديق النظر لتأمل المحاسن، والالتذاذ بذلك، والتمتع به
(2)
.
- قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (6/ 184): وفيه جواز نظر النساء إلى لعب الرجال من غير نظر إلى نفس البدن وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق وان كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففي جوازه وجهان لأصحابنا أصحهما تحريمه لقوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ولقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة وأم حبيبة احتجبا عنه أي عن ابن أم مكتوم.
(1)
صحيح البخاري 1/ 323 (907).
(2)
إكمال المعلم بفوائد مسلم 3/ 309.
- قال الشوكاني في السيل الجرار (4/ 131): وقد استدل لجواز نظر النساء إلى الرجال بما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إلى لعب الحبشة في المسجد ويجاب عنه بأنه لا تلازم بين النظر إلى وجوههم والنظر إلى لعبهم فإن اللعب هو الحركات الصادرة منهم من تقليب حرابهم بأيديهم وحركة أبدانهم.
فالذي يتحقق من مجموع الأدلة أن نظر المرأة للرجل الأجنبي على قسمين:
1) النظر العابر أو من بُعد، كرؤية المرأة للرجال في الطريق، ومنه حديث عائشة ونظرها إلى الحبش وهم يلعبون، وهذا هو الذي يظهر فيه الفرق بين الرجال والنساء في جواز النظر.
2) إدامة النظر للرجل من قُرب وتأمله فهذا الذي يمنع منه لأنه مظنة الفتنة، وهو الذي جاء النهي عنه في صريح القرآن {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ومنع منه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث نبهان، وهو المراد من قول من منع المرأة من النظر للرجل من الفقهاء.