الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى (يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) الأعراف 31 وقوله تعالى (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الكهف 46، وقوله تعالى (فخرج على قومه في زينته) القصص 79، وقوله تعالى عن قوم موسى:(ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) طه 87، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته، كما ترى، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم، وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر. اهـ
- ثالثا: ومما يشهد أن
المراد بالنهي في قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}
هو نهي المرأة عن وضع الثياب الظاهرة (من رداء أو ملحفة) في البيوت إلا لمن سماهم الله في الآية الأمور الآتية:
1) ما أسلفناه من أن الرخصة بوضع الجلباب والرداء للنساء القواعد في آخر سورة النور هي استثناء م ن هذه الآية؛ فقد صح عن ابن مسعود وابن عباس أن المراد بقوله {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} الجلباب والرداء.
(1)
(1)
تفسير الصنعاني 3/ 63، تفسير الطبري 18/ 166، سنن البيهقي الكبرى 7/ 93.
- وفي رواية قال ابن عباس: هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عنها الجلباب.
(1)
- وقال مجاهد قال: تضع الجلباب في الدار والحجرة.
(2)
- وقال عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب.
(3)
- وجاء في التسهيل لعلوم التنزيل (3/ 72): قال ابن مسعود إنما أبيح لهن وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، وقال بعضهم إنما ذلك في منزلها الذي يراها فيه ذوو محارمها.
2) الآثار التي تدل على لبسهن لهذه الثياب - الأردية - في البيوت:
- ما ورد عن إبراهيم النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر. وما روي عن ابن أبي مليكة قال: رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر.
(4)
- وما ورد عن شميسة أنها قالت (دخلت على عائشة وعليها ثياب من هذه السيد الصفاق ودرع وخمار)
(5)
(1)
تفسير ابن جرير الطبري 18/ 165، البيهقي في السنن الكبرى 7/ 93 (13309) وصححه الشيخ عبد العزيز الطريفي في الحجاب في الشرع والفطرة ص/ 126
(2)
تفسير ابن أبي حاتم 8/.2641
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 12/ 310
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (8/ 371).
(5)
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 70 وصحح إسناده الألباني في جلباب المرأة /129.
* وهذا مما أشكل على الشيخ الألباني فظن أن هذه الأردية التي تتخذها النساء في البيوت هي الجلابيب التي أُمرت بإدناءها عند الخروج ولذلك قال في كتابه جلباب المرأة (ص 121): واعلم أنه ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف به ملونا واستشهد بما أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف)(8/ 371 - 372):
1 -
عن إبراهيم وهو النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر.
2 -
قال ابن أبي مليكة: رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر.
3 -
عن القاسم أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة.
4 -
عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء كانت تلبس المعصفر وهي محرمة.
5 -
عن سعيد بن جبير: أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تطوف بالبيت وعليها ثياب معصفرة.
والجواب عليه بالآتي:
أولا: أن قوله هذا مناقض لقوله في الصفحة التي تسبقها (ص 120): والمقصود من الأمر بالجلباب إنما هو ستر زينة المرأة فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة وهذا كما ترى بين لا يخفى ولذلك قال الإمام الذهبي في (كتاب
الكبائر) (ص 131): (ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة).
ثانيا: أن ذلك مخالف لما جاء مصرحا به في صحيح السنة من لبس النساء للجلابيب السود امتثالا لآية الأمر بإدناء الجلابيب كما صح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت" لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان""من أكسية سود يلبسنها"
(1)
قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة (ص 83): شبهت الأكسية في سوادها بالغربان.
فالثابت أن الأكسية التي سارعت إلى لبسها النساء عند الخروج امتثالا لآية إدناء الجلابيب هي المرط السود:
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت (رحم الله نساء الأنصار لما نزلت {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما على رؤوسهن الغربان) وفي رواية (ما منهن امراة إلا قامت إلى مرطها المرحل
(1)
ابن أبي حاتم في تفسيره (17784) سنن أبي داود (4101) وصححه الألباني في جلباب المرأة /83.
فاعتجزت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فاصبحن يصلين وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان).
(1)
قال ابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 454): قولها: فأصبحن على رؤوسهن الغربان. تريد: أن المروط كانت من شعر أسود فصار على الرؤوس منها مثل الغربان، ومما يوضح هذا حديث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خرج ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود)
(2)
يشهد لذلك أيضا ما جاء في مسند أحمد (42/ 422)(25628): (عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعليه مرط من هذه المرحلات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه بعضه، وعلي بعضه" والمرط من أكسية سود)
(3)
قال العيني في عمدة القاري (4/ 89): وفي (مجمع الغرائب) المروط: أكسية من شعر أسود.
(4)
(1)
ابن أبي حاتم في تفسيره (14406) حسن إسناده علوي السقاف في تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن (ص: 323)، ابن مردويه كما في تخريج أحاديث الكشاف (2/ 432).
(2)
صحيح مسلم (4/ 1883).
(3)
إسناده صحيح على شرط مسلم. كما قال شعيب الأرنؤوط في تخريج مسند أحمد (41/ 212) وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (2/ 212): إسناده حسن صحيح.
(4)
وقال: وقال في المحكم (9/ 170) وقيل: هو الثوب الأخضر.
قال ابن حجر في فتح الباري (2/ 55): وقيل لا يسمى مرطا إلا إذا كان أخضر ولا يلبسه إلا النساء وهو مردود بقوله (مرط من شعر أسود). اهـ
لكن قد جاء في تهذيب اللغة للهروي (ت 370 هـ)(13/ 25): العرب تسمي الأسود أخضر. وفي جمهرة اللغة لابن دريد (ت 321 هـ)(1/ 586): والعرب تسمي الأسود أخضر
…
وقال الله عز وجل: {مدهامتان} أي سوداوان لشدة خضرتهما يعني الجنتين.
