الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذهبُ جمهور الأشاعرة في القرآن
باطنُه الاعتزال
وظاهره التستُّر بمذهب السلف
القرآنُ عند الأشاعرة يُطلق على أمرين اثنين:
الأول: الكلام النفسي القائم بذاته تعالى.
والثاني: القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المُثبت في المصاحف، المُتعبد بتلاوته.
فالأول وهو الكلام النفسي غير مخلوق، وأما الثاني وهو القرآن العربي الموجود بين دفتي المصحف فهو مخلوق عندهم، إلا أنهم يقولون: يمتنع أن يقال: القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم؛ لأنه ربما أوهم أنّ القرآن النفسي مخلوق.
واختلفوا هل يُطلَق على القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه كلام الله حقيقة أو مجازًا؟
فذهب جمهور المتقدمين منهم إلى أنه يُطلق عليه "كلام الله" مجازًا، وأنّ الكلام الحقيقي هو الكلام النفسي القائم بالذات.
وذهب بعضهم كإمام الحرمين الجويني - وتبعه كثير أو أكثر المتأخرين- إلى أن "كلام الله" لفظٌ مشترك، فيُطلق حقيقةً على كلٍ من الكلام النفسي، والقرآن المنزل المثبت في المصاحف المُتعبد بتلاوته.
وليس معنى كون القرآن المنزل هو كلام الله: أنّ الله تعالى تكلّم به، وإنما معناه عندهم أن الله تولّى خلقه في اللوح المحفوظ أو في غيره، وأنه ليس من تأليف البشر، فهذا هو وجه تسميته بـ"كلام الله" كما سيأتي مصرّحًا بذلك في أقوال أئمتهم وعلمائهم.
والحاصل أنّ مذهب جمهور الأشاعرة هو موافقة المعتزلة في القول بخلق القرآن العربي المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يتستّرون بمذهب السلف وأهل الحديث، فيقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويعنون بذلك الكلام النفسي القائم بالذات الذي لم يُنزل ولم يُسمع.
أما القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسنة، المحفوظ في الصدور، فهو عندهم مخلوق، وهو عبارة ودلالة على الكلام النفسي.
فمذهبهم في القرآن مذهب مسقَّف، باطنه الاعتزال، وظاهره التستر بمذهب السلف، وما أحسن ما قيل فيهم أنهم قدّموا رِجْلاً نحو الاعتزال، وأخّروا أخرى نحو مذهب السلف وأصحاب الحديث، وكلام الأئمة في تستُّر الأشاعرة بمذهب السلف كثير مشهور، من ذلك ما يلي:
- قال الإمام ابن بطة عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبري (المتوفى: 387 هـ): "واعلموا رحمكم الله أن صنفًا من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم، وخبث آرائهم، وقبيح أهوائهم، أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها، تمويها وبهرجة على العامة، ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قل علمه، وضعفت نحيزته، فقالوا: إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله فهو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه ونقرؤه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة، فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه، فلم يخف ذلك بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه على جهابذة العلماء والنقاد العقلاء، حتى بهرجوا ما دلسوا، وكشفوا القناع عن قبيح ما ستروه، فظهر للخاصة والعامة كفرهم وإلحادهم،
…
"
(1)
.
- وقال الحافظ أبو نصر السجزي (المتوفى: 444 هـ): "عند المعتزلة أن الذي تحويه دفتا المصحف قرآن، وكذلك ما وعته الصدور، وكذلك ما يتحرك به لسان القارئ، وكل ذلك مخلوق.
وعند أهل السنة أن ذلك قرآن غير مخلوق.
(1)
الإبانة الكبرى (5/ 317 - 318).
وعند الأشعري أنه مخلوق وليس بقرآن، وإنما هو عبارة عنه. وكذلك كثير من مذهبه يقول في الظاهر بقول أهل السنة مجملاً، ثم عند التفسير والتفصيل يرجع إلى قول المعتزلة، فالجاهل يقبله بما يظهره، والعالم يجهره لما منه يخبره، والضرر بهم أكثر منه بالمعتزلة لإِظهار أولئك ومجاوبتهم أهل السنة، وإخفاء هؤلاء ومخالطتهم أهل الحق. نسأل الله السلامة من كلٍ برحمته"
(1)
.
وقال أيضًا: "قد أطلق الأشعري أن هذه التسميات [أي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن] لم يستحقها كلام الله في الأزل، وإنما هي تسميات للعبارات المختلفة التي نزلت في الأزمان المتغايرة، وكلّ ذلك محدث. فبين أن التوراة اسم الكتاب بالسريانية، وأنه محدث، وأن القرآن اسم الكتاب بالعربية وأنه محدث. فقوله: القرآن غير مخلوق مع هذا القول تلاعب"
(2)
.
- وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي (المتوفى: 481 هـ): "قالوا [أي: الأشعرية]: ليس هو صوت ولا حروف، وقالوا هذا زاج وورق، وهذا صوف وخشب،
…
وهذا صوت القارئ ما ترى منه حسن ومنه قبيح، وهذا لفظه أو ما تراه يجازى به حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من لبد؟! وقال آخر من خشب؟
(1)
رسالة الحافظ أبي نصر السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 278).
(2)
المصدر السابق (ص: 158 - 159).
فراوغوا فقالوا: هذا حكاية عبر بها عن القرآن، والله تكلّم مرة ولا يتكلم بعد ذلك.
ثم قالوا: غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود"
(1)
.
- وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل (المتوفى:513) في خطبة كتابه في القرآن: "أما بعد، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها، وقواعد الدين قد انحط شعارها، والبدعة قد تضرّمت نارها، وظهر في الآفاق شرارها، وكتاب الله عز وجل بين العوام غرض ينتضل، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يبتذل، وتضرب آياته بآياته جدالاً وخصامًا، تنتهك حرمته لغوًا وآثامًا، قد هون في نفوس الجهال بأنواع المحال، حين قيل: ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث المخلوق، وإن سلطت عليه النار احترق، وأشكال في قرطاس قد لفقت، إزدراء بحرمته واستهانة بقيمته، وتطفيفًا في حقوقه، وجحودًا لفضيلته حتى لو كان القرآن حيًا ناطقًا لكان ذلك متظلمًا، ومن هذه البدعة متوجعًا متألمًا، أترى ليس هذا الكتاب الذي قال الله فيه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقال:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 80]،
(1)
ذم الكلام وأهله (5/ 1360137) تحقيق: عبد الله الأنصاري، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة، ط/ الأولى، 1419 هـ.
وقال: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3]، أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسّه المحدثون، وإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيلا وتجليلا:«لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» ، أليس الله تعالى يقول في كتابه {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، وقال في حق موسى {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145] أفترى من القوة تهوينها عند المكلفين، والازدراء بها عند المتخلفين، يزخرفون للعوام عبارة يتوقون بها إنكارهم، ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم، ويقولون: تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء، وكتابة ومكتوب، هذه الكتابة معلومة فأين المكتوب؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو؟
يقولون: القرآن عندنا قديم قائم بذاته سبحانه، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة، فقد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة يقدِّمون رِجْلاً نحو الاعتزال فلا يتجاسرون، ويؤخِّرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون.
إن قلنا لهم: ما مذهبكم في القرآن؟ قالوا: قديم غير مخلوق، وإن قلنا: فما القرآن؟ أليس هو السور المسورة، والآيات المسطرة في الصحف المطهرة؟ أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين؟ أليس هو المسموع من ألسنة التالين؟ قالوا: إنما هو حكايته، وما أشرتم إليه عبارته، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق، فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة المعتزلة كيف جاؤوا بها في صورة أخرى"
(1)
.
- وقال الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني (المتوفى: 535 هـ): "ظَهَرَت المعتزلةُ فقدحت في كتاب الله، وقالت: بخلق القرآن، وقدحت في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
…
أرادوا نقض أصول الدين، فلما لم يتم لهم ما قصدوه تبعهم الكلّابي فوضع كلاماً ظاهره موافق، وباطنه موبق، وقال: لا أقول القرآن مخلوق، ولكن أقول: إنّ الذي في مصاحفنا ليس كلام الله، ولكنه عبارة عن كلامه، وكلامه قديم قائم بذاته"
(2)
.
- وقال الإمام يحيى ابن أبي الخير العمراني شيخ الشافعيين باليمن (المتوفى: 558 هـ): "وادعت الأشعرية قرآنًا وكلامًا لله لا يعقل [أي: المعنى النفسي]، ولم يسبقهم إلى هذا القول أحد من أهل الملل والنحل، فردُّهم على المعتزلة بخلق القرآن تمويه وتستُّر بقول أصحاب الحديث، وهو مذهب مسقّف باطنه الاعتزال وظاهره التستر"
(3)
.
(1)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 524 - 525) المحقق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة - مصر، ط/ الأولى، 1422 هـ- 2001 م.
(2)
الحجة في بيان المحجة (2/ 505).
(3)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 583).
وقال أيضًا: "وأما قوله [أي: الغزالي]: إنّ القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ بالقلوب مقروء بالألسنة، فإن أراد بذلك القرآن الذي هو كلام الله حقيقة قلنا هذا صحيح وبطل أن يكون لله كلامًا قائما بذاته لا يفارقه، وكان هذا قول أصحاب الحديث.
