الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلخيص شيخ الإسلام ابن تيمية
للخلاف والافتراق في مسألة اللفظ بالقرآن
وما فيها من اللبس، وبيان الحق في ذلك
اختلف أهل الحديث والسنة في مسألة اللفظ بالقرآن، لما فيها من الغموض والدقة، وجرت بسببها مخاصمات ومهاجرات، مع أنّ ما اختلفوا فيه لا يقطع الألفة، وأكثره خلاف لفظي؛ لأنهم مجمعون
-كما تقدم- أنّ القرآن غير مخلوق كيفما تصرّف، متلوًا، ومسموعًا، ومحفوظًا، ومكتوبًا.
قال الإمام أبو محمد بن قتيبة: "اختلاف أهل الحديث في اللفظ بالقرآن
…
وليس ما اختلفوا فيه مما يقطع الألفة، ولا مما يوجب الوحشة؛ لأنهم مجمعون على أصل واحد وهو (القرآن كلام الله غير مخلوق) في كل موضع، وبكل جهة، وعلى كل حال"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومسألة اللفظ بالقرآن قد اضطرب فيها أقوام لهم علم وفضل ودين وعقل، وجرت بسببها مخاصمات ومهاجرات بين أهل الحديث والسنة
…
والنزاع بينهم في كثير من المواضع لفظي"
(2)
.
(1)
الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص: 57) المحقق: عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية، ط/ الأولى 1412 هـ- 1991 م.
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 333 - 334).
وقد شرح شيخُ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع مسألةَ اللفظ بالقرآن، وبيّن ما فيها من اللبس، وبيّن ما جرى بين علماء السنة فيها، وفصّل وجه الحق فيها، وما في كلمتي "اللفظ" و"التلاوة" من الإجمال، وبيّن وجه إنكار السلف على الطائفتين الذين يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، والذين يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وسنقتصر هنا على إيراد كلامه في درء تعارض العقل والنقل حول هذه المسألة، وسنورده بألفاظه وحروفه مع اختصار يسير لا يخلّ بالمطلوب.
قال -رحمه الله تعالى-: "وكذلك مسألة اللفظ، فإنه لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد إلى الخلق، وأن الكلام إذا بلّغه المبلِّغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلَّغ عنه، بل هو كلام لمن قاله مبتدئاً، لا كلام من بلغه عنه مؤدياً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وبلّغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدِّث به إنما سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكلم به بلفظه ومعناه، وإنما سمعناه من المبلِّغ عنه بفعله وصوته، ونفس الصوت الذي تكلّم به النبي صلى الله عليه وسلم لم نسمعه، وإنما سمعنا صوت المحدِّث عنه، والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كلام المحدِّث.
فمن قال: إن هذا الكلام ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مفترياً، وكذلك من قال: إن هذا لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أحدثه في غيره، أو إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بلفظه وحروفه، بل كان ساكتاً أو عاجزاً عن التكلم بذلك، فعَلِم غيرُه ما في نفسه، فَنَظَم هذه الألفاظ ليعبّر بها عما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو هذا الكلام، فمن قال هذا كان مفترياً.
ومن قال: إن هذا الصوت المسموع صوت النبي صلى الله عليه وسلم كان مفترياً.
فإذا كان هذا معقولاً في كلام المخلوق، فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال، وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم، أو مثل صفات العباد وأفعالهم.
فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أنّ هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله، كما قال تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، ليس هو كلاماً لغيره، لا لفظه ولا معناه، ولكن بلّغه عن الله جبريل، وبلّغه محمد رسول الله عن جبريل، ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين، لأنه بلّغه وأداه، لا لأنه أحدث لا لفظه ولا معناه، إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الإحداث إلى الآخر، فقال تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:40 - 43]، فهذا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، فهذا جبريل عليه السلام.
وقد توعد الله تعالى من قال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، فمن قال: إن هذا القرآن قول البشر فقد كفر، وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر، ومن قال: إن شيئاً منه قول البشر فقد قال ببعض قوله، ومن قال: إنه ليس بقول رسول كريم، وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر، أو قال: هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك، فهو أيضاً كافر ملعون.