ومما يشهد لذلك أيضا ما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (أن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن)
(1)
وفي تاج العروس (22/ 155): اللفاع وهو الكساء الأسود. وفي معجم متن اللغة (5/ 194): اللفاع: الملحفة أو الكساء الغليظ تتلفع به المرأة، وزاد بعضهم الأسود.
ثالثا: أن الآثار التي استشهد بها الشيخ الألباني علاوة على ما في أسانيدها من العلل؛ فإن المراد بها الملاحف والأردية التي تتخذها النساء في البيوت كما أسلفنا؛ وليست الجلابيب التي تدنيها النساء عليهن عند الخروج، وبيان ذلك بالآتي:
1 -
عن إبراهيم وهو النخعي (أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر)
(2)
فقوله (كان يدخل .. فيراهن) دليل على أن رؤيته لهن كان بدخوله عليهن، كما أن دخوله عليهن ورؤيته لهن كان بسبب
(1)
صحيح البخاري (1/ 173) صحيح مسلم (1/ 445) واللفظ له.
(2)
ضعّفه علي بن المديني كما في جامع التحصيل (1/ 141) قال: إبراهيم النخعي لم يلق أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له فعائشة، قال هذا لم يروه غير سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم وهو ضعيف. اهـ
صغر سنه كما في جامع التحصيل (1/ 141): (قال يحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم؛ إبراهيم النخعي دخل على عائشة رضي الله عنها وهو صغير، زاد الرازيان؛ ولم يسمع منها شيئا)، وفي التاريخ الكبير (1/ 333) والثقات لابن حبان (4/ 9): عن أبي معشر أن النخعي حدثهم أنه دخل على عائشة فرأى عليها ثوبا أحمر، فقال له أيوب وكيف دخل عليها، قال كان يحج مع عمه وخاله فدخل عليها وهو غلام. اهـ
فسؤاله عن كيفية دخوله عليها يؤكد أنه لم يكن لأحد أن يدخل عليهن ويكلمهن إلا من وراء حجاب
(1)
؛ فكان دخول إبراهيم مع علقمة والأسود للسماع من عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب، وإبراهيم اخترق الحجاب لصغر سنه ونظر إليها.
2 -
عن ابن أبي مليكة قال: (رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر). أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 159) وفي إسناده علّه فإن ابن أبي مليكة لم يدرك أم سلمة كما قال القاري في مرقاة المفاتيح (5/ 84) وعلى فرض أنه أدركها؛ فسيكون دخوله عليها في صغره. ومع ذلك فليس فيه حجة،
(1)
قال ابن عبد البر في الاستذكار 6/ 170: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكلمن إلا من وراء حجاب. وقال النووي في المجموع (16/ 351): وقد ثبت أن كثيرا من راويات الحديث وحافظاته يسمعهن الأجانب عنهن من وراء حجاب، وقد كان أبو الشعثاء جابر بن زيد يسأل عائشة من وراء حجاب.
لأن رؤيته لدرعها - ثوبها- المعصفر يؤكد أن ذلك كان بدخوله عليها لأنها لو كانت خارجة لما استطاع رؤية درعها لأن الجلباب سيستره.
3 -
عن القاسم (أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة) وهذا ليس فيه حجة أيضا إذ ليس في الأثر ما يثبت خروج عائشة بهذه الثياب المعصفرة، والقاسم هو ابن أخيها محمد بن أبي بكر، فهو ممن يدخل عليها ويراها دون حجاب فلا حجة في رؤيته لثيابها.
4 -
عن فاطمة بنت المنذر (أن أسماء كانت تلبس المعصفر وهي محرمة). وهذا أيضا ليس فيه حجة، فإن الذي رأى هذه الثياب المعصفرة هي امرأة.
5 -
عن سعيد بن جبير: (أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تطوف بالبيت وعليها ثياب معصفرة). وإسناده لا يصح
(1)
، ولعل الشيخ الألباني وهل عن أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرجن بالنهار ينظر إليهن الرجال حتى وإن كن مستترات بالجلابيب، بل وحتى في الحج أو العمرة لم يكن يخالطن الرجال ومن ذلك ما استشهد به في كتابه الجلباب ص 109: (أن عمر بن الخطاب أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قال كان عثمان ينادي ألا لا يدنو إليهن أحد ولا ينظر إليهن أحد وهن في الهوادج على الإبل فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب وكان عثمان وعبد الرحمن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 160) والطبراني في المعجم الكبير (12/ 40) عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن سعيد بن جبير؛ وهو كالأول آفته سعيد بن أبي عروبة ضعفه ابن معين كما أنه مدلس وقد عنعن.
بذنب الشعب فلم يصعد إليهن أحد)
(1)
بل ولم يكنَّ يخاطن الرجال حتى في الطواف؛ فإما أن يطفن وهن راكبات في الهوادج من وراء الناس كما صح عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة "وفي رواية" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون"
(2)
وإما أن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن معتزلات عن الرجال كما صح عن عطاء قال (كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة
(3)
من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت عنك وأبت، وكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال).
(4)
وبذلك فلا يصح قول الشيخ الألباني (ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف به ملونا بلون غير السواد) إذ ليس لقوله هذا مستند شرعي يصح الاستناد عليه، بل هو مخالف لما جاء مصرحا به في صحيح السنة من لبس النساء للجلابيب السود امتثالا لآية إدناء الجلابيب، فهذا هو الأصل والمعمول به في هذه المسألة.
(1)
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 210 حسن الألباني إسناده في جلباب المرأة /109.
(2)
صحيح البخاري 2/ 585 (1540)، 2/ 587 (1546).
