الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملحق فيه بعض الفوائد
* تظافر نصوص الكتاب والسنة على أن الله عز وجل يتكلم بمشيئته:
لم يزل الله تعالى متكلمًا إذا شاء، وكلماته سبحانه لا نهاية لها، قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109].
وكلامه سبحانه متعلِّق بمشيئته، قال الإمام أحمد:"إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء"
(1)
.
وسئل صلى الله عليه وسلم: اللهُ يكلِّمُ عبده يوم القيامة؟ فقال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟! يكلّم عبده ويسأله، الله متكلّم، لم يزل الله متكلماً، يأمر بما يشاء، ويحكم بما يشاء، وليس له عدل ولا مثل، كيف شاء وأين شاء"
(2)
.
وقال الحافظ أبو نصر السجزي: "فأما الله تعالى فإنه متكلّم فيما لم يزل، ولا يزال متكلماً بما شاء من الكلام، يُسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك، ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله،
…
(1)
الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 139) المحقق: صبري شاهين، دار الثبات للنشر والتوزيع، ط/ الأولى.
(2)
المسائل والرسالة المروية عن الإمام أحمد (1/ 288).
وكلامه أحسن الكلام، وفيه سور وآي وكلمات، وكل ذلك حروف، وهو مسموع منه على الحقيقة سماعاً يعقله الخلق، ولا كيفية لتكلّمه وتكليمه، وجائز وجود أعداد من المكلَّمين يكلّمهم سبحانه في حال واحدة بما يريده من كل واحد منهم، من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا"
(1)
.
ونصوص الكتاب والسنة متظافرة على أنّ الله عز وجل يتكلم بمشيئته، وسنقتصر هنا على إيراد كلام الحافظ ابن القيم في بيان تظافر هذه النصوص وتكاثرها.
قال رحمه الله: "وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته، وهي صفة ذات وفعل، قال الله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
فـ (إذا) تخلص الفعل للاستقبال، (وأن) كذلك، (ونقول) فعل دال على الحال والاستقبال، و (كن) حرفان يسبق أحدهما الآخر، فالذي اقتضته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 88 - 89).
وكذلك قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] الآية، سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن، وكذلك قوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]، وإنما قال لهم {اسْجُدُوا} [الأعراف:11] بعد خلق آدم وتصويره.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] الآيات كلها، فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت.
وكذلك قوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [القصص:30]، والذي ناداه هو الذي قال له:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] وكذلك قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ} [القصص:62]، وقوله:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]، وقوله:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} [ق:30] الآية، ومحال أن يقول سبحانه لجهنم:{هَلِ امْتَلَأْتِ} [ق:30]، وتقول:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] قبل خلقها ووجودها.
وتأمل نصوص القرآن من أوله إلى آخره ونصوص السنة، ولا سيما أحاديث الشفاعة، وحديث المعراج وغيرها، كقوله:«أتدرون ماذا قال ربكم الليلة» ، وقوله:«إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة» ، وقوله:«ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب» . وقد أخبر الصادق المصدوق أنه يكلِّم ملائكته في الدنيا «فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي» ، ويكلِّمهم يوم القيامة، ويكلِّم أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ، ويكلِّم أهل الجنة في الجنة ويسلم عليهم في منازلهم، وأنه كل ليلة يقول:«من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، من يقرض غير عديم ولا ظلوم» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله أحيا أباك وكلّمه كفاحًا» ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلّمه وقال له: «تمنّ عليّ» .
إلى أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي إن دُفعت دُفعت الرسالة بأجمعها، وإن كانت مجازًا كان الوحي كله مجازًا، وإن كانت من المتشابه كان الوحي كله من المتشابه، وإن وجب أو ساغ تأويلها على خلاف ظاهرها ساغ تأويل جميع القرآن والسنة على خلاف ظاهره؛ فإن مجيء هذه النصوص في الكتاب وظهور معانيها وتعدد أنواعها واختلاف مراتبها أظهر من كل ظاهر، وأوضح من كل واضح، فكم جهد ما يبلغ التأويل والتحريف والحمل على المجاز.
هب أن ذلك يمكن في موضع واثنين وثلاثة وعشرة، أفيسوغ حمل أكثر من ثلاثة آلاف وأربعة آلاف موضع كلها على المجاز وتأويل الجميع بما يخالف الظاهر؟!
ولا تستبعد قولنا: أكثر من ثلاث آلاف، فكل آية وكل حديث إلهي، وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول، وكل أثر فيه ذلك، إذا استقرئت زادت على هذا العدد، ويكفي أحاديث الشفاعة، وأحاديث الرؤية، وأحاديث الحساب، وأحاديث تكليم الله لملائكته وأنبيائه ورسله وأهل الجنة، وأحاديث تكليم الله لموسى، وأحاديث تكلمه عند النزول الإلهي، وأحاديث تكلمه بالوحي، وأحاديث تكليمه للشهداء، وأحاديث تكليم كافة عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة، وأحاديث تكليمه للشفعاء يوم القيامة حين يأذن لهم في الشفاعة، إلى غير ذلك.
إذ كل هذا وأمثاله وأضعافه مجاز لا حقيقة له، سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نُشهِدُك ونُشهِد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أنك أحق بهذه الصفة وأولى من كل أحد، وأن البحر لو أمدّه من بعده سبعة أبحر، وكانت أشجار الأرض أقلامًا يكتب بها ما تتكلم به، لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلماتك، وأنك لك الخلق والأمر، فأنت الخالق حقيقة"
(1)
.
(1)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 501 - 503).