وقد علم المسلمون الفرق بين أن يُسمع كلامُ المتكلِّم منه أو من المبلِّغ عنه، وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وأنا نحن نسمع كلام الله من المبلِّغين عنه، وإذا كان الفرق ثابتاً بين من سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه وبين من سمعه من الصاحب المبلِّغ عنه، فالفرق هنا أولى، لأنّ أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته، من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته.
ولما كانت الجهمية يقولون: إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاماً في غيره، ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة، فهذا مراده، فالنزاع بينهم لفظي، كان من المعلوم أن القائل إذا قال: هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وأنه ليس هو كلامه، بل خلقه في غيره، وإذا فسّر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق، كان هذا المعنى - وإن كان صحيحاً - ليس هو مفهوم كلامه، ولا معنى قوله، فإن المسلمين إذا قالوا: هذا القرآن كلام الله لم يريدوا بذلك أن أصوات القارئين وحركاتهم قائمة بذات الله، كما أنهم إذا قالوا: هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يريدوا بذلك أن حركات المحدِّث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو إن القرآن المنزل مخلوق، أو نحو هذه العبارات، كان بمنزلة من قال: إن هذا الكلام ليس هو كلام الله، وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدّث: إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذا الحديث، ومعلوم أن هذا كله باطل.
ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءته، وتلاوة القرآن مخلوقة، وقراءة القرآن مخلوقة. ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، ويُدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع، ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، ويُدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع.
فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا، وقالوا: اللفظية جهمية، وقالوا: افترقت الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت: القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق.
فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتلاوتنا له غير مخلوقة، فبدَّع الإمامُ أحمد هؤلاء، وأمر بهجرهم.
ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث، فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة، من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.
وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع.
وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك، فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مراده صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي، ومحمد بن داود المصيصي، وطوائف غير هؤلاء.
وفي أتباع هؤلاء من قد يُدخل صوت العبد أو فعله في ذلك، أو يقف فيه، ففهم ذلك بعض الأئمة، فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة، رداً لهؤلاء، كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة.
وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة، وأهواء للنفوس، حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة، وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه، وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما.
وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث، وهم من أصحاب أحمد بن حنبل، ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ.
وصار قوم يُطلِقون القول بأنّ التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء، وليس مرادهم بالتلاوة المصدر، ولكن الإنسان إذا تكلّم بالكلام فلا بد له من حركة، ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة، والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك، ويكون الكلام نوعاً من العمل وقسماً منه، ويراد به تارةً ما يقترن بالحركة ويكون عنها، لا نفس الحركة، فيكون الكلام قسيماً للعمل، ونوعاً آخر ليس هو منه. ولهذا تنازع العلماء في لفظ العمل المطلق: هل يدخل فيه الكلام؟ على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم.
فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو.
وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري، وهو مقصود صحيح.
وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة، والقراءة، واللفظ، مجمل مشترك: يراد به المصدر، ويراد به المفعول.
فمن قال: اللفظ ليس هو الملفوظ، والقول ليس هو المقول، وأراد باللفظ والقول المصدر، كان معنى كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع، وهذا صحيح.
ومن قال اللفظ هو الملفوظ، والقول هو نفسه المقول، وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول هو الكلام المقول الملفوظ، وهذا صحيح.
فمن قال: اللفظ بالقرآن - أو القراءة أو التلاوة - مخلوقة، أو لفظي بالقرآن، أو تلاوتي، دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى، وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره، ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي احترازاً عما إذا أراد به فعله وصوته.
وذكر اللالكائي أنّ بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة ورجل يضربه، فقال له: لا تضربني، فقال: إني لا أضربك، وإنما أضرب الفروة، فقال: إن الضرب إنما يقع ألمه عليّ، فقال: هكذا إذا قلتَ: لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن.
ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، أو تلاوتي، دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله، وأفعال العباد مخلوقة، ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق، لا نفس حركاتي قيل له: لفظك هذا بدعة، وفيه إجمال وإيهام، وإن كان مقصودك صحيحاً، كما يقال للأول إذا قال أردت أنّ فعلي مخلوق: لفظك أيضاً بدعة، وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحاً.
فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا، وكان هذا وسطاً بين الطرفين، وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون: القرآن حيث تصرّف كلام الله غير مخلوق، فيجعلون القرآن نفسه حيث تصرف غير مخلوق، من غير أن يقترن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوقة.
وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد، وهم كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال: إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم لا يفقهون قوله لدقة معناه.
ثم صار ذلك التفرق موروثاً في أتباع الطائفتين، فصارت طائفة تقول: إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق، موافقة لـ أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته، وأبي عبد الله بن حامد، وأبي نصر السجزي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم.
وقوم يقولون نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب.
مع اتفاق الطائفتين على أنّ القرآن كله كلام الله، لم يُحدث غيرُه شيئاً منه، ولا خَلق منه شيئاً في غيره، لا حروفه، ولا معانيه، مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما.
وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم، هو الأمر بكل ما أمر به، والنهي عن كل ما نهى عنه، والإخبار بكل ما أخبر به، وإنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة.
وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك، وقالوا: إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عرّبت لم تكن هي القرآن، ولا معنى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هو معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة، من لا يوافقهم على هذا المعنى، بل قصده أن التلاوة هي أفعال العباد وأصواتهم.
وصار أقوام يُطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو، وأن اللفظ بالقرآن مخلوق، فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب، ومنهم من يعرف مخالفته له، ومنهم من لا يعرف منه لا هذا ولا هذا.
وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه - ممن يوافق ابن كلاب على قوله - موافقاً للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من إطلاق هذا وهذا، فيمنعون أن يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن: إنه يُلفظ أو لا يلفظ، وقالوا اللفظ: الطرح والرمي، ومثل هذا لا يقال في القرآن. ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلى وأمثاله، ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده في ذلك ما هو معروف، وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظية والحلولية، ومال فيه إلى جانب النفاة القائلين بأن التلاوة مخلوقة، كما مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقه، وحكى كل منهما عن الأئمة ما يدل على كثير من مقصوده لا على جميعه، فما قصده كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثابت عن الأئمة ما يوافقه.
وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك، حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة، وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أموراً عظيمة المنفعة، لكنه نصر فيه قول من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من التفصيل، ورجح طريقة من هجر البخاري، وزعم أنّ أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنه رجع إلى ذلك، وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكاره على الطائفتين، وهي مسألة أبي طالب المشهورة.
وليس الأمر كما ذكره، فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام الإمام أحمد، كـ المروزي والخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهم، وقد ذكروا من ذلك ما يعلم كل عارف له أنه من أثبت الأمور عن أحمد"
(1)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 256 - 269).
مراد من قال من أهل السنة والحديث:
"التلاوة هي المتلو"، أو "التلاوة غير المتلو"
من قال من أهل السنة والحديث: التلاوة هي المتلو، فمرادهم بالتلاوة الكلام المتلو- الذي هو حروف منظومة ومعان مفهومة - المقترن بالحركة، وليس مرادهم بالتلاوة أصوات العباد وحركاتهم وأفعالهم.
ومَن فرّق من أهل السنة -كالإمام البخاري - بين التلاوة والمتلو، فمرادهم بالتلاوة فِعْلُ العبد الذي هو صوته وحركاته لا الكلام المؤلّف من الحروف، ومرادهم بالمتلو القرآن العربي الذي نزل به جبريل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المُثبَت في المصاحف.
قال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: "سمعت عبد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة.
قال أبو عبد الله: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق"
(1)
.
(1)
خلق أفعال العباد (ص: 47).
وقال أيضًا: "وقال الله عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ولكنه كلامُ الله تلفِظُ به العبادُ والملائكةُ"
(1)
.
وقال أيضًا: "قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فأوضح أن قراءة القارئ وتلاوته غير المقروء والمتلو، وإنما المتلو فاتحة الكتاب لا اختلاف فيه بين أهل العلم"
(2)
.
وقال أيضًا: "وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا فيه: "وقرأه ترجمان قيصر على قيصر وأصحابه، ولا نشك في قراءة الكفار وأهل الكتاب أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله العزيز المنان ليس بمخلوق"
(3)
.
وقال أيضًا: "قال النبي صلى الله عليه وسلم «اقرؤوا إن شئتم» فالقراءة لا تكون إلا من الناس وقد تكلّم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه،
…
وقد يقال: فلان حسن القراءة، ورديء القراءة، ولا يقال: حسن القرآن، ورديء القرآن، وإنما نُسب إلى العباد القراءة لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الرب جل ذكره، والقراءة فعل العبد"
(4)
.