(3)
حجرة: أي ناحية من الناس معتزلة وقيل بمعنى محجورا بينها وبين الرجال بثوب ونحوه.
(4)
صحيح البخاري 2/ 585 (1539).
- رابعا: أن إبداء الزينة لمن سمى الله في الآية يكون بوضع هذه الثياب (الأردية) لا بوضع الخمار؛ يشهد لذلك الآتي:
1) الآثار الواردة في تفسير هذه الآية:
- أخرج الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} قال: والزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسواراها فأما خلخالها ومعضدتها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها.
(1)
قال البيهقي في سننه الكبرى (7/ 94): وهذا هو الأفضل ألا تبدي من زينتها الباطنة شيئا لغير زوجها إلا ما يظهر منها في مهنتها.
- وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن مجاهد قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فليست من نسائهن.
(2)
- عن سعيد بن جبير في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني عبد المرأة، لا يحل لها أن تضع جلبابها عند عبد زوجها.
(3)
وقال مجاهد: تضع المرأة الجلباب عند المملوك.
(4)
(1)
تفسير الطبري 18/ 120، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2576 (14410)، البيهقي في السنن الكبرى 7/ 94 (13315) وإسناده حسن كما أسلفنا.
(2)
من تفسير ابن كثير 3/ 285.
(3)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2577 (14419).
(4)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2577 (14420).
- عن الزهري في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} قال: يرى الشيء من دون الخمار فأما أن تسلخه فلا.
(1)
فخلاصة هذه الآثار أن المستثنين في الآية إنما يوضع عندهم الرداء دون الخمار؛ إذ لو كان المقصود وضع الخمار وإظهار الشعر لجاء مصرحا به ولو في بعض الروايات!! قال ابن كثير في تفسيره (3/ 284): {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية؛ كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير تبرج.
2) الآثار التي تدل على كون الخمار من عامة لباسهن في البيوت أمام من يحل له الدخول عليهن:
- كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها نذرت على نفسها ألا تكلم عبد الله بن الزبير أبداً، ثم استشفع ابن الزبير بمن يكلمها حتى كلمته وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها.
(2)
وذلك يقتضي ملازمة الخمار لها، كما يقال في الرجل كان يذكر الشيء فيبكي حتى تبل دموعه لحيته!!
(1)
تفسير عبد الرزاق الصنعاني 3/ 56.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 2255 (5725).
-كما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي في بيتي حتى دفن عمر بن الخطاب فيه، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جداراً فتفضلت بعد).
(1)
- وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمَّام فقال: إنه سيكون بعدي حمامات ولا خير في الحمامات للنساء، فقالت: يا رسول الله فإنها تدخله بإزار، فقال:"لا وإن دخلته بإزار ودرع وخمار وما من امرأة تنزع خمارها في غير بيت زوجها إلا كشفت الستر فيما بينها وبين ربها".
(2)
قال الشيخ الألباني الحديث صحيح بلفظ: "ثيابها"
(3)
مكان "خمارها" فضعّف الحديث بهذا اللفظ وقال أنه مخالف للروايات الأخرى التي جاءت بلفظ "ثيابها":
فيجاب عليه بالآتي:
(1)
الطبقات لابن سعد 3/ 364 واللفظ له، مسند أحمد بن حنبل 6/ 202 (25701) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 26: رجال أحمد رجال الصحيح. وصحح إسناده يحيى بن معين في الجزء الثاني من حديثه (الفوائد) 1/ 176. والشاهد منه أنه لو لم يكن دأبها لبس الخمار قبل أن يدفن عمر رضي الله عنه لقالت إنه عندما دفن لبست الخمار وتحفظت، ولو لم تكن تلبسه لما أشارت إلى كثرة وضعها له، وذلك يحمل على ما كان وقت النوم أو الامتشاط ونحوه من أوقات وضع الثياب في العورات الثلاث.
(2)
المعجم الأوسط للطبراني 3/ 321 (3286) وفي إسناده ابن لهيعة، قال الشيخ الألباني "حديثه في المتابعات والشواهد لاينزل عن رتبة الحسن". تشهد له الروايات التي صححها الشيخ الألباني بلفظ (ثيابها).
(3)
كما عند أحمد بن حنبل في مسنده 6/ 173 (25446) سنن ابن ماجه 2/ 1234 (3750) صححه الألباني في صحيح الجامع (2710). ورواية أخرى عند أحمد 6/ 362 (27086) وصححها الألباني في صحيح الترغيب حديث رقم (169).
أولا: قوله أنه مخالف للروايات الأخرى لا يصح؛ لأنه مقيّد لما أُطلق فيها وليس مخالفا لها، فإن الروايات الأخرى جاء فيها لفظ (ثيابها) مطلقا قد يراد به الثياب الظاهرة وهي الجلباب والخمار وقد يراد به الثياب الباطنة، فجاءت هذه الرواية مقيدة لها بأن المراد بها؛ الثياب الظاهرة من الجلباب والخمار، فما وجه النكارة في ذلك ونصوص الشرع شاهدة على صحة ذلك.
فإنه قد ورد في كثير من النصوص إطلاق لفظ الثياب والمراد هو الجلباب أو الخمار كما أسلفنا: ومن ذلك قوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} النور: 60 فقد صح عن ابن مسعود وابن عباس أن المراد بقوله (الثياب): الجلباب والرداء.
(1)
فسمى الله تعالى الجلابيب في هذه الآية؛ ثياب.
- وما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُريتك في المنام يجئ بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت. . .)
(2)
فعبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثوب عمّا يغطى به الوجه من خمار أو جلباب، فلا يستبعد أن يكون المراد بالثياب في هذا الحديث؛ هو الخمار.
