الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل ثبت عن الإمام البخاري
أنه قال: "لفظي بالقرآن مخلوق
"؟
لم يثبت عن الإمام البخاري أنه قال: "لفظي بالقرآن مخلوق"، بل الثابت عنه تكذيب من حكى عنه أنه قال ذلك، فقد ساق الحافظ أبو القاسم هبة الله اللالكائي بسنده إلى أبي عمرو أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخفاف أنه قال: كنا يومًا عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل، فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أنّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله.
فقلت له: يا أبا عبد الله فقد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه. فقال: ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه.
قال أبو عمرو الخفاف: فأتيت محمد بن إسماعيل فناظرته في شيء من الحديث حتى طابت نفسه فقلت له: يا أبا عبد الله هاهنا رجل يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة.
فقال لي: يا أبا عمرو احفظ ما أقول: من زعم - من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والمدينة ومكة والبصرة - أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذاب، فإني لم أقل هذه المقالة، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة"
(1)
.
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 396).
وقال الحافظ ابن حجر: "قد صح عنه [أي: البخاري] أنه تبرّأ من هذا الإطلاق، فقال: كل من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب عليّ، وإنما قلت: أفعال العباد مخلوقة.
أخرج ذلك غنجار في ترجمة البخاري من تاريخ بخارى بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور أنه سمع البخاري يقول ذلك، ومن طريق أبي عمر وأحمد بن نصر النيسابوري الخفاف أنه سمع البخاري يقول ذلك"
(1)
.
والسبب الذي جعل بعضهم يحكي عن الإمام البخاري أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أن الإمام البخاري سُئل عن اللفظ بالقرآن؟ فقال:"أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا"، ففهِم بعضُ من حضر مجلسه أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.
ففي تاريخ نيسابور للحاكم أن الإمام البخاري لما قدِم نيسابور ازدحم الناس عليه، حتى امتلأ السطح والدار، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث، قام إليه رجل، فسأله عن اللفظ بالقرآن؟ فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا.
(1)
فتح الباري (13/ 535).
فوقع بينهم اختلاف، فقال بعض الناس: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض، فاجتمع أهل الدار وأخرجوهم
(1)
.
وحكى الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام البخاري قول محمد بن شادل له: هذه المسألة التي تحكى عنك؟ قال: يا بني، هذه مسألة مشؤومة، رأيت أحمد بن حنبل، وما ناله في هذه المسألة، وجعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها.
ثم قال: "قلتُ: "المسألةُ هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري، فوقف فيها، فلما وقف واحتج بأن أفعالنا مخلوقة، واستدل لذلك، فهِم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو وغيره"
(2)
.
إذًا لم يثبت عن الإمام البخاري أنه قال: "لفظي بالقرآن مخلوق"، وإنما الثابت عنه أنه قال:"أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا".
(1)
سير أعلام النبلاء (12/ 458)، فتح الباري (1/ 490)
(2)
المصدر السابق (12/ 457).
ولا شك أنّ مراده بألفاظنا حركاتُنا وأصواتُنا، وهي بلا ريب مخلوقة، إذ هي من أفعالنا، وقد بيّن ذلك وأوضحه تمام الوضوح في كتابه خلق أفعال العباد، حيث قال رحمه الله: "سمعت عبد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة.
قال أبو عبد الله: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق قال الله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]،
…
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3]، وَقَالَ:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، فَذَكَرَ أَنَّهُ يُحْفَظُ وَيُسْطَرُ قَالَ:{وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] "
(1)
.
(1)
خلق أفعال العباد (ص: 47).
فالإمام البخاري بيّن مراده باللفظ وأنه هو فعل العبد، وهو مخلوق قطعًا، ولم يُرد باللفظ القرآن العربي، المنزل، المثبت في المصاحف، بل صرّح - كما في النص السابق - أنّ ذلك كلام الله ليس بمخلوق.
وبالتالي فالإمام البخاري لم يكن اعتقاده في اللفظ هو نفس اعتقاد اللفظية القائلين: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة؛ إذ هم يقصدون باللفظ القرآن الذي جاء به جبريل، المؤلّف من الحروف العربية، المثبت في المصاحف، ويعتقدون أن ذلك مخلوق.
أما الإمام البخاري فيعتقد أنّ ذلك كلام الله غير مخلوق كما في النص السابق، وأقواله في أنّ القرآن العربي المنزل غير مخلوق كثيرة، من ذلك ما تقدم وما سيأتي قريبًا
(1)
.
ومن ذلك قوله: "القرآن من أوله إلى آخره كلام اللَّه ليس شيء منه مخلوق، ومن قَالَ: إنه مخلوق أو شيء منه مخلوق فهو كافر"
(2)
.
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابه خلق أفعال العباد، فقد صرّح فيه بأن القرآن المنزل غير مخلوق، وأنه من الله بدأ وإليه يعود، وأن الله تعالى يتكلم بصوت.
(1)
انظر بعض أقوال الإمام البخاري في ذلك في الفقرة الآتية بعنوان: مراد من قال من أهل السنة: التلاوة غير المتلو.
(2)
طبقات الحنابلة (1/ 279).
قال الحافظ الذهبي: "وأما البخاري، فكان من كبار الأئمة الأذكياء، فقال: ما قلتُ: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وإنما حركاتهم وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلو الملفوظ المكتوب في المصاحف كلام الله، غير مخلوق. وصنف في ذلك كتاب (أفعال العباد) مجلد، فأنكر عليه طائفة، وما فهموا مرامه كالذهلي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي بكر الأعين، وغيرهم"
(1)
.
وقال الحافظ ابن القيم: "وأبو عبد الله البخاري ميّز وفصل وأشبع الكلام في ذلك، وفرّق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد، وأوقع المخلوق على تلفّظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأكسابهم، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من الله تعالى، وسمعه محمد من جبرائيل، وقد شفى في هذه المسألة في كتاب (خلق أفعال العباد) وأتى فيها من الفرقان والبيان بما يزيل الشبهة، ويوضح الحق، ويبين محله من الإمامة والدين، وردّ على الطائفتين أحسن الرد"
(2)
.
(1)
سير أعلام النبلاء (11/ 511).
(2)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 513).