(1)
المصدر السابق (ص: 70).
(2)
المصدر السابق (ص: 105).
(3)
المصدر السابق (ص: 102).
(4)
المصدر السابق (ص: 74 - 75).
وقال أيضًا: "مع أنّ الجهمية والمعطلة إنما ينازعون أهل العلم على قول الله، إن الله لا يتكلم وإن تكلم فكلامه خلق،
…
فالمقروء هو كلام الرب الذي قال لموسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] إلا المعتزلة فإنهم ادعوا أن فعل الله مخلوق، وأنّ أفعال العباد غير مخلوقة، وهذا خلاف علم المسلمين"
(1)
.
وقال الإمام ابن جرير الطبري: "وكذلك القول في قائل لو قال: (قراءتي القرآن مخلوقةً) وزعم أنه يريد بذلك القرآن مخلوقٌ: فكافرٌ لا شك فيه عندنا، ولا أحسب أحداً أُعطي شيئاً من الفهم والعقل يزعم ذلك أو يقوله.
فأما إن قال: أعني بقول (قراءتي): فِعْلِي الذي يأجرني الله عليه، والذي حدث مني بعد أن لم يكن موجوداً، لا القرآن الذي هو كلام الله - تعالى ذكره- الذي لم يزل صفةً قبل كون الخلق جميعاً، ولا يزال بعد فنائهم الذي هو غير مخلوقٍ.
فإن القول فيه نظير القول في الزاعم أن ذكره الله -جل ثناؤه- بلسانه مخلوقٌ، يعني بذلك فعله لا ربه الذي خلقه وخلق فعله"
(2)
.
(1)
المصدر السابق (ص: 74 - 75).
(2)
التبصير في معالم الدين (ص: 152).
وقال الإمام عبد الواحد الشيرازي: "والتلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء، ونريد بهذا هو أنّ ما نسمع من القارئ هو نفس كلام الله، لا تلاوته وقراءته"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: و"التلاوة" قد يراد بها نفس الكلام الذي يتلى، وقد يراد بها نفس حركة العبد، وقد يراد بها مجموعهما.
فإذا أُريد بها الكلام نفسه الذي يُتلى فالتلاوة هي المتلو، وإذا أُريد بها حركة العبد فالتلاوة ليست هي المتلو، وإذا أريد بها المجموع فهي متناولة للفعل والكلام فلا يطلق عليها أنها المتلو ولا أنها غيره"
(2)
.
وقال أيضًا: "فالذين قالوا: التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أنّ التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو.
وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أنّ أفعال العباد ليس هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري، وهو مقصود صحيح.
(1)
التبصرة في أصول الدين (ص: 95).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 307).
وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة، والقراءة، واللفظ، مجمل مشترك: يراد به المصدر، ويراد به المفعول.
فمن قال: اللفظ ليس هو الملفوظ، والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر، كان معنى كلامه أنّ الحركة ليست هي الكلام المسموع، وهذا صحيح.
ومن قال: اللفظ هو الملفوظ، والقول هو نفسه المقول، وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أنّ اللفظ والقول المراد به هو الكلام المقول الملفوظ، وهذا صحيح
…
"
(1)
.
وقال أيضًا: "وصار قوم [أي: من أهل الحديث والسنة] يُطلقون القول بأنّ التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء، وليس مرادهم بالتلاوة المصدر، ولكن الإنسان إذا تكلّم بالكلام فلا بد له من حركة، ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة.
والقولُ والكلامُ يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك، ويكون الكلام نوعاً من العمل وقسماً منه، ويراد به تارةً ما يقترن بالحركة ويكون عنها، لا نفس الحركة، فيكون الكلام قسيماً للعمل، ونوعاً آخر ليس هو منه"
(2)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 264).
(2)
المصدر السابق (1/ 263).
المراد بقول ابن كلاب ومن تبعه:
"التلاوة غير المتلو"
تقدم أنّ الذين قالوا من أهل السنة والحديث: التلاوة هي المتلو، قصدوا بالتلاوةِ القولَ -الذي هو حروف منظومة ومعان مفهومة- المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو، وليس مقصودهم بالتلاوة أصوات العباد وحركاتهم وأفعالهم.