ثانيا: أما السبب الثاني الذي لأجله ضعّف الشيخ الألباني الحديث بلفظ (خمارها)؛ فهو كما قال: مخالفته لقوله تعالى في آية النور {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} فيقال بأن الحديث بهذا اللفظ (خمارها) يوافق
(1)
تفسير الصنعاني 3/ 63، تفسير الطبري 18/ 166، سنن البيهقي الكبرى 7/ 93.
(2)
صحيح البخاري 5/ 1969 (4832).
آية النور هذه تمام الموافقة لأن هذه الآية جاءت آمرة المرأة بضرب خمارها على جيبها ناهية عن وضعه إلا لمن استثني في الآية، أما من لم يستثن في الآية ممن يحل لهم النظر فالمرأة منهية عن نزع الخمار أمامهم، ومنهم الرقيق والنساء غير المسلمات، وفي هذا الحديث جاء التحذير من دخول الحمامات التي يدخلها النساء غير المسلمات.
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (10/ 24): وروينا عن عمر بن الخطاب، أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح:(أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات ومعهن نساء أهل الكتاب، فامنع ذلك وحل دونه)
…
قال أحمد:
…
والذي يؤكده ما روي عن مجاهد أنه قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة ولا تقبلها؛ لأن الله يقول: (أو نسائهن).
3) ما جاء في صفة مسح المرأة لرأسها عند الوضوء مما يدل على أن الخمار كان من عامة لباسهن في البيوت:
- ومن ذلك ما روته أم علقمة مولاه عائشة رضي الله عنها أن عائشة كانت إذا توضأت تدخل يدها من تحت الرداء تمسح برأسها كله.
(1)
- وما جاء عن ابن المسيب وإبراهيم النخعي وعطاء أن على المرأة أن تنزع خمارها وتمسح برأسها.
(2)
(1)
مالك في المدونة الكبرى 1/ 16، البيهقي في سننه الكبرى (286). إسناد مالك رجاله ثقات عدا أم علقمة وقد ذكرها ابن حبان في الثقات وقال ابن حجر عنها في التقريب" مقبولة" وروى البخاري لها تعليقا. وقال ابن سعد في الطبقات 8/ 490: أم علقمة روى عنها ابنها علقمة أحاديث صالحة.
(2)
مصنف عبد الرزاق 1/ 17 (50) مصنف ابن أبي شيبة 1/ 31 (251) بأسانيد متصله ورجالها رجال الصحيح.
4) ومما يشهد لذلك أيضا ما أثر عن بعض السلف من التابعين من كراهة النظر إلى الشعر من ذوات المحارم
(1)
:
- قال الزهري: لا بأس أن ينظر إلى قصة المرأة من تحت خمارها إذا كان ذا محرم فأما أن تسلخ خمارها فلا.
(2)
- عن ابن طاووس عن أبيه قال: ما كان أكره إليه من أن يرى عورة من ذات محرم، وكان يكره أن تسلخ خمارها عنده.
(3)
- عن عامر الشعبي أنه يكره أن ينظر إلى شعر كل ذات محرم.
(4)
5) يؤيد ذلك أيضا ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن المحرم لا ينظر إلا إلى الوجه والكفين من المرأة:
- كما في المحرر في الفقه لمجد الدين أبي البركات (2/ 13): وقيل لا ينظر الخاطب والمحرم إلا الوجه والكفين.
(1)
أما ما أخرج البخاري في صحيحه (3882) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "دخلت على حفصة ونسواتها تنطف". أي ضفائرها تقطر ماء، فهذا يحمل على أنه قد يكون وافق خروجها من مغتسلها، أو قد يكون رأى مازاد عن الخمار من الضفائر. وكذلك ما روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يفلون أمهاتهم، فهذا محمول على الضرورة، كما تعقبه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 231) بقوله: إنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وكذلك شعور ذوات المحارم العجائز، دون الشواب ومن يخشى منه الفتنة.
(2)
مصنف عبد الرزاق 7/ 212 إسناده متصل ورجاله ثقات.
(3)
مصنف عبد الرزاق 7/ 212 إسناده متصل ورجاله ثقات.
(4)
مصنف بن أبي شيبة 4/ 11 إسناده متصل ورجاله رجال الصحيح.
- وفي المبدع لإبراهيم بن مفلح (7/ 8): (وعنه لا ينظر من ذوات محارمه إلا إلى الوجه والكفين) لقول ابن عباس في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
…
.
- وفي الإنصاف للمرداوي (8/ 20): لا ينظر من ذوات محارمه إلى غير الوجه ذكرها في الرعاية وغيرها، وعنه لا ينظر منهن إلا إلى الوجه والكفين.
- وفي التمهيد لابن عبد البر (المالكي)(8/ 236): ذوي المحارم لا يحتجب منهم ولا يستتر عنهم إلا العورات والمرأة فيما عدا وجهها وكفيها عورة بدليل أنها لا يجوز لها كشفه في الصلاة.
- وفي القوانين الفقهية لابن جزي (المالكي)(1/ 29): وإن كانت ذات محرم جاز له رؤية وجهها ويديها دون سائر جسدها على الأصح.
- وفي الفتاوى الهندية للشيخ نظام (الحنفي)(5/ 333): يرخص للمرأة كشف الرأس في منزلها وحدها فأولى أن يجوز لها لبس خمار رقيق يصف ما تحته عند محارمها كذا في الْقُنْية.
- قال أبو الأعلى المودودي الحنفي في كتابه الحجاب/273: جسم المرأة كله إلا وجهها ويديها عورة يجب أن تسترها حتى عن أدنى أقاربها في البيت، فلا يجوز لها تكشف عورتها على أحد غير زوجها سواء كان أباها أو أخاها أو ابن أخيها.