وإن أراد بذلك العبارة عن القرآن الذي هو قائم بذات الباري كان قوله هذا قولاً فارغا لا معنى تحته غير التستّر بقول أصحاب الحديث، وعليه يدل قوله: إنّ القرآن مكتوب في المصاحف، لأنه لو صرح وقال ليس القرآن مكتوبًا في المصاحف، وإنما المكتوب به أدلة القرآن لكان مخالفا لما عليه أدلة [أئمة] المسلمين، ولكنه سقّف قوله.
والأشعرية قدَّموا رِجْلاً إلى الاعتزال وَوَضَعوها حيث وضعت المعتزلة أَرْجُلَهم، وأموا بالرِّجْل الأخرى إلى حيث وضع أهل الحديث أرجلهم، وهذا مثال عقلي يفقهه مَن فهم قولهم"
(1)
.
(1)
المصدر السابق (2/ 595).
وقال أيضًا: "الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه، لا يدخل كلامه النظم والتأليف والتعاقب، ولا يكون بحرف وصوت، ولا يتكلم الله بالعربية ولا بغيرها من اللغات، وليس له أول ولا آخر ولا بعض، بل هو شيء واحد لم ينزله الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد من الأنبياء، ولا يتلى ولا يكتب ولم يسمعه أحد إلا موسى عليه السلام، وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآناً، وكذلك التوراة عبارة عن كلام الله بلغه موسى قومه، والإنجيل عبارة عن كلام الله بلغه عيسى قومه، فادعوا أن كلام الله غير القرآن، وأن القرآن غير كلام الله. فقولهم: إنّ القرآن غير مخلوق، تلاعبٌ وخُلْفٌ من الكلام"
(1)
.
وقال موفق الدين ابن قدامة (المتوفى: 620 هـ): "وعند الأشعري أنها [أي: الآيات والسور] مخلوقة، فقوله قول المعتزلة لا محالة، إلا أنه يريد التلبيس، فيقول في الظاهر قولاً يوافق أهل الحق، ثم يفسّره بقول المعتزلة"
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى: 728 هـ): "الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى كما في مسألة الرؤية فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة، ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في بيانه، ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة، ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه.
(1)
المصدر السابق (2/ 554 - 555).
(2)
المناظرة في القرآن (ص: 47).
وكذلك قولكم في مسألة القرآن فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا إنه مخلوق حتى كفّروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة، وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه.
ذلك أنّ المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله، وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر، وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء.
وقلتم أنتم: إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله، بل حكاية عن كلام الله، كما قاله ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قاله الأشعري.
ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلِّم من قام به الكلام
…
لكن المعتزلة أجود منكم حيث سمّوا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله، كما يقوله سائر المسلمين، وأنتم جعلتموه كلاما مجازا، ومن جعله منكم حقيقة وجعل الكلام مشتركًا كأبي المعالي وأتباعه انتقضت قاعدته في أنّ المتكلم بالكلام من قام به، ولم يمكنكم أن تقولوا بقول أهل السنة، فإن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئًا لا كلام من قاله مبلغًا مؤديًا؛ فالرجل إذا بلّغ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» كان قد بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم بحركاته وأصواته"
(1)
.
وقال أيضًا: "وبالجملة فعامة ما ذمّه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم لكم [يعني الأشاعرة] منه أوفر نصيب، بل تارة تكونون أشد مخالفة لذلك من المعتزلة، وقد شاركتموهم في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها، ونبذوا بها كتاب الله وراء ظهورهم
…
وأما الأحاديث النبوية فلا حرمة لها عندهم، بل تارة يردونها بكل طريق ممكن، وتارة يتأولونها، ثم يزعمون أن ما وضعوه برأيهم قواطع عقلية، وأن هذه القواطع العقلية تُرد لأجلها نصوص الكتاب والسنة، إما بالتأويل، وإما بالتفويض، وإما بالتكذيب.
(1)
الفتاوى الكبرى (6/ 631 - 633) دار الكتب العلمية، ط/ الأولى، 1408 هـ - 1987 م.
وأنتم شركاؤهم في هذه الأصول كلها، ومنهم أخذتموها،
…
لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة، ونفرت القلوب عنهم، صرتم تُظهرون الرد عليهم في بعض المواضع مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة"
(1)
.
وسنذكر في الصفحات التالية بعض أقوال الأئمة والعلماء من الأشاعرة وغيرهم التي فيها التصريح بأنّ الأشاعرة موافقون للمعتزلة في القول بخلق القرآن العربي، المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المُثبَت بين دفتي المصحف، وأنّ الخلاف بينهم وبين المعتزلة إنما هو في إثبات الكلام النفسي ونفيه أقوال بعض أئمة وعلماء الأشاعرة في أنّ القرآن الذي بين دفتي المصحف مخلوق، وأنّ الخلاف بينهم وبين المعتزلة إنما هو في إثبات الكلام النفسي ونفيه.
(1)
المصدر السابق (6/ 642 - 643).