وأنّ مَن فرّق من أهل السنة -كالإمام البخاري - بين التلاوة والمتلو، فمرادهم بالتلاوة فِعْلُ العبد الذي هو صوته وحركاته، ومرادهم بالمتلو القرآن العربي الذي نزل به جبريل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المُثبَت في المصاحف.
أما ابنُ كلاب ومن تبعه فإنهم إذا قالوا: التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، فإنّ مرادهم بالتلاوة والقراءة القرآن العربي الموجود بين دفتي المصحف، وأن الله تعالى لم يتكلم به، ويقصدون بالمتلو والمقروء الصفة القديمة القائمة بالذات.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري: "فأما عبد الله بن كلاب فالقراءة عنده هي غير المقروء، والمقروء قائم بالله"
(1)
.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري: "التلاوة غير المتلو، لأن التلاوة فعل الرسول وهو المأمور بها، والمتلو كلامه القديم، ولم يأمره أن يأتي بكلامه القديم؛ لأن ذلك لا يتصور الأمر به ولا يدخل تحت قدرة مخلوق، إنما أمر بتلاوة كلامه، كما أُمر بعبادته، وعبادته غيره، فكذلك تلاوة كلامه غير كلامه، فحصل من هذا: تال وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلاوته صفة له. ومتلو: وهو كلام الله القديم الذي هو صفة له"
(2)
.
وقال أيضًا: "كذلك القراءة صفة القارئ التي هي له عبادة وطاعة، والمقروء كلام الله القديم الموجود قبل القارئ وقبل قراءته"
(3)
.
وقال أبو حامد الغزالي: "فنقول: ها هنا ثلاثة ألفاظ: قراءة، ومقروء، وقرآن. أما المقروء فهو كلام الله تعالى، أعني صفته القديمة القائمة بذاته"
(4)
.
(1)
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين (2/ 431) المحقق: نعيم زرزور، المكتبة العصرية، ط/ الأولى، 142 هـ - 2005 م.
(2)
الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به (ص: 77) تحقيق: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث.
(3)
المصدر السابق (ص: 83).
(4)
الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 73) ـ.
وقال أيضًا: "فكل ما أورده المسلمون من وصف القرآن بما هو قديم، كقولهم القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، أرادوا به المقروء [أي: الصفة القديمة القائمة بذاته تعالى كما تقدم]، وكل ما وصفوه به مما لا يحتمله القديم، ككونه سوراً وآيات ولها مقاطع ومفاتح، أرادوا به العبارات الدالة على الصفة القديمة"
(1)
.
وقال الإمام يحيى ابن أبي الخير العمراني: "والجواب أن يقال له [أي: الغزالي]: قد أقررت أن القرآن هو هذه السور والآيات، ودعواك أنّ المقروء هو كلام الله القائم بذاته غير مسلّم، ولا دليل له على ذلك من كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل إجماعُ السلف أنّ لا قرآن إلا هذا المسموع المتلو"
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وصار ابنُ كلاب يريد بالتلاوة القرآن العربي، وبالمتلو المعنى القائم بالذات، وهؤلاء إذا قالوا: التلاوة غير المتلو وهي مخلوقة: كان مرادهم أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي، بل عندهم أن القرآن العربي مخلوق.
(1)
المصدر السابق (ص: 73).
(2)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 596).
وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة والحديث. ويظن هؤلاء أنهم يوافقون البخاري أو غيره ممن قد يفرّق بين التلاوة والمتلو وليس الأمر كذلك"
(1)
.
وقال أيضًا: "لما ظهر القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأطفأ الله نار الجهمية المعطلة، صارت طائفة يقولون: إن كلام الله الذي أنزله مخلوق، ويعبرون عن ذلك باللفظ، فصاروا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا أو قراءتنا مخلوقة، وليس مقصودهم مجرّد كلامهم وحركاتهم، بل يُدخلون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرأ بأصواتنا وحركاتنا"
(2)
.
وقال حسن بن محمد العطار الأشعري: "هذه الألفاظ دالة على الصفة النفسية القديمة، فالدال حادث والمدلول قديم، وهذا المدلول هو المراد بقولهم المقروء قديم"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 374).
(2)
المصدر السابق (72/ 655).
(3)
حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 460).