- خامسا: مما يشهد أن المرد بهذه الآية (إلا ما ظهر منها) من يباح لهم الدخول والنظر دون حجاب؛ تصريح بعض المفسرين بأن هذه الآيات نزلت لتنظيم مخالطة من أُحل لهم الدخول على النساء في البيوت: كما قال أبو السعود العمادي في تفسيره (6/ 168) والألوسيفي روح المعاني (18/ 133): إنه عز وجل إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال والنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات.
يشهد لذلك سبب نزول الآية التي قبلها الذي أورده السيوطي في الدر المنثور (6/ 171) قال: أخرج الفريابي وابن جرير من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال: قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولد ولا والد فيأتيني الآتي فيدخل علي فكيف أصنع) ولفظ ابن جرير (وأنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال) قال فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} اهـ
وقد ذكر في الإتقان أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي.
كما يشهد لذلك أيضا الآية التي جاءت بعدها آمرة بإنكاح وإحصان من يحل لهم الدخول دون حجاب من العبيد: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ
زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
- سادسا: من القرائن في الآية ما شرع من الاستئناس قبل الدخول في البيوت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} النور: 27 واختصاص هذا الحكم في هذه الآية بمن يحل لهم الدخول في البيت دون حجاب؛ يشهد له أمور:
(1)
أن الاستئذان في هذه الآية جاء بلفظ الاستئناس {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} والاستئناس كما صح عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قال: تنحنحوا وتنخموا.
(1)
وقال جابر بن زيد الاستئناس: التنحنح والتجرس حتى يعرفوا أن قد جاءهم أحد.
(2)
وصح عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه.
(3)
وفي رواية عن أبي عبيدة قال كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس سلم ورفع صوته.
(4)
(1)
تفسير الطبري (8/ 111) من عدة طرق، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2566 (14346)
(2)
تفسير الطبري 18/ 112.
(3)
تفسير الطبري (18/ 112) وصحح إسناده ابن كثير في تفسيره (3/ 281).
(4)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2566 (14343).
قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (5/ 167): {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن، ولذلك قال مجاهد الاستئناس التنحنح فكأنه إنما أراد أن يعلمهم بدخوله، وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول بغير إذن.
- وقال القرطبي في تفسيره (12/ 213): {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} تستعلموا أي تستعلموا من في البيت قال مجاهد (بالتنحنح) أو بأي وجه أمكن ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به ويدخل إثر ذلك
…
وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان كما قال مجاهد ومن وافقه.
- وقول الألوسي في روح المعاني (18/ 135): وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم.
- سابعا: ثم جاءت قرينة أخرى في الآية التي تليها وهي قوله {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} النور: 28 فالخطاب موجه لمن يحل له دخول البيت ممن اعتاد دخوله من مماليك وتابعين ونحوهم؛ فنهوا عن دخولها إذا لم يكن أهلها فيها إلا بإذن ممن يملك الإذن {وَإِنْ
قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} عن سعيد بن جبير: "يعني الرجوع خير لكم من القيام والقعود على أبوابهم"
(1)
.
- ثامنا: ومن القرائن في الآية أن الأمر بغض البصر جاء فيها مبعضا بـ "من" التبعيضية أي الغض من البصر لا غض البصر كلّه، مما يدل أيضا على أن الأمر في هذه الآية متعلق بمن يحل لهم النظر، لأن الرجال الأحرار الأجانب أنزل الله في سورة الأحزاب منعهم من النظر بالكلّية إلى النساء الأجنبيات الحرائر بضرب الحجاب بينهم ومنعهم من الدخول عليهن في البيوت، ولحرص الشارع الحكيم على قطع أسباب الزنا أمر من أُبيح لهم الدخول والنظر الغضّ من البصر، سواء كان النظر للمحارم، أو للإماء اللاتي لم يُفرض عليهن الحجاب، أو نظر العبيد ونحوهم للوجه والكفين من النساء الحرائر:
قال الطبري في تفسيره جامع البيان (18/ 116): قال يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له إذا رأى ما لا يحل له غض من بصره لا ينظر إليه ولا يستطيع أحد أن يغض بصره كله إنما قال الله (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم).
قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (12/ 222): ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج غير أن ذلك معلوم بالعادة وأن المراد منه المحرم دون المحلل وفي البخاري وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن قال اصرف بصرك، يقول الله تعالى
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2568.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقال قتادة (عما لا يحل لهم)
…
ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها.
- تاسعا: بعد أن شُرع الاستئناس وأمر بغض البصر عما يحرم عليه رؤيته، وكانت الفروج من أعظم ذلك؛ جاء الأمر بحفظها بسترها عمن لا يحل له النظر إليها، وهذه قرينة أيضاً وهي أن المراد بحفظ الفروج في هذه الآية؛ حفظها عن النظر - وإن كان حفظها عن النظر بسترها؛ يستلزم حفظها عن الزنا - يشهد لهذا ما ورد في تأويلها عن السلف:
- قال أبو العالية كل فرج ذكر حفظه في القرآن فهو من الزنا إلا هذه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} فإنه يعني الستر.
(1)
- وقال جابر بن زيد كل ما في القرآن من حفظ للفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار.
(2)
قال الطبري في تفسيره (18/ 116): يحفظوا فروجهم أن يراها من لا يحل له رؤيتها بلبس ما يسترها عن أبصارهم.
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2571 (14379)، وابن جرير في تفسيره 18/ 116.
(2)
من الكشاف للزمخشري 3/ 234، تفسير الثعالبي 7/ 86، وذكره الشنقيطي في أضواء البيان 6/ 188.
وهذا يؤكد أن هذه الآية تعني من يحل لهم الدخول دون حجاب من المحارم أو المملوكين لأنهم وإن استأنسوا قبل الدخول إلا أنه يحتمل أن يصادف دخولهم انكشاف العورة إن لم يحصل تحفظ من أهل البيت، فجاء الأمر بالحرص على الاستتار حفظا للفروج.
ولما كانت النساء هن مكمن الفتنة؛ لم يقتصر الأمر لهن بالغض من البصر وحفظ الفروج فقط كما جاء في حق الرجال، بل تعداه إلى منع كل ما من شأنه أن يكون سبباً للافتتان بهن ممن يدخل عليهن أو من قد يخلو بهن ممن أُذن له الدخول عليهن، وذلك بأمرهن بالتستر وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها بقوله
تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والمراد هو النهي عن إبداء زينتهن الباطنة لمن يحل له الدخول عليهن في البيوت - من الرقيق ونحوهم - والاكتفاء بإبداء الزينة الظاهرة لهم وذلك بلبس الرداء وضرب الخمار على الجيب كما أسلفنا.
- عاشرا: ومن القرائن كذلك قوله تعالى في آخر الآية {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} النور: 31 وهي النهي عن الضرب بالأرجل، فلما كان الخلخال من الزينة الباطنة التي لايجوز إبداؤها إلا للزوج كما قال ابن عباس:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} قال: الزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسواراها، فأما خلخالها
ومعضدتها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها.
(1)
نهى الله المرأة عن تعمد إسماع صوت هذه الزينة لمن يدخل عليها - وإن كان النهي عن ذلك عند خروجها من باب أولى - لأن تعمد إسماع صوت الخلاخل أعظم فتنة من إظهارها؛
- قال ابن عباس في قوله {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال، أو يكون في رجليها خلاخل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله عن ذلك لأنه من عمل الشيطان.
(2)
- قال سعيد بن جبير: أن المرأة كانت يكون في رجلها الخلخال فيه الجلاجل فإذا دخل عليها غريب
(3)
تحرك رجلها عمدا ليسمع صوت الخلخال.
(4)
- الحادي عشر: الخلاف القائم حول بعض متعلقات الآية؛ كالخلاف فيمن لم يذكر في الآية وهو ممن تحل له رؤية المرأة:
(1)
كالعم والخال؛ فقال بعضهم إنهما يجريان مجرى الوالدين، وقال الآخرون بل تحتجب منهما المرأة فليسوا من المحارم وقد ينعتانها لأبنائهما، مستشهدين بما
(1)
تفسير الطبري 18/ 120، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2576 (14410) حسن إسناده أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 463).
(2)
تفسير الطبري 18/ 124، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2579 (14433).
(3)
وهذا شامل لكل من لم يستثن في الآية من الرجال في حق الإماء، ولكل من يحل له الدخول على المرأة الحرة دون حجاب من الرقيق والأتباع.
(4)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2580 (14434).
صح عن الشعبي وعكرمة في هذه الآية؛ قالا لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما، وقالا:" لا تضع خمارها عند العم والخال".
(1)
ولكن إذا حُمل أن العم والخال ممن يحل لهم الدخول على المرأة ورؤيتها دون حجاب ولكن لا تبدي لهم إلا ما ظهر من الزينة (الوجه والكفين) بعدم وضع الخمار عندهما كما ذكر الشعبي وعكرمة؛ لكان ذلك أجمع للرأيين.
قال ابن العربي (ت 543 هـ) في أحكام القرآن (3/ 619):
…
قال حكم الرجل مع النساء ينقسم على ثلاثة أقسام:
الأول: من يجوز له نكاحها؛ لم يحل له رؤية شيء منها.
والثاني: من لا يحل له نكاحها (ولا) لابنه كالأخ والجد والحفيد؛ جاز الوضع لجلبابها ورؤية زينتها.
والثالث: من لا يحل له نكاحها ويجوز لولده كالعم والخال؛ جاز رؤية وجهها وكفيها خاصة ولم يحل له رؤية زينتها. اهـ وهذا كله موافق تماما لما ذكرنا.
(2)
المحارم بالرضاع والمصاهرة: فإنه لم يرد ذكرهم في الآية! ولو كان حكمهم في هذا الأمر كحكم المحارم بالنسب لورد ذكرهم فيها كما ورد ذكرهم في آية المحرمات في سورة النساء وهو القائل عز وجل (ما فرطنا في الكتاب من شيء) الأنعام 38
(1)
مصنف ابن أبي شيبة 4/ 13 (17293)، الطبري في تفسيره 22/ 42 بإسناد صحيح.
- يشهد لذلك ما ورد عن أيوب السختياني بإسناد صحيح إليه قال: قلت لسعيد بن جبير أيرى الرجل رأس (ختنته)
(1)
فتلا عليه {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية؛ قال: لا أراها فيهم.
(2)
ولذلك فرق بينهم بعض أهل العلم في حدود ما يباح لهم النظر إليه من المرأة:
- قال القرطبي في تفسيره (12/ 232): تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها وتختلف مراتب ما يبدي لهم فيبدي للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج.
- قال ابن القطان في أحكام النظر /140: من ذوات المحارم من في نظر ذي محرمها إليها خلاف، كأم الزوجة
…
والذي لا شك في جوازه؛ النظر منها إلى وجهها وكفيها
…
والزيادة على ذلك عندي موضع توقف
…
مسألة: جوز مالك أن يرى شعر امرأة ابنه، والقول بها عندي كالقول في أم امرأته.
- قال ابن قدامة في المغني (7/ 75): وتوقف أحمد عن النظر إلى شعر أم امرأته وبنتها لأنهما غير مذكورتين في الآية.
(1)
الختنة: أُمُّ الزوجة كما في النهاية (2/ 10) والفائق في غريب الحديث (1/ 354).
(2)
تفسير ابن أبي حاتم (14412).
(3)
وكذلك حمْل المراد من قوله {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} في هذه الآية على أنه الزوج، لأنه من المعلوم أن الزوج يحل له النظر إلى جميع بدن الزوجة؛ وهذا يضعف أن يكون هو المراد في هذا الموضع الذي ذُكر فيه من يحل لهم النظر إلى بعض المواضع من جسدها دون بعض، ولما كان البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب؛ فالصواب والله أعلم أن المراد بالبعل في هذه الآية؛ السيّد بالنسبة للأمة التي لها زوج، فإن الأمة غير المتزوجة يحل لسيدها منها ما يحل له من زوجته،
وهذا جاء بيانه في قوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] ولكن لما كانت الأمة قد تكون ذات زوج فلا يحل لسيدها منها إلا ما يحل له من ذات المحرم؛ اندرج حكم سيدها في هذه الآية فيمن لا يحل له إلا رؤية الزينة من المرأة.
(1)
ولذلك لم يؤثر عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال بأن المراد بالبعولة في هذه الآية الأزواج، بل جاء ما ينفي ذلك وهو قول ابن عباس في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} قال " الزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسواراها؛ فأما خلخالها ومعضدتها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها" فهذا القول من ابن عباس شاهد على أن الزوج لم يدخل في هذه الآية. ومما يشهد لذلك أيضا أن الله تعالى لم يذكر البعولة في آية الحجاب في سورة الأحزاب {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا
(1)
قال البيهقي في السنن الكبرى (7/ 94): والسيد معها إذا زوجها كذوي محارمها.
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الأحزاب: 55 لأن الخطاب فيها موجه للحرائر دون الإماء، ومما يشهد لذلك أيضا أن "الحسن والحسين كانا لا يريان أمهات المؤمنين وكان ابن عباس يرى أن رؤيتهن لهما حل"
(1)
فإنهن لهما بمنزلة زوجات الأب، ولكن لما كان أبناء الأزواج ممن لم يستثن في الآية؛ فلا يحل لزوجات أبيهم (أمهات المؤمنين) أن يبدين لهم من زينتهن إلا ما ظهر منها؛ كرهوا الدخول عليهن، والله تعالى أعلم.
وفيه كذلك الجواب على من أنكر على من قال إن العم والخال ينعتان لأبنائهم بأن الله قد أباح لأبي الزوج الزينة الباطنة وهو قد ينعت لأبنائه (إخوة الزوج) فإذا حُمل أن المراد هو أبو السيد بالنسبة للأمة، وأن آباء الأزواج لا يبدى لهم إلا ما ظهر من الزينة؛ كانوا كالأعمام في الحكم.
(4)
وكذلك النساء المشركات: حيث فُسر قوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} بالنساء المسلمات كما قال سعيد بن جبير: " نسائهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تَكَشّف بين يدي المشركة".
(2)
وقال مجاهد: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة ولا تقبلها؛ لأن الله تعالى يقول {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فليست من نسائهن.
(3)
(1)
سنن سعيد بن منصور 1/ 276 (965) مصنف ابن أبي شيبة 4/ 12 (17291).
(2)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2577 (14415)(14416).
(3)
سنن سعيد بن منصور، البيهقي في معرفة السنن والآثار (10/ 24).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/ 112): وقوله (أو نسائهن) احتراز عن النساء المشركات فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة ولا تدخل معهن الحمام، لكن قد كن النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها فيرين وجهها ويديها بخلاف الرجال، فيكون هذا في الزينة الظاهرة في حق النساء الذميات وليس للذميات أن يطلعن على الزينة الباطنة.
(5)
وكذلك الصبي المميز فلأنه لم يذكر في الآية جعله بعضهم كالبالغ وقال بعضهم إنه كذي المحرم كما جاء في الكافي في فقه ابن حنبل (3/ 6): ومن لا تمييز له من الأطفال لا يجب التستر منه في شيء لقوله تعالى {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} وفي المميز روايتان إحداهما هو كالبالغ لهذه الآية والثانية هو كذي المحرم لقوله تعالى {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} النور: 59 ففرق بينه وبين البالغ.
(1)
فإذا قيل إنه يحل له الدخول على النساء ورؤيتهن ولكن لا يبدين له إلا ما ظهر من الزينة (الوجه والكفين) كان ذلك أجمع للرأيين، فلا يُلحق بالمحرم والله لم يلحقه به في الآية، ولا يُلحق بالبالغ الذي فرق الله بينهما في الحكم في الآية الأخرى.
يؤيد ذلك قول الإمام أحمد كما في المغني (7/ 77): قيل لأبي عبدالله متى تغطي المرأة رأسها من الغلام قال إذا بلغ عشر سنين.
(1)
وانظر كشاف القناع 5/ 12 والمبدع 7/ 10 ومختصر الإنصاف والشرح الكبير 1/ 639
(6)
وكذلك المراد من قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} فقد ثبت أن سائر العبيد لا يُحتجب منهم كما ثبت ذلك عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما كما قال مجاهد: (كان العبيد يدخلون على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)
(1)
قال البيهقي (7/ 95): وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال (إن كانت أمهات المؤمنين يكون لبعضهن المكاتب فتكشف له الحجاب ما بقي عليه درهم فإذا قضى أرخته دونه). وقال ابن حجر في فتح الباري (5/ 265): وفيه دليل على أن عائشة كانت ترى ترك الاحتجاب من العبد سواء كان في ملكها أو في ملك غيرها لأنه كان مكاتب ميمونة. اهـ
فلما كان قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يدل على أن من أبيح له النظر إلى الزينة الباطنة من المرأة من العبيد؛ هو من كان في ملك المرأة من غير أولي الإربة الذين لم يظهروا على عورات النساء
(2)
؛ دل ذلك على أن غيره من العبيد لا يبدى لهم من الزينة إلا ما ظهر منها (الوجه والكفين).
(1)
مصنف عبد الرزاق 8/ 412 (15742).
(2)
بعد أن ذكر من يحل لهم الدخول على المرأة من محارمها؛ ذكر النساء (أو نسائهن) ليكون فاصلا بين المحارم وبين من يشترط فيهم أن يكونوا من غير أولي الأربة فقال تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قال القرطبي في تفسيره (12/ 237): "وقد قيل إن التقدير: أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة، أو التابعين غير أولي الإربة () ".اهـ يؤكد ذلك قرينة في الآية وهي قوله تعالى {مِنَ الرِّجَالِ}
…
فلو لم تكن الصفة {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} عائدة على كلا النوعين (ملك اليمين والتابعين) لما كان لقوله {مِنَ الرِّجَالِ} فائدة، وكذلك قوله {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} عائدة على ملك اليمين يؤيد ذلك قوله {الَّذِينَ} للجمع بعد قوله {أَوِ الطِّفْلِ} بصفة الإفراد وذلك لبيان عطف ما بعدها على ما قبلها من الرجال، فلا بد أن تعود {الَّذِينَ} على آخرين مع الطفل ولا يكون إلا أقرب مذكور وهم {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} فيكون التقدير والله أعلم:(أو ما ملكت أيمانهن غير أولي الإربة من الرجال؛ الذين لم يظهروا على عورات النساء، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال؛ الذين لم يظهروا على عورات النساء، أو الأطفال؛ الذين لم يظهروا على عورات النساء) إذ إنه لو لم يكن كذلك لجاء نعت الطفل مفردا (أو الطفل الذي) أو جاء المنعوت بالجمع (أو الأطفال) كما جاءت في قوله تعالى {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} .
- عن سعيد بن جبير في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}
…
قال: يعني عبد المرأة، لا يحل لها أن تضع جلبابها عند عبد زوجها.
(1)
- الثاني عشر: ومما يؤيد أن المراد بمن يحل له رؤية الزينة الظاهرة (الوجه والكفين) في هذه الآية هم من يحل لهم الدخول على المرأة والنظر إليها دون حجاب من العبيد ونحوهم؛ إجماع أئمة المفسرين على تفسير آية إدناء الجلابيب بتغطية الوجه للنساء الحرائر دون ذكر للتعارض بين الآيتين، فلا يسوغ أن يُحمل تأويلهم لجواز إظهار الوجه والكفين في هذه الآية؛ ووجوب
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2577 (14419).
تغطيتهما في آية الأحزاب على نفس الفئة من الرجال! إذ لو كان كذلك لبيّنوا وجه هذا التعارض!
وإليك بعض النماذج من أقوال المفسرين المتقدمين في تفسير هذه الآية، وأقوالهم في تفسير آية الأحزاب:
* ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) 18/ 117: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عني بذلك الوجه والكفان يدخل في ذلك إذا كان كذلك الكحل والخاتم والسوار والخضاب.
ثم قال في تفسير آية الحجاب في سورة الأحزاب: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} قال: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن
…
فقال بعضهم هو أن يغطين وجوههن ورؤوسهن فلا يبدين منهن إلا عينا واحدة.
* أبو بكر الجصاص (ت 370 هـ) في أحكام القرآن 5/ 172 - 173: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال أصحابنا المراد الوجه والكفان لأن الكحل زينة
الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف فإذ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين.
ثم قال في تفسير آية الحجاب في سورة الأحزاب: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} قال في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين.
(1)
* الثعلبي (ت 427 هـ) 7/ 87 - 88: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخفيّة التي أُمرن بتغطيتها ولم يبح لهنّ كشفها في الصلاة وللأجنبيين وهي ما عدا الوجه والكفّين وظهور القدمين.
ثم قال في تفسير آيتي الحجاب في سورة الأحزاب: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها ويغطّين وجوههن ورؤوسهن.
(2)
* الواحدي (ت 468 هـ) 2/ 761: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني الخلخالين والقرطين والقلائد والدمالج ونحوها مما يخفى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وهو الثياب والكحل والخاتم والخضاب والسوار فلا يجوز للمرأة أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى نصف الذراع.
(1)
أحكام القرآن للجصاص 5/ 245
(2)
تفسير الثعلبي 8/ 64
ثم قال في تفسير آية الحجاب في سورة الأحزاب: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} جمع جلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة، قال المفسرون: يغطين رءوسهن ووجوهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذى.
(1)
ولذلك فإن من الخطأ أن نحمل أقوال المفسرين في تفسير الزينة الظاهرة على أن المراد بها ما تظهره المرأة الحرة لمن يجب عليها الاحتجاب منهم من الرجال الأحرار الأجانب؛ وهم قد فسروا آية إدناء الجلابيب بأنها تفيد وجوب تغطية وجه المرأة الحرة عن الرجال الأحرار الأجانب، لأن في ذلك حمل الآيتين على معنيين وحكمين متعارضين!
وخلاصة هذا المبحث أن المراد بمن لا تُظهر المرأة الحرة زينتها لهم (إلا ما ظهر منها) المفسرة بـ (الوجه والكفين بما فيهما من الزينة كالخاتم والسوار) هم من يحل لهم الدخول على المرأة والنظر إليها دون حجاب ممن لم يستثن في الآية وهم: العبيد المملوكون للغير، والعبد المملوك والتابع إذا كان من أولي الإربة، والذين لم يبلغوا الحلم من الأحرار (الصبية المميزين) والنساء غير المسلمات، والمحارم بالمصاهرة والرضاع، والعم والخال، فهؤلاء تظهر لهم بثيابها الظاهرة (بردائها أو ملحفتها وخمارها ضاربة به على جيبها)، أما من استثني في الآية (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن
…
) فهؤلاء تضع عندهم الرداء فتبرز لهم
(1)
التفسير الوسيط 3/ 482.